الحيوان الباكي
•••
أفكر فيما ينبغي عليَّ فعله لو حاول النهوض، أفكر في أن أسلك سلوكًا بطوليًّا وأمنعه من مغادرة مكانه بجانب النافذة والوصول إلى الممر، حتى لا يهجم بقنابله اليدوية على كابينة القيادة.
أسترقُ النظر إلى تذكرته، وبعد برهة أستطيع قراءة وجهته: هو أيضًا يريد السفر إلى بيروت؛ لذا أستنتج أنه، على الأقل، لا ينوي أن يخطف هذه الطائرة، اللهم إلا إذا كان تمويهه يصل إلى حد التباهي بالتبذير.
نتبادل بضع كلمات في جو الاسترخاء الذي يسود لدى المسافرين دائمًا بعد هبوط الطائرة، ويتضح سريعًا أنه ليس إرهابيًّا بل «لصقة»، ويظل يلازمنا حتى الصعود إلى الطائرة الأخرى، ويقدم لنا المساعدة غير الضرورية أثناء البحث عن بوابة الصعود. يشرب الشاب معنا القهوة، ويدعونا إلى عرسه الوشيك، ويسألنا عما إذا كنا نعرف كيف سننتقل من مطار بيروت إلى وسط المدينة. شاب لا يؤذي نملة، ودود، ويفتح قلبه للناس. لكن شكوكي لا تريد أن تُخلي الطريق وتنسحب انسحابًا مخزيًا؛ لذا أظل متحفظًا ومقتضبًا في كلامي.
تزدحم الطائرة المتجهة إلى بيروت بوجوه الإرهابيين. من كل صف تقريبًا تتطلع إليَّ عيون ابن لادن الشرقية السوداء الخالية من أي تعبير. خلال لحظات قليلة تُستهلك تمامًا قواي الخائرة بالفعل بسبب تأخر الوقت وخوفي المقيم من الطيران. شعرت بالإنهاك، ففي كل مرة يرتعد بدني عندما يقف شخص للذهاب إلى دورة المياه، كما أنني أحاول فك رموز الإشارات، والانتباه إلى التصرفات المنسقة التي تصدر عن مجموعة من الرجال.
بالتفكير المنطقي أحاول أن أهدِّئ خوفي المميت: ليس من المعقول أن كل هؤلاء الإرهابيين يريدون أن يدمروا بنايات في مدينتهم. أمامي بصفين، على الجانب الآخر من الممر، تجلس شابة ترتدي حجابًا، امرأة حامل. ليس هذا منظرًا جميلًا يمَسُّ شِغاف القلب مثلما أشعر منذ ولادة باولا، كلا، إنني أرى فيها انتحارية تنكرت في شكل حامل لتخفي حزام المتفجرات الملفوف حول بطنها. أُحملق من الخلف في عنقها، والفزع والغثيان يسيطران عليَّ. أسأل نفسي: كيف أفضح نيتها؟ غير أن الخيالات التي تمر برأسي مصوِّرةً كيف سأفعل ذلك؛ تجعلني أشعر بالخجل. الإرهاق يحوِّلني إنسانًا قدريًّا. يغلبني النعاس فيسقط رأسي، إلا أنني أفزع وأنا مغتاظ من نفسي ومن جسدي الذي يحمل همومًا أقل مني، ولا يريد أن يبقى على قيد الحياة.
لا شيء من كل ذلك، على ما أعتقد، يظهر عليَّ (ولكن الإنسان ينخدع بسهولة في مثل هذه الأشياء). لا أحد، عدا بترا، يلاحظ راحتَي يدي الرطبتين اللتين تتشبثان في تشنُّج بيديها عند الإقلاع والهبوط، لا أحد، إلا إذا رأى آثار العرق على مسندَي المقعد البلاستيكيَّين. باولا — التي استغرقت الآن في النوم — أجبرتني على التماسك: أيُّ قدوة هذا الأب الذي لا يجرؤ على الاتكاء جانبًا؛ لأنه يخشى أن تنحرف الطائرة وتميل بجناحها هابطة! أي قدوة هذا لطفلة في الثالثة من عمرها تجلس مسترخية في مقعدها الوثير المعلق في الفراغ، مرسلةً النظر بمرح من النافذة إلى الغور السحيق!
في تلك اللحظات بين اليقظة والنوم — بعد ثلاث ساعات ونصف من الطيران، لم أعد خلالها أعتقد جادًّا بوقوع كارثة — أفسر الحجر الرابض في معدتي بأنه تعبير عن حمَّى الترقب التي استولت عليَّ قبل الانتقال إلى الغربة.
•••
كان شرطي الوحيد ألا يجمعوني بعربيٍّ يرفع شعار: «الموت لليهود.» عندئذٍ — قلتُ — تنتهي رغبتي في التواصل.
لكنني كنت محظوظًا، محظوظًا للغاية؛ الرجل الذي سأقضي معه أسابيع في برلين وبيروت اسمه عباس بيضون. كشاعر يحتاج — مثل كل الكتاب العرب — إلى مهنة يرتزق منها. معظمهم يدرِّسون في الجامعات أو يعملون في الصحافة. عباس مسئول عن القسم الثقافي في جريدة «السفير». مقالاته السياسية — التي أُعيد نشر بعضها في الصحف الألمانية — تتحدث لغة واضحة: ديمقراطية، علمانية، بعيدة عن أي تطرف؛ راسخة في الثقافة الأوروبية، لكنها لا تدور في فلكها ولا تتخذ من أوروبا مرجعية لها.
إنه يشبه في شِعره تسيلان أكثر من شبهه بأورفويس. ذات مرة قال لي بمناسبة إقامة مهرجان شعري جماهيري كَثُر فيه عزف الموسيقى: إن الشعر هو أكثر الفنون هشاشةً وخُفوتَ نبرة، وإذا وُضع إلى جانب الفنون الأخرى الأكثر شعبية، فسيخرج حتمًا خاسرًا.
مع الصور البلاغية الأولى أتوقع من القصيدة أن ترهف حواسِّي الذهنية وتمنحني فضاءً للاكتشافات والذكريات، وإلا فإنني أضعها جانبًا. الاستعارات لدى عباس تشبه الطُّعم الذي أتشممه بفضول، وبهزَّة قصيرة من الشاعر أجدني معلقًا في شصِّه، ولا خلاص.
أثناء تعارفنا أدركت سريعًا أنني لست رائدًا في مجال الإعجاب بقدرات بيضون. لقد أصبحت بالأحرى شاهدًا على اتساع دائرة الاعتراف به وتقديره؛ لتخرج من نطاق العالم العربي ودائرة الأوروبيين المهتمين بشئونه.
عباس بيضون — المولود عام ١٩٤٥م في صور؛ العاصمة الفينيقية القديمة تيروس، والذي يتحدر من عائلة شيعية — سُجن مرتين؛ الأولى لأسباب سياسية على يد مواطنيه، والأخرى كلبناني من قِبل جيش الاحتلال الإسرائيلي. هو أيضًا — مثل جيل ٦٨ في ألمانيا — وضع الأدب في خدمة السياسة، إلا أنه لم يخُن الأدب ولم يبِعْه؛ ولهذا لم يفقد عنفوانه الفني.
أثناء المقابلة الأولى اتضح لي بجَلاء أن التفاهم سيسود بيننا.
مستلهمًا روح «ديوان» غوته أدرك معنى اصطحاب شريكي في المشروع كنوع من التقديس اليومي: تناول الطعام معًا؛ التمشية؛ الثرثرة؛ الضحك؛ الصمت؛ الإصغاء؛ الملاحظة. نتجول في أرجاء برلين الخريفية، برلين عام ١٩٣٣م أو ١٩٤٥م، وفي الوقت نفسه برلين القرن الثامن عشر. إننا نتجول أيضًا في ربوع تلال جنوب لبنان في الخمسينيات، وفي سنوات الستينيات الذهبية، كما نتجول في بيروت التي تشتعل فيها المعارك، وفي هامبورغ الثمانينيات المزدحمة برجال الأعمال. أمام الكاتدرائية الفرنسية في برلين نتذكر معًا الهروب إلى باريس حيث عاش كلٌّ منا.
أشاهد كيف تستمدُّ مراكزُ الإحساس لدى الشاعر من الأماكن واللقاءات البرلينية مادةً لليوميات الشعرية التي ستمثل الحصيلة الأدبية لإقامته في ألمانيا.
نحن لا نتعرف إلى إنسان أثناء تناول الطعام معه فحسب، ثمة صداقات تنشأ على المائدة أيضًا. بين عباس وباولا يسود حبٌّ من النظرة الأولى. وبمناسبة تعميدها يُهديها عباس «ديدل ماوس».
في دائرة الباحثين الألمان في العلوم الإسلامية والشرقية، الثنائيِّي الثقافة، والمُبحِرين في بحار الشرق والغرب، يثير موقفي المبدئي المؤيد لإسرائيل القلق، مثل طفل ما زال يعتقد أن الأرض فطيرة كبيرة وفوقها خيمة السماء بنجوم عديدة، يحاولون توعيتي، برفق حتى لا أُصدم، ولكن بحماسة تربوية بالغة تهدف إلى طرد الفكرة التالية من رأسي؛ أن على المرء الاختيارَ بين إسرائيل والعالم العربي. كل الذين عاشوا هناك يتحدثون عن هذه المنطقة بحنين جارف، وكأنهم تذوقوا هناك تفاح الفردوس.
أحاول أن أوضح الصور الراسخة في رأسي: منذ أن كنت في حضانة الأطفال، قبل الإلياذة والأوديسة بزمن مديد، قبل حكايات ألف ليلة وليلة وأساطير الأبطال، مع حكايات الأخوين غريم، يمثل العهد القديم منبعًا لتاريخنا. آدم وحواء ونوح وإبراهيم ويعقوب وموسى وداود وسليمان، ثم يسوع المسيح، ومعه يقفز اللاهوت الميثولوجي قفزةً إلى أوروبا التي تغدو منذ ذلك الوقت وحتى اليوم مسرحًا لكل شيء.
هل تفهمون ما أعنيه؟ هكذا أتساءل. ربما يستغل الإسرائيليون هذه الأساطير أبشع استغلال حتى يغتصبوا قطعة أرض ليست لهم. ولكن هذه الأساطير تحديدًا هي الموجودة لديَّ، المترسخة في أعماقٍ لا تستطيع أيُّ محاجاة عقلية الوصولَ إليها.
ذات مساء في مطعم في وسط برلين الذي لم يكتمل إعماره، يحتدم الجدل. ثلاث مرات متتالية أسمع من نهاية المائدة وبنبرة تزداد مرارةً كلمة «الإسرائيليون»، بلهجة منفعلة يجيب أحدهم، ثم الصوت الأول يقول ثانية: «اليهود …»
عندئذ تلتقط أذني شذرات من حديث آخر: «إن الدرس الذي علينا أن نتعلمه من تاريخنا هو تحديدًا أن نكافح الظلم، أيًّا كان … والفلسطينيون يَلقَون العذاب …»
صوت أكثر رقةً يجيب على سؤال وجَّهه شخص آخر لم أسمعه: «صحيح، ولكن هل ينبغي على العرب أيضًا أن يعانوا من الهولوكوست الذي تسبَّبنا نحن فيه؟ وذلك باغتصاب أراضيهم، رغم أنهم لم يذنبوا في شيء بحق اليهود؟»
في النهاية تتجه أنظار اثنين أو ثلاثة من المتناقشين المنهكين إلى عباس، وكأنهم ينتظرون منه أن يحلَّ هذه المعضلة.
