فاتح المدرس: الفن بحث مستمر عن الدهشة
«كانت أمي تنظر إليَّ مبتسمة مِن تحت اللحاف، وأنا أرسم على ضوء الشمعة، رسمت مرة والدي الذي تُوفي وأنا طفل فمزَّقت عمتي الصورة، رسمت امرأة عارية فراحت ابنة عمتي لتشي بي إلى أمها لتقوم، من جديدٍ، بتمزيق ما رسمت … في تلك اللحظة أدركت ما عليَّ فعله في الحياة: الرسم.» هكذا كان الاختيار الوجودي لفاتح المدرس مبنيًّا على الرغبة الممنوعة، وعلى ثنائية الموت والفتنة. إنها الوظيفة الأولى والأخيرة للفن، وبذلك أيضًا لا يحكي لنا فاتح المدرس فقط عن بداياته، وإنما عن جوهر الإتيان لعالم الفن، من حيث هو سؤال الرغبة والاستحضار.
وأنا أستكشف عوالم الفن العربي، كان اسم فاتح المدرس يتردَّد في قراءاتي الانتقائية آنذاك، ويختلط بأسماء كثيرة كانت تؤثث وعينا «الثوري». وحين رأيت صورة أحد أعماله في السبعينيات، وأنا ما زلت يافعًا، لا أدري لِمَ خلته فنانًا فلسطينيًّا. قدَّرت، أنا الفتى المستكشِف للفن، أنه أسلوب يختلف عن أسلوب الفنانين العراقيين والمغاربة، البادي الجموح والفورة والتجريد. لقد جعلت منه فلسطينيًّا لأن لوحاته كانت توحي لي بسموق الإنسان، وكان الإنسان الأسمى لديَّ في ذلك الوقت فلسطينيًّا.
فيما بعد عشقت الرجل أكثر من خلال أعماله، وعلاقته بالشعر وخاصة بالشاعر أدونيس، الذي قال عنه: «إن إبداع فاتح المدرس في تاريخ الحركة التشكيلية السورية، يمثِّل معيارية كلاسيكية عالية، يُؤرخ بها ويُقاس عليها.» ما الذي يعنيه ذلك؟
جاء المدرس للفن بتجربة فائضة الحساسية، يحمل في بواطنه جراح الذات والمجتمع. وكان تكوينه في إيطاليا يحمل له الكثير من الانفتاح. إيطاليا الأربعينيات التي تلملم جراحها، وتستعيد عنفوانها، وترفل في زخمها السينمائي والفني المتعدد. ربما كان السعي وراء امتلاك قواعد الفن هو الدافع إلى هذا الاختيار، وربما كان التحرر من تلك القواعد هو الدافع في السبعينيات إلى ارتياد مدرسة الفنون الجميلة بباريس. باريس التي عرفت مرور العديد من الفنانين المجددين العرب، وكانت «مدرسة باريس» الفنية فيها منهلًا للتحديث المبني على التجريد والغنائية والتعبيرية المسترسلة.
ما بين زمن الولادة بحلب في مطالع القرن الماضي (١٩٢٢م) ورحيله عنا في يوم من أيام حزيران (يونيو) من سنة ١٩٩٩م، ظل فاتح المدرس يرتاد آفاق تجربته، يحبكها كما لو كان يبني قلعة مكينة، يستوي فيها وحيدًا، خارج تقاطعات التجارب العربية الأخرى. ورغم التحولات التكوينية (ما بين المدرسة الإيطالية والمدرسة الفرنسية) فإنه ظل يحمل في دواخله تكوينًا آتيًا من أعماق أصوله التاريخية والجغرافية. فهو القائل: «أنا عربي سوري، أعيش على جانبٍ من أرض هذا الكوكب، لي تاريخي ولي حسِّي الجمالي بهذا التاريخ، كما أنني في أعماق شعوري أدرك واجب احترام هذا التسلسل الجمالي ونموه … إن واجبي أصعب من واجب الإنسان الأوروبي، فهو لم ينقطع عن التسلسل التاريخي في بنائه المعاصر، بينما ألتفت أنا إلى الوراء لأرى حلقاته مفقودة من النشاط الفني في تاريخ بلادي.»
ولعل هذا المَيْسَم الأصلي هو ما جعل أعماله تتطور بشكلٍ لا تقلبات فيه، تجترح لنفسها الانزلاق تلو الانزلاق مستكشفة عالمين متداخلين: عالم الذات بيقينيَّاته وشروخه واهتزازاته وهشاشته الحقة وقوته المنفعلة؛ والعالم المحيط بكل ما يفرضه عليه من تناقضاتٍ ومفارقات وأخلاقيات.
