رافع الناصري: عتبات التشكيل
كنت يافعًا، أقتني واحدًا واحدًا من الأعداد القليلة التي تصل إلى الكشك القريب من الحي، من مجلَّتَي «الأقلام» و«آفاق عربية» العراقيتين. أقرؤهما بعد أن صارت مجلة العربي لا تشفي غليلي. في تلك الفترة بالضبط اكتشفت الفنون التشكيلية العربية، ومعها الفنان المغربي محمد شبعة مراسلًا لمجلة الأقلام. كانت مراسلاته تشكِّل تقريرًا عن تطورات الساحة التشكيلية المغربية. في الفترة نفسها نُظِّم بالمغرب البينالي العربي الثاني، الذي كان حدثًا عربيًّا كبيرًا حينها. وكنت قد حضرته، والتقيت فيه بالعديد من كبار الفنانين العرب والمغاربة. غير أني لا أتذكر من بين الفنانين العراقيين سوى ضياء العزاوي الذي كنا نلتهم تخطيطاته الملونة عن المتنبي في مجلة آفاق عربية. ثم جاءت حرب العراق مع إيران فتغيرت الأمور، واتجهنا صوب مصادر أخرى للمعرفة، لبنانية ومصرية.
لم ألتقِ بالفنان العراقي الراحل رافع الناصري إلا مرتين، سنة ١٩٩٣م، ثم سنة ٢٠١٢م في أصيلة. كنت أتابع أعماله الغرافية والتشكيلية، وأعتبره من بين أهم الفنانين الغرافيين العرب. كان يظهر عليه بعض الوهن في باحة محترف الحفر بأصيلة، وكنت على علمٍ بمرضه، ولم يمضِ أكثر من سنة حتى جاءنا خبر وفاته بعمان.
كان لتكوين رافع الناصري في الصين (الأكاديمية المركزية للفنون)، بعد معهد الفنون الجميلة ببغداد، أثرٌ بالغ في توجهاته الفنية والغرافية. فهناك أحسَّ بأهمية الكتابة وضبط أصول الرسم المائي، وأدرك أهمية الاقتصاد اللوني. كما أن دراسته بالبرتغال سوف تمكِّنه من فن الحفر أحد الفنون الأكثر ديمقراطية، والأقل اعترافًا في الآن نفسه، كما المواد الجديدة المتداوَلة في التشكيل، كالأكريليك، والتي جاءت لتعوِّض تقليدية الألوان الزيتية.
كانت الفنون الغرافية في الخمسينيات والستينيات ذات أهمية بالغة تتجاوز فنون النحت والتشكيل. أولًا: لأنها ترتبط بفنون الطباعة في وقتٍ كان بناء الهوية والتأثير الأيديولوجي والصراعات المذهبية على أشدها في العالم العربي، ثم لأنها ترتبط أيضًا بوظيفية تجعلها قريبة من التصميم الفني (الديزاين) وتدخل في صلب تشكُّل العالم البصري اليومي والرسمي والشعبي.
ربما لهذا السبب كان التجديد الفني يخترق هذه الفنون ويحوِّلها إلى حركات. وليس من الصدفة في شيء أن يكون رافع الناصري وراء الدعوة إلى جماعة «الرؤية الجديدة» بعد عودته من الصين، والتي ضمَّت: هاشم سمرجي، محمد مهر الدين، صالح الجميعي، ضياء العزاوي، إسماعيل فتاح الترك ورافع الناصري، وهم الفنانون الستة الذين وقَّعوا بيان المجموعة سنة ١٩٦٩م. هذه الرغبة التجديدية هي التي سيعبِّر عنها هذا الفنان مندمجًا مرة أخرى في تجربة أدق وأشد تأثيرًا هي تجربة «البُعد الواحد» سنة ١٩٧١م، بصحبة ضياء العزاوي وشاكر سعيد، غير أنهما لن يلبثا أن ينفصلا عنها.
إنها مرحلة تشكيل الوعي بحماسٍ أحيانًا وبالكثير من الأوهام أخرى. مرحلة سوف يكون للفن العربي والفنان قيمة فعلٍ وتدخُّل سيفقدها تدريجيًّا مع مرور الوقت. من هذا المنظور يمكن اعتبار رافع الناصري، كما العزاوي أو شاكر حسن وغيرهما، عصارة مرحلة وجماع مفارقاتها وتطوراتها. فمسيره الفني يختزل الاختيارات التي جعلت الفن العربي يصوغ هويته الفنية، ويؤكد موقع الفنون الغرافية في بلورة صياغات ممكنة للهوية التشكيلية منها والثقافية.