غير أنه يسدِّد بصره إلى كأس نبيذه أثناء ترجمة السؤال، ولا يقول سوى: «الماضي ماضٍ، والحاضر حاضر.»
عند الوداع يتمنَّون لي كل خير في رحلتي المقبلة. أحدهم يرفع إصبعًا محذِّرًا ويضيف: ولكن، إياك أن تعتقد أنك رأيت الشرق لأنك كنت في لبنان!
•••
عربة الأطفال تنتظرنا بمجرد هبوطنا من الطائرة، باولا النائمة تجد فراشًا آخر. مبنى المطار الرحب والخالي، المكسو بجدران خرسانية عارية، قد يُشيد في أي مكان في الدنيا. يلاحظ المرء حضورَ الجنود الذين يحملون بنادق آلية، كما يرى أشخاصًا آخرين يرتدون الزي الرسمي. يتوجب علينا أولًا أن نذهب إلى شباك معين للحصول على تأشيرة دخول، ثم نقف في الطابور اللانهائي المخصص لفحص جوازات سفر الأوروبيين. الجنود يقومون بواجبهم ببطء متعمد ومستفز (وفي الأثناء يثرثرون مع زملائهم، ثم يقلِّبون بسرعة السلحفاة صفحات الجواز، محملقين فيها كأنهم أميُّون)؛ الأمر الذي يذكِّرني بالحدود السابقة مع ألمانيا الشرقية، ويثير لديَّ نفس المشاعر العدوانية العاجزة. بعد ذلك لم يستغرق الأمر سوى ربع ساعة.
تنطلق السيارة بنا بشبابيك مفتوحة، نسيم الليل العليل، نسيم البحر المتوسط، يجعلني أتصالح مع كل ما سوف يأتي. كان المؤشر قبل سفرنا من برلين يشير إلى ١٢ درجة تحت الصفر.
في كل مرة أعود فيها إلى أحد بلاد البحر الأبيض أشعر بأنني مثل شخص ظل طيلة حياته يرتدي ملابس من اللباد، ثم يلبَس لأول مرة في حياته ثوبًا حريريًا.
في نهاية أرض المطار يمر التاكسي بأولى نقاط التفتيش العديدة للجيش. براميل بنزين مطلية بالأحمر والأبيض تحدد المساحة المتروكة للعبور، والتي لا تتعدى مترين ونصفًا، الحرَّاس ببنادقهم الآلية على الأكتاف يتقدمون خطوتين في اتجاهنا، سائقنا يقود السيارة ببطء، ويُنزل زجاج الشباك، ويضغط على زر النور الداخلي، مقربًا وجهه من الضوء. إشارة متراخية من يد الجندي، السيارة تمر، إشارة شكر من السائق، ثم الإسراع.
نحن الآن على الطريق السريعة ذات الممرات المرورية الستة، المُضاءة إضاءةً ساطعة والمؤدية إلى المدينة، يمينًا ويسارًا لقطات برقية لبنايات عالية لا نظام لها، هياكل خرسانية، ثقوب سوداء في النوافذ، إعلانات متوهجة باللون الأخضر. سيارتنا تمرُق في طريق تمتد بين هذه الأدغال الحجرية. بعد أن تركنا الطريق السريعة، وتشعبت بنا متاهة المدينة، ننعطف يسارًا، ثم يمينًا، ثم إلى اليسار مرة أخرى. وبعد أن سِرنا في الاتجاه المعاكس في شوارع ذات اتجاه واحد، أفقد القدرة على تمييز الاتجاهات.
بدلًا من الأسطح اللامعة البراقة في الفنادق الألمانية والتي تعودنا عليها مستسلمين، فإن غبار الزمن، غبار الجنوب، يعلو هنا الجدرانَ والأثاث والسجاجيد. أبحث عن كلمة تعبر عن هذا الانطباع الذي ما زال ضبابيًّا، هذا الحاضر الهش والمؤقت الذي يرتكز على أسس تاريخية سحيقة وراسخة. ثم تخطر على بالي الكلمة: المشرق.
•••
آنذاك كنت مفعمًا بالأمل، مفعمًا بالثقة، بالإيمان الذي لا يتزعزع؛ الإيمان بقدراتي وبحظي. اليوم أسافر بالطائرة وببطاقة الفيزا، لديَّ زوجة وطفلة، أنزل في جناح فندق على حساب معهد غوته، تخلصت من آلاف الأوهام، واكتسبت أوهامًا جديدة. آنذاك كنت أريد الرحيل لمدة عام على الأقل (يا لها من فترة طويلة). اليوم أسافر بهدف الزيارة فحسب، لمدة ثلاثة أسابيع، ومع ذلك أكتشف داخلي تلك الثقة البشوش المنفتحة على العالم والآخر، كآنذاك. ما زلت كما أنا تقريبًا، أو يمكنني على ما يبدو أن أعود دومًا كما كنت.
•••
حلم اليقظة هذا كان يتكون من مشهد واحد لا يتغير. عن بُعد صغير أتتبع امرأة عبر الشوارع والأزقة الواقعة في حي العمال الذي لا أعرفه (المرأة لا أعرفها أيضًا)، بين الضوء الأبيض المبهر وبين الظلال، ثم أعبُر بوابة وأدخل فناء منزل، وعبر الباحة الداخلية القذرة المظلمة أدلف إلى الدَّرج، ثم أرتقيه مارًّا بالطوابق. طلاء متساقط، بُقَع من الرطوبة والعطن، ليس أقل من أربعة طوابق، في بعض الأحيان ستة أو سبعة.
العناصر المتغيرة كانت تجعل هذا السيناريو شيقًا: ملابسنا، مستوى التمدن (هل ثيابنا رَثَّة، متأنقة؟ هل نرتدي أحذية؟) هل نحن الاثنان مجهولان في المدينة، أم أنا وحدي المجهول؟ أم أننا ننتمي إلى الكائنات التي تعيش في «القصبة»؟ عبر أي إشارات وأي كلمات كنا نتفاهم؟ وعلى أي شيء؟ هل هذا الدرج هو المَهَرب الأخير أم بداية جديدة؟ أم أنه طقس أسبوعي أو يومي؟ ما درجة أنوثتها (الفستان، السروال)؟ وماذا عن رجولتي (البدلة، القفطان)؟
العناصر الثابتة تثير اهتمامي اليوم أكثر: أن المدينة البيضاء تعني بُقعةً بيضاءَ على الخريطة، أنني كنت أحدس آنذاك أن الإيروتيكا لا بد أن تعني دومًا رحلة إلى المجهول، ولا يمكن أن تعني استقرارًا في المألوف والمعتاد. موقف الغربة في حد ذاته (التشرد في العراء) أحدده هنا باعتباره منظومةً أساسية إيروتيكية: المكان الغريب، المرأة الغريبة، الأنا الغريبة، الغربة كعامل مثير ومهيِّج. كلٌّ من الألفة والإيروتيكا يستبعد الآخر. الاستسلام للإغراء (ما أشدَّ قدريته وهو يتبع المرأة الغريبة عبر الطرق في الحي الخطير سيِّئ السمعة!) وفي النهاية شيء لم أكن واعيًا له تمامًا في أيام الصبا الشبقية؛ حيث كان كل شيء يدور حول العثور على مكان راسخ في بحر الرمال المتحركة: الخنوثة. ولكن في هذه المدينة البيضاء حيث كل شيء غريبٌ ومرتجَل ويسير بلا قواعد، فإن سؤال التنقل بين الهويات الجنسية يَشيع في الأجواء بدون أن يُفصح عنه أحد.
•••
النظرة البانورامية تصطدم بالمبنى الجديد تمامًا ذي الطوابق الثلاثين في شارع الحمراء، الذي يعلو كل شيء: فندق «كراون بلازا» بنوافذه في الطابق العلوي، التي تشبه عيونًا هائلة الاتساع، وخلفها في المساء، بمجرد أن يمد المساء وِشاحَه على المدينة، تلمع أشعة من الأضواء الزرقاء تثير في خيالي أجواء أحلام «الساينس فيكتشن» الأمريكية. خيال «سبايدر مان» على الواجهة، كينغ كونغ على صارية الهوائي، وإشارة الوطواط المارقة في الظلمة. هل يضيئون حمام سباحة فرعونيًّا؟ ديسكو؟ أم تمثال إله الحداثة؟
أجد نفسي مرغمًا على التفكير في ابن رشد؛ الفيلسوف الأرسطي الكبير المولود في قرطبة، وفي البرجين التوءم في الناحية الأخرى من العالم، البرجين اللذين كانا يَسمُوان في سماء نيويورك، مثلما يفعل هذا البرج الذي يُشرف على المباني ذات الأربعة أو الخمسة طوابق في حي الحمراء المسلم.
تدمير الشكل المتواجد منذ الأزل في المادة الأبدية التي لا يمكن أن ينالها شيء كفكرة، الفكرة التي — كما يرى المرء هنا — قد تتحول في كل مكان إلى مادة، هذا التدمير، حتى إذا اعتبرناه فعلًا فلسفيًّا، ليس إلا هُراءً.
ولكن ألم يمت ابن رشد في النهاية زنديقًا في المنفى؟
تثير المدينة انطباعًا جنوبيًّا، ولكن ليس حتمًا عربيًّا، ناهيك عن أن يكون إسلاميًّا. حتى أثناء الرحلة الليلية بالتاكسي كانت الأجواء تذكِّرني بالأحرى بضواحي مارسيليا. لا صدمة ثقافية. الانطباع بالاغتراب لا يُقارن البتةَ بالانطباع الذي تولَّد لديَّ عندما رأيت لأول مرة أسوارَ مدينة تارودانت الوردية الطالعة من السهول تحت أشعة الشمس الغاربة، ومن ورائها السماء الداكنة الزرقة، كأنها ظهور إلهي، كما لا تقارن بالوصول إلى ساحة جامع الفنا، آنذاك في أيلول ١٩٨٧م؛ حيث لم يكن هناك أيُّ مبنًى على الطراز الغربي يمكن أن تستريح عليه نظرة العين المذعورة.
•••
جمعية المعاقين في لبنان — وَفق إحصائيات الأمم المتحدة يبلغ عددهم ١٠٪ من عدد السكان — تشكو مُرَّ الشكوى من أن المعاقين لم يتم ذكرُهم بكلمة في موازنة الدولة رغم وجود القوانين اللازمة.
الممثل الكوميدي سامي خياط يقدم عرضه في «التباريس» بشارع سرسق.
في الأرفف التي تصل إلى السقف تتراصُّ كتب الجيب القديمة، بالفرنسية والإنكليزية، كتب مصورة عتيقة، سلسلة كتب الجيب الفرنسية، وكلاسيكيات سلسلة «بنغوين» ذات الغلاف الفستقي.
