باية، غرابة الإبداع المتفرِّدة
ثمة من الفنانين ومن التجارب ما يخرج من بين صخور التاريخ، حاملًا معه لنا أسئلته النابعة من مسام الأرض. كما ثمة مصائر فنية تظل صامدة أمام التحولات وكأنها وجدت في جذر البدايات موردها، وفي ذروة الامتداد منتهاها. باية الجزائرية، التي وقف أندري بروتون وبراك أمام أعمالها في حيرة من فكرهم، ومحمد بن إدريس اليعقوبي الذي عاشر بول بولز وأدهش فرانسيس بيكون، كما شلبية والشعيبية وغيرهم، عبارة عن عوالم أشبه بالنجوم السائرة التي تخترق ركود مستنقع الفن العربي فتمنحه سموات جديدة وأوردة ودماء ليست بأقل جدة.
يكفي في هذا السياق أن نمارس المقارنة، بالرغم مما في الأمر من إجحاف: منذ البداية كان لهذه الأسماء صدًى في المحافل الفنية الدولية (فرنسا، بريطانيا، أمريكا …) وبين الفنانين والنقاد والمفكرين العالميين (أندري بروتون، جورج براك، غاسطون دييل …)، بحيث إن بصمتها غيَّرت نظرتها للفن العربي، ومنحته طابعًا جديدًا ومسالك مغايرة؛ هذا في الوقت الذي وجد هذا الغرب في أعمال الكثيرين من «عمالقة» الفن العربي الحديث والمعاصر أعمالًا تكاد تكون مقتطعة من تاريخ الفن الغربي، ومن عوالمه وتقنياته ومتخيله … وهي أعمال أخذت في غالبها الكثير من الوقت، قبل أن تجد لها مكانًا في الفن العالمي. ليس الأمر مرتبطًا بالغرابية (الإكزوتيكية)، وإن كان هناك ذرة من ذلك، وإنما بالأساس بالاختلاف والغرابة.
باية الظاهرة الفريدة
لم يكن لباية (فاطمة حداد، ١٩٣١–١٩٩٨م)، أن تحلم بمصير فني مجيد كذلك الذي صادفته وهي لا تزال يافعة. فهذه الصبية الجزائرية التي كانت تختلي بنفسها كي تشكِّل الأحجام بكل المواد التي تلاقيها يداها، صادفت في طريقها العديدين من الذين أعجبوا بعملها، كان أغلبهم من المقيمين بالجزائر كما بفرنسا فألهموها ودعموها واحتضنوها هي وعوالمها العجيبة.
حين فقدت الصبية أبويها راحت لتعيش لدى جدتها في إحدى المزارع الاستعمارية الكبرى. هناك أطلقت العنان لمخيَّلتها، كما لتستعيد عوالمها المفقودة. وبين النحت والتشكيل خاضت الفنانة العصامية تجربة فريدة ومتميزة قادتها إلى العرض بباريس سنة ١٩٤٧م، وهي ابنة السادسة عشرة، محققة الحدث في ذلك الوقت، وملاقية من الاهتمام ما لم يلاقه مجايلوها من الفنانين العرب آنذاك.
في هذا المعرض الأول أذهلت باية محيطها المباشر والفني، ليس فقط بعالمها المتفرد الخارج عن المألوف، وإنما، أيضًا وخاصة، بلمستها الجديدة، وطريقة رسم شخصياتها واختيارها للألوان والفضاءات والعوالم التي تمنحها للرائي. كان الشاعر والمفكر السريالي أندري بروتون أول من عبَّر عن دهشته الكبرى حين كتب عن باية بعد مشاهدة معرضها: «ها هو الآن بعيد عنا هذا العالم العتيق، الذي يقال عنه، من باب المحاباة، إنه عالم متحضر، هذا العالم الذي بدأ يفقد أنفاسه، هذا التنين ذو المائة ثدي العجاف … الرغبة الإنسانية لدى باية تظل هي في حالها الخالص لا تقبل، لإشباعها، بأي حاجزٍ، تنساق بلا معيق لضرورة تحققها … باية التي تتمثَّل مهمتها في أن تشحن من جديد بالمعنى هذه الكلمات الحنينية الرائعة: بلاد العرب السعيدة. باية التي تمسك بالغصن الذهبي وتجدِّد حياته.»
