شفيق عبود: الفنان الذي أحرقه وهج النور
منذ بضع سنوات، كان لي موعد مع صديقة مغربية من أصل لبناني، زوجة سابقة لأحد كبار الفنانين المغاربة، وناقدة فنية، بزقاق ليتري، غير بعيدٍ عن برج مونبارناس في المقاطعة السادسة بباريس. الشارع الصغير هذا معروف بمقاهيه العتيقة التي حين تجلس في سطيحاتها الضيقة، تحس كأنك تعبُّ تاريخ باريس، وتستعيد شبابك حين كنت طالبًا بها، تسرح في أزقتها وشوارعها، مشحونًا برغبة عارمة في الرقص.
كان لقاؤنا برواقٍ صغيرٍ من طابقين يحمل اسم كلود لومان، كان قد نظم منذ الثلاثينيات العديد من المعارض لكبار الفنانين اللبنانيين، ومن ضمنهم شفيق عبود. كانت دهشتي عارمة وأنا أصادف حينها معرضًا لشفيق عبود، الفنان اللبناني الباريسي الذي يمكن اعتباره، إلى جانب ثلة من مُجايليه، الأشهر والأكثر إبداعًا حداثة. ومن حسن حظي أنه قُيِّض لي أن ألحق في سنة ٢٠١١م معرضه الاستعادي في معهد العالم العربي بباريس، فتكتمل لديَّ النظرة عن هذا الفنان، الذي كان اللون إحدى سِمات أعماله المشرقة.
غير أن ولع شفيق عبود بالتشكيل لم يكن مطلقًا. كان مهووسًا بالليثوغرافيا، وهو ولع أتاه — حتمًا — من عشقه للشعر وللكتاب، بحيث كان أول فنان عربي يصدر كتابًا بهذه التقنية في بداية الخمسينيات. كما أنه في الثمانينيات جرَّب الخروج من اللوحة سواء عبر ممارسة الرسم على السجاد، أو النحت بالخزف. هذا الاهتمام بتجديد الأسندة جعله يكرس له وقتًا كبيرًا أفرز عملًا هائلًا من ٣٠ مترًا مربعًا شكَّله بالخزف والنحاس.
وأنت تتجوَّل بين عطاءات هذا الفنان، لا يمكن إلا أن تجد نفحة شعرية عارمة تتلقف بصرك. قصائد روني شار، التي كتبها عن الغابة، تكاد تكون مصاحبة لموسيقى هذه اللوحات. ثمة في كل ما يرسمه شفيق عبود ضربٌ من الانتفاضة المتبركنة. تحسُّها تنطلق من فوهة في اللوحة، غالبًا ما تكون في الوسط لتتوالى شذراتها، عبارة عن مساحات صغيرة قلقة متواشجة، تنسج في اللوحة ضربًا من التوالد الطبيعي. أليس هو القائل: «لا يمكننا أن نخطط للوحة سلفًا، فأنا لا أتصور أبدًا لوحة منتهية منذ البداية، إنها تنصاغ في الفعل والحركة، وتتكثف شيئًا فشيئًا.»
قيل كثيرًا عن شفيق عبود إنه فنان حكَّاء، وأنه فنان تلويني.
أما الحكاية فإنها في لوحاته ومنحوتاته ومشاريعه الفنية المتعددة، تتشذر إلى ما لا نهاية. وكأنه وهو يستعيد حكايات جدته في تلك القرية المسيحية اليونانية من جبل لبنان، تكاد تلك الحكايات لا تسع فورانه، أو كأنه يتعامل معها كما مع مزيج الصبائغ، فتتهادى بين يديه، وتتراقص لتغدو حكاية متناسلة، على طريقة شهرزاد، أو على طريقة الهايكو. والحقيقة التي نستنبطها من أعماله بكاملها، حتى الحكائية منها في أواخر الأربعينيات، هي أن الحكاية تتحول لديه إلى مقطوعات شعرية، ذات إيقاع متناسج لا يصوغ تجانسها غير الدقة التي بها تتبلور النبرات اللونية الخاصة به.