هناك أيضًا رزم من الورق، صناديق بها أشغال خشبية معشَّقة، وبطاقات سياحية. أتناول الصحيفة، وعندئذٍ يخطر على بالي أنني لم أحمل معي نقودًا. صاحب المحل، رجل مشرقي ظريف، قصير القامة، ويتحدث الفرنسية بطلاقة (أحد القلائل في بيروت الغربية الذين لا يزالون يفعلون ذلك)، يقول لي وهو يحرك يده باستهانة:
(أثق بك، أو على نحو أدق وأجمل: أضع ثقتي فيك.) لا يعلم — أو يعلم تمامًا — أن هذه الجملة لن تُلزمني بدفع الحساب المتأخر فحسب، بل ستجعلني في لمح البصر زبونًا مستديمًا، وأنني سأظل طوال إقامتي أشتري الصحف والسجائر وكراسات الرسم وأقلام التلوين (فابر كاستيل) لباولا، وأُجري معه الدردشة الصباحية (كيف حالك، كيف سيكون الطقس، كيف سيكون اليوم، الاستعداد لتقبل ما يجيء)؛ هذه الدردشة التي هي بالنسبة لي جزء أساسي من الحياة في المدينة.
•••
بعد أن قمنا بالزيارة الأولى لمعهد غوته، وبعد أن رحب بنا رئيس المعهد السيد شتيلة، ومساعد رئيس قسم البرامج السيد عساف، وأمينة المكتبة السيدة قصير. وبعد أن قدمت لنا سيدة عجوز — قصيرة القامة ذات سمات قروية ومتغضنة البشرة كأنها جدَّة — البسكويت والقهوة التي يفوح منها عبق الهال. نشعر بالانجذاب إلى البحر الذي يسطع أسفلنا بزرقة داكنة بين ورشات البناء والأراضي البور. طريق الكورنيش ذات الممرات الأربعة (عمر الشريط الأخضر المزروع بالنخيل في وسط الطريق — وكما عرفت لاحقًا — عدة شهور لا غير، هبة من إحدى الإمارات العربية). الشارع مزدحم بالسيارات وكأننا على طريق سريعة، باولا تطلب ملعبًا للأطفال. نحن جوعى، وبيروت — كما حكى لنا عباس في ألمانيا — ليس بها من الحدائق العامة سوى اثنتين صغيرتين.
في نهاية موقف سيارات مفروش بالحصى نجد مطعمًا ذا حديقة؛ مطعم الروضة (للأخوين شاتيلا). المدخل يزدان بصفٍّ من الأعمدة الخرسانية تلتف عليها غصون شتوية عارية. يمينًا مبنًى منبسط، وعلى السطح شرفة تضم المطبخ والبار وآلة أتوماتيكية لبيع المشروبات الغازية، وتلفزيون. أما الحديقة نفسها، حوالي ٣٥ × ٥٠ مترًا، فتنحدر ناحية البحر، وتنقسم إلى جزئين تفصلهما درجة. يمينًا ويسارًا تحيط بقطعة الأرض أسوار عالية، وإلى الأمام شرفة مسقوفة تغطيها نباتات متسلقة، حيث يستطيع الإنسان أن يجلس محميًّا من الريح، ويُطل على شاطئ البحر الصخري مباشرة. لكن هذا الجزء مغلق. جندي برشاش آلي يحرس المكان، مُلقيًا بين الحين والآخر إلى المقهى نظراتٍ مفعمةً بالأشواق. تتناثر في المكان كله الأشجارُ الصغيرة والشجيرات والموائد والكراسي البلاستيكية البيضاء. بعض الأجزاء التي تظلِّلها النباتات المتسلقة مفصولة عن بعضها البعض بسور صغير. المكان ممتد ورحيب. جلسنا على بُعد سبعين مترًا من المبنى، الخدم — بكل تؤدة — يتبخترون في مِشيتهم، شاردين بعضَ الشيء (عدد هائل من الناس هنا يقفون ببساطة، أو يجلسون أو ينتظرون، لا يبدو أنهم يفعلون شيئًا، يتبادلون الحديث بمجرد أن يجدوا شخصًا يتحدثون معه، أو يحملقون في الفراغ؛ عدد فائض عن الحاجة من الغرسونات ورؤسائهم ومساعديهم، وأعداد أخرى من الخدم).
المكان مثالي لباولا: ملعب من البيوت البلاستيكية وثلاث زحاليق وأراجيح بمقاعد بلاستيكية مكسورة. الأرض مفروشة بالرمل والحصى، تحت بعض الموائد بلاط صغير ملون يوحي بقطع الفسيفساء العتيقة. عمومًا يوحي المقهى كله بساحة حفريات أثرية. باولا سعيدة، تجري وتتسع حلقاتها، نحن سعداء بالدفء وهواء البحر، وبعيون مغمِضة نتطلع إلى الشمس الدافئة الصيفية. بين الحين والآخر تقترب طائرة هابطة، وأنا أتفرج عليها — كعادتي — مذعورًا مفتونًا.
قائمة الطعام تزيِّنها صورة فوتوغرافية من أوائل القرن، بُنية اللون، تميل إلى السواد: منظر التل الذي هبطناه من معهد غوته، تطغى عليه منارة مطلية بحلقات بيضاء وسوداء. كلتا الفيلاتين العثمانيتين، وحولهما حدائق غنَّاء، باستثناء جزء صغير من واجهة إحدى الفيلاتين — بريق وردي اللون — لم يتبقَّ من هذا المنظر البانورامي شيء بسبب الأبراج السكنية. المنارة الصغيرة بالقرب من المعهد تكاد تختفي خلف الطوابق السبعة للمبنى الذي لم يتم بعد. لاحقًا، في المساء، أرى حزمة الضوء المخروطية التي ما زالت تدور على نحو عبثي، ثم ينقطع مسارها عند الواجهة الخلفية للبرج السكني. حكى لنا شتيلة أنه عندما بدأ ارتفاع البرج يلفت الأنظار، تقريبًا عند الطابق الخامس عشر، وعد مالك العقار — حتى يستطيع مواصلة البناء — أن يشيد على الفور منارة جديدة، بدءوا الآن في إقامتها عند شاطئ البحر.
طلبنا مازة وشايًا، وكفاتح للشهية، نحصل لأول مرة على شرائح الجزر بطعمها الفريد الممتزج بعصير الليمون.
أي بهجة، هنا في اليوم الأول في هذه المدينة الغريبة، في نهاية زقاق لم يكن يوحي بأي شيء، كأننا أسلاف المسافرين المكتشفين الأوائل في العصور العظيمة! أي بهجة أن نكتشف هذا المكان! كأنه قارة مجهولة، وكأننا من خلال ذلك — رغم أننا عرفنا في اليوم نفسه من عباس أنه مطعم معروف منذ فترة — منحْنا المكان سببه الوجودي العميق، وكأننا اخترعناه من جديد عبر عنفوان شوقنا إليه.
هو إذن ملجأنا، المقهى الذي سنتردد عليه دومًا «مقهانا»، كما يقول العشاق: أغنيتنا. وعندما حذرنا عباس من عدم جودة المازة هنا، شعرت كأنه أهانني إهانةً عظمى. ومثل الحبيب المهجور الذي لا يعود يستطيع أن يُطيق سماع «أغنيتنا»، لم أعد أرغب ولو مرة واحدةً بعد سفر عائلتي في أن أعبُر عتبة باب «الروضة» حيث كنا سعداء.
•••
يقع قسم التحرير في بناية محاطة بالسقالات والأغطية البلاستيكية، في شارع يبلغ طوله خمسين مترًا، مغلق بحواجزَ في مدخله. أمام البناية سيارة سوداء لينكولن كونتيننتال، يملكها صاحب العمارة. في غرف التحرير تسود الأجواء المعتادة في الصحف العالمية: دخان بارد، رنين جرس التليفون، مكاتب غير مرتبة، سُعاة يروحون ويجيئون، أكوام من الورق، بالإضافة إلى عمال الدهان. مكتب عباس مزدحم بالمتحدثين. تحية دافئة كأننا افترقنا بالأمس. باولا وعباس يُظهران الفرحة الحنون المألوفة. على الفور تُقدَّم القهوة والمياه المعدنية وعصير البرتقال الطازج الذي استمتعنا بشربه في الفندق أيضًا، والذي يفضله الناس هنا عن المياه الغازية الأمريكية.
هنا عباس آخر غير الذي تعرفت إليه في برلين: ليس ذلك الشاعر الحالم المسكين، وإنما صانع الصحيفة المستغرق بتركيز فيما يفعله، ليس المتسكعَ المسترخي في الشوارع بعيون مفتوحة، بل «حمار شغل» وسط جبال من الأوراق، ليس الضيف اللطيف المتحفظ، إنه هنا رئيس يعطي تعليماته الواضحة بإشارات مقتضبة من يده، رجل مسموع الكلمة، صحفي محترف.
•••
صور مختلفة لعباس
عباس الذي ينزلق من الأريكة ويستند إليها، ثم يجلس على البساط وقد تهدَّلت سترته، ويحبو على أربع حتى يكون على مستوى باولا عندما يلعب معها. عباس، مركزًا بصره على باولا، وهو يضع راحته اليسرى على ظهر اليد اليمنى، ثم بكلتا اليدين يصنع تموجات، وبالإبهامين المفرودين يوحي بضربات الأجنحة: طائر الكركي. بعينين واسعتين تلاحق الطفلة حركة الطائر، وتظل طوال أسابيع تتمرن على هذه الحركة المعقدة، وفي مساء أول قراءة مشتركة لنا في معهد غوته تصل إلى حد إتقانها، فتهتف من الصف الأول تجاه المنصة: «عباس، شوف!» ويقطع عباس القراءة ويتفرج على يديها المتموجتين.
عباس الذي يعابث ليزلي التي تريد التقاط صورة له على مسرح بيبلوس المدرج، ثم يقف وقفة استعراضية: فجأةً غدًا عمره ٢٥٠٠ سنة، وكأنه خرج لتوه من إحدى مسرحيات أرسطوفانيس.
عباس في رحلة العودة من إهدن، عندما اتصل رشيد هاتفيًّا بليزلي التي تقود السيارة؛ كي يسأل عما إذا كنا وصلنا بسلام إلى السهل. عباس يمُد رأسه ويصرخ في السماعة: «رشيد، سيارتك قبيحة وغير مريحة؛ مقارنة مع هذه الكاديلاك الرائعة.»
عباس في «معهد الدراسات المتقدمة» في برلين، وهو يصغي إلى كلمات أدونيس ومحمود درويش دون أن يكتب ملاحظات، ثم يتدخل بالأسئلة؛ وبعد أيام تظهر مقالته في «السفير»: عرض رائع، وتحليل بارع للمضمون، وكأنه استمع إلى نص الكلمات مُسَجَّلًا. تشتت ذهنه الذي يخدع الناس، ويموِّه قدرته على التركيز والإصغاء الدقيق.
