يوسف أحمد أو السفر خارج الممْكن
حين دعاني يوسف أحمد في مطلع الألفية الجديدة للمساهمة في معرض مائة عام من الفن العربي بالشارقة، لم أكن أعلم أن لقاءنا سيكون بداية صداقة ستدوم وستتوَّج بكتابٍ فاخر كلَّفني بكتابة نصوصه، سنوات بعد ذلك. كان يوسف أحمد حينها مدير نواة متحف الفن العربي بالدوحة حاليًّا، والعارف بمكنوناتها وذخائرها، أطلعني على بعض دُررها في المخزن، وفتح لي كيانه معها.
ينتمي يوسف أحمد للجيل الثاني القطري من الفنانين، وبعد دراسات فنية خصيبة بالقاهرة سوف يتجه، كما معظم أبناء جيله، نحو التمثيل الحروفي للهوية البصرية. ولحسن حظه، بل لنباهته، أنه بالرغم من إتقانه لفن الخط، لم ينصعْ له كلية، ولم يستسلم تمامًا للعْبته الماكرة. ظل التشكيل يشدُّه إلى أفق المغامرة والبحث، فيما تدفعه رحلاته في مختلف بقاع العالم، كما تكويناته التكميلية، إلى التعمق في مغاور التجربة التي بدأ يشق عبابها شيئًا فشيئًا.
أدرك يوسف أحمد من البدايات أن تحليقه يلزم أن يكون عاليًا. فكان تأثُّره بشاكر حسن نِعْم المسير. وكان الأفق الذي رسمه له هذا التبني أفضل صمام أمان له ضد التبسيطية التي كان يغرق فيه أغلب الفنانين من جيله، خاصة الذين انغلقوا في وهاد الحروفية. والحقيقة أن التجربة الخصبة لعملاق الفن العربي الحديث ذاك كانت مشكاة للعديد من الفنانين المجايلين ليوسف أحمد. فانطلاقه في السبعينيات من الحرف العربي لبناء تصور جديد للوحة، ثم تجريبيته الصوفية التي بلغت حدَّ حرق اللوحات، كلها عناصر سوف نعثر لها على أصداء عديدة في تجربة الفنان القطري يوسف أحمد.
كانت التقنيات المنفتحة على المعنى سبيلًا لدى فناننا لتحرير اللوحة من الحروفية ومن هيمنتها. صار الحرف مجرد مكون من مكونات التعبير والتفكير والتأمل. وأنا أعتبر أن اكتشاف الفنان للورق الصيني والياباني كان مرحلة مهمة جعلته يبني اللوحة عبر طبقاتٍ وقشور تكاد تغني عن أي تدخل بمواد أو ألوان أخرى. فنحن حين نزور مرسمه بالدوحة نجد في جانب منه ما يشبه الدكان المليء بجميع أنواع الورق الذي يقتنيه الفنان خلال رحلاته إلى الشرق الأقصى. هذا الاكتشاف مليء بالدلالات، لأنه يعوض الحروفية بسندها المادي الورقي، وكأنه يتخلى عن المظهر من أجل الجسد الأصل وثرائه التعبيري.
هكذا صار الفنان يبني تجديدية تجربته عبر توسيع أفق اللوحة كي تسَع هوسه بالتعدد. اللوحة هنا تكفُّ عن أن تكون كذلك، إنها تعيش تحوُّلها الداخلي بعنفٍ أشبه بالافتضاض. يتدخل الفنان في الفضاء الأولي للتعبير بعنفٍ كاسرٍ، يبني معماره الجديد بقلقٍ غامرٍ وبنشوة صارخة. والحقيقة أن يوسف أحمد كان يتخلص بهذه العملية من إرثه الحروفي السابق الذي جعله يسير مع جموع أبناء جيله في الخليج، كي يبني لنفسه مساره الخاص في عملية تيه في فيافي الإبداع.
وكان له ذلك. فالتجربة التشكيلية تتطوَّر لديه من انزلاقٍ لآخر، عبر ما يشبه توارد الأفكار والخواطر (في معناها في التحليل النفسي)؛ بحيث إن فضاء الورق المتراكب في اللوحة الذي تحدثنا عنه سيجعله ينتقل بشكلٍ واضحٍ إلى مفهوم الجدار، الذي سيؤدي به إلى مفهوم الصحراء. إنها هي التجربة التي أبانت عن عمق الفنان وعن نضجه الفني، ومن ثَم عن تجاوزه النهائي للمحلية التي كانت تزج بها الحروفية فنَّه. بل إن الحروف نفسها سوف تأخذ بُعدًا جديدًا لديه لتتحرر نهائيًّا من رسوباتها.
يوسف أحمد فنان مفكر، لا يترك الأشياء تأخذ مجراها إلا بعد أن يكون قد تفكَّرها، ولا يعتق أحاسيسه وفوران أسئلته إلا بعد أن تكون قد استوت في الذهن وفي المخيلة. هذا التمكُّن نحسه باعتباره ضربًا من التوازن الذي يحتوي العالم ويسعى إلى تملكه. ومن ثَم يمكن اعتبار التجربة التشكيلية للفنان تجربة مغرقة في المحلية؛ من حيث إنها تتنفس غبار الصحراء الأبيض، ورمله الضبابي وزرقة البحر الكامدة وسماء لا يسطع فيها النجم إلا في فصول معينة … وهي من ناحية أخرى تجربة منفتحة على العالمية في عشقها للترحال بالمواد والتخيلات والعشق الآسر للآخر.
ويوسف أحمد فنان شاعر لأنه يرسم القصيدة في التلاوين الدقيقة، وبين ثنايا الورق، وفي الشفافية المربِكة التي تجعل من ثِقل اللوحة بالمكونات عبارة عن رحلة في خفة الوجود. وأنا أعتبر أنه بالرغم من علاقته المفرطة بتربة الوجود الشخصي والمحيط به، وبالرغم من أنه عثر — في فضاء الصحراء — على مبتغاه، فإنه ترك لأجنحة أحلامه الفرصة كي تتابع الانزلاق والانزياح، باحثًا عن مفاوز جديدة للإبداع.
في بدايات الألفية الجديدة، في جنوب لبنان، عشت معه (ومع شلة أخرى من الفنانين المبدعين وغير المبدعين) في معتقل الخيام تجربة رائعة، رأيته فيها يسعى إلى استخدام المواد المحلية للتعبير عن قضية جماعية تتمثَّل في هوية الإنسان العربي. وفي ٢٠٠٨م، قام بارتياد مجاهيل النحت بالفولاذ، وكأنه بذلك يرغب في تعميق تجربته الإنشائية والتركيبية السابقة. وأعتقد أن ثمة في أعماق نفسه قدرة كبرى على استخدام المواد الطبيعية المحلية، كما أنه يتحرك في كل اتجاه كي يترجم تعبيريته الفياضة.
هذا الطابع المغامر، وإن المتحكَّم فيه لديه، يجعله يستكنه تجربته الذاتية كما الجوانب الغامضة في وعيه ولاوعيه. وبذلك أجد نفسي دومًا أمام فنان لا يكتفي بذاته، ولا يقف عند الحدود التي ترسمها له سياقاته المحيطة. السياق لديه انسياق وجموح وتمرُّد مستمر على ما يجعل العمل الفني لا يقف عند حدوده.