الشعيبية طلال في السينما: أي ذاكرة بصرية للفن؟
وأنا أقرأ في جريدة هذا الصباح خبر خروج فيلم «الشعيبية» للقاعات، تذكرت ما كتبته عنها في صحيفة عربية غداة وفاتها سنة ٢٠٠٤م: «أصبحت الشعيبية من الشهرة في بلدها وخارجه بحيث تحوَّلت إلى رمزٍ، وغدت قيمتها الوطنية تضاهي قيمة أشهر الرياضيين العالميين المغاربة من أمثال سعيد عويطة وهشام الكروج، وصارت مضربًا للمثل في هذا المضمار. وكأنها بذلك تتسلل إلى وعي ولاوعي اللغة والتواصل الاجتماعي، محوِّلة وضعية المرأة العربية إلى انفتاح متواصل نحو الإبداع الممكن الذي يكسر قرونًا من الهامشية والتهميش.»
كنت منذ أواسط التسعينيات أود لو استطعت ممارسة التوثيق البصري للذاكرة التشكيلية المغربية والعربية. بيد أن التليفزيون والسينما كانا بعيدين عن هذا المضمار، لا يوليان اهتمامًا للمشاريع المقدَّمة لهما. إن هذه الحركية السينمائية والتليفزيونية التي تعرفها بعض البلدان، كسوريا والمغرب، منذ بداية الألفية الجديدة، قد أفرزت إعارة بعض السينمائيين للأهمية التي تكتسيها حيوات الفنانين، باعتبارها حيوات «نموذجية»، إما خارجة عن المألوف أو مأساوية ومفعمة بالمنعطفات.
ولاعتبارات يمكننا بسطها وتحليلها ومناقشتها، يكاد الفن التشكيلي (باعتباره فضاءً حيويًّا واقعيًّا) لا يجد مكانًا له في المتخيَّل الأدبي والبصري العربي الحديث والمعاصر. لا في الرواية، ولا في المسرح فقط، وإنما أيضًا في السينما والتخييل التليفزيوني. بل إننا لا نعثر هنا وهناك في فضاءات التليفزيونات العربية (الكثيرة والمتكاثرة) على برامج هامة ومرجعية عن الفن (عدا طبعًا التقارير والربورتاجات عن المعارض). فالفن التشكيلي على عكس الأغنية مثلًا لا يدخل في مجال الترفيه، وروَّاده ليست لهم شهرة المغنين والمطربين. والفتيات والفتيان المتوالون على برامج التباري يأخذون من اهتمام الشباب ما لا يأخذه أشهر فنان تشكيلي، مع أن الفن التشكيلي والموسيقى فنَّان ظلَّا متلازمَي الأهمية منذ فجر التاريخ.
وأنا أشاهد فيلم الشعيبية، اعترفت بيني وبين نفسي أن حياة الفنانين، لا الفطريين فقط كالشعيبية ومولاي أحمد الإدريسي وباية وغيرهم، بل أيضًا غير الفطريين كلؤي كيالي والجيلالي الغرباوي وشفيق عبود وغيرهم، حيوات تستحق الحكي. فلماذا إذن تتوارى حكاية الفنانين وراء فنِّهم؟ أبسبب القيمة التجارية والرمزية للعمل في سوق الثقافة والمال والإرث؟ أم بسبب الفقر الكامن في التأريخ للفن أدبيًّا وبصريًّا وسينمائيًّا وإعلاميًّا، الذي تعاني منه الفنون العربية؟
ليس لدينا مؤرخو فن يمكن الاعتداد بهم. والقلة منهم الذين تنتجهم على عواهنها مدارس أو كليات الفنون المتناثرة في العالم العربي، يتحوَّلون إلى صحفيين، أما القلة الأخرى التي تأتينا من مدارس الفنون الغربية، فهي تكون أقدر على تدريس تاريخ الفن الغربي منه على تدريس تاريخ الفنون العربية، لسببٍ بسيطٍ هو الاختلاف الجذري بين التاريخين؛ ثم لغياب فكر يتجذر في تربة الفن العربي وسياقاته الخصوصية كي يبني عليها تصورات جمالية جديدة تليق به، وتصلح له، وتتلاءم معه، أكثر من أن تكون تصورات مسقَطة عليه من عالمية التجربة الفنية.
