الديناصور وشجرة العلامات
للعلامة في الفن مدارات واسعة، كثيرًا ما يختزلها في الخط والحروفية بعض المتفنِّنين في العالم العربي وهواة الهوية المفبركة والأصالة المفتعَلة … هذه البدعة التي ابتُلي بها الفن العربي فصارت له أشبه بالشعار الأيديولوجي الطنَّان، لا يمكن «محاربتها» وتفجير فقاعاتها الباهتة إلا بما يُسمَّى فن العلامة أو العلامة في الفن … فالعلامة، بحضورها المتعدد والمبتكَر واللامحدود الأفق، هي الوحيدة القمينة بأن تخرجنا من وِهاد الهوية المتوحشة والاختلاف الأعمى الذي يحكم شريحة كبرى من «الفن» العربي تنعت نفسها بالحروفية وما هي إلا حرْفية.
وأنا أفكر هكذا أمام القارئ بصوتٍ مرتفعٍ، تحضرني تجربة محمد خدة، الفنان الجزائري الطليعي الذي كان من المؤسسين لحركة «أوْشام»، ومن المنظِّرين للفن العربي الحديث والمعاصر، بتوازٍ وتقاطعٍ مع تجربة البُعد الواحد للعراقي شاكر حسن آل سعيد والمغربي أحمد الشرقاوي وإلى حدٍّ ما اللبناني شفيق عبود.
لم يسبق لي أن تعرفت شخصيًّا عليه، لكني، بحكم طبيعة المرحلة وهمومها السياسية، كنت مهتمًّا بمسيره والتزامه الفكري والفني. في بداية الألفية الجديدة، شاركت في ندوة دولية بفرنسا، وهناك قدَّم لي أحد أصدقائي امرأة جزائرية تدرِّس في جامعة المدينة، ومشارِكة معنا في هذه التظاهرة عن متخيَّل الصحراء، كان الأمر يتعلق بنجاة خدة زوجة فناننا الراحل. وقبل أن أترك المدينة، جاءت نجاة لتوديعي وبيدها بعض الكاتالوغات عن زوجها، الذي كان قد غادرنا قبل عقدٍ من الزمن.
ومن سنوات قليلة، دُعيت لمتحف الفن العربي بالجزائر العاصمة، للمشاركة في ندوة دولية عن محمد خدة، وأتيح لي الاطلاع مباشرة على أعماله التي لم أكن أعرفها، في المعرض الاستعادي الشامل الذي نُظِّم لهذا الفنان الرائد في القاعة الشاسعة للمتحف.
في خلال الندوة، وانطلاقًا من التصور الذي أبلوره من مدة عن حدود فنون العلامة وانفتاح فنون التعبير، قلت إن محمد خدة وأحمد الشرقاوي آخر ديناصورات فن العلامة في الفن العربي. وطبعًا، لم يُرْض هذا القول المجازِف زوجة الفنان الراحل محمد خدة، التي لم تنتبه إلى طابعه المادح، لا القادح. فجيل فناني الخط والعلامة هؤلاء ظلوا المؤسسين الماهدين والمبدعين الكبار في مجالٍ عصيبٍ لم يقدَّر لغيرهم أن يضاهوهم فيه، وذلك أمر يحتاج للتحليل والتأمل وإعمال الفكر.
وُلِد محمد خدة بمستغانم سنة ١٩٣٠م، وحوالي ١٩٤٧م، وكان حينها مصمم أغلفة في إحدى المطابع، صار ينجز بعض الرسوم والأكواريلات. وهي المرحلة التي ارتبط فيها بعلاقة الصداقة مع الفنان عبد الله بنعنتر. وبعد أن وجدا مكانهما في المجال الفني الوليد للمدينة قادتهما خطاهما لركوب البحر إلى مرسيليا ثم إلى باريس. إنها المرحلة التي كان فيها أغلب فناني الحداثة التشكيلية يرتادون عواصم أوروبا — وخاصة باريس — بحثًا عن تكوين فني مغاير. وطبعًا في تلك المرحلة كانت مدرسة باريس التعبيرية والتجريدية ترسم ملامح فنية فاتنة سوف تجذب أقطاب هذا الجيل العربي مشرقًا ومغربًا. بيد أن موقع العلامة من فكر وتجربة خدة قد انبنى أساسًا على ما لاحظه الفنان نفسه من كون «ماتيس كان يستخدم التوريق (العرْبسة)، وأن بول كلي الرائع كان مفتونًا بالشرق، والفنان طوبي كان يستعيد علامات الشرق الأقصى، وأن موندريان كان يستخدم لاشعوريًّا المربعات السحرية للخط الكوفي.»
