لوحة تنبَّأت بموت رسَّامها
كثيرًا ما نتحدث عن نبوءة الفن، بشكلٍ مجازي غالبًا أو ببعضٍ من اليقين المتخيل في حدوسه. لذلك يلزم أن نفهم جيدًا مقولة ريجيس دوبري حين يتحدث عن الوثنية الجديدة في العلاقة بالصورة التي يعيشها العالم اليوم. فالصورة خرجت من الدين الإسلامي مبكرًا، قبل الخمر والميسر (وهي قد خضعت له فصارت جزءًا من وسائطه الدعوية والتبشيرية، كما هو الأمر في المسيحية) ثم عادت لتكتسحه من جديدٍ، حتى لدى أكثر المنكرين لها، والأكثر تديُّنًا وتطرفًا (كما هو الأمر في الاستعمال المفرط للمتطرفين الإسلاميين للصورة).
ليس هذا هو ما نرغب في طرقه الآن، وإن كان الأمر جديرًا بذلك، وقابلًا لأن يكشف عن التناقضات الأساس في ذهن المؤمنين المفرطين في الإيمان (بالصورة وبالدين)، غرضنا فقط أن نقارب تلك العلاقة بين الفنان ومجاله الفني، التي تتسم بالتفاعل والتداخل حتى يغدو الفن موطن الفنان.
اللوحة التي تهمنا هنا من الغرابة بمكان. إنها لوحة رسمها أحد الفنانين المرموقين من جيل الثمانينيات، درس في المغرب وفي إسبانيا. اللوحة (المرافقة للمقال) تمثِّل الفنان وهو يحمل ملونته وريشته (الرمز المعهود والمتواتر للتدليل على أن الشخص فنان تشكيلي)، وهذا الشخص مطروح أرضًا ولا يميس حراكًا، والناس قد تحلَّقوا حوله. وهي لوحة تعود إلى تسعينيات القرن الماضي، والفنان حينها كان في الأربعينيات من عمره. وبالرغم من أنه شخص يعيش الليل وينام النهار، فإنه فنان خصب الإنتاج، بحيث نكاد نتساءل متى يجد الوقت الكافي لما يقوم به؟
عُرِف عن الفنان محمد الدريسي ثقافته الألمانية والإسبانية التي تشبَّع بها فابتعد مبكرًا عن المصادر الفرنسية والإيطالية لمجايليه من الفنانين. طرق التشخيص التعبيري في وقتٍ لم يكن هؤلاء يرتادون غير التشخيصية الواقعية أو التعبيرية التجريدية. كان اختياره منذ البداية واضحًا، ينصاع لهوسه ورغباته وجنونه. بدأت أعماله بالتعبيرية الوجهية على الطريقة البايكونية، ثم سار بها إلى أقصى حدٍّ.
أعمال محمد الدريسي حدِّية، على الفاصل بين الإنساني واللاإنساني. صارت شخصياته في العقد الأخير من حياته تتنصل من جلدتها ومن لحمها، بل من ثيابها أيضًا، لتدخل لوحته وهي عارية إلا من عظامها. يقال عن اللحم إنه كسوة العظم، لهذا يجرد الفنان كائناته الشبحية من كسوتها المصطنعة والطبيعية، وكأنه يقرِّبها من الموت. بيد أنه ليس موتًا عاديًّا بقدر ما هو اقتراب من العدم. الفراغ والعدم والموت طبعًا هي موضوعات الدريسي المفضَّلة، لكن الموت هنا ليس اعتياديًّا بقدر ما هو شبه حياة، عيش على الفاصل الواصل بين الوجود والعدم.
في آخر معرض له، أقام الفنان منحوتة هائلة بالجبس، معلَّقة في السقف عبارة عن كائن هجين، لا هو بالإنسان ولا هو بالوحش. والوحش في التعبير العربي، كما في غيره من اللغات، هو الكيان الجسماني الذي ينزاح عن الإنسان حتى لو أشبهه. أو هو، بالأحرى، المزيج بين الإنساني والحيواني، وما جاوزه من كائنات غريبة وعجيبة ومتخيَّلة. وفي المعرض نفسه سار الفنان بهياكله العظمية إلى حدِّها الأقصى؛ بحيث جاء بمجرفات يدوية مستعملة في البناء ورسم فيها وجوهًا، ونصبها عبارة عن منشأة فنية (إنستالايشن).
هذا الفنان المبدع، الذي كان يبدو للكثيرين غريب الأطوار، والذي كان صريحًا حدَّ الوقاحة، ترك لنا إرثًا تشكيليًّا تعبيريًّا من القوة والعمق والوفرة ما يموضعه من بين الفنانين العرب المجدِّدين، من قَبيل مروان وآدم سبهان وبعدهما سيروان باران.