في بيت برتولت برشت، بعد أن حيَّينا العاملين هناك وكنا على وشك الانصراف، يسأل فجأةً إذا كان من الممكن فتح خزانة الملابس الضخمة. مبتسمًا يتأمل القمصان بلا ياقات، والسترات العمالية التي — بسبب قماشها الممتاز والبطانة المتقنة (إذا لم تخنِّي الذاكرة كان برشت يفصِّل ملابسه لدى ترزي للرجال في زيورخ) — انتصرت على مرور نصف قرن وكأنه يوم واحد. لم يستطع عباس أن يطرد من رأسه فكرة أن برشت اختار مقره الأخير بجوار المقبرة التي يريد أن يُدفن فيها، حتى إذا حانت الساعة، يعبُر السور فحسب. أخذ يرسل النظر طويلًا من الشرفة الشتوية إلى المدافن. قبل ذلك أطال الوقوف أيضًا أمام الشاهد الضئيل الموضوع على مقبرة هيغل، إلى أن انتابني شعور محرِج بأنه يصلي أمام قبر صديق أو قريب لم أتعرف إليه، ولهذا فإن وجودي في تلك اللحظة لا معنَى له. لم يتوقف طويلًا أمام الكتب، ولكن عند سرير الشاعر يتعرف على ذاته: صومعة الناسك، الفراش الضيق الشبيه بالمهد، بالمحفة أثناء الحياة، النخبوية، الإقصاء والحرمان، اللاحسية ومعاداة الجسد، الاحتياج إلى الوحدة والنقاء، إلى الترفع والحزن، القرب من الموت والنفور والمشاعر المهتاجة.
في رحلة مسائية بالسيارة إلى بيروت، يلقي عباس رأسه إلى الوراء ويسند قفاه على الحافة العلوية للمقعد، حالمًا، مستمتعًا، حزينًا؛ ويغلق عينيه مصغيًا إلى أغنية يبثُّها الراديو لأم كلثوم. «كم كنت أحب الاستماع إليها، في الزمن الماضي! كانت في حفلاتها لا تشدو إلا أغنية واحدة، طيلة ساعتين … تنويعات طويلة لا تخرج عن الشكوى والنواح.» ستظل هذه النغمات بالنسبة لي، أنا الذي أشعر أيضًا بالحنين إلى أغانٍ قديمة، مثل نظرة غائمة زائغة في حديقة مغلقة أمامي: شباب عباس.
في قاعة الفنون البرلينية المُسماة ﺑ «محطة هامبورغ»: اهتمامه المتوتر اليقظ، وتحمسه للتركيبات الفنية التي أبدعها أنسلم كيفر، اهتمام مبني على معلومات غزيرة جمعها عنه. ولكننا سرعان ما فقدنا اهتمامنا لأن الأعمال الأخرى كانت عادية، مبتذلة، وإن ادعت الأهمية. وعندما مررنا بخامس مجموعة من مجموعات الزوار التي خيَّم عليها صمت جدير بالكاتدرائيات، وبينما راحت المجموعة تتمهل بخشوع وورع في غرفة تنيرها أنابيب النيون الخضراء وكأننا في صالون حلاقة، وفي السقف ثُبِّتت مقاعد من مصانع «إيكيا» للأثاث، انطلق عباس يقهقه بقلب خالٍ من الهموم: «إن قيصر هذا الفن عار، هذا أمر ليس تراجيديًّا، بل مضحك. ولكن ما يدفع إلى الضحك اليائس هو أن الشعب لا يريد أن يصدق ما يراه!» تستدير سيدة شاحبة وتطلق فحيحها ناحيتنا مثل أفعى تتميز غيظًا. ثم تكتشف العربي، ومن نظرتها المتهالكة يتساقط طلاء التسامح المُتكلف الذي تعلمت بصعوبة مضنية أن تُظهره تجاه أبناء الثقافات الأخرى.
عباس في حديث حميمي مع أصدقائه المقربين: إنه يستقبلهم في مملكته، ويدخلهم إلى حضرته، بألفة بالغة ومشاعر دافئة. عباس مع الغرباء: النظرة موجَّهة إلى الداخل قليلًا، سلوكه يقع بين التذمر والتواضع، يتجاهل ذاته، لا يريد أن يزعج أحدًا. لكن عينه تبقى يقِظةً وأذنه صاغية حتى يستطيع أن يقدر ويزن. عباس بين الأصدقاء: كأنه نصف إله من آلهة البحر المتوسط، يسبح بهامة ملقاة إلى الخلف وسط أمواج الضحكات، وعندما يمازحه المرء، تعلو قهقهته وتغطي على كل شيء. عباس عندما يفقد أعصابه: العينان تظلان تضحكان، ثم فجأة يُشهر سيف اللغة. جرح بسيط يكفي. فإذا بقي الشخص المزعج في مكانه، أو كان بليد المشاعر، تبدو على عباس مظاهر السأم والتعب وتشتُّت الذهن.
مثل عديد من المثقفين يميل عباس في الموضوعات الاجتماعية والسياسية إلى تكرار تلك الأفكار والأقوال التي توصل إليها ذات مرة واختبر صحتها، أو التي يشعر بأهميتها (ربما بعد أن يكون قد فكر جليًّا فيها، واضعًا إياها تحت مجهر الذات والمُساءلة الجدلية). يكرر تلك الأقوال دون أن يلاحظ — ولعله لا يتذكر — أنه بالأمس أو قبل الأمس قد صاغ الفكرة نفسها بالعبارات ذاتها، بل لعله نشرها في مقالة. ربما يستشف السامع من ذلك بعض الحزن أيضًا، فالمرء يستطيع أن يكرر استنتاجات صحيحة آلاف المرات، دون أن يكون لها أي نتائج على أرض الواقع.
نفوره من طقوس الوداع الطويل ومن العاطفية: النظرة، الوداع، الاستدارة، اليد المرفوعة للسلام والدفاع في آنٍ معًا، ثم ذيل المعطف المتأرجح.
•••
أثناء الرحلة يبدي رشيد إعجابه البالغ بسيارته المتسوبيشي الباجيرو المزودة بنظام الدفع الرباعي، حتى إني — ورغم النظر عدة مرات في عينيه اللتين كانتا تبرقان بخبث، وربما أيضًا بعبث ماجن — لم أكن متأكدًا عند مغادرة السيارة ما إذا كان هذا الشخص إنسانًا متباهيًا غريب الأطوار بعض الشيء. «هذه السيارة الربانية مثالية للطرق الجبلية العالية المؤدية إلى بيتي، حيث لم يذُبِ الثلج إلا قبل عدة أيام. هناك تظهر قيمة الدفع الرباعي. أعتقد، ليس ثمة سيارة أجمل من سيارتي في العالم كله. انظر إلى تصنيعها وشكلها! ألا تشاركني رأيي؟ انظر إلى هذا البلاستيك المحبب المتين!» ويدق على كسوة سقف السيارة. ثم فجأة بنبرة هادئة، ودون أن يتوقف عن النظر إليَّ متفحصًا: «أنت لا تشاركني رأيي، أليس كذلك؟» ثم بصوت منكسر تمامًا يحمل مسحةً من الاتهام: «سيارتي ليست جميلة على الإطلاق في نظرك؟ قل لي، إنني أتحمل الصراحة …»
كنا نسير في أحد الأحياء المدمَّرة الواقعة على خط التماس. بناية نحيفة للغاية مكونة من ثلاثة طوابق، النوافذ فجوات فارغة (عند بداية الحرب كانوا قد انتهوا من تشييد هيكل البناية، ولكنهم لم يكملوها قط). ينتصب المبنى مثل إبهام متفحم أسود. أرض جدباء، اقتُطع منها جزء لبناء الطريق السريعة، أنفاق، وبينها فيلات قليلة على الطراز العثماني كانت فيما مضى جميلة، ثقوب الرصاص في واجهات المباني تشبه بثور الجدري أو ندبات الجذام. إلى جوارها بنايات جديدة من زمن ما بعد الحرب.
منطقة المشاة واحة من تمدُّن ما بعد الحداثة على الطراز التجاري العالمي، مائة متر حول ساحة النجمة، بنايات صفراء من عهد الانتداب، مقاهٍ، مطاعم، بوتيكات فاخرة، بواك. وفي نهاية أحد الأزقة الجانبية يرى المرء الحفريات الأثرية: رومانية وفينيقية.
أقول إن المكان يذكِّرني بميلانو أو لوغانو؛ قاصدًا بكلامي التهنئة. رشيد يتفق معي تمامًا، أما عباس فيرفض الرأي جملةً وتفصيلًا.
رجال الشرطة يحتشدون في الساحة حيث مبنى البرلمان والمقهى الذي نقصده. على طول الطريق لافتات مكتوب عليها: فيما قبل/الآن، وهي تبين ما أنجزته شركة سوليدير التي تتولى إعادة إعمار وسط المدينة. القليل الذي أُنجز حتى الآن هو بلا شك موفق، ولا شك أيضًا أن الحي واحة استرخاء لمن يأتي إلى هنا مع أطفاله.
نداءات المؤذنين يتردد صداها من ثلاثة أو أربعة مساجد بالقرب منا، ثم تنكسر على واجهات المنازل، فتختلط ببعضها البعض، وتعود من حيث أتت.
مع قهوة وعصير وبرتقال وشاي وفستق، يشرع عباس ورشيد في إعطاء درس في الجدلية العملية.
الجدال الأول يدور حول التنافس بين المؤذن والأجراس: هل وصلت الحركة الإسلامية في الشرق إلى ذروتها، وبدأت في الانحسار؟ نعم، يعتقد عباس، ويضرب مثلًا بإيران حيث وصل الإسلام — كنموذج سياسي ورؤية مستقبلية — إلى طريق مسدودة، تمامًا كالاشتراكية في وقتها.
أما رشيد فيعتقد أن المد الراديكالي للإسلام سيزداد في المستقبل البعيد: «أتعرف، لقد كان انهيار الاتحاد السوفيتي كارثة. ثورة ١٧٨٩م وثورة ١٩١٧م كانتا النموذجين اللذين اقتدى بهما العلمانيون في الشرق، الآن لم يتبقَّ لهم شيء. لقد صُدمت مؤخرًا في الجامعة، كان عليَّ أن أقول لطلاب السنة الأولى شيئًا عن الاتحاد السوفيتي، غير أنهم لم يكونوا يعرفون ما هو الاتحاد السوفيتي! ما عادوا يعرفون! عدد الطالبات المحجبات يتزايد في محاضراتي. أبناء عتاة الشيوعيين، أصدقائي، مسلمون ملتزمون.»
«هذه آخر ارتجافات الهارب يأسًا إلى الدين» يرد عباس.
نقاش آخر دار حول الأدب: هل القرآن، كعمل أدبي، يتميز بالأصالة والجدة التامة، أم أنه يرتكز دومًا على إنجازات الشعر الجاهلي؟ محادثاتي البرلينية مع عباس كانت قد أعادت إلى ذاكرتي ما وصل إليه العرب من قمم فكرية وثقافية في العصور الوسطى. إنه السقوط من علٍ. هذه الذكرى (التي تنحو أحيانًا إلى الأسطوري) هي ما يتم إيقاظها في الوعي الجمعي. السقوط من العظمة والمجد التليد إلى الحاضر الحقير (هكذا يشعرون به) هو ما يولد الشعور بالمهانة. هذا الشعور نجده عند «رجل الشارع»، مثلما نقابله لدى المثقفين الذين يعرفون عما يتكلمون.
