إتيل عدنان: عنفوان امرأة تعانق رحابة الإبداع
التقيتها لأول مرة بباريس في مطلع الثمانينيات، سنوات بعد صدور روايتها باللغة الفرنسية «ست ماري روز». كنت حينها أشتغل أكاديميًّا على الأدب العربي الناطق بالفرنسية، وخاصة على أعمال رشيد بوجدرة والخطيبي، وأُعجبت أيما إعجاب بروايتها تلك. ثم التقيتها مرات أخرى بمراكش صحبة صديقتي رجاء بنشمسي زوجة المرحوم فريد بلكاهية. كانت طرية كزهرة نيلوفر، لم يأخذ منها العمر مأخذه، وكأنها تستمد من السنين عنفوانها؛ تناقش بالحيوية نفسها، وتنتقل في ربوع المعمور من غير كللٍ أو مللٍ، حاملة معها أوراقها للكتابة والرسم في حقيبة سفرها.
في العام الماضي احتفى بها متحف الفن الحديث — «متحف» بالدوحة — وأقام لها معرضًا تكريميًّا، يتضمن لوحاتها ودواوينها والمنشورات الفنية التي صدرت لها هنا وهناك بالعربية والإنجليزية. كان المعرض حدثًا ساهم في تسليط الضوء على بهاء مسيرها، وكنت قد شاركت في الكتالوغ الضخم لهذا المعرض بترجمة لكتاب حواراتها مع هانز أولريش أوبريست، القيِّم على المعرض.
ببيروت ولدت إتيل عدنان سنة ١٩٢٥م، وبعد المرور بجامعة السوربون وهارفارد، مارست تدريس الفلسفة بكاليفورنيا حيث لا تزال تقيم لحدِّ اليوم. لقد جعلت منها مؤلفات من قبيل «القيامة العربية» و«ست ماري روز» أحد الأصوات البارزة المدافعة عن الإنسان والمرأة والسلام والإبداع، بحيث صار اسمها يُتداول كثيرًا من بين الكُتَّاب المرشحين لجائزة نوبل إلى جانب أدونيس. إتيل عدنان فنانة متعددة المشارب، ومبدعة لا ينضب لها معين، وإحدى النساء الأكثر حكمة ممن سنح لهن العمر المديد أن يخترقن القرن العشرين، ويتابعن مسيره في عقديه الأولين.
كانت إتيل عدنان ترغب منذ الصبا في أن تغدو مهندسة معمارية، غير أنها صارت تشكيلية وشاعرة. التقت بيوسف الخال في الستينيات، ونشرت في مجلة شعر. ولأنها كانت تعشق السياب والطريقة غير الغربية التي يطرق بها الطبيعة والموت؛ فقد ترجمت له بعض القصائد، ونشرتها في مجلة يوسف الخال. وعن هذا اللقاء، ودوره في مسيرها الشعري العربي، قالت: «كنت كل سنة أو سنتين أروح إلى بيروت من كاليفورنيا. وفي يوم وأنا أتمشى في الشارع، أبصرت رواقًا للفن. كان رواق يوسف الخال، الذي فتح أول قاعة للفن الحديث في لبنان. لقد كان مبدعًا بشكلٍ مزدوجٍ. سمَّاها «غاليري وان»، وبما أني وجدت نفسي أمام الرواق ولجت إلى الداخل، وكان هو جالسًا هناك. دردشت معه بالإنجليزية، فسألني: «ما شغلك؟ فأجبت «أنا أستاذة، وأمارس الكتابة»، فرد عليَّ: «ابعثي لي بأشعارك كي أنشرها.» وأضاف: «عليك المجيء إلى لبنان للاشتغال معنا».» وبما أنني لا أكتب بالعربية، فإن العديد من الشعراء العرب يقولون: «إتيل ليست عربية، وهي لا تكتب بالعربية.» وهو أمر ظل يحزُّ في نفسي على الدوام. وقد كان لدعوة يوسف الخال أثر طيب في نفسي. وهكذا فإن يوسف أدمجني في الشعر العربي قبل أن يقرأ لي ولو بيتًا واحدًا.»
إتيل عدنان أكثر كُتَّابنا الفرنكفونيين عروبة. فعدا حبها للسياب كتبت كثيرًا عن لبنان وعن العرب، وتعتبر أن عظمة العروبة تكمن في الترحال، وأن الخيمة هي معمار العربي الأول ورحم إبداعه. كما ترى في الشيخ إمام أحد عظماء القرن العشرين. حبها لهولدرلين جعل مقاربتها للشعر والوجود والتشكيل والسياسة مقاربة خاصة، تبتعد كثيرًا عن المقاربات الممهورة بالأيديولوجيا لأبناء جيلها من الكُتَّاب والتشكيليين.