حين يتنطع سينمائي شاب كيوسف بريطل للتأريخ لتجربة فنية لا يهمه العمل الفني الذي أنتجته الفنانة (الشعيبية)، فذلك أمر يتركه، صراحة وبالكثير من الأريحية، لناقدٍ أو مؤرخ أو كاتب بيوغرافيات وسِيَر حياتية فنية. إنه يهتم بالأساس بالشخصية وبلحظة تكوُّن العمل الفني، تلك اللحظات التي قال عنها المحلل النفساني الفرنسي الشهير جاك لاكان، بأننا حين نرى العمل الفني، أو نقرأ الرواية ننسى الليالي البيضاء التي قضاها صاحبها في بلورتها، ولحظات المعاناة والقلق التي كانت وراء ولادة العمل الفني. كما أنه يهتم بالمحطات والمنعطفات والتميز الذي يضفيه هذا المسير الحياتي على حياة الفنانة وأعمالها.
هكذا يجعلنا المخرج نكتشف صبا تلك الطفلة التي وُلِدت (سنة ١٩٢٩م) وترعرعت غير بعيدٍ عن المحيط الأطلسي، بقرية صغيرة تُسمى شتوكة. ومعه نتابع ولعها بالأرض والحيوانات والنباتات ومرحها الطفولي، الذي سوف يتم اغتصابه بتزويجها صبيةً برجلٍ هرِم، ستُرزق منه بولدها الحسين، الذي سوف يغدو أحد الفنانين المعروفين في الستينيات. وبعد وفاة الزوج العجوز، ستضطر لإعالته بالعمل خادمة في بيوت الآخرين. ومع ترعرع ابنها ظلت تشاركه حياته الدراسية. وبما أنه كان مولعًا بالرسم فقد بدأت تمارسه هي أيضًا في الليل بعد العودة من العمل … بعيدًا عن الأنظار.
وفي يوم من الأيام جاء الناقد الفني الفرنسي المعروف «بير غوديبير» إلى بيتها لزيارة مرسم ابنها حسين، رفقة الفنَّانَين المغربيين المعروفَين حينها أحمد الشرقاوي وأندري الباز، وما إن انتهوا من زيارة المرسم حتى أخبرتهم الشعيبية، بنبرة حازمة، بأنها أيضًا تمارس الرسم، وترغب في أن يطَّلعوا على أعمالها. فكانت الدهشة العارمة التي ستقودها إلى رواق صولستيس بباريس سنة ١٩٦٦م، ومن بعدها إلى ارتياد أغلب المتاحف والقاعات المعروفة في جميع العواصم الفنية الغربية. لقد صارت الشعيبية تتصدر قائمة الفنانين المبدعين بالعالم العربي، مثلها مثل جارتها الجزائرية باية.
فنانة محيِّرة هي الشعيبية. فأعمالها تعانق المرئي في لجة من الحساسية الممهورة بالحرارة. لذلك لم تكن تمزج الألوان أو تخلطها. ظلَّت تستعملها كما هي مباشرة من العلبة إلى اللوحة. تحافظ لها على نقاوتها الطبيعية لأنها لا تؤوِّل الواقع، وإنما تخططه وتقدمه كما هو، أي كما يتراءى لها. وجوه الشعيبية وكائناتها تكتسح اللوحة في غمرٍ فياض من التداخلات. تتجاور وتتلاصق وتتجذر؛ إذ لا امتداد للجسد إلا في تشاكيل نظنها أشجارًا تارة، ونخالها عناصر غامضة أخرى. وكأن هذا العالم المتماوج عبارة عن حلمٍ كبيرٍ لا وجود فيه للمنظور أو لتقنيات الرسم الأكاديمية، ولا حضور فيه للفضاء بمعناه الواقعي. ترسم الشعيبية ذبذبات تأثرية، ولقاءات بصرية وحمولات تركيبية. وهي بذلك ظلت تؤوِّل الواقع، وتعيد تشكيله على طريقتها الطفولية، راسمة عالمًا يضج بالصخب والفرح والأسى أيضًا، يرتجُّ تحت ثقل المعاني الإضافية، ويرفل في تلافيف صدى الحواس.
هذا ما يقوله الفيلم في شكل حكاية، وهي حكاية لا تقل أهمية عن حكاية فنانين من قبيل لؤي كيالي أو الغرباوي أو عزيز أبو علي وشفيق عبود … وما أحوجنا للأفلام الوثائقية كما التخييلية التي تتناول حياة فنانينا الروائية منها واليومية التربوية، قصْد خلق ذاكرة تجذِّر الفن في متخيلنا الثقافي، وتمنح لأجيالنا مرجعيات مرئية تمكِّنها من بناء شريطها الحياتي المستقبلي الخاص.