كان الدريسي من الأصدقاء المقربين للكاتب المعروف محمد شكري، عاشا ليالي طنجة، وعاشرا شخصياتها البارزة من أمثال الكاتب الأمريكي الشهير بول بولز، والتقيا بالكثير من الكُتَّاب والفنانين العالميين. غير أن الخصومة ما لبثت أن دبَّت بينهما. وبما أن التشكيل والأدب، كما يرى الفيلسوف الفرنسي رانسيير، يتعالقان بحيث يكون الأدب تصويريًّا، والتشكيل حكائيًّا، فإن أعمال الدريسي تبدو كلها بالغة الحكائية. إنها لا تحكي الواقع، وإنما تحكي استيهامه، وهي لا تصف المرئي بقدر ما تعريه من جلدته كي تغوص في لحمته الدفينة.
ما تحكيه لوحات هذا الفنان مزيج من الضجر والحب المعذب ومأساوية الحياة. وهي بذلك تزج بنا في التراجيدي وشرنقة مفارقاته. وموضوعاتها تراوح بين الحب المستحيل والرغبة المحجوزة والقرف من تناقضات الحياة. لذا فإن شخصياته وكائناته تتسم بقبحٍ وببشاعة تجعلها في كثير من الأحيان صادمة. أليست مهمة الفن هي أن يكشف لنا عن عورة المرئي كي يجاوزه إلى تعقد اللامرئي؟ هكذا يجعلنا فناننا نتعاطف مع كائناته المكتفية بما قلَّ ودلَّ من المظهر والحياة والوجود، وهي — في بشاعتها الصادمة — تلك تقودنا من أعيننا إلى ما يشكِّل جوهر الحياة؛ مأساويتها القاسية، وعنفها اللامشروط وجمالها الباطن.
تُخلخل أعمال الدريسي ثنائية الجميل والبشع، وتدعونا إلى مراجعة أقانيمنا الجمالية. والحقيقة أن الحركة التعبيرية في السينما الألمانية، كما في الفن التشكيلي، منذ لوحة «أصل العالم» للفنان الفرنسي كوربيه، مرورًا بفرانسيس بيكون ودافيد مونش، قد كشفت عن عورة الجميل، وأعادته إلى أصوله الأولى. ربما لهذا السبب، وقصد إعادة الاعتبار للقبح والبشاعة؛ كتب الجاحظ «رسالة البرصان والعميان والعرجان والحولان» التي يشيد فيها بشرف ذوي العاهات الجسمانية، وأصدر المفكر العالمي أمبرتو إيكو، بعد موسوعة الجمال، موسوعة البشاعة، التي تتطرق لتاريخ القبح في الفن العالمي. هكذا إذن صارت مقولات أوغست كانط مؤسِّس الجماليات في عِداد الماضي؛ ذلك أن البشاعة صارت في الفن أفضل الطرق للتعبير عن جمالية الحياة وعن مفارقاتها وعن مأساويتها.
لنعد إلى لوحتنا … سنوات بعد أن رسم الدريسي لوحته هذه، منحته وزارة الثقافة إقامة لمدة ستة أشهر في مدينة الفنون بباريس. جمع الرجل حقائبه وأخذ الطائرة. ثم استقل الحافلة الرابطة بين المطار وباريس. نزل من الحافلة، واستقل المترو. وبينما هو ينتظر قطار الأنفاق، توقف قلبه نهائيًّا عن الخفقان. كان جثمانه ممدَّدًا أرضًا، وحوله يتحلق ناس غرباء، رجال ونساء، كما في اللوحة التي رسم قبل سنوات. غير أن لا أحد من المتحلقين حول جثة الغريب ذي الشارب الطويل كان يعرف أنه فنان؛ فهو قد مات غريبًا في الواقع لأنه لم يكن يحمل ريشة وملونة، خلافًا للوحة، وكأن اللوحة وهي تستشرف موته كانت أصدق وأقل مأساوية.
هكذا رسم الدريسي موته تمامًا كما تصوَّره لاوعيه التشكيلي. أو لنقل إنها اللوحة التي قتلته أو حملت موته، كذلك الأمير، في ألف ليلة وليلة، الذي جاءه ملك الموت لينبئه بموته في مكان معين، فعمل كل شيء لتفادي ذلك، غير أنه ظل يحمل قدره معه؛ بحيث لم يكن يعلم أن الموت ينتظره في كل مكان!