عبد الكبير الخطيبي المفكر الذي صالح بين الفن والتراث
كان يحلو للخطيبي أن يردِّد على مسامعي أحيانًا، ناسيًا أنه قد قال لي ذلك في مرات سابقة، بأنه يتمتع بمعالم الدهشة ترتسم على محيا الفنانين التشكيليين وهم يسمعونه يصرح لهم بلهجة أكيدة: «أنا أعشق الفن بسبب ضعف بصري.» كان الخطيبي ضعيف البصر، غير أنه كان ثاقب البصيرة، وقادرًا على تملك الفن خارج قوانين العين والعيانية … كان وضع عويْنات القراءة تارة، وعوينات النظر عن بُعد تارة أخرى، في حركات صارت أشبه بالطقس، يمنح للخطيبي، وهو يحاضر، هالة المفكر العميق المتبصر والبعيد النظر.
وهو كان كذلك، لأنه أدرك في وقتٍ كان فيه العرب بحاجة إلى علماء الاجتماع لتحليل الظواهر الاجتماعية، وتقديم التفسيرات الضرورية لها، ولمقارعة علم الاجتماع الكولونيالي، أن الرهانات الثقافية والفكرية لها العمق نفسه. وهكذا جاءت مسرحيته الأولى (النبي المقنع، ١٩٦٤م) ثم دراسته السوسيولوجية للرواية المغاربية، وكتابه «الذاكرة الموشومة» وما تلاها من كتابات أهمها «الاسم العربي الجريح» و«الجسد الشرقي».
في رواية «رحلة حج فنان عاشق» (٢٠٠٢م)، يتحدث الخطيبي عن صانع تقليدي يسعى من مدينة الصويرة بجنوب المغرب إلى الحج في بدايات القرن الماضي. الرجل فنان بالمعنى الكلاسيكي العربي، أي صانع تقليدي بلغتنا المعاصرة. إنه فنان يترجم العشق التليد والأكيد للخطيبي. فمن كثرة ما عاشر هذا المفكر الفنانين المغاربة والعرب والعالميين (من أمثال أحمد الشرقاوي ومحمد المليحي ومحمد القاسمي ومروان وتيتوس كارميل وغيرهم)، ومن كثرة ما كتب عنهم في كاتالوغاتهم وفي كتبه النفيسة، يكاد لا يصدق المرء المفارقة التي يجعلنا الخطيبي نعيشها بشكلٍ مأساوي ومرِح في الآن نفسه: فنون الإسلام هي أفق الفن المعاصر … إلى أي حدٍّ يمكن لهذه المفارقة الغريبة أن تسبر أنطولوجيا الفنون العربية المعاصرة؟
وفي كتابه عن الخط العربي (الذي نقله للعربية د. محمد برادة)، نراه يبدي عن حساسية عنقودية واستشكالية يجعل فيها الخط في آخر المطاف الفن العربي بامتيازٍ، لارتباطه الفعلي باللغة وبالعقيدة وبالهوية والاختلاف. إنه الكتاب المرجعي الأعمق عن هذا الفن في العالم العربي. ولأن الخطيبي حافظ — دومًا — على الترابط بين الماضي والحاضر، فهو يخصص في نهايته حديثًا تحليليًّا هامًّا عن الحروفية في صيغتها الأكثر حداثة وبُعدًا عن المضمون الأرثدوكسي.
الخطيبي في هذا الكتاب، كما في مواطن أخرى، يفصح عن تعلُّقٍ فكري تحليلي، يكاد يكون هوسيًّا، بالصنائع التقليدية وفنونها. إنه يجعلها مجاز العبقرية الحضارية العربية وجمالياتها. ومن ثَم ليس من قبيل المصادفة أن يكون الفن، الذي يبدو أقرب إلى قلب الخطيبي وهواه، هو فن العلامة (والرمز)، سواء مجسدًا في الحروفية (الزندرودي بالأخص) أو في العلامية (أحمد الشرقاوي بالتخصيص). بيد أن هذا لا يعني أن الخطيبي يؤمن بأن استيحاء الحرف العربي وحده يمكن أن يكون عضُد الهوية. فإذا كانت كل هوية اختلافًا فإن الهوية المفترضة في الموضوع لا يمكن أن توجد بذاتها بل بنوعية الاشتغال عليها؛ من ثَم فكل هوية تحولٌ وتنوعٌ أكثر منها أصل مسبق.
وحين صدرت سنة ٢٠٠٢م الترجمة العربية لكتاب الخطيبي «الفن العربي المعاصر: مقدمات» (التي قمتُ بترجمتها شخصيًّا عن الأصل الصادر عن معهد العالم العربي)، كتب أحد نقاد العرب (وهو تشكيلي بالمناسبة) مقالًا سجاليًّا وقدْحيًّا عن الكتاب، ناعتًا إياه بأكثر النعوت إجحافًا وأشدها تجريحًا، معيبًا عليه «سطحيته»، ومعيبًا على صاحبه عدم إلمامه بالفن العربي. وكأن الخطيبي كان عليه أن يكون صحافيًّا متابعًا، وفنانًا من الدرجة الثالثة كي ينتج معرفة بالفن العربي.
