مقبرة جياكوميتي
نقرأ عن مشاهير الفنانين، نلتهم سِيَرهم التي يكتبها نقاد ومؤرخون، فنتعمَّق في معرفة عالمهم، ونقارب أسرار ومكنونات لوحاتهم أو منحوتاتهم. نشاهد أفلامًا تسجيلية عن حياتهم فنكاد نعايشهم في حميميتهم؛ بل قد تصدر أفلام روائية عنهم فتصير معرفتنا بهم أشبه بمعرفة الروائي بشخصيته، خصوصًا حين يتعلق الأمر بفنان استثنائي أو ذي حياة مأساوية … ذلك كان حالي مثلًا مع شريط «كاميي كلوديل» الذي ترك فيَّ بصمات لا تنمحي.
لكن حياة الفنان تظل تبدو لنا مع ذلك وكأنها في الضفة الأخرى، نحس معها وكأننا لم نمسك بعدُ بذلك المدخل المميَّز لها؛ عدا حين نقرأ مقاربة تسلط ضوءًا لم يلامس من قبل أعمال الفنان، كما هو شأن كتيِّب الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز عن الفنان العالمي فرانسيس بيكون «منطق الإحساس»، الذي نقرؤه كما لو كان سيرة من نوع آخر للفنان، لا يحكي عن حياته بقدر ما يحكي عن حياة أعماله، أي عمَّا يجعل من أعماله كيانًا استثنائيًّا في عالم الفن المعاصر، أو حين نقرأ حكاية مصاحبة ومواكبة تتمُّ في مغارة الإبداع التي هي المشغل. وذلك هو شأن الكتيِّب العجيب الذي كتبه جان جوني، أحد أكبر الكُتَّاب الفرنسيين المعاصرين، عن جياكوميتي، صديقه الذي عايشه في مدينة باريس.
«جياكوميتي لا يشتغل لأجل معاصريه، ولا لأجل الأجيال المقبلة، إنه يصنع منحوتات وتماثيل تفتن الموتى أخيرًا.» هذا ما ردَّده جان جوني عن مشغل هذا الفنان السويسري الاستثنائي الذي غيَّر منظورنا للفن ومعه للكائن. بين جياكوميتي وجان بول سارتر وجان جوني ثمة علاقة وطيدة، صحيح أن سارتر لم يكتب عن جياكوميتي، لكنه بالمقابل ترك لنا مصنَّفًا رائعًا عن جان جوني (القديس جوني)، ربما لأنه لم يجد لدى جياكوميتي تلك المفارقة الصارخة التي عثر عليها لدى جان جوني.
بيد أن جان جوني، ومن خلال هذا الكتاب الصغير الذي صدر سنة ١٩٦٣م بعنوان «مشغل جياكوميتي»، استطاع أن ينفَذ إلى أعماق صديقه، وأن يمنحنا عنه «بورتريهًا» قلَّ أن نجد نظيرًا له فيما كتبه الآخرون عنه.
جان جوني، دفين مدينة العرائش بشمال المغرب، ذلك الذي كتب مسرحية رائعة عن الجزائر (الستائر)، وترك لنا مسرحيات لا تزال تلهب خيالنا (الخادمات، الزنوج …)، جوني الهامشي الذي كتب نصًّا لا ينمحي عن صبرا وشاتيلا، يكتب عن الفن لا باعتباره ناقدًا فنيًّا وإنما باعتباره رائيًا روائيًّا. إنها شهادة عيانية، وأنا أخمن أن العنوان الذي وضعه جيل دولوز لكتابه عن بيكون مستوحًى (في جانب منه) من هذه العلاقة الحساسة التي يقيمها جان جوني مع كائنات المشغل ومنحوتاته وبورتريهاته. فكلاهما لا تهمهما الجماليات (الإستطيقا) باعتبارها نظرة متعالية بقدر ما يهمهما اﻟ «أيسطيزيس» باعتباره إحساسًا فوارًا.
كان مشغل جياكوميتي يوجد في زنقة هيبوليت ماندرون جنوب باريس، وهو مكان ذو أهمية خاصة في حياة الفنان؛ فقد صوَّره في بعض رسومه، كما في السلسلة التي أنجزها سنة ١٩٣٢م بعنوان «مشغلي» (أو في هذه الحالة: مرْسمي). كما يظهر أيضًا كخلفية في العديد من لوحاته، وكل من تحدَّث عنه من أصدقائه ومعارفه ومن نقاد ومؤرخين يعتبرون أنه يعكس عالم جياكوميتي لأنه كان يُعتبَر في حياة الفنان وفي الآن نفسه فضاءً للإبداع والعيش.