هذا التقويم النقدي يبيِّن — بشكلٍ واضحٍ — عن الاهتمام المزدوج لمحمد خدة. فهو كان ناقدًا معروفًا، وترك لنا كتابات بالفرنسية تنظيرية عن فن العلامة، وكتابات كثيرة عن الفن اطَّلعت منها على كتاب رائع عن الفنان الجزائري محمد راسم رائد الفن التشكيلي الجزائري والمغاربي، أعتبره من أهم ما كُتِب عنه.
العلامة لدى محمد خدَّة أشبه بالوشم، تارة تأخذ شكل شجرة زيتون، وتارة أخرى تضاريس صخور صحراوية. من ثَم، فتصوره للعلامة غني بما يستكشفه من أعماق وتحولات. إنه منزع علامي «تشخيصي» (إن صح القول)، يمنح للعلامة جسدًا طبيعيًّا وجذورًا نباتية. وهو ما نلحظه في سلسلة «شجرة الزيتون» التي قدمها لنا في أواسط الستينيات. وهي تأخذ تارة طابع جسم مؤسلب قريب أحيانًا من العلامات الكتابية الصينية. كما تأخذ تارة أخرى طابع عروق الصخر الصحراوي أو حصى النهر المتراكب … كما تأخذ أخيرًا شكل حروف حرة سابحة في فضاء اللوحة، كأنها قُدَّت من الصخر، في السبعينيات، في مرحلة ظهور الحروفية.
العلامة لدى محمد خدة، بهذا المعنى، تجربة وجودية وبصرية، تعيد تركيب المرئي والمحجوب، وتمنحه كيانًا قابلًا للفك وللمعنى. يرسم خدة العالم من خلال سلسلة لامتناهية من العلائم التي يتخيلها ويربط بينها فتبدو لنا أشبه بلغة متناسلة. بيد أن علاماته ليست تجريدية كلية، إنها — بالأحرى — أرضية تتشكَّل بناءً من الحصى والصخور والرمل والتربة الحية، وتنبني بشكلٍ صارم أحيانًا من خلال مسارب ومسالك متشابكة ومتوارقة ومتعامدة. وكأن خدَّة يمنحنا هنا تضاريس عالم سري يحكيه كحكاية، وينسجه كصحراء جرداء حقولها الصخر وواحاتها العلائم وماؤها السراب. قال عنه محمد ديب، الروائي الجزائري الكبير، الناطقة أعماله بالفرنسية، وأحد مجايليه والعارفين بأسرار صنعته: «ولأن خدة نجح من جديدٍ في أن يخلق فتنة العناصر الأولى، كان عليه أن يكون ساحرًا، بل إنه كان بالأحرى قارئًا للطالِع، أي ذلك الذي يقرأ العلامات في الرمل، وبالأخص تلك الذي يخطُّها على الرمل.»
لقد أدرك فناننا، بعمق فكره وولائه للرمل والحجر والتراب، أن الفن ليس ممارسة شكلية، تأخذ من الموجود سلفًا (أي من العلامات المليئة بالمعنى والمشحونة بالميتافيزيقا) رحيقَ وجودها. العلامات، وإن كانت موجودة، إلا أنها قابلة للابتكار. ولكي تغدو العلامات مبتكرة، من اللازم تفكيك الموجود منها، واستخلاص الممكن منها، وممارسة التحويل الشكلي والأنطولوجي لها بغية إعادة توليدها. العلامات ليست شيئًا قارًّا ولا مقدسًا، إنها كيانات بها نعيش، وبواسطتها نموت أيضًا، ومن ثَم خطورتها وضرورة إعادة ابتكارها باستمرار بصريًّا بالأخص … ذلك ما تمارسه اليوم الوسائط الجديدة، وتفرضه علينا، في لغة أيقونية تعبِّر عن كل شيء وعن لا شيء، منمِّطة بذلك أحاسيسنا وعلائقنا الاجتماعية.
محمد خدة رسم لنا عالمًا لا يزال الكثيرون يمتحون منه ومن مكوناته وتقنياته الكثير من غير إحالة أو اعتراف. إنه مثال الفنان الذي لا يزال بحاجة لنفض الغبار عن تجربته، بل هو الديناصور الأخير الذي علينا إعادة بناء عظمته من خلال آثاره وشجرة علاماته.