يملك الخطيبي قدرة كبيرة على الإمساك بموضوعاته، يتتبعها، ويتقفَّى شبكاتها وعناصرها الهاربة، يمسك نُقطها العمياء، يحاورها، يعمقها، يستكشف مكنوناتها، يراهن على امتداداتها … الخطيبي أشبه بالكيميائي، متى ما لمس شيئًا صار في يديه تبْرًا … وهو حين طلب منه متحف معهد العالم العربي الكتابة في الموضوع، كان فكره متجذرًا في حركة تشكيلية يسائل العديد من معطياتها.
فلكي يبرر مثلًا عنوان كتابه «الفن العربي المعاصر»، كتب ما يلي: «العربي هو ذلك الذي يقدم نفسه من حيث هو كذلك. وليس لدينا من معيار آخر غير الانتماء الموسوم والمُعلن لهذه الحضارة التعددية، وطبعًا للعمل الفني الذي هو مصير الفنان.» كثيرون هم الفنانون الذين يسبغون على أنفسهم هذه الصفة من غير أن يقدموا سوى تبرير قومي ساذج، من غير إيمان بالتعدد العرقي واللساني الذي يخترق البلاد العربية، وباختلافها باعتباره هوية وجودها المتعدد.
الحديث عن العروبة، على هذا النحو، يحرِّر الكاتب الناقد من كل هوية عمياء تمسُّ نظرته وكينونته. بل هو يحرر الخطيبي قبل ذلك من كل الخطابات التي سلَّط عليها — سابقًا — سطوة نقده المزدوج. يحمل الخطيبي حيثما ارتحل، من الأدب إلى التاريخ، ومن السوسيولوجيا إلى الفن، ترسانته المفاهيمية، لكنه لا ينفي أبدًا خصوصية كل مجال حتى وهو يمارس ما يسميه التفاعل بين العلامات والمجالات، منذ بداية السبعينيات، في وقت كان فيه التخصص والمعاقل المعرفية والدوغمائية سلطة لا تضاهيها سلطة.
أما معاصرة الفن العربي فهي ليست أبدًا قطيعة أو مسيرًا أحاديًّا: «المعاصرة حاضر خاضع للتأجيل المستمر، وهي تعيش بين أنماط عديدة من الحضارات تمتلك كل واحدة منها ماضيًا عريقًا متفاوتًا في القدم والعظمة …» وهكذا فالمعاصرة زمن متحرك يشتغل بالتشبيك المحوري بين الثقافات.
من ثَم، وبما أن التطور لدينا ذو إيقاعات متعددة تحتفظ بجميع الأزمنة في زمن واحد، فإن الخطيبي يحذر من استنساخ العلائق: «إن ما نقوم به عادة من تمييز بين الفن «الحديث» والفن «المعاصر» يظل مثارًا للغموض. فأين يبدأ الفن الحديث؟ إن التقطيع التاريخي أمر لا يقبل النكران؛ بيد أن تمركزه حول التجربة الأوروبية والأمريكية الشمالية لا يقدم لنا نظرة مكتملة عن ابتكار الحداثة والمستقبل في دوائر حضارية أخرى. وهذا يعني أننا نسعى إلى التفكير في الزمن والفضاء في أبعادهما المتعددة المركز، أي في تاريخهما وفي جغرافيتهما وفنهما متداخلةً ومجتمعَةً.» إن الانتباه إلى هذه التواشجات والاختلافات لَيمكِّننا من الاعتراف بأن ثقافتنا العربية بكل مكوناتها ليست ثقافة القطائع التاريخية ولا المعرفية ولا الجمالية. والحقيقة أن هذه الثقافة تعيش سياقات متعددة متوازية ومتداخلة، بعضها آتٍ من القدم، وبعضها من التلاقحات المتعاقبة، وبعضها من تشابكات الحاضر.
وربما لهذا الاعتبار، ولكوْن التجربة الفنية تجربة عينية أكثر منها تجربة نظرية، لم يَنِ الخطيبي يقول لي: إننا نتعلم لغة الفن في المراسم وفي مصاحبة الفنانين. وهنا بالضبط نعترف معه أن لدينا الكثير مما نتعلمه من معايشة الفن حسيًّا وجماليًّا، ومن معايشة الفنانين في يوميِّهم الإبداعي، ومن معايشة فكر الخطيبي نفسه أيضًا في انتباهه للمحسوس والهامشي واللامفكر فيه، وفي استكشافه للمتفرد وللمختلف والمتميز.