الأعمى والصورة: عن محنة التماثيل القتيلة
جاءني صوت صديق من بروكسيل، يسألني: «هل علمتَ بما حدث؟» أجبته مستفهمًا: «وما الذي حدث عزيزي؟» كان صوته مليئًا بالحنق، وكدت أرى الدمع محتقنًا في مقلتيه، وهو يحكي عن بشاعة تدمير تراث فني إنساني. وأنا بالفندق بمدينة فرنسية أشاهد الأخبار، رأيت الفيديو الذي أشاعته داعش عن تدمير الحصان المجنح بآلة الحفر، وعن تكسير التماثيل بالمطارق الهائلة … كيف يبيح أناس لأنفسهم تدمير ما ينتمي لذاكرة التاريخ؟ ثم كيف يستعملون الصورة في تدمير الصور؟
ظاهرة العنف ضد الصور بدأت منذ القديم، ونبي الإسلام كان يعلم — علم اليقين — أن الصور، من تماثيل ورسوم وغيرها، لم تكن إشراكية بذاتها، بل بما يضعه فيها البشر من معنى. الإيمان بالصور، والاعتقاد فيها، إذن مشكلة خيال وتصور، لا مشكل صناعة للصور، ونحت لها أو رسم لمعالمها. لذلك لم يُحك عنه أنه حطم تمثالًا. بل إنه إزاء التماثيل، التي كانت تُعبد بالكعبة، قام بتعطيل مفعولها — رمزيًّا — من خلال بقرها بعصا … وأمام الصور المرسومة دعا إلى أن يوضع صبغ على وجهها.
لم يكن نبي الإسلام إذن يهاب الصور، فهو عاش بين ظهرانيها حتى سن الأربعين، وإنما كان يخشى على بني أمته من الاعتقاد فيها. كان يعرف أن للصور سلطة كبرى حين تتحوَّل إلى صور ذهنية، وحين تُحشى بالمعتقدات، وترتقي إلى مستوى المقدس؛ من ثَم فإن فتنة الصور هي سلطتها.
يحكي جاك بيرك في كتابه «لغة العرب في الحاضر» أنه رأى في أحد المتاحف السورية تماثيل مقطوعة الرأس. والرأس موطن هوية الصورة، سواء كانت تلك الصورة بشرية أم اصطناعية. ولذلك رأينا الداعشي يبدأ برأس التمثال المجنح. وهكذا يتحوَّل الخوف من الصورة إلى خوف تاريخي؛ فقد عُرف عن العرب والمسلمين هذا الخوف من أن يتحول التصوير إلى تأليه، ومن ثَم إلى وثنية تجعل من التمثال وساطة مقدسة مع الإله اللامرئي.
ومع ذلك عاش الأمويون والعباسيون بين الصور، تزيِّن حماماتهم ومنازلهم، كما عاش الأندلسيون بينها في قصورهم، تجمِّل مسارات نزهتهم، من غير أن يخشوا أن يخرج منها شيطان، يدعوهم إلى نبذ عبادة الله والردة عن الإسلام … هكذا ظلَّت الصور تعيش بين ظهرانينا طوال قرون، تارة كمنمنمات، وأخرى كصورٍ توضيحية في الكتب العلمية والتقنية، وأخرى كمجسمات، وأخيرًا في الرقيَّات والحروز السحرية.
مع حلول القرن التاسع عشر، والانفتاح الذي عرفه العالم العربي والإسلامي، كانت مسألة الصورة من أولويات العقل الجديد المتفتح، مع الطهطاوي والرحالة في الغرب الإسلامي، كما مع محمد عبده الذي كانت فتواه واضحة في مراجعة ذلك الإرث الذي جعل من التصوير فتنة. بيننا وبين فتوى الإمام هذه أكثر من قرن، إنه ماضينا الحديث يراقبنا بعين مرتابة مما يحدث.
إنهم يقتلون الصور … ويدعون إلى العمى البصري.
وهم يقتلونها — بتلك الطريقة — كأنما يمنحونها روحًا … تمامًا كما أنهم هنا وهناك، في ليبيا أو سوريا أو العراق، يذبحون أبرياء، ليس من ذنب لهم سوى أنهم من أهل الكتاب … إنهم — بشكلٍ أو بآخر — لم يدركوا ما أدركه نبي الإسلام الذي يدَّعون الانتماء لدينه، وهو أن الصورة بذاتها لا تشكِّل سوى صورة، وأن المشكل كله ينبع من الطريقة التي نتعامل بها مع الصور.
