كائنات عباس الصلادي العجيبة
حين لا يشكِّل الفنان الحدث طيلة حياته الفنية، أي حين يمرُّ وجوده مرورَ الكرام في عالم الثقافة، وحين ينغمس في معاناته النفسية واليومية والجسدية حتى ليكاد ينْمحي، فإن أعماله الفنية قد تعوضه عن ذلك، فيأتي اليوم الذي فيه تصنع الحدث، وتخلق له صورة جديدة عبارة عن مجْدٍ، ما كان ليصل إليه قيد حياته.
كثيرون هم الفنانون الذين عاشوا وماتوا عابرين في هذا العالم، يحملون مصيرهم عميقًا في الأحشاء، ويتفادون الآخرين كي يعيشوا عزلتهم، كما لو كانت ثأرًا للحياة منهم. والأكثر منهم أولئك الذين عاشوا مجدًا مفتعَلًا في حياتهم، يحيط بهم وبلمعانهم الزائف نقاد عابرون ومرتشون وأروقة محتضرة، كي يأفل نجمهم مع موتهم، ويكشف التاريخ عن عورتهم، ويرمي بهم في مزبلة النسيان … تلك هي مفارقات الحياة والفن؛ إذ لا تراهما ملتئمين إلا فيما ندر.
في الشهر الماضي في مزاد دار «مليون» بباريس، عرفت لوحة للفنان المغربي عباس الصلادي سقفًا (٤٦٠ ألف يورو) لم تعرفه إلا لوحات قليلة من الجيل الذي سبقه، أعني مثلًا أحمد الشرقاوي والجيلالي الغرباوي. والحقيقة أن هذه اللوحة استثنائية إلى حدٍّ كبير، وربما لهذا السبب كانت وراء هذا الثمن الصاروخي المدهش. فهي — أولًا — كبيرة الحجم مقارنة مع ما تركه لنا عباس الصلادي في حياته القصيرة، وهي من ناحية أخرى تخضع لتنظيمٍ جديد أقل كثافة، كما أن كائناتها تتميز بملامح وجهية أكثر استدارة، مما يطرح أكثر من سؤال على عشَّاق هذا الفنان ومحبِّيه (وأنا من بينهم؛ إذ إني ألَّفت عنه كتابًا باللغة الفرنسية).
لا تهمنا هنا طبيعة اللوحة، التي كادت تزجُّ بالفنان في مرحلة جديدة من مسيره الفني، ليعيش معها منعطفًا في أسلوبٍ بناه حجرًا حجرًا وصورة صورة. وهو منعطف لم يُكتب له أن يترسَّخ. ما يهمنا بالأساس هو ما تكشف عنه اللوحة من خبايا، تجعلنا نتأكد من أن عشقنا للفنان، وأن إيماننا بطابعه الإبداعي وبتميُّزه، ضدًا على الكثيرين من النقاد وأشباههم، يرتكزان على حدسٍ وتحليلٍ يمنح لصاحب هذه اللوحة مكانه الأكيد في تاريخ الفن المغربي والعربي.
في مدينة مراكش، قرب سلسلة الأولياء السبعة التي تسهر منذ زمنٍ على ذاكرة المدينة، وُلِد عباس الصلادي الذي سمَّاه أبوه باسم أحد أولئك الأولياء الذين يحملون قدَر المدينة الحمراء … تُوُفي الأب الحلاق وهو ابن الخامسة، وهكذا اضطر الصبي إلى العيش مع خاله الذي أذاقه القهر، مزاوجًا بين الدراسة والعمل بعد الانتهاء منها. ولأن الصبي كان عاشقًا للفلسفة فقد ارتحل لمدينة الرباط بعد حصوله على البكالوريا ليلِج في شعبة الفلسفة، في وقتٍ كانت فيه هذه المادة مرادفًا للنقد والشغب السياسي والنضال والالتزام بأحلام الفقراء.
في هذه الفترة سوف يتم اكتشاف هذا الفنان الذي لم تطأ رجلاه مدرسة للفنون. كان يكتري حانوتًا صغيرة بالمدينة القديمة بمراكش، ويجلس في بابها يرسم كائنات حيوانية وإنسانية يبيعها مباشرة أو يكلف أخته ببيعها. حياة الصلادي الفقيرة جعلت مداخيل تلك اللوحات تكفي لسد الرمق. وكأن فناننا رأى في نفسه ذلك الكائن الفصيح الذي يزاول مهنته كباقي «الصنايعية» المنتشرين في شرايين المدينة الحمراء، هذه المدينة التي افتُتن بها أرسون ويلز وونستون تشرشل، وكلود أوليي وخوان غويتصولو وغيرهم، وجاءوها بحثًا عن إلهام جديد.
