محمد القاسمي: سيرة ما بعد الممات
يبدو أن حيوات بعض الفنانين تنتهي بطريقة شبه مأساوية، إن لم تكن مأساوية حقًّا. أهو قَدَر الفنان في علاقته بالموت؟ يخترق الموت والمأساوي، الفن حتى حين يبدو هذا الأخير في ظاهره المرئي غير ذي طابع مأساوي. لكن أن يعيش الفنان حياة ثانية ليست بأقلِّ مأساوية، فذلك ليس قدر كل الفنانين. صحيح أن حياة فان جوخ وفرانسيس بيكون ولؤي كيالي وغيرهم، كانت من الغرابة والكآبة والارتجاجات ما جعلها وحدها سيرةً مستقلةً، تكاد لا تقل أهمية عن أعمالهم. لكن حياة محمد القاسمي لم تنطبع بالمأساة إلا في العقد الأخير من حياته، حين أصابه ذلك المرض الذي جعله يتخلى عن مُتَعه الذاتية التي ألِفها، متنقلًا بين باريس وضاحية الرباط، حيث يقيم في فيلا شاسعة الأطراف قرب البحر، شهريًّا لتلقي العلاج الضروري.
كان القاسمي يعرف مرضه، ويتعايش معه، ينخره من الداخل، ويقوده بشكلٍ حثيثٍ نحو قَدَره. وحين كنا نلاقيه باستمرارٍ، لم نكن نحس بأثره عليه؛ فهو لم يكن يشكو أبدًا منه إلا فيما ندر. عاش الرجل مرضه، وكان يبرأ منه مؤقتًا، كلما أنجز لوحة أو منحوتة أو حقَّق سلسلة من سلسلاته التشكيلية المتوالية. رفض زرع عضو غريب عنه في جسده تعويضًا لعضوه الخائب، وكأنه بذلك كان يرغب في أن يعيش جسده بكامل نواقصه وعثراته.
غيَّر المرض كثيرًا من تجربة القاسمي الفنية، فسلكت معابر جديدة. وصارت أعماله أكثر وأكبر (وصل طول سلسلة لوحات له إلى ١٣ مترًا)، وكأنه كان يحتمي بالعظمة من هول ما سيأتي، محاربًا الموت بالمغامرة التشكيلية، ومطلقًا العنان لدواخله وشخصياته الهلامية كي ترتحل في اللوحة لتنشئ فيها عالمًا هو مزيج من الحرقة وحب الحياة.
صارت شخوصه تتابع مرضه وتتقفَّى توغله في خلاياه الواهنة. بدت مائلة، وصار ميلُها يعبِّر عن استشراء المرض واقتراب الموت. غدت اللوحة أكثر كثافة، وكأنها بذلك تقوده قريبًا من الأرض والتراب. بيد أن مغامراته الفنية صارت أكثر انفتاحًا على الصيغ الفنية الجديدة الخارجة عن اللوحة التقليدية والمواد المعهودة. ولا أدل على ذلك من المنشأة الهائلة التي أقامها في المعهد الفرنسي بالرباط سنة ١٩٩٤م بعنوان «مغارة الأزمنة الآتية»، التي عبَّر فيها عن رؤيته للانتقال للألفية الجديدة عبر تأثيثها بآلياتٍ جديدة مُسائلة لمصائر الإنسان التي تنتظره.
رغم تحذيري للقاسمي بالمشكلات التي قد تثيرها قضية إرثه، لم أدر لحدِّ الآن، لمَ تورَّع عن اتخاذ قرار حاسم في الأمر، وهو العارف بأن نظام الإرث في المغرب يخلق المشكلات العويصة لذوي الإناث. وهو كان أبًا لبنت وحيدة. لعلَّه كان يرفض فكرة الموت، حتى وهو يصاحبه في خلوته وحياته اليومية؛ ولذا كان لا يفكر إلا في إنشاء مؤسسة ترعى أعماله وترْكته الفنية في بيته الشاسع.
وفي أحد أيام أكتوبر من سنة ٢٠٠٣م، دخل المستشفى، ولم يخرج منه إلا جثة هامدة.
