عزيز أبو علي: الفن والألم
في مدينة مدريد، وبوسطها التاريخي المعروف ﺑ «البويرطا ديل صول» (باب الشمس)، وفي عمارة أُفرِغت من السكان لغرض الترميم، عُثِر على جثة الفنان المغربي المقيم بإسبانيا عزيز أبو علي، ٤٥ يومًا بعد وفاته، وقد طالها التعفن، ولم تجد من ينتبه لها مسجاة بين لوحاته وأدواته في الرسم والحفر والتشكيل … عزيز أبو علي، ذلك الفنان الأسمر الصموت، ذو الابتسامة الكئيبة المرتسمة دومًا على محياه، الذي يقطن تلك الشقة منذ سنين طويلة، بحيث حوَّلها إلى مرسمٍ في الآن نفسه، كان معروفًا في الحي، بل في إسبانيا كلها بين أوساط الفنانين الكبار. تتوسط الشقة آلة طباعة للحفر، تشهد على عشق هذا الفنان للحفر، ولاشتغاله لمدة طويلة مع فنانين كبار باعتباره معلمَ حفرٍ متخصصًا في تحويل اللوحات إلى فن غرافي طباعي.
عزيز أبو علي (١٩٣٥-١٩٩٣م) ظاهرة خفية، ونادرة في الفن التشكيلي العربي المعاصر. هذا الرجل الذي عاش طفولة تعيسة، وامتهن — صغيرًا — حرفة العجلاتي في المدينة القديمة بمراكش، سيكتشف موهبة الرسم في نفسه، ويمارسها بعيدًا عن رقابة أبيه الفقيه. وستكون أولى رسوم الصبي لوحة لإسكافي الحي. وفي خضم العلاقات التي ربطته بأبناء الكثيرين من أعيان المدينة سوف يهتم به أصدقاؤه حين وقفوا على ممكناته الفنية، ويسجلونه لتلقي دروس في اللغة والفن بالمراسلة. وبعدها قدم نفسه للتسجيل سنة ١٩٦٤م بمدرسة الفنون الجميلة بتطوان، التي كان قد تخرج فيها آنذاك فنانو الطليعة المغربية كمحمد المليحي والمكي مغارة وغيرهما. وبعد أربع سنوات من الدراسة سوف يلتحق بمدريد لدراسة الحفر، ويستقر بها نهائيًّا، ويقطع صلاته بالوسط الفني المغربي.
وبمدريد أصبح عزيز أبو علي أحد الحفارين المرموقين، حيث اشتغل مع أشهر الأسماء الفنية الإسبانية من قبيل خوان ميرو وطابييس، وحازت منحوتته الرخامية على جائزة الدولة الإسبانية سنة ١٩٧٣م، كما حاز على جوائز أخرى بها. وفيها أيضًا صاحب العديد من الفنانين العرب الذين لا يزالون يذكرون، كما صرحوا لي بذلك شخصيًّا، هذا الفنان المتفرد، كالفنان السوداني راشد دياب والنحات الأردني سامر الطباع، وهما من الفنانين العرب الذين تابعوا تكوينهم في مدريد، في فترة كان فيها عزيز أبو علي في عزِّ وهجه الفني وعطائه الإبداعي.
بدءًا من أول صورة مصبوغة وفطرية، وصولًا إلى الرسوم الأخيرة قبل الرحيل، ظل عزيز أبو علي قريبًا مما يشكِّل في بواطنه العناصر الأساسية للمعنى والأسلوب. فالطريقة كما المنظور يبدوان دائمًا منحرفين، ولو بشكلٍ طفيفٍ، سواء من مسارهما العمودي أم الأفقي. فيتبدَّى شغف غامر بالميلان المعبِّر عن علاقة أكيدة بالأرض والموت. هكذا تفصح الأجسام عن وجودها البصري في الانحناءة، والوجوه في الالتفاتة الخفيفة، كما لو كانت تنطلق في حركة محجوزة، أو تصيخ السمع لكلامٍ خفي مهموسٍ من مصدرٍ قريب، فتؤكد — بقوةٍ — تلك اليقظة التي يعيشها الفنان تجاه همس الحياة والموت. بيْد أنها يقظة يخترقها الخوف، والانتظار المميت لحدثٍ ما أو حدوث ما، قد يكون هو حدث أو حدوث الآخر، ذلك الظل الملازم للذات الذي يسكن كل حفْريات ورسوم الستينيات والسبعينيات.
