من سياسة الفن إلى الفن السياسي
تدعو أحوال ومصائر الفن العربي الحديث والمعاصر اليوم إلى السؤال، أكثر من أي وقت مضى، عن قضايا اعتُبرت من باب البداهة، وعن تحقيب صار في عداد الموروث. فمن كثرة ارتباط هذا الفن بالواقع والمرجع والمحيط والبيئة والقضايا الطارئة والمعضلة، كاد ينسى أن المغامرة الفنية هي بناء جديد للمتخيَّل، وليس فقط تعبيرًا عن الكائن والممكن. ونحن نصوغ هذه الجملة ونتجاسر عليها وبها، وإن بدت أشبه بقذيفة في وجه «تاريخ» الفن في البلاد العربية، نكاد ندعو — علنًا — إلى ما يمكن أن نسميه (سيرًا على درب جاك دريدا) بحثًا عن «حقيقة» الممارسة الفنية لدينا.
سياسات الفن العربي الحديث
وُلِد الفن العربي في حضن الكنيسة، ونما وترعرع في حضن الفكر النهضوي، ثم دخل المغامرة السريالية لوقت قصير كي يعود إلى حضن المرجعية القومية والوطنية؛ ليتحرر منها من خلال ارتياد آفاق التجريد. إنه مسير سوف يجعل الفن العربي يتطور بالعلاقة مع ذاته، أكثر من تبلوره بالعلاقة مع محيطه الفني العالمي، إلا في أحوال قليلة، ومن خلال نماذج، لم تحظ — لسوء حظها — بالاعتراف والتبجيل الذي حظيت به التجارب المرجعية، أي تلك التي تساير — بشكلٍ أو بآخر — حركةً في السلطة أو خارج السلطة الرسمية، لكن لها سلطة معينة.
وتشكِّل الثمانينيات — في الحقيقة — بداية الخروج عن هذه المرجعية، تارة بالتجريب الشكلي، وأخرى بالبحث عن منفتحات جديدة في العلاقة بالسند والمواد والفضاءات. ونظرًا لاندماج الفن العربي في المناخ الثقافي (خاصة في المشرق العربي) وتحوُّل الفن، في الكثير من البلدان العربية القومية منذ الخمسينيات، إلى واجهة ثقافية، تجاوزت أحيانًا الممارسات الثقافية اللغوية الأخرى، تحوَّلت الطلائع الفنية التي كانت تشكِّل «الثورة» أو ما يشبهها إلى فن رسمي مكرس في الواقع وفي البرامج التعليمية وفي الفضاءات العمومية.
وهكذا، من منظورنا الحالي، يمكن اعتبار الحركة السريالية العربية في أواخر الثلاثينيات والأربعينيات (كامل التلمساني، ورمسيس يونان، وفؤاد كامل، وفيما بعد إنجي أفلاطون) إحدى أكبر الومضات التي حركت وجدان الفن العربي باتجاه عوالم جديدة. ومن ثَم ربما كانت هذه التجربة، في منظورها السياسي الخفي، أكثر استجابة للسياسي في الفن، منها لدى فناني الثورات والسياسات العمومية وفناني الواقعية وقضايا التحرر. ولا أدل على ذلك من أن إنجي أفلاطون كانت — بشكلٍ ما — تمظهرًا وامتدادًا لهذا المنحى الخفي الذي كان يتمثل في التمرد ما بعد الواقعي.
وإذا كانت الحركة السريالية — بشكلٍ ما — انزياحًا أوليًّا عن التشخيصية الواقعية بنزوعها السياسي التبسيطي، فإنها، من ناحية أخرى، كانت تشكِّل نزوعًا نحو تجريد يرتكز على الحلم والرؤيا وخلخلة مبادئ المرئي والرمزية السياسية، التي انبنت عليها الحركة التشكيلية العربية لحدود ذلك الوقت. وفي هذا الإطار يندرج، وإن بشكلٍ مغاير، أحد الفنانين السرياليين الأوائل بالمغرب الأقصى، أحمد بن إدريس اليعقوبي، الذي بدأ في الخمسينيات، وبتشجيع من فرانسيس بيكون وبول بولز وغيرهما، يبني عالمًا حلْميًا، يكسر مفهوم الواقع ومعه مفهوم المرجعية الواقعية والرمزية السياسية.
