فاطمة المرنيسي: من حفريات الكائن إلى عشق الفن
قرأت لها يافعًا، وعرفتها شابًّا قبل ما ينيِّف على العقدين، حين التحقت كاتبًا عامًّا بالمعهد الجامعي للبحث العلمي، بإدارة الكاتب الراحل عبد الكبير الخطيبي. وجدت نفسي في هذا المعهد حَمَلًا وديعًا وسط جهابذة الفكر المغربي، من باحثين فطاحل في مختلف العلوم الاجتماعية والإنسانية. لم تكن فاطمة تحضر كثيرًا للمعهد؛ وبين سفرٍ وسفرٍ، كلما جاءت لاستلام مراسلاتها الكثيرة، كانت تأتيني لمكتبي لنتبادل أطراف الحديث. كنت حينها أشتغل على الدكتوراه في قضية الجسد في الثقافة العربية. وكانت تبدي اهتمامها بثقافتي النصية في الإسلام والثقافة العربية القديمة. ولهذا الغرض لم تكن تتردَّد في اللجوء إليَّ حينها كلما كانت بصدد ورشاتها عن النساء والإبداع والكتابة، التي كانت تقوم بها لصالح الصحفيات. وهكذا، ولمدة معينة كنت، بمعيَّة فوزي الصقلي، المتخصص في التصوف، نرافقها كخبيرين في الثقافة العربية والإسلامية، نشرح ونفسر ونؤوِّل ونساهم في ذلك التكوين الاحترافي المتعدد الاختصاصات.
السوسيولوجيا من الحفريات إلى الحكاية
كان هذا الاهتمام بالإسلام وليد دراساتها وبحثها في الدكتوراه، وأعتقد أن هذا الاكتشاف جاء وليدًا لأمرين: ارتباطها بأصولها الفكرية، من جهة، والتميُّز الذي يمكن أن يمنحه لها ذلك منهجيًّا ومعرفيًّا. فالسوسيولوجيا صارت لديها تحمل ذاكرة المجتمع كما يحمل الجمل سنامه، وصارت تتفاعل فيها العلوم كلها، من تاريخ وفلسفة وعلوم دين وغيرها. هكذا يمكن اعتبار هذا التحرر من السوسيولوجيا الكمية التقليدية تحريرًا للذات من سلطة المعرفة التقليدية المبنية أيضًا على ثنائية الذكورة والأنوثة.
ويبدو أنها كانت واعية أنها من القلائل من النساء الكاتبات والباحثات العربيات باللغات الأجنبية اللواتي يمتلكن هذا الوعي: بالمرجعيات الإسلامية النصيَّة منها وغير النصية. بل يبدو أنها وقفت على كَون بنات جنسها، الكاتبات والصحفيات المتحررات والمدافعات عن حقوق المرأة في بلادها، يشوب نظرهم ضعف بصرٍ كبير بالنصوص المؤسِّسة للتصور الإسلامي كما بالتاريخ الإسلامي. كما يبدو أنها كانت أكثر المثقفات المغربيات والعربيات ممارسةً للنقد المزدوج الذي دعا له الخطيبي، أي نقدًا للذات والآخر في الآن نفسه.
فإذا كان كتاب فاطمة المرنيسي عن الجنس والأيديولوجيا والإسلام قد أحدث ثورة في مجال تملُّك هذه القضية عند صدوره أواسط السبعينيات؛ فذلك لأنه وضع الإصبع بشكلٍ تركيبي على النقد الداخلي غير الاستشراقي وغير الماركسي وغير النسواني لوضعية المرأة في الثقافة كما في مجتمع الإسلاميين. لقد كان هذا الكتاب مثار جدال بل نموذجًا جديدًا للدراسات في هذا المضمار. وقد جاءت الكتب الأخرى استمرارًا جهويًّا وتعميقًا عرْضيًّا للقضايا التي يطرحها. من ثَم يمكن اعتبار أثره لا يقل عن أثر كتاب عبد الله العروي «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» وما أحدثه في الدراسات التاريخية، كما لا يقل عن أثر كتابَي «النقد المزدوج» و«الاسم العربي الجريج» لعبد الكبير الخطيبي والخلخلات العديدة التي أحدثاها في الثقافة العربية.
بهذا المعنى يكون السياق الذي بنيناه هنا مغربيًّا وعربيًّا. بيد أن الطموح الذي كان يحذو بفاطمة المرنيسي إلى البحث والكتابة هو طموح أركيولوجي يجعلها في هذا المضمار أقرب إلى شخصية ومسير إدوارد سعيد منه إلى مثقفين عرب آخرين. ولعل هذا هو ما جعل سوسيولوجياها غير تقليدية وغير كمية، بل سوسيولوجيا تاريخية وأركيولوجية، قريبة من المشاكل المرجعية التي تحدد المشكلات اليومية التي تتخبط فيها بنات جنسها.