إنهم يقتلون كل ما هو صورة، والجسم الإنساني صورة أيضًا، ويوثِّقون مجازرهم بالصورة. لكن وراء هذا الحقد على الصورة هناك حقد دفين على الكائن الإنساني. هذه السكيزوفرينيا تتحوَّل إلى رُهاب من كل ما يمكن أن يكون سابقًا على وجودهم هم، باعتبارهم حاملين لكيان يعتبرونه جديدًا، مُجاوِزًا حتى للأصول التي يدافعون عنها، أو هم يزعمون أنهم يُحيونها.
إنها سكيزوفرينيا تجعل من استعمال التصوير الرقمي وغير الرقمي حلالًا بيِّنًا، يمكِّنهم — طبعًا — من استقطاب الشباب في جميع أنحاء العالم. الصورة هذه تجعل منهم أسطورة جديدة، وتماثيل مستجدة يتم تداولها هنا وهناك في الشبكة العنكبوتية. من ثَم لا حجْر على الصور التي تُظهِرهم وهم يقتلون أو وهم يتدربون أو هم يخطبون أو هم يشهرون سلاحهم. لا أحد يمنع الصورة من أن تكون صورتهم هم. أي من أن تخلق لدى الآخرين ذلك الإحساس بأسطورة بصرية جديدة تذكِّر بالكثير من الانحرافات التي عرفها التاريخ في القرن العشرين بألمانيا والشيلي وإسبانيا وغيرها.
ما يكشف عنه تدمير تماثيل نينوى بالموصل هو نفسه ما كشف عنه تحطيم تماثيل البوذا العملاقة في ٢٠٠١م … إنها الرغبة العارمة في تطهير التاريخ كما الحاضر. فالخوف من هذه التماثيل — ذات الأصول المقدسة — هو تعبير عن جنون عظمة تبتغي إعادة صياغة الماضي كي يتماشى مع الحاضر.
لنعدْ لمساءلة الحدث من خلال تأويل ابن عربي لعلاقة الخالق بالمخلوق. فهو يرى بأن الإنسان هو أكبر دليل على وجود الخالق، وذلك من خلال تحليله وتأويله للحديث القدسي: «كنتُ كنزًا مخفيًّا فأحببتُ أن أُعرف.» اللامرئي يغدو — إذن — مرئيًّا، من خلال ما يخلقه. وهذا الخَلق (أي الإنسان والكون) هو صورة، ومن ثَم هو خيال. لذلك ارتكز ابن عربي على ذلك الحديث الذي يستعيد فكرة تتقاسمها الديانات السماوية الثلاثية، والقائل بأن الله خلق الإنسان على صورته.
نحن إذن صورة من صنع الخالق، لكن ما الذي يفسر ولع هذا المخلوق نفسه بالصور؟ أليس هو في ذلك يستعيد أصوله، ويكرر تجربة الخلق الإلهي، من غير أن يمنحها — دومًا — طابعها الألوهي؟ هكذا يستكشف الإنسان الكون ولامحدوديته وطابعه اللامرئي من خلال التصوير. ولذلك ظل الفن هو ذلك الخيط الرفيع الذي يربط بين الإنسان والمتعالي، حتى وهو يفقد طابعه المقدس والتقديسي.
واليوم، أكثر من أي وقت مضى، صارت الصورة من أشكال التعبير الأكثر انفتاحًا على المتخيل الجماعي، تصوغه وتعيد صياغته، بعد أن كانت اللغة هي التي تقوم بذلك. وبما أن فضيلة الصورة تكمن بالضبط في التباسها، فإن المتطرفين يرون فيها ما تجسده أكثر مما يرون فيها ما هي عليه، أي مجرد تماثيل تجسد كائنات أو شخصيات. وفي ذلك تكمن قوة الصورة مجددًا، لأنها تشكِّل خطرًا على المُنكِرين لها، كما تشكِّل فتنة على المعتقدين فيها.
واليوم أيضًا، وهم يقتلون الصور، في وقت صارت فيه الصور نفسها قاتلة، تراهم لا يفرقون بين قتل بني البشر المخالفين لهم في الاعتقاد، وبين الصور الآتية لنا من ذاكرة التاريخ، وقد نراهم في المستقبل يسعون إلى تدمير الأهرام. وفي كل الأحوال، ما لا يَعونه — بعدُ — هو أنهم يقتلون الإنسان بوصفه صورة الوجود الإلهي في العالم، ويسعون إلى اغتيال فكرته باعتباره كيانًا ناطقًا ومصوِّرًا … والسؤال الذي يظل مطروحًا: هل سيستطيعون تدمير الصور الموجودة في الجنة؟