أعمال فنية تنتهي في القمامة
من بضع سنوات خَلَتْ أهداني فنان تشكيلي صديق معروف قنينة، ألصق على يافطتها ورقة بيضاء كتب فيها باللغة الإفرنجية: «فلان صباغ مبانٍ». كان ذلك العمل الفني طبعًا لعبًا على الالتباس بين الصباغ والفنان من جهة، وتعميقًا لتجاوز العديد من الفنانين لمفهوم اللوحة كأفقٍ للفن. كما كان من ناحية أخرى يحيل في ذهني وذاكرتي على قنينة كان محمد القاسمي قد وضع على يافطتها رسمًا رائعًا من إنتاجه، توجد في المجموعة الفنية لأحد أصدقائه.
كل عمل فني غريب يحمل مصيره ذاك في صلب وجوده. كنت قد وضعت القنينة الفنيَّة قرب مدفأة الصالون، أتملى فيها مرة مرة. وفي أحد الأيام، وبعد عودتي من سفر طويل، بحثت عن القنينة فلم أعثر لها على أثرٍ. أدركت أن عاملة النظافة الجديدة قد اعتبرتها مجرد قنينة خمر فارغة فرمتها في القمامة مع الفضلات والقنينات الأخرى الفارغة … ولحد اليوم لم أستطع أن أبوح لفناننا بهذا المصير المؤسف لهديته الفنية.
من حسن حظ الفنانتيْن أن منشأتهما الفنية قد تركت أثرًا، أي أنها قد صُورت، وليس عليهما إلا أن تعيدا تصور الحال، والقيام بمنشأة مماثلة تكون مبنية على حدثٍ قد يزيد من قيمة الأولى البائدة، والثانية التي ستبيد بعد انتهاء المعرض. أما حظي التعيس أنا، فهو أني لا أملك لحد اليوم صورة عن العمل الفني الذي رمته الخادمة إلا في ذهني.
يثير هذا الحادث كل الأسئلة الدلالية المتصلة بهوية الفن المعاصر، الذي صار يشكِّل جزءًا لا يتجزأ من اليومي والعادي والمبتذل … قصْديًّا وعنوة، ونكايةً في الجميل والسامي. حين تحدَّث أحد النقاد المشهورين عن الطابع الغازي للفن المعاصر (هلاميته وضبابيته وتبخره وزواله) لم يدر بخَلده أن أهم سمة في هذا الطابع المتبخِّر والبخاري هو أنه يتسلل إلى الهواء الذي يتنفسه المتفرج، بحيث يعيش هذا الأخير الفن باعتباره كيانًا عاديًّا من ضمن الكيانات المحيطة … الفن المعاصر فن ملتبس، لا يقطع مع ما ليس فنًّا، بل يستلهم الأشياء اليومية، ويمنحها وضعية جديدة ومعنًى جديدًا أيضًا.
قد يقول قائل، ولكن قواعد العمل الفني كانت فيما مضى انزياحه عن اليومي، فلماذا هذا الانقلاب؟
هذا الانقلاب له جذور تاريخية تعود — أصلًا — إلى أعمال مارسيل دوشان الذي دشن في مطلع القرن الماضي السيرورة الجديدة للفن باعتباره شيئًا من ضمن أشياء المرئي واليومي، والمبتذل. وقد كان تاريخ الفن بحاجة إلى عقودٍ طويلة كي يستطيع في الأخير أن يدرك الطابع الاستباقي لهذا الفنان الذي ثقب أفق التاريخ قبل الأوان. والحقيقة أن أعمال دوشان نفسها تعرضت للإتلاف وكأنها بذلك تدشن تلك العلاقة الحميمة والوجودية باليومي والعرضي والزائل لما يتجاوز القرن من الزمن. لقد بنى دوشان مفهومًا جديدًا للفن في مطالع القرن الماضي، غير أن غرابته لم تتلطَّف إلا مع بداية الستينيات، ولم تتركز إلا مع بداية التسعينيات.
هل هذا يعني أن على كل العاملين في متاحف الفن المعاصر عبر العالم أن يخضعوا لتدريبٍ على التعرف على المنشآت والمنجزات الفنية المبنية على مكونات متنافرة جسدية وشيئية … حتى يدركوا أن اللوحة ليست هي السند الوحيد للفن؟
أم أن الأمر حين يقع هكذا، فهو درس لنا، ينبِّهنا إلى أن مسير الفن المعاصر سائر إلى مشارف قد لا نتعرف فيها على الفن؛ إذ هو يفقد هوياته الواحدة تلو الأخرى، وقد لا نتعرَّف فيها على هويتنا، نحن العاشقين له؟