نقطة نزاع أخرى: إعمار وسط المدينة. عباس: «انظر حولك، هذه ديزني لاند، حي للهو والمتعة فقط. لا أحد يسكن هنا، تقريبًا لا أحد يعمل هنا، الإيجارات مرتفعة جدًّا، بالإضافة إلى هذا فإنهم بكل برود قد انتزعوا ملكية كل أصحاب العقارات هنا. الحي بأكمله مقصور على السياح، منطقة عازلة بين الشرق والغرب.» كان لا بد أن أتذكر جولتنا في ساحة بوتسدام الجديدة في برلين «بوتسدامر بلاتس». ويضيف عباس: «فيما مضى كان مركز المدينة هنا؛ الأسواق، ساحة الشهداء، الأغنياء والفقراء، الصغار والكبار، كانوا يتقابلون ويعيشون هنا!»
إنه يبالغ ويصب جام لعناته على شبكة الطرق السريعة أيضًا التي تنقل المرء بكل سهولة من أطراف المدينة إلى قلبها (ويلاحظ المرء على الفور أنه لا يقود سيارة، لأن سائقي السيارات سيلهجون بآيات الشكر والامتنان).
على الإنسان أن يتوغل في المدينة شيئًا فشيئا، من خارجها إلى داخلها، إلى أن يصل إلى قلبها.
رشيد: «من غير سوليدير ما كانت الحفريات ستُجرى، ولا كان النظام سيسود، بل كنا سنظل في صحراء من الرديم والأنقاض. كما أن ما نراه أمامنا ليس مكان لهو وتسلية، إنه حي يعمل فيه الناس. حي جميل، نُفذ بإتقان حرفي، بنظافة، وبروح جمالية. هذا الحي من حسن حظ بيروت. ثم انظر حولك: الناس يشعرون بالرضا!»
يبصق عباس قشرة فستق. رشيد يحملق فيه منتصرًا:
عندما عدنا إلى جوار الأوبرا المغطاة إلى ساحة السيارات التي ستتحول إلى «شوبنغ مول»، لكزني رشيد ملقيًا نظرةً تجاه عباس: «إنه شاعر.» قال بلهجة تنمُّ عن استخفاف، ثم أشار إلى هاتفه النقَّال قائلًا: «أليس هذا جميلًا؟ إنه يتلاءم مع اليد ككف صديق، السطح الألومينيوم يبرُق في خفوت كالقمر فوق الجبال. وكم من الأشياء يستطيعها، هذا الهاتف الصغير: إنه يربط بين البشر في كل مكان وفي كل ساعة. ويعمل منبهًا، ومفكرةً، ودفترًا للعناوين.
هذا هو الشعر الحديث كما أفهمه، التكنولوجيا، وليس ما تفرزه قريحة صاحبك.»
يبتسم عباس ابتسامةً صفراء، ويقول: «ألَا تريد أن تفتح أبواب سيارتك اليابانية الصغيرة القبيحة حتى نبتعد من هنا؟»
•••
طريق السيارات السريعة تنتهي قبل صيدا بقليل، وطوال المسافة لم يمر بنا كيلومتر واحد من الأرض التي لم تُستغل للبناء. صيدا قرية قديمة سكانها مسلمون، نمَت حتى أضحت مدينة يقطنها نحو ٦٠ ألف نسمة، وهي أحد المراكز السُّنية في لبنان. كما عرَفت لاحقًا، فإنه من المستحيل تقريبًا العثور على حانة في المدينة كلها؛ لذلك يشتري السُّنة خمرتهم في بيروت ويشربونها خُفيةً في بيوتهم. ناحية البحر، بجوار الطريق السريعة، ثمة استاد رياضي عملاق يبدو حداثيًّا، ومن ضاحية المدينة المنخفضة يسمو إلى عنان السماء جامع عملاق لم يكتمل بناؤه بعد، وكلاهما هدية (تقليدية) من رئيس الوزراء رفيق الحريري (الصيداوي الذي كسب المليارات في العربية السعودية) إلى مسقط رأسه.
ثمة بناء يمكن اعتباره استعراضًا مسيحيًّا مناظرًا؛ أعني الكنيسة الضخمة لسيدة لبنان، وبها التمثال العملاق للعذراء مريم، الذي يُطل من ارتفاع ألف متر على خليج جونيه وعلى لسان بيروت الممتد في البحر، قلعة الموارنة، هناك تمرق من كل ناحية زائرات عجائزُ متشحات بالسواد ومغطيات الرءوس. التدخين ممنوع في المكان كله، أيضًا في الخارج حول الكنيسة الضخمة (التي تشبه هيكل سفينة يوشك على الغرق). الرجال الذين يطوفون بأرجاء المكان يراقبون التزام الزوار بالامتناع عن التدخين وبالهدوء وتخفيف وطء الأقدام على الأرضية.
داخل صحن الكنسية العملاق لا أرى الصفوف المعتادة من المقاعد الخشبية، بل آلاف الكراسي البلاستيكية. بين المدخل والمذبح فترينة زجاجية كبيرة بها تمثال للعذراء، وصندوق إذا رمى المرء فيه عملة معدنية، تشتعل أوتوماتيكيًّا الشموع الكهربائية داخل الفترينة وخارجها. الخلفية المناسبة للصور التذكارية التي تلتقطها المجموعات والعائلات. وهكذا تتزاحم الأفواج المنتظرة حول الصندوق الزجاجي والشموع الكهربائية التي تومض وتنطفئ، ويتعذر الدخول أو الخروج.
•••
لم تُملها العبقرية فحسب ولا الأسلوب الجيد، بل أملاها الوقت؛ الوقت الذي وُهب للفنان، والوقت الذي منحه الفنان لنفسه حتى ينهل من بحر المعلومات المؤكدة التي اكتسبها عبر ثلاثين عامًا: فالروايات السيئة هي غالبًا نتيجة علم ناقص؛ أي عمل ناقص.
ولكن في كلتا الحالتين — في حالة قلعة الصليبيين التي بناها المتحدر من أبولينا، ومعبد الإمبراطور الروماني — ماذا يجعلني أشعر بالواقع على نحو أقوى عبر تذكُّر كتب قرأتها؟ هل هو أحد أمراض المهنة؟ أم أنه دليل على سلطة الأدب؟
هل لم أعد أتحمل الواقع أو الحقيقة إلا عبر وسيط إعلامي؟ هل أعجِز عن أن أفرق بين الاثنين تفرقةً صحيحة؟ أم أنني لم أعد أتأثر بالعالم الذي لم يوثقه نصٌّ بعد؟
هل هو إحياء متبادل؟ تكثيف الواقع في الرواية، مقابل مادية الأثر المعماري الذي أمر البطل ببنائه — الاهتمام بالمبنى كوصية واقعية ملموسة ثلاثية الأبعاد كتبها بطل الرواية؟ غير أن الكتاب ليس بحاجة إطلاقًا إلى الواقع كي يُبَث فيه الروح. والواقع يبقى باهتًا للغاية — ليس إلا كومة من الحجارة القديمة (كالتي صادفناها بعد أيام في حقل الحفريات في جبيل)، لا تثير أي عاطفة أو تفاهم، إلا لو كان التعاطف مع شخصية روائية يجعلني أتعاطف مع هذه القطعة من الطبيعة أو الحجر؛ حياتها التي تنبض داخلي، تملأ الحجر أيضًا بالحياة، مثلما يثير اهتمامي منزل صديق أكثر مما يفعل منزل غريب فارغ.
وتبقى الحقيقة، وهي أن المقروء في الروايات يكتسب واقعًا أقوى بدرجة لا تُقارن من أشياء عديدة يشاهدها الإنسان أو يلمسها، كما أنه يبقى أكثر احتمالًا. إن الطبيعة الأدبية التي يَبُث فيها الكاتب الروح تنفذ إلى الذاكرة على نحو أقوى بدرجة لا تُقارن مما نراه أو نلمسه، ومما لا يغدو لدينا جزءًا من تاريخ الروح.
•••
رشيد: «ماذا تعتقد: حزب الله، المنظمات المسيحية المسلحة، الجيش السوري، الجيش اللبناني، وفئات مسيحية، وإسرائيل على حدودنا؟ لبنان برميل بارود؛ لهذا يستعرض الجيش قوته بغرض الردع، وحتى يكون على أهبة الاستعداد في حالة الطوارئ، وعلى الأقل حتى لا يسلب الأهالي وهمهم بأن هذا البلد يمكن الدفاع عنه.»
•••
عندما خرج الغرسون ببساطة إلى الشارع واشترى لباولا من البقال المجاور عصير تفاح؛ لأنه غير متوفر في المطعم، تستغل ابنتي اللحظة التي كانت فيها محط الاهتمام وتطلب «بيتسا مكرونة»، وعندئذٍ يسألني رشيد عما إذا كانت طفلتَنا الوحيدة، وعما إذا كنا سعداء بها:
«لماذا لم تُنجِبا أطفالًا آخرين؟ إن فقر المجتمعات الأوروبية في الإنجاب يبدو لي دومًا علامةً على انحدارها. المجتمعات التي ليس لديها اهتمام بالأطفال، والتي لا تهتم سوى بشيء غير أن تعيش فرديتها بلا كوابح غير عابئة بالتكاثر؛ لهي مجتمعات في طريقها إلى الانقراض.»
يتدخل عباس قائلًا: «رشيد يتحدر من عائلة همجية أنجبت ثمانية أطفال في ضيعة مهجورة في الشمال، ما زالت عادة الثأر منتشرة فيها. وأنت يا رشيد، كم طفلًا لديك؟»
رشيد أيضًا — كما يتضح — ليس لديه سوى ابن وحيد يعيش مع والدته في فرنسا، وهو منبع فخره وافتخاره.
«هويتكم أصبحت مشكلة بالنسبة لكم.» يكمل رشيد، «المجتمع الغربي يعمل بذاته على إلغاء ذاته.»
«نعم.» أجيبه ملقيًا نظرةً عبر المائدة، «على الأقل من ناحيتين لديك حق: الألمان يدخرون في طعامهم وأطفالهم.»
هذه الظاهرة — الهوية كعبء، أو التعب من الذات — يبدو أنها تمارس نوعًا من التعارض الساحر. عباس أيضًا استخرج أثناء قراءاتنا المشتركة من روايتي «الحافي» هذه الرغبة في الاختفاء، واعتبرَها أزمة هوية أوروبية، واضعًا الزيادة في الهوية التي تعذب الغربي مقابل النقصان لدى العربي الذي ما زال يبحث عن هويته.