في دبي، وبصدفة غريبة، زرتُ معرضه سنة ٢٠٠٨م في «جرين آرت جالري»، كان المعرض يحتوي على آخر إنتاجاته، إضافة إلى عرض بعض الكتيبات الفنية ومنها كتيبه مع شعر زوجته الكاتبة مي مظفر … واكتشفت حينها التحولات التي طاولت أعماله منذ قراره الاغتراب في بداية التسعينيات، هو المغترب أصلًا في فنِّه منذ البدايات. كانت أعماله تأخذ تلاوين داكنة، وأقرب إلى المغارات التي لا يمكن أن تستنير إلا بحضور عيوننا داخلها.
هنا بالضبط استرجعت كيف كان الناصري يُعتبَر، مع الفنان السوداني عمر خليل والفنان السوري غياث الأخرس، أحد رواد فن الحفر، وكأن رافع كان فقط حفارًا. والحال أنه مثل عمر خليل، وبشكلٍ أكثر تناسقًا، فنان التواشجات التشكيلية بامتيازٍ. تكمن قوة حضور الإبداع الفني لدى رافع الناصري في كونه لا يستسلم لتخصصه إلا ليخرقه. هو الفنان المتمكِّن من الحفر والغرافيك، وكذا من التشكيل بجميع أشكاله، لا يمكنه إلا أن يجعل كل هذه المكونات تتحاور في عمله الفني، وكأنه يبني عالمه من مفارقات الأشكال وتناقضات المواد والأساليب. ومع ذلك فكل عمل فني لدى رافع الناصري يصدح بتناغمه وهارمونيته الفائقة؛ ذلكم هو السر الذي يحتفي به فناننا بتناقضات العالم وتباينات الوجدان.
العمل الفني لدى رافع الناصري حوار أهوج أحيانًا، ومضطرب أخرى بين مكونات خبرها ومزجَها وزَاوَج بينها … يقول بهذا الصدد: «لا يمكن إلغاء الفروق بينهما، فلكل وسيلته الفنية … عندما أحيل تجربتي في الرسم إلى الكرافيك، فمن أجل ضمان نوعٍ من الأسلوبية في العمل. وإذا كانت الأساليب متقاربة أو متشابهة، وإذا كانت المصادر هي نفس المصادر، فلربما تضايق الفنان، وهذا ما يضعه في زاوية خطرة جدًّا. لهذا حاولت أن أمنح بعضًا من أسلوبيتي للكرافيك. لكن هذا لا يتحقق بشكلٍ كاملٍ، كما قلت. فالمواد المستخدمة، وطريقة تنفيذ العمل الكرافيكي، تبقى مختلفة عنه في الرسم. أما أن يُلغى الكرافيك فإن هذا أمر مستحيل، بل العكس هو الصحيح.» هكذا يبدو الفنان وكأنه يسعى إلى التوافق في الوقت الذي ينحاز فيه إلى أصلية الغرافيك على التشكيل والرسم، إنها ميتافيزيقا الأصل والاختيار التي تجعل الفنان يحدد هويته المرتحلة، لا في ترحالها وإنما في أصلها.
تحدث صديقي شربل داغر في أحد نصوصه التأبينية للفنان الراحل عن التغضن الذي طبع أعماله الأخيرة. وفعلًا فإن هذه التجاعيد التي صارت ترتسم على جسم اللوحة منذ رحيله عن العراق هي التي تعلن عن غِنى تجربته وطابعها المأساوي. التغضن عبارة هنا عن سيادة الألوان الغامقة التي تعبِّر عن مزاج سوداوي يترجم اللوحة إلى نورٍ أسود. وهو ما يجعل التجربة تكاد تحوِّل السواد إلى كيان أسطوري، كما في تلك اللوحات التي شاهدتها عينيَّا في دبي.
تجربة رافع الناصري تضعنا أمام عتبات التشكيل والاختيارات الصعبة التي تراوح بين ممكنات الغرافي والحرية الشاسعة للتشكيلي … إنها الإشكالية الصعبة التي لا تزال تتحكم في اللوحة العربية لحد اليوم.