موسم أصيلة: من صيف إلى آخر
من منا لا يعتبر الصيف رديفًا للراحة والاستجمام الفردي والعائلي؟ لا لأن العطلة السنوية تناسب هذه الفترة فقط، ولا فحسب لأن السنة الدراسية توافق في نهايتها إطلالة الصيف، ولا لأن الحرارة ترتفع في هذه الفترة إلى درجة يغدو معها الجسم بحاجة إلى برودة البحر أو فيء ظلال الغابات الوارفة … وإنما أيضًا لأن الكائن الإنساني بطبعه بحاجة إلى أن يجعل من الفراغ والفوضى والخروج عن المعتاد إيقاعًا يمكِّنه من خلق تناظم لحياته، يسمح له بالعمل كثيرًا وبالراحة قليلًا، وكأن ذلك قدره.
الصيف رديف لكل ما يمكن أن يشكِّل خروجًا عن مألوف السنة. لا معارض دولية للكتاب، ولا ندوات أو لقاءات ثقافية أو أكاديمية. وكأن الثقافة ترتبط بسيرورة الدراسة، وتلفظ أنفاسها السنوية بالسنة الدراسية الجامعية أو المدرسية. ثمة فقط الاستعداد الجماعي، الشعبي، بل الثقافة والصيف إذن عدوان لدودان. أو لنقل إن الثقافة في الصيف مبنية على التخفيف، هذا إذا لم تُبن للمجهول. وهي كذلك لأنها تُختزل لدى الشعوب المثقفة القارئة إلى حدِّها الأدنى.
فما بالك لدى الشعوب غير القارئة، والتي لا تشكِّل الثقافة العالمة جزءًا من تقاليدها اليومية! ما الذي يتبقى إذن حين تقفل المحافظ والمكتبات، وتغلق المدارس والجامعات أبوابها، ما الذي يتبقى غير اقتياد السنة إلى الضفة الأخرى بالكثير من الخفوت والفتور؟
الصيف إذن ضفتا نهر نعبره بالكثير من المرح، وكأننا فيه نغمس تعبنا من توالي الفصول الأربعة، وكأننا، مع بدايته ونهايته، نغسل بالحرارة خطايا السنة ونقْبر ذكرياتها. الصيف بداية ونهاية في الآن نفسه، وقمة الزمن اليومي الذي يحملنا على إيقاعه من حولٍ لآخر.
مع ذلك ثمة استثناءات تداور هذا الزمن، وتمنحه إيقاعًا استثنائيًّا يرسخ تقاليد جديدة، تمنح لمتعة الفكر والعين ما يمكِّنها من تغذية الروح والبدن. وإذا كان الصيف أيضًا رديفًا لثقافة السمع فذلك لأن فنون الغناء والرقص لها علاقة وطيدة بالليل والسهر والسمر، خلافًا لفنون التفكير والتأمل التي تبتغي في الغالب الأغلب، بل تتطلب يقظة الذهن والحواس.
ومن هذه الاستثناءات يبرز مهرجان أصيلة كغرَّة الفرس في جبين العالم العربي … تدين أصيلة بوجودها الراهن لهذا المهرجان الذي يكاد ينهي عقده الرابع. وهو يرتبط بمدينة صغيرة كاد التاريخ أن ينساها لولا أنها ظلَّت محافظة على ذاكرتها الخصيبة. أصيلة كانت فقط عبارة عن ثَغر بحري، لا يعرفه إلا هواة البحر والسمك وعشاق هوائها الرطب. حتى القطار اختار أن يجعل محطته بعيدة عن المدينة، قريبة بالأحرى من المصايف التقليدية للمهن الكبرى التي لا تزال، لحد اليوم، تنهل قيمتها من عهد الاستعمار، كالبريد والسكك الحديدية. المدينة، كما عرفتُها يافعًا، في مهرجانها الأول سنة ١٩٧٨م تبدو وكأنها تخرج للتوِّ من القرون الوسطى، بمدينتها الواطئة المخفية وراء أسوار متداعية، وببرجها البرتغالي الذي لم تبق من تضاريسه العلوية إلا ملامح نخرها الزمن ورطوبة البحر. أزقتها كانت موحلة شتاءً ومغبَّرة صيفًا، قبل أن يرسم أسفلتها في الثمانينيات الراحل فريد بلكاهية ومحمد المليحي … محمد بنعيسى الذي ترك التصوير الفوتوغرافي وامتهن السياسة والدبلوماسية، ومحمد المليحي