يخطر على بالي فورًا «تشبيه الهولوكوست» الذي استخدمه يوشكا فيشر في مقابلته مع برنار هنري ليفي؛ الذي كان قد سأل الوزير عن الرابطة التي تجمع الألمان معًا، القاسم المشترك للألمان، الشيء المناظر لعام ١٧٨٩م بالنسبة إلى الفرنسيين. آنذاك رد فيشر: رغم أن الإجابة قد تبدو غريبة، فإن الهولوكوست يمثل بالتأكيد تلك الرابطة بالنسبة للألمان المعاصرين.
«ولكن دولة تقوم على الهولوكوست.» يصيح رشيد، «لا يمكن أن يفضي طريقها إلا إلى غاية واحدة: أن تختفي!»
يقاطعنا رجل قصير متقدم في العمر ذو رأس أصلع، ويفيض في تحية عباس، مُكثرًا من الربت على كتفيه، ولا يتوقف عن الضحك ضحكاتٍ تبدو مزيفة وتكشف عن أسنانه الصفراء، ثم يجلس بعيدًا عنا بعدد قليل من الموائد مع صديقته الشابة للغاية التي ترتدي ملابس ثمينة للغاية.
«أنا أحبه.» يقول عباس بابتسامته الماكرة المعهودة التي لا يعرف المرء حيالها أبدًا قدر الجدية التي تخفيها. «إنه يكذب طوال الوقت. لكنه يكذب بشكلٍ سيِّئ؛ أي إن الإنسان يلاحظ كذبه. شيوعي سابق. أستاذ في الجامعة. والآن اغتنى.»
«وكيف؟»
لكنه لا يبوح لنا إذا كان يقصد البودرة أم البارود.
في تلك الأثناء أحاول أن أحدد هوية الروائح التي تعبق الهواء فوق المائدة. بالطبع حمص وباذنجان مشوي، وبالطبع حب الهال والقرفة. أيضًا القرنفل والسُّماق وزيت السمسم وجوز الطيب. ولكن الرائحة المميزة هنا هي الكمون، هذه هي الرائحة التي ستجعلني من الآن فصاعدًا أعرف بعيون مغلقة في أي جزء من الأرض أنا، الشذا الذي يفوح في الشرق كله.
عباس يجيب على سؤالي حول كل هؤلاء الناس الواقفين حولنا، وكيف يعمل هذا المجتمع.
إن ثروة البلد هي التعليم. ثم راح يحكي لي عن المدارس والجامعات الممتازة في لبنان، وعن خرِّيجيها الممتازين الذين يشغلون أرفع الوظائف في أوروبا وأفريقيا، وبصورة خاصة في الولايات المتحدة، ومن رواتبهم تعيش عائلات بأكملها لم تغادر، أو لم تستطع، أن تغادر البلد.
إزاء انتقاداتنا المتهكمة بشأن الهياكل الخرسانية التي توقف البناء في منتصفها، والتي تشوه الطبيعة، راح رشيد يشرح لنا نظرياته الشاعرية حول المنازل التي بدأ بناؤها:
حرب العراق المتوقعة ليست هنا موضوعًا حاضرًا كما هو الحال في ألمانيا؛ لا سيما وأن الناس تنتظرها بلا ذعر. إذا لم أفتح أنا هذا الموضوع لا يتحدث فيه أحد آخر.
عباس: «على الأوروبيين أن ينظروا إلى الولايات المتحدة، أن يكونوا قوة مضادة موازِنة.»
أنا: «للأسف الشديد لا يوجد أوروبيون.»
أعود إلى موضوعي: إسرائيل.
•••
أما فيما يتعلق بالطبيعة، خصوصًا النجوم، فإنني أفكر فيها وأعبر عنها تلقائيًّا بصورة حالمة شاعرية، وليس على نحو علمي؛ لأنها ببساطة تتوافق هكذا مع الانطباعات التي تتركها في نفسي.
أتذكر نجم «هالبوب»؛ في شهور خريف وشتاء عام ١٩٩٧م كان من الممكن رؤية هذا المُذَنَّب يهبط في بيسلييه فوق حديقة جالينييه، في اتجاه نافورة درويه لي بيل، كنت أستطيع أن أقول لنفسي مئات المرات، بل وكنت أفعل، إن ما أشاهده هنا لا يعدو أن يكون جليدًا وأحجارًا وحصًى: هذه المعلومات لم تدخل رأسي مطلقًا، ولم تملك أيَّ قدر من الحقيقة العميقة بالنسبة لي. إن ظاهر هذا الجسم الذي يهوي بزاوية تراجيدية من السماء دون أن يتحرك، لم يكن في الحقيقة إلا: ملاكًا هابطًا.
هذه هي الصورة، وهذه هي المعلومات التي تغلغلت داخلي حتى المركز الذي تنطبع فيه الذكريات والصور الأولى العتيقة: لا أثر للجليد والأحجار، بل الصرخة التحذيرية التي أطلقها الملاك الهابط.
ظاهرة طبيعية أخرى تجعل المرء يشعر بأنه في مكان آخر: الغسق الذي لا وجود له تقريبًا. أثناء جلوس المرء على شرفة مقهًى، وأثناء احتساء فنجان واحد تُظلم السماء، وتتدرج من الأزرق الباهت إلى الأزرق الداكن، ثم يهبط الليل، وتُضاء أنوار الطريق كلها، وتنطفئ قمة جبل لبنان المغطاة بالثلوج التي تُرى من كل مكان تقريبًا. غسق كهذا، الزمن المتسارع على هذا النحو، يثير الوحشة والانقباض.
•••
عدا باولا ليس في الملعب إلا صبي أكبر منها قليلًا، لا أرى في صحبته كالمعتاد مجموعة من النساء، بل — استثناء كبير — أباه. الأب واقف خارج السياج، منتظرًا على نحو لا أستطيع وصفه سوى بكلمة «شرقي». وقفته، حركاته، نظرته الغائمة ولكن غير المتعبة، كل هذا يبين أنه لا يشعر بالملل، ليس متعجلًا، لا ينتظر أن يعود ابنه، لا ينتظر شيئًا. ينتظر. الطفلان لا يلعبان معًا بالمعنى الصحيح للكلمة، بالأحرى بشكل متوازٍ، يتراقصان حول بعضهما البعض على نحو لولبي، كلٌّ منهما يحرص على ألا يضيع الآخر من مجال بصره، رغم أنهما يتجنبان النظرات المباشرة، كلٌّ منهما يحاكي الآخر. إذا تزحلق الصبي من فوق الزحليقة فإن الطفلة تسرع وتتسلق السُّلم، حتى تحاول أن تنزلق في اللحظة التالية، بينما يعاود الصبي صعود السلم. ببطء يتقاربان إلى أن تجيء اللحظة التي يقفان فيها فجأةً معًا في أعلى الزحليقة، وبطقوس مهذبة مرتبكة، تكاد تذكِّر بالآسيويين، يحاول كلٌّ أن يدع الآخر ينزلق أولًا، وبمجرد أن يتزحلقا في إثر بعضهما ترتسم على وجهَيهما أماراتُ الفرحة المُختلسة. ولكن حين يقدمِّ الصبي إلى باولا بدون كلام قطعةً من البونبون أخذها من والده، تصل مشاعر الأخوة إلى نهايتها. مرتبكةً وباحثةً عن الحماية تجري باولا في اتجاه ماما.
•••
عندما ذهبت للتمشية مؤخرًا على ضفة نهر الألستر في هامبورغ، ولأول مرة منذ سنوات، لم يكن ثمة طريق يستطيع المتنزه أن يشقها بين أعداد العدَّائين الغفيرة. كدت أُصاب بالجنون من الخشخشة الخافتة الصادرة عن كل هذه الملابس النايلونية، بينما كاد الشهيق والزفير واللهاث والبصاق من حولي يصيب إيقاع تنفسي بالاضطراب. رأيت كل هذه الوجوه وهي تمرق جانبي: وجوه عابسة، مركزة فيما تفعله، أو — في حالة حشو الأذن بالسدادات — محملقة في الفراغ؛ وسمعت وقْع الخطوات القصيرة أو الواسعة أو الزاحفة. انتقلت إليَّ عدوى هذا التعجل، هذا التصيد للصحة والشباب، وفجأة تراءى لي شبح فارع الطول يقف وراء مطعم «بوبي رايش»، ناظرًا إلى أسفل حيث كل هؤلاء البشر المتعجلين: رأيت عزرائيل متَّشحًا بعباءة رمادية طويلة، ومبتسمًا ابتسامة واهنة بعضَ الشيء، وبهزة رأس بسيطة يقول: أتعتقدون أنكم ستهربون مني؟ سأحصدكم كلكم، كلكم، حيثما تكونون.
في يوم من الأيام ركض أحد الخدم إلى الخليفة في بغداد، ثم ركع أمامه قائلًا بعيون متسعة رعبًا: لقد رأيتُ الموت في المدينة، لقد سدد إليَّ نظرةً مخيفة، وأنا متأكد من أنه يريد حياتي. وبصوت مرتجف التمس الخادم من سيده أن يسمح له بالسفر إلى البصرة حتى ينقضي الخطر.
كان الخليفة رجلًا بصيرًا متفهمًا، فاستجاب إلى رجاء عبده، وسمح له بالانصراف. بعدها بقليل ذهب الخليفة ليتمشى في المدينة، وهناك قابل الموت أيضًا، فسأله: لماذا ألقى بالفزع في قلب خادمه؟
لكن النظرة التي سددتها إليه لم تكن مخيفة أو مهدِّدة؛ قال الموت معتذرًا، بل بالأحرى نظرة مُندهِشة؛ إذ إنني قابلته هنا في بغداد، في حين أن لديَّ موعدًا معه غدًا في البصرة!
ولكن هنا على الكورنيش لا يثير العدَّاءون هذا الانطباع المتعصب بأنهم يركضون هربًا من الموت الحتمي، مثل نظرائهم على نهر الألستر. إذا مر بائع سميط على دراجته، يتوقف بعضهم، ويجلسون على مقعد، ويأكلون، ويسحبون سيجارة مفلطحة من جيب «التريننغ سوت»، ويفردون أقدامهم.
•••
•••
امرأة تقود سيارة كاديلاك، يثير هذا مخيلتي أيضًا؛ ولذا أسألها: كيف اقتنت مثل هذه السيارة؟
تشرح أنها تعودت في العراق على قيادة السيارات الأمريكية. «في كل بلاد الشرق يمكن اقتناء هذه السيارات مستعملةً بأسعار مناسبة للغاية. عندما انتقلنا للعيش هنا، اشتريت أولًا سيارة بويك، ولكن ذلك كاد يكلفني أطفالي …»
ننظر إليها نظراتٍ فزعة.