في سنة ١٩٧٨م، أصرَّ مدير المركز الثقافي الأمريكي على أن يخصص له أول معرض فني فردي. كانت أعمال الصلادي لا تزال تفصح عن طابعها «الساذج»، ولم يكن الرجل قد عثر بعدُ على الأسلوب الذي سوف يجعل منه أبا العلاء المعري الفني في التشكيل العربي المعاصر. كان ذلك المعرض كافيًا كي ينحت الشاب المتفلسف لنفسه مسلكًا في عالم الإبداع الفني. ثمة كان المنطلق، بحيث لم يلبث أن عرض في بداية الثمانينيات في رواق «المعمل»، الذي يمكن اعتباره أحد أوائل الغاليريهات الاحترافية في المغرب العربي، والتي كانت قد عرضت لكبار الفنانين العرب والعالميين كالزندرودي وبلكاهية وضياء العزاوي وغيرهم.
ظل الصلادي طيلة هذه المدة القصيرة (١٩٧٨-١٩٩٢م سنة وفاته)، يزاوج بين الرغبة في متابعة الدراسة التي اضطرته أزماته النفسية للتخلي عنها، وبين صياغة عالمه الفني الذي وجد فيه بعضًا من العلاج والمواساة. وهكذا، صار يبلور عالمًا مزيجًا بين جِنان سماوية مليئة بالكائنات المجنحة، وبين فضاءات يومية مستوحاة من المدينة العتيقة بمراكش. إنه عالم تسرح فيه وتمرح أجساد نسوية نصف عارية، محيلة بشكلٍ ضمني لجِنان الله أي للجنة كما يتصورها الفنان. غير أنها جِنان لا تراتبية فيها للفضاء ولا طهرانية للجسد. أجساد النساء مزيج أسطوري عجيب من الطير والإنسان، ومن الدواب وبني البشر. إنها هجانة تمنح لعالم عباس الصلادي طابعًا خرافيًّا تارة ومسحة طفولية أخرى … وكأنها تغوص بنا في عوالم حالمة يصوغها كي يبتعد بها عن همجية البشري وسوائه المتوحش.
إنها الهمجية التي تستوطن الرأس؛ لذلك فالرءوس تغدو هجينة أو حيوانية، فيما يظل الجزء الأسفل آدميًّا بما يحمله من رغبة وفتنة وطبيعة … بيد أن هذه الجنة العجيبة التي يتلاعب الفنان بأشجارها وأوراقها وكائناتها، تحمل من النظام ما يجعلها تفوح بطمأنينة لا يمكن أن يعبِّر عنها إلا فنان يؤرقه القلق.
تستوطن كائنات الصلادي مواطن أليفة، عبارة عن باحات لأمكنة معروفة، تكون في الغالب مستوحاة من ضريح سيدي بلعباس (الذي سُمِّي عليه عباس الصلادي)، فنرى قبة الضريح ومنارته، متراقصتين على هوى تموجات الأجساد الغريبة العجيبة التي تتوالد في حديقة الفنان، وتتطاول مثل شجيرة اللبلاب … إنه عالم مجازي لا مفارقة فيه بين المقدس والدنيوي، ولا بين المؤنث والمذكر، ولا بين السماوي والأرضي. وهكذا، ففي هذه العملية الاختلاقية، يستدرج الفنان التناقضات إلى شرَكه كي يتلاعب بها، بحذاقة الصانع. فالصلادي ليس فنانًا تشكيليًّا بالمعنى المتداوَل. إن قوة لوحاته نابعة أيضًا من كونه مثل رسامي المنمنمات، يخطُّ عالمه قطعة قطعة كي يلوِّنه فيما بعد، معتمدًا في ذلك على الأصباغ التقليدية ونصاعة ألوانها.
إن عباس الصلادي يعود لنا اليوم لينبثق خارج مشفاه، ومدينته ولوحته، وليمنحنا جنة أخرى، ما أحوجنا لها اليوم فيما يحيط بنا من خرابٍ ومآسٍ لها لون الدم، وطعم الكارثة.