محمد أبو النجا: العشق المركب للذاكرة
حين التقيت به أول مرة، في القاهرة، من أكثر من عقد من الزمن، سحرني عالمه عميقًا. فنان يفور بالحركية، يعشق الفن المعاصر لا باعتباره فقط خروجًا عن مألوف اللوحة، ولكن باعتباره اقترابًا من روح المكان. عرفته حين كان يبني حثيثًا عمله الفني انطلاقًا من تجريبية حيوية على السَّنَد الفني. هكذا هجر محمد أبو النجا (من مواليد ١٩٦٠م) الورق أو القماش التقليدي ليخلق سنده الخاص، ويجعل منه وحده مفهوم اللوحة وروحها. ولا أدري لم يذكِّرني ذلك هنا بحسن فتحي، المهندس المعماري الذي ترك للحضارة بنيانها الأسمنتي، وصار يقدم مشاريع مستوحاة من طين المكان وعبير الأرض، كي يجمع فيها بين روح الإنسان وتراب الزمن.
كانت لدراسات محمد أبو النجا باليابان دور كبير في توجيه اهتمامه إلى الورق، فهذا البلد معروف بأنواعه المتعددة من الورق المسمى «الوزاشي» … والورق فيه لا يصلح فقط للكتابة والرسم، وإنما لصنع الفواصل في البيوت ولأغراض كثيرة.
من غرائب الأمور ألا يكون الورق ذا علاقة كبيرة بحضارتنا العربية. وأن يكون بالأحرى لصيقًا بحضارة الفراعنة المصرية ومعها بحضارات الشرق الأقصى … فإضافةً إلى أننا شعوب جاءت من الشفهي إلى المكتوب تحت ضغط تسارع التوسع العربي الإسلامي، وأن التدوين كان مرحلة هامة، فإن اهتمام العرب بالنَّسخ والخط والنسَّاخ والوراقة لم يكن اهتمامًا بصناعة الورق بقدر ما كان اهتمامًا بصناعة الكتاب.
بالرغم من الاهتمام الكبير الذي أبداه أبو النجا دومًا بالكتابة والطباعة والمطبعة فإن هذا الاهتمام الحثيث لن يردعه أبدًا عن البحث في الأسندة الطباعية. وهكذا تراه صار جمَّاعة لسَقَط متاع المطابع القديمة، من صفائح طباعية وأوراق قديمة اصفرَّت مع الزمن وغيرها من اﻟ «وثائق» التي لا يهمه فيها مضمونها، بقدر ما يهمه مصدرها وطبيعتها المادية. وهكذا كان مشغله متحفًا، يتحوَّل فيه كل شيء إلى «خامة» كما يحلو له أن يردِّد.
وسواء تعلق الأمر بالمعطيات الطبيعية من أوراقٍ وقشور النباتات والأشجار، أو بالمعطيات غير الطبيعية، فإن العالم الخام لأبو النجا يغدو أشبه ببوتقة تُعيد تشكيل المعطيات الحية، وكأنها تحملها بذاكرتها، لتستعيد بشكلٍ مباشرٍ إمكاناتها الاحتمالية والجمالية، بل والفكرية لاعتماد الصنع الذاتي للسَّند. إننا نعني هنا التخلي عن السند المعطى والجاهز والمسبق. الفنان هنا ينزاح عن التقنيات المتداوَلة، ويرفض طبيعة اللوحة كما جاء بها الغرب وكما تدرَّس في الجامعة، لينكبَّ على خلخلة مفهوم اللوحة نفسها ومعها مفهوم التشكيل من جهة، ومفهوم السند الكوني أو العالمي.
يستعيد أبو النجا إذن، من خلال هذا العمل المزدوج على السند والمواد، تاريخه المحلي والشخصي، فهو سليل أولى الحضارات الصانعة للورق، ومن جهة ثانية ابن الأحياء الشعبية التي تربت على إعادة تدوير كل المعطيات. هذه الاستعادة المزدوجة تجعل العمل الفني شيئًا لا يُبنى في المشغل فقط، وإنما في مصادر المواد نفسها. فكل شيء يدخل في صناعة الورقة، يترك بصمته عليها وفيها. من ثَم تحمل كل مادة ذاكرتها في التحامها بالمواد الأخرى. إنها ذاكرة مرجعية وبصرية في آن واحد. أي أن كل مادة (خامة) تندرج في صلب السند وهي تحتفظ بتاريخها وحكايتها ومن ثَم بألوانها وطبيعة المواد المكوِّنة لها. هذه العملية تمنحُ مرحلة التكوين، أي مرحلة صناعة السند، طابعَ المرحلة الجوهرية التي تصبح في أحيان كثيرة عصب العملية الإبداعية للعمل الفني. وبذلك ينبني العمل رويدًا رويدًا كما تُبنى المنشأة الفنية الفضائية.