لقد ظل البُعد السياسي في الفن يرتبط بالتحولات الاجتماعية وبالحركات الجمْعية وبقضايا التحرر. من ثَم إذا كان تناول القضية الفلسطينية قد صار — في مرحلة معينة — نموذج «الالتزام» في الفن العربي، فإن قضية الفلاحين والفقراء وغيرهم من المستضعفين ظلت الأرضية التي ينبني عليها التصور السياسي (الاجتماعي) للفن. ويمكن اعتبار الحركة السريالية، ثم بعدها، أعمال المنتمين لمدرسة باريس (بالأساس شفيق عبود «بلبنان» والجيلالي الغرباوي وأحمد الشرقاوي «بالمغرب») تحولًا جذريًّا، لا فقط في الممارسة التشكيلية، ولكن أيضًا في تعاملها مع السياسي. لقد كانت هذه الحداثة الفنية في حقيقتها تحررًا من السياسة بمفهومها العام لنهج سياسة أخرى تنبني على الطوية واستبطان القضايا الخارجية وتحرير الفن من الترميزية، لتحويله إلى كينونة، تبني الهوية عبر وساطات أخرى غير تمثيلية (تشخيصية). ذلك ما قام به أحمد الشرقاوي ومحمد خدة ومجموعة أوشام «بالجزائر» في الستينيات، ومجموعة البعد الواحد مع شاكر حسن في السبعينيات، بشكلٍ نسقي ومُمنهج. بيد أن التعبيرية — بمختلف أشكالها — ما لبثت أن تسلَّمت المشعل كي تمنحنا تصورًا جديدًا للكون وللكائن وللجسد، ولتبني سياستها على اللامحتمل والفظيع واللاذع «مروان، سبهان …» إنها العودة للمرئي من خلال تجريده من طبيعته المعطاة، وبنائه على المفارقة الفاضحة للذات والآخر.
الفن سياسات أخرى
في عز الثورة التونسية، وخصوصًا بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة، صرنا نعيش فورة مغايرة للفنون البصرية: من الملصقات الفنية التي تزين الجدران إلى المنجزات الفنية في الشوارع، بل حتى إلى تحويل الفضاء العمومي إلى مجال لعرض اللوحات، وذلك بتعليقها على أعمدة المصابيح العمومية أو إشارات المرور. فإذا كان الحراك العربي قد فاجأ الفنانين والمثقفين، بحيث صاروا — بشكلٍ ما — ضحيته الأولى، فإن الفنانين الشباب — بشكلٍ مباشر — ليسوا فقط مع الثورة، وإنما مع امتداداتها ونتائجها. وهكذا أحس هؤلاء، منذ البدء، بالخطر الناجم عن وصول أناس للسلطة، لا تهمهم الصورة في جماليتها، وإنما في طابعها الاستعمالي؛ فكان من نتائج المواجهة الأولى أن تم تحطيم أعمال معرض بكامله من قِبَل الإسلاميين في ٢٠١٢م.
بيد أن هذا الأمر لم يثن الفنانين الشباب عن تنظيم المواجهة مع ما سيعرف فيما بعد بالفن النظيف، سواء بالمغرب أو مصر أو تونس. فكان معرض سياسات ١ وسياسات ٢. وإن لم يُتح لي أن أزور المعرض الأول، فقد اطلعت على المعرض الثاني الذي نظم من سنة وينيف في قلب العاصمة التونسية.
إن هذه الحركة المنظمة هنا «بتونس طبعًا»، لظروف يصعب الآن تحليلها بعمقٍ، نراها تتصادى مع أعمال لفنانين معاصرين، سواء من مصر أو لبنان أو المغرب، فالعلاقة بالسياسي في الممارسة الفنية الحديثة، إن كانت قد خفتت في الثمانينيات والتسعينيات فإنها صارت تتسلل إلى العمل الفني كي تفجره أحيانًا من الداخل.
لقد صار السياسي عبارة عن محفز للبحث عن الشكل الفني بعد أن كان مجرد مضمون ومقاصد ومرامٍ للعمل الفني. إنه حالة وجدانية وجمالية تصوغ العمل، كما هو حال الجسد المحجوب في أعمال مريم بودربالة، أو الجسد المضمَّخ بالدم لدى هيلا عمار، أو الكناسات المحجوزة من العرض في عمل منير الفاطمي … حتى التعبير عن القضية الفلسطينية صار لدى الفنانين المعاصرين يخرج كثيرًا عن التصور التقليدي كي يغوص في الذات والأرشيف وفي السخرية، كما في استدعاء عناصر لا تمت بصلة للبندقية والكوفية وغيرها مما اعتدناه منذ زمن.
هل هذا العوْدُ للسياسي (أو بالأحرى عوْد السياسي) في العمل الفني نابع من الطبيعة المتعددة والهجينة والفضائية والحركية للفن المعاصر، أم من طبيعة التحولات الطارئة، التي جعلت العالم العربي يكشف عن وجوه جديدة لم يخبرها أحد من قبل … من هنا تبدأ أسئلة الحاضر.