سؤال الحداثة أم سؤال المعاصرة في الفن العربي؟
في ندوة عن الفن المعاصر بمدينة أصيلة المغربية، سهرت على تنظيمها في صيف ٢٠١٤م، ظل سؤال الفن العربي المعاصر أشبه بالغائب. تحدث أغلب المشاركين عن كل شيء إلا عن معاصرة الفن أو حداثته، وكادت الندوة أن تكون مسبارًا لفقر الدم الجوهري الذي يعيشه «النقد» الفني والجمالي في بلداننا. وأنا أسوق هذا الحديث أكتشف أن ما كان يُكتَب في نهايات القرن الماضي عن الحركة التشكيلية العربية أهم كمًّا، وأعمق كيفًا. والراجح أن هذه الأهمية لا تتأتى فقط من جدية الحركة التشكيلية في تلك المرحلة، ولكن أيضًا — وأساسًا — من وضوح تجربتها ومنفتحاتها وآفاق تطورها.
ما الذي حدث ويحدث إذن؟ ما العدوى التي أصابتنا في وعينا البصري؟
وفي الدخول الثقافي الماضي في الدوحة، اندلع صراع مهول حول منحوتة لفنان جزائري معاصر، كانت وضعت في الكورنيش. ومع أن المنحوتة تمثِّل ضربة زيدان المشهورة في كأس العالم، ومع أن قطر تحتضن دورة كأس العالم لكرة القدم المقبلة، فإن المنحوتة أعيدت إلى صندوقها الذي منه خرجت.
المثالان يبينان عن هموم متعارضة بين ما يمور به الغرب حول الفن المعاصر، وما يحاط به الفن — عمومًا — في العالم العربي. لسنا إذن في العالمين على الإيقاع الزمني والتاريخي نفسه، على الأقل فيما يخص الإنتاج والتلقي. بل إن هموم وقضايا الفن، وتلقيه في العالم العربي، بالرغم من ارتباطها بقضايا الفن المعاصر في جميع ربوع العالم، تجرُّنا إلى مساءلة جوانب وسمات خصوصية، وهي خصوصية لا بالنظر إلى موطنها الجغرافي، وإنما إلى منطق ما تنصاغ فيه كتجربة.
المثالان مدخلان — أيضًا — لنا لمقاربة طبيعة حداثتنا البصرية والفنية وطبيعة معاصرتنا. فالفن المعاصر بالغرب جاء وليد الثورة البصرية، التي بدأتها السينما ثم التليفزيون ثم الرقْميات. وهو تطور جاء تعبيرًا حثيثًا عمَّا سمَّاه مشيل فوكو في السبعينيات بعلاقة الكلمات بالأشياء أي الفكري بالمحسوس. والقطيعة التي يقيمها هي — بشكلٍ ما — قطيعة إبستمولوجية؛ لأن القطائع تولد الثورات والتحولات التاريخية، سواء في المجال السياسي أم الثقافي. من ثَم فإن صراع الحديث والمعاصر في الفن هو — أيضًا — صراع عصر الصورة مع عصر البصري بتداخلاته وتفاعلاته.
وإذا ما نحن انكفأنا لحظة على أنفسنا في هذا العالم الشتات، الذي نسميه عالمًا عربيًّا، وسعينا إلى فهم ما جرى وما يجري؛ فإننا سنجد أنفسنا — بشكلٍ أو بآخر — خارج القطائع التي تحدث، وفي الآن نفسه على هامش التحولات التي يعيشها الغرب في انتقاله من الصورة إلى البصري. هذا الهامش ليس قدرًا سلبيًّا، بقدر ما هو فضاء يعيش تحولاته الخاصة وفقًا لإيقاعات زمنية وتاريخية متخلخلة، ولا تخضع بالضرورة لمفهوم التعاقب.
ولا أدل على ذلك من أن مفهوم الحداثة، كما تبلور في الثقافة العربية في العقود الثلاثة الأخيرة، قد صار ليس فقط شعار مرحلة تاريخية، وإنما أشبه بالمفهوم المفتاح للدخول الفكري للعالمية. إنه مفهوم تجاوز التحقيب الزمني، وصار يشمل مصير الإنسان العربي في علاقته بمفهوم الحضارة، وما تعنيه من ديمقراطية وحقوق أساسية … بل لا أدل على ذلك من أن مفهوم الفن في العالم العربي لم يكن بحاجة لأن يُربط بصفة الحديث؛ لأنه أحد التعبيرات الأكثر قوة في هذه الحداثة في مفهومها الشاسع. إنها الحداثة التي ترعرعت في عصر يتمحور حول الصورة، وفي الآن نفسه لا يزال يتواصل بقوة الكلمة واللغة. بل إن الحداثة البصرية في العالم العربي لم تعد سوى ظل باهت للحداثة المتمحْورة على الفكر واللغة والتواصلات التقليدية، مما يجعلنا — بشكلٍ أو بآخر — مرتهنين بمفهوم حداثي ضيق للحداثة.
ربما لهذا السبب لا يجد الناقد العربي في التجربة الفنية المعاصرة موطنًا يمسكها منه. إنه، برومانسيته المعهودة ومثاليته الموروثة، يحكم على الفن البصري الجديد بمنطق اللوحة، وعلى الفن عمومًا بمنطق حكمه على النص الأدبي. بل إن ما لا يستسيغه في الفن هو جانبه التجاري التداولي، فنراه يسعى جاهدًا إلى تخليصه من أدران السوق ومقاصد التملك … والحال أن الفن التشكيلي والبصري، عمومًا، والمعاصر منه على الأخص، بحاجة أكبر من اللوحة، إلى فضاء الحرية والتمويل وتسهيل التداول … بالرغم مما يمنحه له فضاء التواصل الرقمي من إمكانيات الترحال.
باختصارٍ، إن تحولات الفن المعاصر تدعونا أكثر إلى تثمين عتاقتنا ونقد حداثتنا، وإلى إعادة كتابة تاريخنا الفني، باعتباره تاريخًا ذا إيقاعات متداخلة ومتخالفة … أي تاريخًا اختلافيًّا بامتيازٍ.