خليل الغريب: الفنان الذي يخيط الزمن
ثمة ظواهر غريبة في الفن، بعضها أثمر ما يُعرَف بالفن الفطري أو المتفرد أو الخام، وهو ما أعاد للفن طفولته المنسية، وبعضها جاوز ذلك ليمنح التجربة الفنية الكثير من الجدة والغرابة. ذلك حال إحدى أكثر الظواهر إثارة في الفن العربي المعاصر، والتي لا تزال مغمورة، ولم يُتَح لها أن تُعرَف في العالم العربي مقارنة مع العالم الغربي.
حين يزور المرء مدينة أصيلة المعروفة بموسمها الثقافي والفني الدولي صيفًا، فإنه قلَّما يصادف من بين أبناء البلد أحد فنانيه المعروفين. فخليل الغريب، ذلك الرجل الستيني النحيف، لا يرتاد الأمكنة التي يتهافت عليها من يعتبرهم مُصطافي الثقافة، بل أنت تجده غالبًا في مقهى تقليدي يُسمَّى مقهى زريرق لصيق بأسوار المدينة، يلاقي فيه أصدقاءه من الصيادين وأبناء المدينة.
خليل الغريب يبدو لكل من عرفه شخصًا غريب الأطوار، لا لأن به مسًّا من الجنون فهو من أعقل المجانين، بل لأنه من الرافضين لمهرجان أصيلة، ولكل أنشطتها الثقافية والفنية بل ولجدارياتها أيضًا. فهذا الأستاذ للغة العربية، الصموت دومًا، ليس من أصحاب النظريات السياسية حتى يشكِّل معارضة بمدينته التي يراها تغيِّر ملامحها من صيفٍ لآخر، لكنه شخص عنيد، يعشق مدينته حتى النخاع. وأستاذ العربية هذا بدأ ممارسة التصوير الصباغي منذ الستينيات، بشكلٍ فردي وعصامي من غير أن ينتبه له أحد من الصحفيين أو نقاد الفن.
لكن هذا الرجل «الغريب»، لن يلبث أن يعيش لقاءً سوف يتعمَّق مع مدار الأعوام مع رجل من طينة خاصة. يتعلق الأمر بالكاتب والروائي والفيلسوف العاشق للفن إدمون عمران المليح. انتبه إدمون إلى فرادة التجربة التعبيرية لخليل الغريب وسبر أغوارها، فأصدر عنه بالفرنسية كتابًا سنة ١٩٩٣م بعنوان: «العين واليد». كان إدمون عمران المليح قد صار قامة ثقافية مغربية كبرى، بعد أن أصدر أول كتاب له وهو في الستين من عمره. وكان رأيه الجمالي يؤخذ بعين الاعتبار، خاصة أنه كان يحتضن التجارب الأكثر غرابة وهامشية ونضجًا ويقدِّمها باعتبارها استكشافًا.
يحمل خليل الغريب اسمَه وقدَره لصيقيْن بجلدته. «غرابته» تتمثَّل في أمرين آخرَين: أنه يرفض أن يبيع لوحاته، ويكتفي بالعيش بشكلٍ متواضعٍ، من غير سيارة أو فيلا أو رصيد كبير في البنك، فقط بفضل أجرته كأستاذ للغة العربية. وما يوجد من أعماله في المتاحف هو عبارة عن هبة يقدمها الفنان من غير مقابل. هذه المشاكسة الصعبة والإشكالية لسوق الفن وقوانينه في العرض والطلب، تزج بالفنان في ممارسة «بدائية» يتحمَّل عبئها وترِكتها، ويناضل من أجلها بشكلٍ دون كيشوتي. الأمر الثاني هو أنه لا يرسم ولا يشكِّل لوحته بالطرائق المتوارثة والتقنيات المعروفة، ولا على أسندة تقليدية ومتداوَلة.