الفنان والمدرس، كانا وراء مهرجان أصيلة الثقافي. كان المبتدأ فنيًّا، بمحترف للحفر وبالأخص للجداريات. الأول بتحويله لأحادية الفن إلى تعددية تفتحه على الاقتناء الشعبي، وبدمقرطته للإبداع، والثاني بتحويل السند الفني المتنقل إلى سند قار في ملكية جداريات أصيلة كانت إعلانًا عن أول متحف عمومي وحوْلي بالمغرب، هذا البلد الذي ظل متشبثًا بفنونه التقليدية، ونَزوعًا إلى حداثة فنية جماهيرية على غرار بلادٍ كمصر أو العراق حيث الفن يشكِّل جزءًا من الفضاء العمومي. كان ذلك أمرًا صعب المنال، بالرغم من المعرض العمومي بساحة جامع الفنا بمراكش سنة ١٩٦٩م … بل كان من اللازم انتظار نهاية السبعينيات، بعد انحسار محاولات البينالي العربي المتنقل (١٩٧٤م ببغداد، و١٩٧٦م بالرباط) كي تغدو أصيلة من سنة لأخرى «البديل» السنوي لهذا البينالي الموءود، والاستمرار الشعبي لطموحات مجموعة الدار البيضاء منذ الستينيات … من سنة لأخرى صارت أصيلة منارًا فنيًّا وإبداعيًّا، وموطنًا للتلاقي بين الفنانين والكُتَّاب ونيويورك وبيروت … صارت أصيلة تكبر، تتجمَّل من سنة لأخرى، يقيم فيها من سنة لأخرى مثقفون وفنانون كبار من المغرب والعالم العربي وأوروبا. صار لها مدمنوها من الكُتَّاب (الطيب صالح، محمد شكري، بلند الحيدري …) ومن الفنانين العرب (عمر خليل) والنقاد العرب. من موسم لآخر كان اللقاء يتم هنا بأصيلة أحيانًا قبل باريس ولندن، وأنا من جيل كبر مع أصيلة، محاذرًا في البدء من استراتيجيتها «الماكرة»، ثم ملازمًا لها من أكثر من عشرين سنة، حضورًا وفاعليةً، وتنظيمًا. فأصيلة عرفت كيف تغوينا بوجودها الشامخ، وكيف تشكِّل موطنًا لبعضٍ من أحلامنا الفنية العربية والعالمية.
قد يقول قائل، إن أصيلة بدأت تفقد من إشعاعها الفني، وتمنح نفسها أكثر فأكثر للَبوس السياسة والفكر والاستراتيجية، تتوالى على منصَّاتها، بسرعة فائقة، أسماء سياسية طبعت بلدان أفريقيا وأوروبا وأمريكا، لتطارح قضايا لها طعم القنابل الموقوتة. وقد يزعم آخر أن أصيلة الفنية، بعد أن غاب عنها محمد المليحي لما يقارب العقد من الزمن، قد صارت يتيمة تاريخها … وقد يقول ثالث إن نفَس الموسم قد شاخ واستكان لمنحدر الزمن.
لا يهم، فهذا الموسم الثقافي الدولي الذي وُلِد مثل شجيرة تين، صار مثمرًا طيلة هذه المدة. ومهما شاخت الشجرة فإن ظلالها تظل وارفة. قد تكون المدينة نفسها قد تغيرت إلى درجة نسيت معها صورتها الأولى، التوَّاقة للمعارف والأسرار والمستقبل. قد تكون من فرْط هيامها بصورتها الحاضرة قد نسيت نفسها وتناستْ أسطورة ميلادها وانبعاثها.
فوراء المدن وأساطيريتها ثمة دومًا رجال، بعضهم يحفظ التاريخ تاريخهم، وبعضهم ينساه، وبعضهم يدس به في ثناياه … المدن سليلة الرجال، وتجاعيدها وأزقتها هي تجاعيد الوجوه. هذي السنة سيحتفي موسم أصيلة الثقافي الدولي، شامخًا ومتوحدًا، بدورته السابعة والثلاثين، وسيكرم فريد بلكاهية الذي واكبه من ولادته. إنه يذكِّرنا بأن سِني ماضينا أكبر من سِني مستقبلنا، وبأن ذاكرة الموسم قد منحت لذاكرة المدينة الكثيرَ من وهجها. وفي كل مكان، ولحظة لقاء، ووجوه لقيناها، ثمة أثرٌ يتقاطع في وعينا ولاوعينا، ليبني، هنا وهناك، شبكة من العلاقات التي تخصب أفق الآتي.