فتكمل كلامها قائلة: «تعرِفان … إنهما يذهبان إلى المدرسة الأمريكية. كل الأطفال هناك تنتظرهم سيارة لتوصيلهم إلى البيت بعد انتهاء اليوم المدرسي، ولكن ليس «بويك». لقد منعني طفلاي من أن أظهر أمام المدرسة بهذا الدلو الصفيحي. هل تريدين أن تفضحينا أمام زملائنا؟ هذه السيارة هي ذروة العار! بويك! الآخرون يجدون سياراتٍ فارهةً من طراز آخر تمامًا في انتظارهم. نحن نفضِّل أن نذهب إلى البيت سيرًا على الأقدام! عندئذٍ عرَفت أن الأمر جاد. وهكذا اشتريت اﻟ «سيدان دو فيل» السوداء حتى أنقذ شرف العائلة. على كل حال منذ ذلك اليوم لم يعودا ينكرونني …»
•••
ككل يوم منذ وصولنا: سماء البحر المتوسط فوقنا زرقاء وصحو. تحت أشعة الشمس يعرق المرء سريعًا أثناء السير في الطريق الصاعدة. السور العتيق الذي يحيط بالميناء لم يتغير قط، من هنا كانت السفن التجارية المحملة بالخشب والأرجوان تنطلق إلى سوريا وقرطاج، إلى صقلية وإسبانيا. قلعة الصليبيين الضخمة، حفريات تبين آثارًا من تسع حضارات على الأقل. بدون الاعتماد على كتب التاريخ لا أستطيع أن أستحضر بقوة تخيلي سوى العصر الوسيط المسيحي الذي ما زالت آثاره ماثلةً للعيان. في المدينة القديمة نزور كنيسة الصليبيين ذات الأعوام الألف التي لم تتغير عمارتها أبدًا، والتي ظلت تُستخدم ككنيسة عبر القرون. بداخلها مغارة الميلاد: خلف المِزود برج مبنى التجارة العالمي من الكارتون، تخترقه طائرة مائلة، وبجانبه كنيسة ومسجد، كلاهما شبه مدمَّر، الأشكال كلها باللون الأحمر، وكأن رذاذ الدم يغطيها.
أما أنا، فإن التضاريس الجغرافية تثير اهتمامي، التكوينات الصخرية، التدرجات الجبلية، الأشجار. إنني أحتاج إلى مصطلح بجانب الصورة، وأفهم غوته جيدًا وهو يأخذ بمطرقته الصغيرة عينات من صخور غابة تورينغن. الانفعال الذي تستثيره الأشياء ذو صلة مباشرة بمادتها؛ المادة والاسم معًا. الجبال هنا من الحجر الجيري، صخور بازلتية بركانية، بعض المناطق غزاها التصحر. على حافة الطريق أرى أشجار السنديان (أوراقها تبدو مثل أوراق أشجار الكستناء). أشجار القيقب والتنوب والسرو والعرعر والصنوبر والدردار.
يخطر على بالي الأدباء الذين عاشوا على الجبل قبل عدة سنوات، ولم يستطيعوا تحمُّل الطبيعة الباهرة، هناك في الأعالي بين الغابة الوسطى وغارميش. الجدار الصخري الرهيب. «كأنها صورة فوتوغرافية هائلة الحجم.» هكذا كانوا يسخرون، «أين الشريط المسجل عليه تغريد الطيور؟» بدلًا من أن يحللوا بدقة ما أثار إعجابهم بهذا الشكل، بدلًا من الاقتراب من الصخور والأشجار واستكشاف أسماء الصخور وعمرها، طبيعتها وتكوينها، استكشاف نباتات المنطقة وحيواناتها، بدلًا من اللمس ثم الوصف. بدلًا من العمل!
•••
نداء استغاثة على «السيلولير». رشيد يقابلنا بسيارته الباجيرو، ثم يرشدنا خلال المئتي متر الأخيرة الموصلة إلى بيته المشيد على المنحدر المطلِّ على الجبال البارزة، والذي يُشرف على طرابلس والبحر. منظر خلاب، إذا غضضنا البصر عن كل تلك الهياكل الخرسانية المنتصبة وسط القفر. بيت رشيد نموذج لبيت رجل أعزب؛ يفتقد تمامًا اللمسة الأنثوية في التفاصيل، في الديكور، النوم والنهوض، ووضع فنجان القهوة، ثم السير على مَهَل للعمل أمام الكمبيوتر. كل هذا لا بد أن يكون ممكنًا للرجل بحركة واحدة لا يعوقها شيء: هكذا تم تأثيث البيت.
التشطيب سيئ، شروخ في الطلاء. شرفة كبيرة داخل المنزل أشد برودةً من الخارج، غرف نوم عديدة بها أسرَّة يمكن طيُّها، وبجانبها طاولات محملة بالكتب.
صورة بالأبيض والأسود ذات حبيبات كبيرة للغاية، على ما يبدو من صحيفة يومية، صورة بالعرض.
رشيد متضايق إلى أقصى حد بسبب تأخرنا (وهو ما لا يُقال أمامي على نحو مباشر، كما أنني لا أريد أن أسمع ذلك حتى لا أفسد النشوة التي أشعر بها). لقد أعد كل شيء بدقة رهيبة: وصولنا المبكر، الرحلة إلى أشجار الأرز، الغداء عند والدته التي كلفها بالطهو: كل شيء راح هباءً! يلقي باللوم على عباس، مع أنني كنت المتسبب في التأخير.
وسط الصورة يتمدد رجل مقتول، عارٍ إلا من سروال داخلي أو مايوه، ملتفت إلى اليسار؛ أي إلى الرائي. حائط الحجرة ذو البابين يشكِّل خطًّا يمتد في الصورة من أعلى اليسار إلى أسفل اليمين. الحائط مطليٌّ بالأبيض، إطار الباب — الخشبي على ما يبدو — ذو لون أغمق. في الحافة العلوية للصورة، المقطوعة، يمكن رؤية هيكلٍ ما، لا يمكن تحديد ما إذا كان من الخشب أو من المعدن، ربما فوتيه أو كرسي، ربما طاولة صغيرة أو سرير. في الجانب الأيمن مِن أعلى الصورة يرى المرء عبر الباب المفتوح الجزء الأسفل من قطعة أثاث بجانب الإطار المصمت، ربما كومودينو أو خزانة ملابس ريفية الطراز.
بسبب الحبيبات لا يستطيع الرائي أن يقطع بالقول فيما إذا كانت السجاجيد (ذات الرسوم) تغطي الأرضية، أم أنها بُقع دماء، أم أن الأرضية حجرية وعليها آثار دماء خلفَّتْها أقدام.
الميت طويل ورشيق، خلف أقدامه وجذعه فوضى من قطع الملابس البيضاء. مقارنة بالرسغ النحيف وبطن الساق الرفيع، تبدو قدماه غليظتين ومتورمتين. إذا حكمنا وَفق الخطوط الرقيقة السوداء، فإن الشَّعر يغطي الساقين من أسفل السروال أو المايوه حتى الكعبين. النصف العلوي من الجسم ملطخ بالدماء. الساعد الأيسر واليد يستقران فوق البطن. فوق اليد مباشرة بقعة كبيرة حالكة السواد. العضد ملطخ أيضًا بالدماء. تحت النصف الأيسر من الوجه تتسع على نحو غير منتظمٍ بقعةٌ من سائل أسود يبدو عكرًا.
تُدحرِج باولا في الشقة لعبةً خشبية على شكل محدلة، تلعب بالحجارة الصغيرة في الحديقة المتدرجة، تقف على شُرفة رشيد، وأنا لا أرى سوى الهوَّة التي ستسقط فيها لو مرت من خلال القضبان أو لو تسلقتها في ثانية تغيب فيها عن رقابتي. الحديقة أيضًا غير مأمونة؛ إذ إنها تنحدر من درجة إلى أخرى، الدرجة الأخيرة ترتفع بنحو عشرين أو ثلاثين مترًا عن الصخور، وبعدها تفتح الهاوية فمها. بسطة الدرج الداخلي غير مأمونة أيضًا، فهناك المكتب. إذا تركتها تنسى نفسها ثانيةً واحدة أثناء اللعب ستسقط؛ لأنني منشغل بالثرثرة عن الفن مع هذا أو ذاك، بدلًا من أن أنتبه لحركات ابنتي. العمود الفقري ينكسر، ونجلس في هذه القرية الجبلية النائية، في إهدن — التي لا علاقة تربطها بعدن — ثانية واحدة من الإهمال تدمر الحياة كلها …
بعد برهة يلاحظ الرائي تحت جثة الرجل، في البقعة الداكنة التي سببتها الدماء على الملابس، جثة طفل متكور في وضع جنيني، وفي الحافة السفلى اليسرى قدمان حافيتان وباطن الساق العاري الذي يخلو من الشعر، ثم تختفي الساق في حافة الصورة داخل قماش أبيض، على ما يبدو، جثة امرأة.
بقعة الدماء العكرة حول وجه الرجل تتَّحد مع تلك المحيطة بشعر فتاة صغيرة شقراء. ثمة شيء أبيض على الأرض بين الرأسين، يبدو مثل فلتر لماكينة القهوة أو فنجان كبير. ولأن الجثث ترقد هناك في وضع لا يوحي بأنها حُركت بعد موتها، فلا بد أن هناك سببًا آخر لآثار الدماء التي تلطخ ما حولها، اللهم إلا إذا كان الجناة أو رجال الشرطة أو الصحفيون قد جرجروا الأجساد فوق الأرضية.
أقود السيارة إلى المنزل، سيارة إسعاف بضوئها الأزرق تأتي في مواجهتي. من يرقد بداخلها؟ ابنتي طبعًا التي تعرضت إلى حادث، مَن غيرها؟ بغيظ مكظوم أقود الكيلومترات الأخيرة وأرى سيارة الشرطة أمام المنزل، الجيران يُبحلقون، الشريط الأحمر والأبيض الذي يحيط بالمنزل ويمنع دخول الناس، آثار الدماء على الأسفلت، الرسم الطبشوري، الطبيب الذي بمجرد أن يراني يهز رأسه، ثم يناولني ورقة؛ شهادة الوفاة … أجلس أمام شاشة التلفزيون وأسمع ابنتي تسعَل وهي نائمة. نوبة السعال تتوقف، ثم أرى نفسي أدخل غرفتها في الصباح التالي، لقد ازرقَّ لون بشرتها، اختنقت في سعالها، وأنا — يا من كان بإمكاني منْعُ حدوث ذلك — لم أنهض؛ لأنني كنت أريد أن أتفرج على التلفزيون بهدوء، لأنني كنت سعيدًا بأنها قد نامت أخيرًا، مع أنني كنت أحدس ما حدث، لو كنت خطوتُ ثلاثَ خطوات لا غير! إنه ذنبي. إذا تهاون المرء ثانية واحدة، إذا لم ينتبه المرء ثانية واحدة، إذا استرخى …
لا يرى المرء من الفتاة الصغيرة الميتة سوى مؤخر الرأس، والجزء العلوي من البيجاما المنقَّطة على ما يبدو، المنقوشة على كل حال. المرفق الأيسر يصنع زاوية توحي بأن الصبية كانت تحتضن بكلتا يديها أثناء نومها حيوانًا قماشيًّا أو دميةً أمام الصدر. بنطلون البيجاما رمادي فاتح، يرى المرء بطن الساق الأيسر العاري، وفي النهاية يكتشف المتأمل أن في المكان الذي خمن فيه بدايةً حزمةً من الملابس أو ربما اللحاف. تتمدد قدما الطفلة اللتان ترتديان زوجًا من الجوارب، مقدمة الجورب وكعبه أغمق لونًا ومن قماش أقوى. قدم الطفلة اليمنى في الجورب لا تبعد سوى سنتيمترات عن القدم العارية للمرأة، أطراف أصابع قدم الصبية تكاد تلامس باطن قدم المرأة. الضوء يسقط على باطن القدم الذي يسطع أكثر من باطن الساق وبقية القدم المستديرة إلى الخارج، كلاهما — ولكن ربما ينبع ذلك من معرفة الرائي — يثيران انطباعًا غير طبيعي بالتيبس.