وبهذا المعنى أيضًا، فإني أعتبر كتابها «الإسلام السياسي: النبي والنساء» من أهم ما كتبت على الإطلاق. إنه كتاب يكشف عن المعطيات ويحلِّلها في الآن نفسه. وهو من ثَم كتاب مفتوح وجَسور، يتحاور — بشكلٍ ضمني — مع أهم رواية تركتها «شقيقتها»، الكاتبة الجزائرية (التي توفيت من وقتٍ غير طويل) آسيا جبار، عن النبي والنساء بعنوان «بعيدًا عن المدينة المنورة». هذه العلاقة المرآوية بين كتاب ورواية عن علاقة النبي بالنساء، قد تكون بشكلٍ أو بآخر هي ما جعلها تنحو — بشكلٍ تدريجي — نحو سوسيولوجيا حكائية، سواء في كتاب «بماذا يحلم الشباب؟»، أم في كتاب «نساء على أجنحة الحلم» أم في غيرهما.
تتحكم الحكاية في تصور فاطمة المرنيسي منذ البداية. هي أولًا حكاية أسطورتها الشخصية التي ظلت تخترق كيانها منذ ولادتها بفاس حتى هجراتها المتعددة؛ وهي الحكاية التي ستتصرف بجميع الأشكال والألوان، لتغدو أشبه بهوسٍ معرفي وتعرُّفي استكشافي. قد يكون الأمر قد بدأ بحكاية شهرزاد، التي اعتبرتْها — منذ البدء — أشبه بأسطورة ميلاد للمرأة باعتبارها كيانًا إنسانيًّا كاملًا مكتملًا. بل إنه بالتأكيد قد بدأ بشهرزاد لأن الكتابات العديدة التي كرَّستها لشهرزاد كانت المجاز الحقيقي لتصورها لوجود الإنسان، لا في المغرب فقط (شهرزاد ليست مغربية) وإنما أيضًا في العالم.
حكاية شهرزاد هي التي تقرِّب أكثر فاطمة المرنيسي من إدوارد سعيد، ليس فقط في نقد الاستشراق، وإنما في نقد شخصياته وبنياته المتصورة والمتخيلة. لذلك كانت شهرزاد أشبه «بالماسكوطة»، أو ﺑ «الأفاتار» الذي يجعل فاطمة المرنيسي تتجوَّل في تاريخ الأنوثة وجغرافياتها. بيد أن ثمة شيئًا كان يثير فيها السؤال: لا يمكن لشهرزاد أن توجد من غير السندباد، هذا الأخير يشبه بساط الريح الذي عليه تتمكَّن شهرزاد من ارتياد الآفاق، وتفجير ثوراتها هنا وهناك بجميع الطرائق، التقليدية منها والجديدة. التقليدية منها: هي التي تجسِّدها النساء الحكَّاءات، الحافظات والمبتكرات للقصص والحكايات. وهي التي تبلورها النساء النساجات الحاكيات (بمعنى الحياكة، لأن الحكاية حياكة أيضًا) اللواتي يحكن الزرابي، ومن خلالها يحْكين أنفسهن وينسجْن متخيل الحكاية المتجدد … كما هي أيضًا استعمال الذكاء وتوكيد الذات والسلطة المكينة من خلال الدهاء. وهو ما تعبر عنه تلك الحكاية المتداوَلة التي استقتها فاطمة المرنيسي من أفواه نساء مدينة فاس، والمعروفة بالعنوان التضادِّي التالي «كيد النساء، كيد الرجال». وفيه يتحرر الكيد من دلالته السلبية إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ليغدو لعبة تبارٍ ممْهورة بالفتنة والغواية والتفاعل.
أما الطرائق الحديثة فهي التي تلعب أدوارها العديدة فاطمة المرنيسي، وغيرها من المثقفات والنساء اليقظات لمصيرهن ولمصير العالم.
من الفكر إلى الفنون
الكثيرون يعرفون فاطمة المرنيسي السوسيولوجية والمتخصصة في الإسلام، والمدافِعة عن المرأة العربية والأمازيغية. غير أن القليل الأقل يعرفون علاقتها الوطيدة بالفنون، التقليدية منها والحديثة.