من ثَم يمكن القول إن تجربة عزيز أبو علي — بكاملها — تدور حول فكرة الموت والولادة (لا الانبعاث). فالكائنات التي يصور، خاصة في أعماله الحفرية، تنضح بالتشوُّه والمعاناة. والانحناءة التي تلازم الكائنات اللامتحددة والمشوَّهة، تحيل، في الآن نفسه، إلى وضعية الجنين. وكأن الفنان يعبِّر عن وجوده باعتباره وجودًا غير مكتمل وغير عيني، محجوب في دهاليز الألم والوجود. إنها أيضًا كائنات معصوبة، وكأنها خارجة من غرفة عمليات، فاقدة للشكل واللون والحياة.
تتعرَّى الكائنات المعصوبة أمامنا، وذلك نمطها في استعراض الأجسام التي ينخرها الألم، وصمت الزمن وثقله. إنها شخصيات لا تسعفها المواساة، منذورة لضياعها المحتوم، غير منتظرة للشفقة أو التعاطف، ولا لأي تماهٍ أو تطابق، تعرض نفسها فننقل نظرنا عنها للتوِّ؛ إذ فيها تتجلى صورة موْتنا الداخلي.
يكاد الأمر في أعمال عزيز أبو علي يتعلق بهوسٍ، لا نلبث أن نلاحظ أنه يعاند انمحاءه، في تنويعات وتلاوين ليست بأقل هوسًا. فالجسد، جسدُ الفنان، يتراءى لنفسه في المرآة بشكلٍ لا نهائي، ليجد نفسه دومًا في نقطة البداية، وكأن هذا العود الأبدي هو عناد فني ومأساوي للولادة من جديدٍ. ربما كان هذا هو ما يفسِّر الطابع التكراري للعناصر والأشكال، والوضعيات والألوان والأسلوب نفسه. ففيما يبدو، كان لعزيز مَلَكة الغوص عميقًا حتى كشْط صخرة المعنى.
وبالفعل، تزجُّ بنا اللوحات الغواشية التي تركها عزيز في الطبقة الأكثر بهجة ومرحًا من كيانه. هل يتعلق الأمر بتناقضٍ أم بآثار مرآوية؟ إنه بالأحرى سفرٌ دائم في جسد المادة. فالطابع التقني للحفْر (بصُدفه وحدوده) يجعل الفنان مُقيمًا في آلة الزمن. أما الصباغة بالغواش، بمرحها وسيولتها، فإنها تدمجه إلى حدٍّ كبيرٍ في خفة الوجود. هكذا تغدو تلاوين السبيْدج والبنِّي هنا منذورة إلى تنويعات لامتناهية في اللون والشكل. وهكذا يصبح الأزرق والأخضر الباهت، والبرتقالي المحمرُّ الألوان الرئيسية التي تشكِّل ملامح عالم طفولي ينضح بالمرح.
بل إننا نشهد في تلك اللوحات الغواشية تجربة حركية ذات قوة باهرة. فثمة عواصف من الخطوط الدائرية المتداخلة والمتقاطعة، تسعى للبحث عن شكلٍ واضح المعالم. وثمة لعبة للآثار والرغبة في الكتابة البصرية، فيما وراء الرسم وغائيته التشخيصية. وبما أن لوحات الغواش تعبير عن إعادة اكتشاف عزيز لذاته، فإنها جاءت للمحافظة على توازن، مهما كانت هشاشته، في حمأة الدوْرة المدوِّخة للمرارة التي استبدت لزمن معين بأعماله. هكذا تحوَّلت السخرية السوداء التي سهر على بلورتها إلى لعبة من الأشكال والألوان؛ حيث لا تظهر التشخيصات إلا نادرًا، وحين تظهر فليتم تغليفها برمزية جديدة.
لهذا يغدو من العسير الحديث عن التجريد والتشخيص لدى عزيز أبو علي؛ ذلك أن أعماله وهي تبدو تشخيصية تتعالى على الصور المشخَّصة وأبعادها الدالَّة، وتجرِّد المشخَّص من كل سياقٍ توضيحي. وهي تبدو تجريدية، لأن الأجسام فيها لا هوية واقعية لها. إنها مدارات السخرية والمأساوية، التي تجعل كل لوحة اختصارًا للاكتئاب الذي عاشه الفنان فأودى بحياته، وكل شكلٍ تعبيرًا عن تشوهات الحياة وقتامة الرؤية. إنها تجربة لا ضفاف لها، وإبحار لا نهائي في شساعة الألم والتوحُّد وعمق شروخ الذات.