الحكاية لدى شفيق عبود تشابكٌ من المساحات، تنبني وتتواشج في شكل منظر تجريدي. والتجريد لغةً، كما نعلم، هو التعري؛ بحيث إن التجريد لديه عبارة عن بحثٍ عن الجسد المجازي للمدينة والجبل. إننا نجد أنفسنا في لوحاته أمام مزيج سلس بين الحضري والبدوي، وبين البنيات وانفلات النظر في المساحات الطبيعية. وأن يصل فنان بهذا الشكل إلى هذا المزيج أمر يعني أنه يتملك كل شيء باعتباره منظرًا قابلًا للتشكُّل في البصر والبصيرة معًا.
هذه «الجدلية» تحيل إلى نظرة عصفورية، تلتقط المكونات وتنسجها كما لو أنها تعيد خلقها في نظرة هوائية سابحة فوق الأشياء. لا حكاية متسلسلة إذن. لا حكاية هنا إلا وهي تنفلت من العين دفعة واحدة … وحتى حين يرسم شفيق عبود سلسلة الفساتين في الثمانينيات، نراه يصنع منها منظرًا بنائيًّا يكاد يكون مزخرفًا. الفستان مظهر للجسد الأنثوي، يلفُّه ويبرز عن مفاتنه. إنه مجاز الجسد وكنايته. وهكذا تتسربل الفساتين معبِّرة عن سلطة المظهر، وعن مقام الجسد ومسكنه وبشرته الثانية. هنا مكمن الحكاية مرة أخرى. إنها حكاية مواربة تستلطف العالم من خلال مرئيِّه، وتستنطق كيانه في عبقه.
الحكاية دومًا لدى شفيق عبود حكاية ملونة. واللون منبع النور، ذلك الذي يلف القرية التي وُلِد بها كما يلف حكايات جدته. ولذلك حتى وهو يغدو محسوبًا على مدرسة باريس، وعلى تجريديتها، فإن ذاكرته وحساسيته ظلَّت مشدودة لأنوار الشرق، ذلك الذي احتضن طفولته وشبابه. ثمة دومًا الانطلاق من نبرة لونية كما من نوتة موسيقية، تحوم حولها باقي الألوان. وحين يستعمل اللونين الأبيض والأسود، فكأنه يجمع شتات العالم في لون عينيه.
ثمة شيء في لوحات عبود يجعلها راقصة. وربما لهذا السبب كان ولعه بالفساتين، إنها رقصة الوجود، التي لا نحس فيها إلا نادرًا بنسمة حزن أو كآبة.
والذاكرة البصرية فيها تبدو وكأنها تتحرر من مأساوية الوجود. وثمة تكمن مفارقة التشكيل لديه. فتشذيره التجريدي للعناصر البصرية المرئية يجعله ينحو منحًى شعريًّا واضحًا يكشف عن ثنائية المأساة والمرح. إنها مأساة مرحة وسمت جيله، ربما لأنه عاش بباريس المرحلة الأقل مأساوية في حياة أوروبا، فيما كان العالم العربي يعيش مآسيه الأكثر تعبيرًا عن ضياع الهوية.
كما أن العودة، بشكلٍ مواربٍ، للتشخيص تعبير آخر عن المعضلات النفسية التي كان يعيشها بصمتٍ هذا الفنان، مما أدى به إلى محاولة الانتحار سنة ١٩٧٣م. وهكذا فإن القراءة العمودية لعمله الوافر والمتعدد تكشف عن شخصية فنان ذي هشاشة عالية، يحمل مصيره على أطراف أنامله، وتنطبع مأساته الشخصية كما مأساة العالم على بشرته، يتشرب منها علْقمها، ولا يخرج منها في لوحاته سوى بسمة مطرزة بالألوان، تكاد تخفي عنا وهج الألم المتأجَّج في الداخل.