عُرِفت فاطمة المرنيسي أصلًا، كما ذكرنا، بعلاقتها الوطيدة بشهرزاد، التي حاورتها بشتى الأشكال والألوان، وحملتها في دمها وجسدها، بل وفي مظهرها. كانت فاطمة المرنيسي صاحبة زي محلي وخصوصي، بحيث لا تراها أبدًا ترتدي ما تعودت نساؤنا الموظفات على ارتدائه. اللباس عبارة عن «قفطان» قصير بألوان زاهية مطروز باليد، والحلي عبارة عن أشكال أمازيغية، وحتى الحذاء مصنوع محليًّا. ويبدو لي أن مظهرها ذاك كان بشكلٍ أو بآخر وراء الصحوة التي عرفها عالم القفطان كزيٍّ معاصر بالمغرب، يجعله الديزاين الجديد قابلًا لكل التحولات التي تخرجه من أشكاله التقليدية، وتمنحه لعالم الموضة الجديدة، حتى إن إيف سان لوران مصمِّم الأزياء الشهير تبنَّاه ومنحه بُعدًا عالميًّا. والآن ثمة مصمِّمة أزياء مغربية هي فضيلة الكادي، شهيرة بتعاملها مع المواد المحلية والطرازات التقليدية بحيث تدمجها وتمنحها أسلوبًا منفتحًا.
كانت فاطمة المرنيسي، علاوة على ذلك، عاشقة للفن التشكيلي والسينمائي. وهذا العشق يتبدَّى في كونها شاركت كممثلة في فيلم لصديقها (وابن عمها) المخرج محمد عبد الرحمن التازي في دورٍ بسيطٍ يظهرها بلباسٍ تقليدي في قلب دار (رياض) فسيح الأرجاء. إنها الفترة التي كانت تكتب فيها سيرتها الذاتية «أحلام أنثوية». أما عشقها للفن فيتجلى في ارتيادها لأغلب المعارض التشكيلية التي تستهويها، كما في تلك الرسالة التي كتبتها في كتالوغ آخر معرضٍ للشعيبية طلال، إحدى أكبر الفنانات الفطريات العربيات، سنة ٢٠٠٤م، في وقت المرض الذي ألزمها الفراش، وقبل أن يسلبها الموت من عشَّاق فنِّها.
تبدأ الرسالة بنبرة الحوار مع الغائب: «في هذه الرسالة التي لن تقرئيها، عزيزتي الشعيبية، لأنكِ كما أمي لم تتعلَّما فك حروف اللغة، ولم تعرفا محو الأمية، كما يقال عادة لدى الموظفين … سأعرض عليكِ في لغة أجنبية ما قد لا أعبِّر لكِ عنه أفضل بلهجتي الدارجة، أعني إعجابي ومحبَّتي.»
تعشق فاطمة المرنيسي الفن الفطري أو الخام عشقها للحكايات التليدة وولعها بالزرابي والنساجات. فقد أعادت من سنوات فقط إصدار حكاية من الحكايات الشعبية المغربية المفضَّلة لديها باللغة الفرنسية بعنوان «كيد النساء كيد الرجال»، وهي حكاية استقتها من فم سيدة فاسيَّة تُسمَّى للا العزيزة التازي. وقد كانت الحكاية عند صدورها بالعربية في أصل فيلم بعنوان «كيد النسا» أخرجته صديقتها السينمائية المغربية فريدة بليزيد صديقتها الدائمة. وقد اختارت المرنيسي لمصاحبة الحكاية لوحات رسمتها فاطمة الورديغي ابنة أحد أكبر الفنانين الفطريين المغاربة.
أما الزرابي فإنها كانت تكنُّ لها عشقًا مخصوصًا لا يوازيه سوى عشق عبد الكبير الخطيبي له، هو الذي خصَّها بكتابٍ رائعٍ، أتمنى يومًا أن يتسع لي الوقت لترجمته للغة الضاد. دافعت المرنيسي عن نسَّاجات الزرابي في منطقة «تزناخت» بجنوب المغرب وحلَّلت وضعهم. كما عملت مع نسَّاجات شابات كي ينسجن على الزرابي أحلامهن، ونشرت ذلك في كتابٍ مشتركٍ بعنوان «بماذا يحلم الشباب؟». ونحن نراها في إحدى الصور راكعة أمام إحدى النسَّاجات العجائز ووراءها زربيتها الرائعة، إكبارًا لها وامتنانًا لها على فنِّها التليد.