حين تفوَّه بروتون هذه الكلمات، كان دوبوفي قد أطلق من سنتين فقط اسم الفن الخام على صنفٍ جديدٍ من الفن الفطري، تمييزًا له عنه، وسعيًا نحو الانفلات من الطابع القدحي للمصطلح. وهو المصطلح الذي سوف يجد صيتًا كبيرًا له، بحيث سوف يعوض تدريجيًّا مصطلحي الفطري والساذج، وسوف تنشأ متاحف بالاسم هذا، ولعل أشهرها متحف الفن الخام بجنيف، الذي سوف يحتضن أعمال أهم الفنانين العصاميين في العالم.
عالم باية البصري لا يمكن أن تخطئه العين. إنه عالم أنثوي بامتيازٍ، تتشابك فيه بصمات الفنانة، وكأنها توقِّع في أنحاء لوحاتها من غير أن تكتب اسمها. هذا التفرد هو ما يمكن أن ينطبق بشكلٍ كاملٍ على ممارستها الفنية. فباية لا ترسم غير النساء، وكأنها بذلك تستعيد طفولتها من ناحيتين: صباها هي في كآبته وتوحده، وأمها التي فقدتها في وقتٍ مبكرٍ فظلَّت تسكن مخيلتها في شكل نقصان فظيع للحنان.
هذا العالم الذي تؤثثه النساء يتأنث فيه كل الشيء: الشجر والورد والطبيعة والطيور. إنه عالم كاشف لجنان المخيلة، تزدهي فيه كل الأشياء بصدى الأنوثة. إنها شهرزاد أخرى تحكي من غير أن تحاكي، تنسج من الكائنات المرئية تسلسلًا متناضدًا ومتشابكًا من الحالات، لا مجال فيها لفضائية المنظور. إنه عالم تتوالد فيه الأشياء، وتحيا من جديد وكأننا نراها لأول مرة.
الطابع الخلاق لباية يتجلى في كونها لا تسقط في الفطرية المحضة، أي في الحكي المشهدي للوضعيات التي قد ننعتها بالإثنوغرافية. فهي لا تكاد تطلق الحكي حتى يتحوَّل هذا الأخير إلى ضرب من الإيحاء، وإلى مزيج من الرمزية المبطَّنة، والنظرة الجمالية المحضة. يتبدَّى ذلك من خلال التركيبة التي تتخذها تأليفيًّا شخصياتها، سواء كانت حيوانات أو نباتات أو أشياء.
كل شيء في عالم باية ينضح بالبهاء. نساؤها مسربلات في أردية مزخرفة بشكلٍ لا يُضاهى، ونباتاتها وأصصها تكاد تخرج من حضارة زخرفية عتيقة. أما الآلات الموسيقية فلم تدخل عالمها وتنطبع بأنثويته الصادحة إلا بعد زواجها من الموسيقي محيي الدين. ووجوه كائناتها كلها نكاد نخالها رءوس طير وعيونها عيون نسر … وكأن جِنان باية خارجة للتوِّ من فردوس مستعاد، تقدمه لنا في شكله السماوي. أو لكأننا مدعوون دومًا لنعيش في حدائقها تلك متعة الإطلالة الدنيوية على فردوسٍ نابعٍ من خيال، امرأة يمتزج في بواطنها الحزن والحنين والانطواء على النفس بالثراء الحامل لطفولة أبدية.
أفق مغاير
باية، كما العديد من الفنانين غيرها، من المغمورين أو من المستبعدين والغريبين، يشكِّلون، بصورة ما، الوجه الخلفي لهوية الفن العربي (العربي هنا جغرافيًّا لا عرقيًّا). وإذا كان الفنانون والمثقفون العرب في مرحلة ما قد اعتبروا هذا الضرب من الإبداع وليد الكولونيالية، فإنهم اعترفوا فيما بعد (أي بعد انقشاع غيوم القومية العربية) بما ترفد به هذه التجربة التشكيل العربي بأبعادٍ طفولية وتخييلية بالغة الأصالة والجدة، وقريبة من العمق الأولي للإنسان.
إن هذا «السهل الممتنع» الذي تغنَّت به البلاغة العربية يجد موطئه وموطنه هنا في ذلك التفاعل الخلَّاق بين الذات والموضوع الذي سعت الحداثة الفكرية إلى عقلنته، وصرنا نراه يعود مع التعامل الخام والمتفرد الذي بدأ يعتمده العديد من الفنانين المعاصرين إلى حد استعادة الرسم الطفولي بجميع أشكال تمظهره. إنها تجربة يمكن اعتبارها، بشكلٍ ما، مدخلًا ممكنًا لهوية تشكيلية تكون كونية بقدر ما هي محلية.
باية إذن درس عميق لكل من لا يزال يَعتبر أن التكوين الأكاديمي وحده يمكن أن يمنحنا فنانين حقيقيين!