ولهذا نراها تعتبر الهوية مفهومًا مشوبًا بغموضٍ بالغٍ، أي تعددًا يتجاوز الواقع إلى المتخيل. فكل كاتب أو فنان مغترب يحمل لغته الأم في متخيله: «كنا نتعرض للعقاب عندما نتحدث اللغة العربية. وبما أنني لم أكن أتكلمها أيضًا في البيت فقد وجدت نفسي على عتبة هذه اللغة. ومع أني أتحدثها في الشارع فإني لا أستطيع أن أكتب بها قصيدة. هكذا حوَّلتُها إلى لغة أسطورة، أو إن شئت، إني جعلت منها فردوسًا مفقودًا.»
ومع أن إتيل عدنان معروفة اليوم كاتبة وشاعرة تكتب بالفرنسية والإنجليزية، إلا أن مُدَرِّسة الفلسفة هذه ليست معروفة في الساحة الثقافية العربية كفنانة تشكيلية أيضًا. وهي فنانة قبل أن تنظم الشعر، مما يجعلها مثقفة متعددة، ما إن تمس نوعًا حتى تتقنه من الشعر إلى السينما مرورًا بالرسم والتشكيل والرواية. كان التشكيل ينبع من بواطنها وينتظر الفرصة للانبثاق: «حين بدأتُ الرسم، كنت ما زلت أتعلم الإنجليزية في أمريكا، ولم أكن قد بدأت — بعدُ — في كتابة الشعر أو النثر، ولم يكن لي — بعدُ — سبيل آخر للتعبير. وفيما بعد اكتشفت أن التشكيل قد يعبِّر عن فرحة العيش، فيما أن الكتابة الأدبية تتعلق أكثر بالتأمل في العناصر الأكثر مأساوية في الحياة … الأشياء التي أعتبرها جامدة تملك دومًا شيئًا يمكنها الإفصاح عنه. كل شيء يتكلم! وبالنسبة لي، فالتشكيل لغة تتجاوز الكلمات.»
ظل حلمها بدراسة المعمار يسكنها. فبالرغم من أنها لا تبني لا جسورًا ولا بيوتًا، فقد استطاعت أن تبلغ مأربها، سواء في أشعارها أو رواياتها أو في أفلام فيديوهاتها (التي عُرِضت للمرة الأولى في ملتقى «الدوكيمونتا ١٣» بمدينة كاسل الألمانية)، أو في لوحاتها. إن ما يهمها هو الطريقة التي ينبني بها الإنسان والعالم انطلاقًا من عناصر الطبيعة، وأعمالها التشكيلية ونصوصها عبارة عن معمار كوني تغدو فيه الطبيعة روح المعمار والوجود.
ولأنها فنانة عصامية فإن تعاملها الخام مع الألوان يفصح عن فلسفة للحياة؛ فحين تخرج الألوان من أنبوب الصباغة لا ترغب في خلطها ما دامت فرحة الألوان الخالصة ذات جمال أخَّاذ. لكنها تعرف أيضًا أن اللون يملك معنى خفيًّا. دائمًا تنطلق اللوحة بمربع أحمر، ثم تتوالى الأشكال والتشكيلات. وكتابها «رحلة إلى جبل طامالباييس» الذي ألَّفته في كاليفورنيا، يبرز ذلك بروعة. فهذا الجبل الذي تبصر به من نافذتها في سان فرانسيسكو يوميًّا، تصفه بشكلٍ جديدٍ كل يوم وترسمه مرارًا، كما كان سيزان يرسم جبل «سانت فكتوار» في مدينة إيكس أون بروفانس.
إن الأثر الروحي للطبيعة أمرٌ يوجد في صلب اهتماماتها. ففي ديوانيها «البحر والضباب» و«مواسم» تحضر الظواهر الطبيعية والمناخية حضورًا قويًّا، ومعها كل تلك العناصر التي تصعب على الإدراك العقلي، والتي تؤثر فينا، وتحوِّل، بشكلٍ لا شعوري، بشرتنا وروحنا.
ذلك بالضبط هو ما يجعل من المسير الفني والكتابي (الشعري والروائي) لإتيل عدنان مختبرًا شاسعًا وعميقًا للتجارب العربية في هذا المضمار من جهة، وتجربة تنطلق من اليومي ومن اللحظي، كما من الذاكرة والانتماء؛ كي تبني اللوحة بناءً، وتركِّب القصيدة تركيبًا، وتجعل منا — نحن قراءها ومشاهدي أعمالها — صغارًا جدًّا نسعى لارتقاء شعاب المعنى الموصلة إلى مكامنها.