هنا بدأت قصة جديدة في حياة القاسمي الثانية، تلك التي تركها تنساب من بين حبِّه للحياة والرغبة في خلود ممكن. ما إن أُعلنت الوفاة حتى كان من بين الحضور للجنازة أشخاص غرباء لم يحدِّثنا عنهم أبدًا القاسمي. ففي حديث هذا الأخير لم يكن يرِد ذكرٌ لعائلته أبدًا. كنا نعرف من حياته فقط أن أمه هي التي ربَّته في مدينة مكناس، وأنه درس في الجامعة، وطوَّر منذ صباه هواية الرسم بشكلٍ عصامي.
بدأت خيوط المأساة تتشابك بعد أن انتفى التفاهم بين هذا الحشد من الأقرباء المطالبين بحقِّهم في الإرث، وبين وريثتيْه الطبيعيتين: ابنته وزوجته الثانية. وحين وصل الأمر إلى القضاء تمَّ إحصاء ما تركه في البيت من أعمال فنية، وما أكثرها، ثم تمَّ تشميع ذلك البيت الذي غدا سجنًا طويل الأمد لكامل أعماله. ولأن وفاته كانت مفاجئة أيضًا، فقد غاب الكثير من الأعمال التي كانت موضوعة لدى العديد من الغاليريهات في المغرب وخارجه.
وبما أن الأمور تعقَّدت، بشكلٍ واضحٍ، نظرًا إلى عدم التفاهم بين الورثة المتعددين الذين ظهروا فجأة، فإن الأعمال تلك (أكثر من سبعمائة عمل بين لوحة ومنحوتة ورسوم)، ظلَّت عرضة للرطوبة وتبدُّل الأجواء، تتآكل في صمتٍ، لمدة عشر سنوات كاملة. وبمناسبة الذكرى العاشرة لوفاته عزمتُ على تنظيم معرض استعادي كبير كان القصد منه أيضًا التنبيه إلى ما تعيشه أعمال أحد الفنانين العرب الكبار من دمارٍ حقيقي. وكاد الأمر أن يكون كارثة كبرى، لولا أن أحد تجار الأعمال الفنية قرَّر جمع الأطراف — الورثة — من أجل حلِّ النزاع بينهم بشكلٍ ودي (بهامش ربح كبير طبعًا)، والالتزام بترميم الأعمال التي لحقها التلف. كان ذلك المعرض الاستعادي، المناسبة التي عرضتُ فيها لأول مرة الأعمال التي ظلَّت حبيسة المنزل، وتمَّ إنقاذها من التلف.
هذه الحياة الثانية التي عاشتها أعمال القاسمي، بشكلٍ مأساوي كاد أن يكون كارثيًّا، تعيشها حياته الفنية بشكلٍ آخر ليس بأقل كارثية. فمنذ وفاة الفنان، وانقطاع أعماله من السوق، وكثرة الطلب عليها من قِبَل الجمَّاعين الفنيين بالمغرب وبالمشرق العربي، سارع بعض من عرفوه من الفنانين إلى إغراق السوق بالكثير من الأعمال المزيفة. بعض هذه الأعمال قريب من «أسلوب» القاسمي، وبعضها الآخر لا يمت — بتاتًا — بصلة لعالمه الحركي التعبيري الانطلاقي. الحقيقة أن طريقة القاسمي صعبة المحاكاة في التزييف نظرًا إلى طريقته الاندفاعية الوجْدية في التشكيل، التي عاينتُها مرارًا في مرسمه.
وإذا كان من السهل بالمغرب تمييز الحقيقي من المزيَّف في أعمال القاسمي، لأن ثلة من أصدقائه عايشوه عن قربٍ، فإن الأمر لا يخلو من صعوبة بالعالم العربي. وهو ما تأكدت منه أكثر من مرة حين بلغتني أعمال له لتقديم خبرة بصددها، بشكلٍ تلقائي. وكأن المزيفين له أدركوا أنهم كلما ابتعدوا عن موطنه، استطاعوا تمرير أعمال ينسبونها له.