يحدث أن يُدخِل الفنان على الناتج الورقي الكثيرَ من الإضافات، إنها أشبه بالذيل والتكملة. وكأني به هنا يلِد العمل الفني ناجزًا مكتملًا وهو فقط يصوغ مقدماته السندية. يكفي أن ترى الصفحة «خامًا» فتولع بها وبتضاريسها وبتلاوينها المتقاربة أو المتباينة. تنظر إليها باعتبارها مساحة مبتكرة تحمل ذاكرتها الجامعة. ترى هنا وهناك ما ينتمي للمواد، وهنا أو هناك ما أضافته يد الفنان في سينوغرافياته المتجدِّدة. والحقيقة أن هذه المساحة السندية من الشفافية بحيث تفصح عن كل مكنوناتها. وذلكم ما يبتغيه أبو النجا، بحيث نجد أنفسنا أمام عملٍ فني مكتمل وهو في بداية تكوُّنه، يحكي لنا قصة ولادته أمام أعيننا.
اقتفاءً لأثر الأجداد، أو بالأحرى إحياءً لرغبة دفينة متعددة المناحي، يستدعي أبو النجا تلك العلاقة الطبيعية الحرَفية بالمواد ليصنعها ويبتكرها من جديدٍ. ثمة متعة آسرة في جمع بقايا النخيل وألياف البردي وغيرها من المكونات. وثمة متعة إضافية أكبر في تحضيرها كي تنصاع للمزج والخلط والتفاعل … لكن حين تبدأ الورقة في الظهور تحت الضغط والتسوية، وحين تبدأ في الاستعلان كمساحة تنتظر ما يمكن أن ينطبع عليها، آنذاك يكون عمل أبو النجا قد بلغ مبتدأ الذروة.
لا مجال هنا للمفارقة الزمنية بين الولادة والاكتمال. العمل الفني ليس لوحة، إنه بالأحرى عشق للمركَّب؛ للهجين المتقارب المتراكب؛ لطبقات المواد تصنع من تلاحمها جسدًا جديدًا. ولا مجال لزمنية ما قبل اللوحة وما بعدها. اللوحة تُولَد شبه كاملة، ولا تكتمل أبدًا. يمكن لمحمد أن يتوقف في أي لحظة، ويجعل من جنينه مولودًا ذا ملامح فنية. لكنه يتحلى بالصبر، لسببٍ بسيطٍ هو أن حبه لهذه «التقنية» (أو بالأحرى لهذه الجمالية) لا يأتيه من طابعها المبتكر، وإنما من حبِّه لأناس مصر البسطاء ولطبيعتها التليدة.
هذا الحب هو الذي سيدفع به إلى الاشتغال أيضًا على الشجر والناس وكل ما يوحي بمصر وحبها؛ خاصة حين اضطر الفنان للاستقرار ببلدٍ آخر لمدة طالت … إنها الدائرة نفسها التي ستقوده للعب على التراكب بالسيريغرافيا والكولاج لاستعادة وجوه مشاهير النجوم المصرية، كما شهدتُ ذلك في معرضه الأخير بالدوحة.
من ذاكرة الورق إلى ذاكرة التاريخ والسياسة والمحسوس اليومي، يتجاوز أبو النجا ميتافيزيقا الصفحة والمساحة باعتبارها مجالًا للانطباع ليزجَّنا في إحدى التجارب التقنية الأكثر ابتكارًا في العالم العربي، والتي لا نجد مقابلًا لها إلا لدى التيباري كنتور، الفنان المغربي خريج أكاديمية الفنون البلجيكية. إنها تجربة تذكِّرنا في أعماقها الفكرية بتجربة الخط لدى شاكر حسن وتجربة الجلد لدى فريد بلكاهية.
وهكذا يقارب فناننا الذاكرة من ثرائها الحسي، والزمن من خلال تحولات المادة، والتاريخ من خلال بسطاء الناس الذين يصنعونه بعرقهم اليومي.