ربما لهذا السبب بالضبط جعل منه صديقه منطقة تواصلهما الفكري، بل الفضاء الذي من خلاله يتحاوران وجوديًّا وفنيًّا.
يستعيد جان جوني المكان بأوساخه وغباره، وبتراكم أشيائه، يصوِّره في غرابته الوضيئة، يدخله بكيانه الحسي ويجرُّنا معه جرًّا في ذلك: «لا أستطيع أن أمسك نفسي من ملامسة التماثيل، فأنا أدير لها الظهر غير أن يدي تواصل وحدها الاستكشاف، استكشاف العنق والرأس والرقبة والكتفين … تتوالى الإحساسات على أطراف أناملي. لا إحساس منها مختلف، بحيث إن يدي تعبر مشهدًا كبير التنوُّع وحيًّا …
تستعيد أناملي إذن الحركات التي قامت بها أنامل جياكوميتي، لكن في الوقت الذي كانت فيه أنامله تبحث عن سندٍ في الجصِّ (وهو المادة الأولى للمنحوتات قبل قولبتها في البرونز)، تقوم أناملي — بثقة كبرى — في اقتفاء أثر ذلك … وأخيرًا تستعيد يدي الحياة، وتصبح يدي ناظرة …»
إنه الأعمى الذي يرى بيده ويسمع بأنفه.
لهذا أيضًا يتحدث جان جوني عن عزلة الأشياء … غير أنها عزلة لا يعتبرها أمرًا مستهجنًا، أي وضعية بئيسة وإنما «مَلَكيَّة سرية»، أي استعصاء عميقًا على التواصل، ومعرفة مبهمة إلى هذا الحد أو ذاك، بفرادة لا يمكن أبدًا التشكيك فيها.
أقرأ هذا النص (بالفرنسية) الذي كان ترجمه أستاذي وصديقي محمد برادة من سنوات، والذي كان بدوره صديقًا لجان جوني في «مقامه المغربي». أقرؤه للمرة الثالثة أو الرابعة، لكن هذي المرة كي يقودني في هذا الاستحضار لزيارة هذا المشغل، كي أتأكد من علاقة فنِّه بالموت. ففي هذا الفضاء الذي يتوقَّف فيه الزمن، يبدو جياكوميتي وكأنه يسعى ليمنح واقعًا محسوسًا لما ليس إلا غيابًا … ومن ثَم منحوتاته المتعالية كنبْتة لم ترَ النور أبدًا (لنلاحظ أن جوني يقول عن مشغله إنه معتم).
جياكوميتي ليس فنان النور؛ إنه فنان الغياب والعتمة والموت.
يحكي جان جوني وكأنه يحاورني أنا، فألتهم كلماته وأنا أتابع طيفه في المشغل: «شتنبر (سبتمبر) ١٩٥٧م. أجمل تماثيل جياكوميتي … اكتشفته تحت الطاولة، وأنا أنحني كي أبحث عن عقب سيجارتي الذي انفلت مني. كان في الغبار، وهناك كان يخفيه. كان بإمكان رجْل زائر أهوج أن تخربه.» ويعلق على ذلك جياكوميتي قائلًا لصاحبه: «إذا كان ذلك التمثال قويًّا حقًّا، فسيعلن عن نفسه ولو أني أخفيته عن الأنظار.»
هنا يكمن بالضبط المجاز الكبير لكتاب جان جوني كما لقراءته اللمسية الباصرة. إنه يقودنا إلى المدى الذي تصوغه تجربة جياكوميتي في هذا المكان، كي تحاور الموت. يذكر جوني أن الفنان قال له يومًا إن فكرة صياغة منحوتة ودفنها قد طرقت ذهنه. «فهل كان يعني دفنها اقتراحها على الموتى؟»
وربما لهذا الأمر كان جياكوميتي مولعًا بالبورتريهات … باعتبارها علامات على الزمن المنقضي، وشهادة تحتفي بالموت وبالبقاء، وأثرًا يُجاوز حدود المرئي.