ترتبط الفنون التقليدية بالفن الفطري بشكلٍ تلخصه الحكاية التي تسردها فاطمة المرنيسي في اكتشافها لفنانٍ فطري اسمه مصطفى المكاوي بالصدفة. فقد عنَّ لها يومًا أن تأخذ صديقًا لها مصابًا بالاكتئاب إلى منطقة في الرباط مخصصة لصناعة جميع الأواني الخزفية والفخارية؛ وهناك عثرت على بطائق تصوِّر أعماله، فأحبَّت هي وصديقها كمال هذا الفنان الذي تشبه أعماله طريقة دالي السريالية. وهكذا صار المكتئِب يتخلص تدريجيًّا من اكتئابه بالبحث عن الفنان وزيارة مرسمه، ثم تنظيم معرض له، سوف تكتب نصَّه التقديمي فاطمة المرنيسي.
كما ستكون علاقتها بالفنانة حيلة الركراكية علاقة خصوصية، هذه المرأة التي جاءت للرسم في أواسط الأربعينيات من حياتها. كانت تمر أمام أروقة عرض اللوحات من غير أن تستطيع ولوجها، وحين تجرَّأت على ذلك صارت هي التي تعرض فيها.
ثمة أمور غريبة ومدهشة تخص جيل الستينيات والسبعينيات بالمغرب (أعني منه بالأخص عبد الله العروي وعبد الكبير الخطيبي وفاطمة المرنيسي وإدمون عمران المالح)؛ أنه جيل بحَّاث ومؤسس، وأنه جيل مثقفين بالمعنى الغرامشي للكلمة لأنه مارس التدخل السياسي والاجتماعي في المجتمع، وأنه جيل كاتب ومبدع؛ إذ مارس العروي والمرنيسي والخطيبي والمالح كتابة الرواية. كما أنه جيل عاشق للفنون: فإدمون، كما الخطيبي، كتب كثيرًا عن الفن، بل نظَّر له، وتبعتهما المرنيسي في ذلك بنظرة أكثر تحيزًا. وهو جيل أيضًا لم يفصل أبدًا، على غرار المتحذلقين من نقدَتنا المعاصرين اليوم، بين الفن الشعبي والفطري والتقليدي وبين الفن الحديث والعاصر.
مغارة الخلود
في السنوات الأخيرة، كابدت المرنيسي ويْلات المرض، بالكثير من الشهامة والتكتُّم، ولم تكفَّ يومًا عن اهتماماتها بالمهمَّشين من شباب ونساء، تمنحهم عطفها وقلمها وكلامها، وتفكر في مصيرهم بالكثير من الأمل والأحلام والمشاريع. كانت ترتاد بعض الأماكن المفضَّلة لتحاورهم وتكون منصتة لمشاكلهم، تتابع معهم مشكلاتهم بعين عالم الاجتماع اليقِظة للتحولات، وللانفجارات ولمكامنها. كان ذلك ضربًا من الانغماس الصوفي في ثنايا الكائن البشري، بكل ما يحمله من أحلام ومطامح، تجعله يتحوَّل في الأخير إلى سندباد عابر للقارات والحدود والآفاق، باحثًا عن السعادة والمخرج الشخصي.
هكذا نحتْ نظرتها خلال هذه السنوات نحو التصوف، كي تستلهم منه بالتأكيد القوة على قهر المرض الغادر الذي ينخر جسدها. كان هو الأقرب إلى طبيعتها وطبيعة فكرها المتحرك والتأملي، والذي لا يؤمن بالثنائيات بين الجسد والروح، وبين الكلمة والفعل، وبين الرجل والمرأة كما بين الإنساني والألوهي … ولذلك كان آخر كتاب لها، وضعت لمساته الأخيرة بيدها، من غير أن تراه مطبوعًا، هو عن «مأثرات رمضان» وطابعه الحميم … وهو الذي يعيدنا معها لطفولتها، ولأزقة فاس وليالي رمضان الساحرة بها.
رحلت فاطمة وهي تفكر في مشاريعها، وأجنْدتها، كما في أصدقائها. كانت ترفض أن يراها أحد في لحظات ضعفها، إلا المقربون منها. لم تكن تخشى الموت بل تعيشه باعتبار زمنيَّته الحركية. رحلت تاركة لنا آثار امرأة عاشت جسدها وثقافتها وطموحاتها قريبًا من ذاتها ومن بنات جنسها، من غير نزعة نسوية مغالية. كنت ألاقيها هنا وهناك في هذا المعرض أو ذاك، ببسمتها الطافحة بالبشاشة، تخفي عن الكل مرضها، حتى إنني اعتقدت أنها امرأة خالدة، لن يطاولها الموت أبدًا … وكاد الأمر يكون كذلك.