من الفتنة إلى القتل: الصورة والآخر
يبدو أن الصور بدأت تقتل، وهي صارت كذلك منذ أن صار العالم ينبني على تداول الصور وإنتاجها، بشكلٍ مكثف وجوهري. ففي عالم التواصل بالتقنيات الرقمية صارت الصورة مستقلة عن منتِجها، أو هي بالأحرى صارت تُستخدَم في مناحٍ كثيرة، بشكلٍ جعل منها سلاحًا أشد رعبًا وفتكًا من السلاح التقليدي الملموس. ليس لنا أن نغوص بعيدًا كي نقف على هذه الخطورة؛ فقد كانت تنبؤات جان لوك غودار في الستينيات والسبعينيات حاسمة عن الطبيعة الملتبَسة للصورة التليفزيونية.
والحقيقة أن الصور كلها ملتبِسة، ذلك ما أكد عليه استعمال الصور في حرب الخليج لخلق آثار سياسية مباشرة، أو لتوجيه النظر عن المجازر التي تُرتكَب باسم الدفاع عن الديمقراطية. يكفي أن تُقتطع صور من سياقها كي تُستعمل في إطار آخر. بيد أن الأمر الحاسم في هذه العملية ليس بالضرورة — دائمًا — هي الصورة نفسها، مهما كانت بشاعتها؛ إنه أيضًا التعليق أو الكلام المصاحِب. وهكذا حين تصاحب اللغة الصورة للتعليق على وضعية معينة، تكون في أغلب الأحوال شائكة، سواء كانت سياسية أو اعتقادية، فإنها تصبح أشبه بالقوة الجامحة التي تصيب — من الهدف — مقتلًا.
نحن في البلاد العربية لا نزال في حال التواؤم النزاعي مع الصورة، خاصة منها الصورة النقَّادة. ولا أدل على ذلك من أن الكاريكاتور هو الابن الأضعف للثقافة العربية. ينبني الكاريكاتور على الاشتغال على المفارقة الساخرة، وهو لذلك يشكِّل خطرًا. وتجربة ومأساة ناجي العلي أكبر مثال على ذلك. السخرية ضرب من الهجاء، ومع أن الهجاء كان ضربًا من الشِّعر متداولًا، فإن تحجيم الحرية الخطابية في المجتمعات العربية جعل من العرب القدماء أكثر حرية من عرب العصور الحاضرة؛ فالكاريكاتور ضرب من التصوير النقدي، الذي يعبِّر عدم تطوره في مجتمعاتنا عن المستوى المنحط للحرية في مجتمعاتنا.
قبل ما يزيد عن عشر سنوات، أصدر عبد الوهاب المؤدب عددًا خاصًّا من مجلة «تفاعل العلامات» (أنترسينيْ) عن اللامرئي، وعما لا يقبل التمثيل والتصوير. وفيه يتم بناء نظرية شاملة للامرئي، باعتباره تعاليًا يشكِّل وجهة المرئي والمحسوس. وقبله كان ابن عربي وتلميذه الكاتالوني رايمون لول، قد صاغا نظرية واضحة لتمثل اللامرئي والمتعالي، وما لا يقبل التشخيص والتجسيم. وبينهما صاغ سارتر نظريته في الصورة (التي يستعيدها الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير، بالكثير من الحذق والعمق) باعتبارها صورة ذهنية قبل أن تكون مرئية. وبعده بلور عبد الكبير الخطيبي نظريته القائلة بأن حضارة العرب والمسلمين هي حضارة العلامة، وقد تحوَّلت إلى صورة، وأن العلامات هي مدخلنا لحضارة الصورة.
ينسى الكثيرون أن المسيحية — في بداياتها — لم تكن ديانة للصورة، وأن الصورة صارت جزءًا لا يتجزَّأ من تداول العقيدة المسيحية في القرن الثامن فقط. كما ينسى الكثيرون، من الجهة الأخرى، أن التشخيص والتجسيم ليس محرمًا مطلقًا في الإسلام؛ إذ هو يتعلق فقط بما له حياة، وأن محمد عبده قد كتب نصًّا فاصلًا في إجازة التصوير؛ بيد أن المشكلة ليست الآن في الصورة، وإنما في موضوعها واستعمالاتها.