والحقيقة أن ذاكرتنا الفنيَّة لا تهمها تقلبات الفنانين من البدايات إلى الامتداد، بقدر ما تقف عندَ ما يرتبط باسم الفنان، أي ما يحوِّله إلى علامة فاصلة (كما قال أدونيس). من ثَم يمكن القول إن تجربة فاتح المدرس خلقت توازنًا عسيرًا في الفن العربي بين مختلف نزوعاته. فهي تجربة تشخيصية واقعية من غير أن تكون، حقًّا وكلية، كذلك، وهي تجربة تجريدية من غير أن تكون تمامًا كذلك، وهي تجربة مرحة من دون فرح، ومأساوية من دون كآبة.
إن هذا التوازن الإشكالي يأتي اللوحة من رغبة دفينة في اللعب على الشحنات العنيفة للواقع، وتحويلها إلى كينونات أرخبيلية تجسِّدها الشخوص والأجساد والكيانات. صحيح أن مقاصد الفنان غالبًا ما توجِّه هذه الكائنات نحو الجوار والحوار والتداخل. بيد أن مصائرها الفنية في اللوحة تسير بها دومًا إلى تلطيف التوتر بالتوازن، أي بالاشتغال على أمرين هامين من الناحية التصويرية والشكلية: تعطيل الفراغ وتحويله إلى مكوِّن لوني وخامي، وترتيب الشخوص بشكلٍ تكون معه واحدة ومتعددة في آن واحد. من ثَم كان الوجه لدى المدرس مجاز الكينونة، وكان الجسد مجرد خطوط ائتلافية لا اختلافية … ثمة يبدأ التجريد، أي تجريد الجسد من هويته وتحويله إلى لغة بصرية.
ثمة في لوحات فاتح المدرس أكثر من حكاية، إنها تستثير الحكي وتلجمه، وتطرد الوصف من النافذة بعد أن تستضيفه من الباب. يكبر الجسد وجهًا تقريبيًّا، بلا ملامح ولا هوية، يتحوَّل إلى علامة ثم إلى لطخة. وفي لجَّة التحولات تتشذَّر الحكاية وتكاد تنمحي. ذلك أن الفنان، وإن كانت ذاكرته تعج بالحكايات فإنه يتوسل بالنسيان. طفولته الصعبة في الريف الكردي القاسي، التي لا يزال يتذكرها وهو في قمة العطاء، تجعلنا ندرك الكثير من العناصر والتموجات في أعماله.
فاتح المدرس فنان لا يحب الذاكرة لأنها تجعل حاضره مشروخًا. إن زمنيته الفنية هي زمنية حاضر أبدي. وهو هنا أقرب إلى هايدغر وابن عربي، إذ زمن الوجود زمن متوحِّد في حاضر لا يفتأ يظل حاضرًا. وربما لهذا السبب تنتصب أغلب كائناته في مواجهة الرائي. إنها مواجهة تمكِّننا من الوقوف على المقصدية الجمالية للفنان: الفن ليس مرآة لأنه لا يعكس، لكنه بالمقابل نافذة نرى من خلالها الكائنات والعالم.
في قلب العاصمة دمشق، في ساحة النجمة، كان مرسم فاتح المدرس. كان المكان عبارةً عن قبوٍ رطب تؤثثه، في فوضى خافتة، أدوات الرسم والكئوس الفارغة، ورسوم لوجوه معروفة: الروائي ألبرتو مورافيا، جان بول سارتر … وكذا قصاصات بخط يده كُتب عليها: «الإنسان ليس كلمة، وكذلك الوطن.» أو «الإنسان أجمل من العقل.» كانت له علاقة وطيدة بسارتر، وتعرَّف، في الفترة نفسها في روما، هو ومحمد المليحي على الروائي ألبرتو مورافيا (الذي كان قريبَ زوجة الفنان محمد المليحي). ويبدو أن سارتر ترجم له بعض قصائده من الإيطالية، وكتب له رسالة يدعوه فيها إلى زيارة باريس ليساهم في التعريف به.
فاتح المدرس من تلك الثُّلة التي شكَّلت، بقوة وعنفوان، واجهة الفن العربي، ببحث أكيد عما يمكن تسميته من دون منزع قومي تبسيطي «الهوية التشكيلية» للفن العربي. ويمكننا أن نعتبره، مع شاكر حسن وأحمد الشرقاوي وشفيق عبود وغيرهم من الفنانين الذين طرحوا على التجربة التشكيلية العربية من الأسئلة أكثر ما أتوها به من الأجوبة، إنه فنان لا يزال يصوغ مستقبل الفن العربي.