يصوغ خليل لوحته كما لو كانت جزءًا من محيطه اليومي. يبلورها مما يعثر عليه من متلاشيات في مدينته، أو على شاطئ البحر. هو لا يستعمل أبدًا الصباغة الزيتية أو الأكريليك، بل فقط الجير والأصباغ الطبيعية. قد يعثر على قطعة خبز يابس هنا، أو بقايا كتاب هناك، أو قطعة قماش أو بقايا طحالب لفظها البحر. يجمع خليل أشياءه في رُزَم وُصرَر، وبخيطٍ يعثر عليه هو أيضًا، يثبِّتها بالجير ويضعها على السَّند، وقد يضع الكل أحيانًا في صندوق زجاجي … وهكذا ففي مرسمه بمدينة أصيلة تتراكم ألواح الخشب المغطاة بالطفيليات، ولفافات البيض، وما يلفظه البحر من أشياء.
«اللوحة» لدى خليل ضربٌ من المنشأة الفنية التي تتعاضد مكوناتها كي تشكِّل ما يمكن تسميته عملًا فنيًّا مركَّبًا. لكن الأغرب في الأمر أن اللوحة التي يصنعها الفنان، تخضع لتحولات في الزمن. فالمواد التي تتكون منها آيلة للزوال، وهكذا قد يجد المرء نفسه أمام أطلال لوحةٍ بعد مرور فترة من الزمن. بل إنه يعمل على تسريع التحلُّل والتفكُّك الذي يطاول المواد، وكأنه بذلك يخلق موتها ويبتكر زوالها النهائي.
لذلك فأعمال خليل الغريب أعمال تناجي التحوُّل والموت. إنها أعمال زائلة وعرضية، لا يستهويها الخلود، بقدر ما هي مفتونة بالفناء. إنها — بالأحرى — ظلال وأشباح تعتاش من الموت كزمن ممكن للحياة، ومن الاندثار كقدرٍ مرح للكينونة. «إن شغفي بالموت، كما يقول الفنان، يكاد يكون ضربًا من الهوس، لكني أعتقد أن ذلك مرتبط بالوسط الذي ترعرعت فيه. فثمَّة لم يكن من تعارض صلب بين الحياة والموت.» وربما لهذا السبب لا يستسيغ الفنان بيع لوحاته، لأنه يعتبرها ملكًا للزمن وللأفق المثخن بعلائم الموت والزوال. وفيها يطلق العنان لهواجسه الميتافيزيقية، ولحبه للزائل والعرضي، وعشقه لمدينته التي ترتسم على أسوارها تجاعيد الزمن.
ثمة حكايات تزخر بها أعماله، تتناسل كما لو أنها تعبِّر عما يعتمل في كيان الفنان. حكاية عشق المدينة التي تحتضنه، ويسعى إلى الحفاظ على «براءتها» خارج لعبة السياسة والسياحة والاستغلال بجميع أنواعه. حكاية حبه للناس البسطاء من أبناء مدينته، بحيث تراه يعاشرهم في أماكنهم المفضَّلة. هي حكايات صاخبة تقول إن الفن لا يولد فقط في المدارس والتكوينات المعقدة، وإنما أيضًا في الاختيارات الوجودية التي تحوِّل كل شيء إلى الفن، حتى نوافل الأشياء وسقط المتاع.
يمارس خليل الغريب غربته في الإبداع وغرابته في هوامش التأليف الفني. لا يبحث عن النور ولا عن المعنى، ولكنه يحوِّل الفن إلى ممارسة يومية، قد تكون استراتيجية عيشها وإعلانها مخالفة لما يتطلبه الفن من عيانية وشهرة، غير أن الاختيارات التي يمتح منها الفنان وجوده، تدفع به إلى مغامرة لتجاوز الحدود. وتلك الحدود يتمتع خليل الغريب بمناوشتها، هو العاشق للشذري وغير المكتمل، كما لمتاهات الوجود والمعنى. ولعل هذا الطابع المغامِر، لكن الحكيم، هو ما كشف لنا تلك النبرة الصوفية التي تنضح بها أعماله. وهي نبرة تتبدى لا فقط من خلال فقر المواد وجدلية الموت والحياة، ولكن أيضًا من استخدام ألوان باهتة تكاد تكون غير مبتكرة بل من طبيعة المادة نفسها.
خليل الغريب ظاهرة فريدة في الفن العربي المعاصر، والكم الكبير من الكتب والأفلام الوثائقية التي خُصصت له تجعل منه فنانًا يسائل مفهومنا للفن والحياة، ويستكشف هوية جديدة للممارسة الفنية العربية، ما أحوجنا إليها لنشكِّل إضافة للفن العالمي لا صدًى باهتًا له.