ما الذي يقبل التصوير؟ وما الذي لا يقبله؟ هل المشكل في التمثيل وما يقبل ذلك؟ أم في استعمال هذا التمثيل التصويري وغائياته؟ وهل المشكل في الصورة نفسها؟ أم في طابعها الساخر النقدي؟ أطرح هذا السؤال لأني، وأنا صبي صغير، كانت تتداول — بكثرة — مجموعة من الصور المستقاة من المتخيل الشعبي، ومن ضمنها صورة للنبي يركب البراق. كانت تلك الصورة تفتنني وبخاصة ذلك الحصان المجنح السابح في الفضاء، مقدار ما كانت تثيرني صورة آدم وحواء شبه عاريين على جانبي شجرة تفاح، تحيط بها حية عظيمة. فيما بعد أدركت أن تمثيل نبي الأمة أمرٌ لم يكن منعدمًا، بدليل المنمنمات الكثيرة التي كنت أصادفها هنا وهناك.
لو أن مسألة تصوير النبي — بشكلٍ ساخرٍ — في إحدى المجلات الدنماركية، وبعدها مشكلة الفيلم الإيراني الذي يمثِّل الذات الإلهية، ثم صدور عدد شارلي إيبدو، بزخمه الكاريكاتوري، حدث في السبعينيات أو الثمانينيات، هل كان الأمر سيسير إلى ما سار إليه اليوم؟ أعتقد أن التحولات التي طالت المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة تؤكد، مرة أخرى، أن قوة الصورة وتأثيرها يأتي لا منها مباشرة، وإنما أيضًا من طبيعة تلقيها.
إن عودة المقدس أو العودة إلى المقدس الديني في المجتمعات العربية، بالشكل الراديكالي الذي أخذه، هو ما يمنح حرارة وتوترًا لكل ما يتعلق بالتصوير الذي يتعرض للمقدس الإسلامي، وهو الذي يمنح الصورة هذا الطابع القاتل؛ من حيث كونها جزءًا من استراتيجية تصادم الحضارات، ومن طريقة تلقي حضارة لأخرى، ولو من قِبَل طائفة فكرية من طوائفها من جهة؛ ومن ناحية التصدي لذلك بالعنف القتَّال المعد لهذه الطائفة من جهة أخرى.
قال هايدغر إن المتناقضات تتشابه وقد تتطابق، فهنالك، في تلك البلدان، حرية في المعتقد والرأي تبيح أشياء، وتلجم أشياء أخرى (معاداة السامية التي تقصي منها العرب أبناء عمومة العبريين)، وفي بلداننا ثمة من يكفِّر كل من ليس مؤمنًا بالإسلام، حتى ولو كان من أهل الكتاب.
يبدو أن الصورة صارت تقتل حين صار للمعتقدات الدينية قيمة أكبر وأعمق، وأكثر استراتيجية من المعتقدات السياسية. فانحسار السياسي لصالح المذهبي الديني جعل هذا الأخير يأخذ ناصية السياسة ويلحقها بمقاصده. وربما هذا ما جعل الروائي هولبيك في روايته الأخيرة، يصرخ محذرًا من أسلمة الغرب، وهو ما جعله أيضًا يتراجع عن الترويج لها. لو كانت هذه الرواية مصوَّرة، ألم تكن لتثير الفتنة نفسها، وربما التقاتل نفسه؟
ويبدو أيضًا أن اللغة والكلام لم يعد لهما الوقع نفسه، حين لا يكونان صورة أو حين لا يصاحبان الصورة. وأنا أتصور أن رسوم مجلة شارلي لا تأخذ قيمتها إلا من الفقاعات الحوارية التي تصاحبها، ومن التعاليق التي تواكبها، والتي تقوم بإضفاء اسم النبي الذي يثير الفتنة في أوساط المسلمين. ولو أننا أخذنا هذه الصور، وغيَّرنا التعاليق؛ فإنها ستغدو أكثر عمومية، ولن تمس المقدس الإسلامي مباشرة، وإنما بشكلٍ موارب.
الفتنة — فعلًا — أشد من القتل، إنها فتنة مزدوجة، أولاها أثارتها صور شارلي إيبدو، لتغدو تراكمًا لسوابق للجريدة ولغيرها، قبل المجزرة الرهيبة التي لحقت أعضاءها، وثانيتها لحقتها بما تركته من آثار وهجمات، بعضها مادي يتعلق بالانتقام من رموز دين منفِّذي العملية. كما أنها قتل مزدوج، لحق أوَّله برسامي الجريدة، وسيعدم ثانيه ما بُني من عقود بين العرب والغرب، من علاقات ثقافية وسياسية مبنية على التسامح والتعايش … لكنه يبدو أنه تعايش، تساهِم حرب الصور — بشكلٍ كبير اليوم — في هشاشته.