في مثل تلك اللحظات أود لو أنني أنجبت أطفالًا كثرًا بقدر الإمكان؛ لأنني أقول لنفسي لو كان لديك عشرة وحدث لأحدهم أو لاثنين منهم أو لثلاثة شيء فظيع، لو حدث ما تخشاه؛ التهاب سحائي، اختطاف، حادثة، عندئذٍ سيتبقى لك تسعة أو ثمانية أو سبعة يهبونك بعضَ العزاء. لا أصل إلى السكينة التامة إلا في المساء، الطفلة تنام بسلام في فراشها، الكلب أدى آخر تمشية له، ها قد اجتزنا يومًا آخر، الباب مغلق بالمزلاج …
أتجلد وأتماسك وأعود إلى الواقع: باولا وعباس يلعبان بالمحدلة، بترا تثرثر مع ليزلي، ورشيد يلتقط الصور. هدوء سماوي يسود هنا في الأعالي، أجواء من السلام الراسخ.
أغلق الرجل المقتول عينيه وفمه، الضوء يسقط على أرنبة الأنف، وعلى الأخدود الممتد من جانب الأنف إلى الذقن من ناحية، بينما الأخدود الآخر لا يعدو أن يكون سوى خط ظليل. تعبيرات وجه القتيل تنطق بالسلام وكأنه نائم فحسب. شعره قصير وأسود.
تحت الصورة: اغتيال طوني فرنجية وعائلته في إهدن ١٩٧٨م.
•••
مجموعة أشجار الأرز المُسيَّجة هي كل ما تبقَّى من الغابات التي كانت فيما قبل تغطي الجبل كله. «فيما قبل» تعني هنا: في عصر الملك سليمان الحكيم الذي لم يأمر ببناء معبده بخشب الأرز اللبناني فحسب، بل كلف أيضًا مهندسًا معماريًّا من لبنان.
لا يريد أحد سواي أن يتمشى بين الأرز، حتى لا تغوص الأقدام في الثلوج الكثيفة التي كانت تلمع تحت أشعة الشمس. نكتفي إذن بالمنظر، حتى وإن كنت أشعر بأنني مثل موسى على أعتاب أرض الميعاد.
في تلك الأثناء أفكر في شجرة الأرز «الثلاثية» السحرية للماسوني في بيسلير؛ حيث دفن نفسه وعائلته. على بعد ثلاثين أو أربعين كيلومترًا في محيط منطقة «فورتر» الجبلية، كان يمكن رؤيتها: كاتدرائية مؤمن متنور، مشحونة بالطاقة الروحية. ما زلت أتذكر كيف حاولت بذراعين ممدودتين عن آخرهما وقدَم مفرودة أن أقف بين الجذوع الثلاثة وألمسها معًا في الوقت نفسه حتى أغلق دائرة التيار الروحاني، بينما كنت أحاول أن أتوازن بالقدم الأخرى بين روْث البقر.
استجبت لنداء داخلي واشتريت تمثالًا خشبيًّا منحوتًا للعذراء من أحد أكشاك التذكارات السياحية المقام تحت أضخم أشجار الأرز وأقدمها. عندما عدت به إلى السيارة، نظروا إليَّ جميعًا مبتسمين، عباس وبترا وليزلي ورشيد: مبتسمين، ساخرين.
•••
نجلس على الشرفة الكبيرة في الشمس. عند الوداع تهدينا ماري كيسًا به خمسة عشر كيلوغرامًا من التفاح الأحمر الشذي الذي جمعته من حديقتها. يزرعون التفاح حتى ارتفاع ١٤٠٠ متر. كل تلك الأشجار الصغيرة الشائهة المزروعة على المنحدر هي أشجار تفاح. الثمار التي تنبت هنا في الأعالي تتخاطفها أيدي المشترين في ربوع البلد كله.
•••
رشيد الوطني الفخور يسألنا عما إذا كان هذا الصنف المميز يعجبنا. وعندما هززنا رءوسنا كلنا أثناء المضغ بدون تعليق، قال بآخر ما تبقى من السخط الذي شعر به في الضحى: «أمي كانت ستُعد أطيب من هذه وأشهى!» ولما لم يعترض أحد، غمز إليَّ بطرف عينيه قائلًا: «إنهم يقاطعون الأدب العربي في الخارج؛ ولهذا لن تصبح رواياتي «بستسلر» أبدًا.» ثم ينظر إليَّ متفحصًا ومنتظرًا ردَّ فعلي.
فأسأل كمن يؤدي واجبًا: ومن هو المتسبب في مقاطعة كهذه؟
«وسائل الإعلام العالمية الصهيونية بالطبع» يجيبني وكأن الرد بديهي.
وبهذا يكون قد نجح في استفزازي، وهو يعرف ذلك، وكما ألمح على زاوية فمه التي تهتز اهتزازًا خفيفًا يكاد يكون غير ملحوظ. أُبدي دهشتي من أن إنسانا ذكيًّا يمكن أن يُصَدِّق مثل هذا الهُراء، غير أنني أسأله في إشفاق: ولا كتاب من كتبك تمت ترجمته؟
«بلى، كلها» يجيب عباس بدلًا منه «إلى ثماني لغات.»
يتبسم رشيد ابتسامته التمساحية المتواضعة. الفرصة متاحة لهجوم مضادٍّ: «لماذا يعني لكم الغرب كل شيء، رغم أنكم تعتبرونه مُخترَقًا من الصهيونية؟ لماذا لا تهمكم أي سوق إلا السوق الغربية؟ لماذا لا تهمكم المنطقة العربية بسكانها الثلاثمائة مليون؟»
«ليست هناك سوق عربية.» يجيب رشيد وقد استعاد جدِّيته، وعباس يضيف أن عدد النسخ المطبوعة للسوق المحلية لا تزيد في الأغلب الأعم عن ألف نسخة للأعمال النثرية، أما الشعر فلا يزيد عن خمسمائة. الأمية (حسبما يقولون؛ فإنها تختلف من بلد إلى آخر، وتصل إلى ستين في المئة)، الفقر، الرقابة.
ليزلي تقول: «اللبنانيون لا يقرءون. القراءة ليست عادةً هنا.»
أقول لرشيد إنه ككاتب عربي سيجد قُراءً في العالم، مثله مثل كاتب صيني أو أمريكي جنوبي أو ياباني. السؤال المطروح هو هل سيكون هو ذلك الكاتب الذي سيجعل أدبه المحلي معروفًا ورائجًا في الغرب؟ هذا مجرد حظ. أدب أمريكا الجنوبية لم يصبح مقروءًا إلا مع جارثيا ماركيز، رغم أستورياس ورغم نيرودا ورغم كورتازار.
ثم يضيف: «إذا كانت هناك تحفظات ضد العرب، فلا بد من إزالتها أولًا في حوار سياسي اجتماعي، قبل أن يتم الاعتراف بالأدب العربي.»
أقول: «إذن سيتحول الأدباء ثانيةً إلى ممثلين لبلادهم.»
رشيد: «لكنني لا أريد أن أكون بوقًا سياسيًّا لبلدي، أريد الاعتراف بي كفنان. إنني أنتظر وأطالب بأن يتمتع الأدب العربي بالاحترام اللائق كأيِّ أدبٍ آخر، وأن أُقاس وَفق مقايسي الفردية!»
قبل المغادرة نتأمل غروب الشمس من شرفة رشيد ومن البلكون. رشيد يقول متحمسًا: «أروع منظر في العالم.».
«قولوا لي إنكم لم تروا منظرًا مثل هذا أبدًا، وإن هذا منظر فريد، ألست محقًّا؟ قل لي يا ميشائيل: هل رأيت في حياتك منظرًا كهذا؟»
في رحلة العودة نشعر جميعًا بالتعب، باولا تنام على مقعد الكاديلاك الخلفي. قبل أن نصل إلى بيروت بقليل يتصل رشيد مرةً أخرى على «السيلولير» ويسأل في حدبٍ عما إذا كنا نزلنا الجبل بالسلامة، وما إذا كنا وصلنا إلى شارع البحر. عباس يصرخ في هاتف ليزلي: «سيارتك قبيحة! والمنظر من شرفتك ممل!»
•••
استراحة في شتورة. ندعو نسيمًا — الذي يريد البقاء في السيارة — للحاق بنا. ليسوا معتادين على التصرف مثل السادة. نواصل السفر إلى زحلة حيث يزرعون كروم «كِسارة» حتى أطراف المدينة، بين مرائب السيارات وبيوت الفلاحين. ثم نواصل السفر أكثر من ساعة على الطريق الرئيسية التي تخترق السهل. القرى التي نمر بها تشبه مدن «الوسترن»، وتتكون من صف واحد من المنازل، وخلفه الفراغ. بنايات لم تتمَّ ومرائبُ مزودة بأبواب حديدية متحركة، وبداخلها ورش، وأمامها صناديق فاكهة وإطارات سيارات، نقاط تفتيش لا تنتهي، في الأغلب سوريون (وعلى أكشاك الحراسة صور مهترئة للأسد). بعد عدة أيام أسأل عباسًا: لماذا لا يحاول المثقفون على الأقل أن يطالبوا بانسحاب السوريين؟ عباس هازًّا كتفيه: السوريون يعتبرون البقاع تاريخيًّا منطقةً سورية، وعديد من المثقفين اللبنانيين موالون لسوريا.
صور كثيرة لآية الله على المنازل؛ مساجد حديثة البناء.
الخبرة المضادة لهذه الخبرة أمرُّ بها عندما أتمشَّى في الغابة مثلًا، وأرى فجأةً الهوةَ المضاءة التي تفصل شجرتين، وأعتقد أنها حيوان يسد عليَّ الطريق، أو عندما أنظر من بعيد إلى جذع الشجرة المائل الذي تتدلى منه أوراق، وأظن أنه متجول عملاق يعتمر قلنسوة.
الأشكال التي لم يرها المرء من قبلُ تضع الحواس أمام ألغاز كهذه، ولهذا فإنها كثيرًا ما تلجأ إلى وسائل سابقة التجهيز، إلى قيم مستقرة من قبل وراسخة، وتهمل الشكل المرئي الذي يبدو لها خاويًا فارغًا. أي إن ما تلتقطه حواسُّنا في اللحظة الأولى ليس هو الموجود موضوعيًّا (أو غير الموجود)، بل صورة أو صوت تم التقاطه بسرعة، حواسنا تعتقد عن حق (أي عن خبرة) أن هذه الصور والأصواتَ تستدعي في موقف مشابه الأحاسيسَ نفسها، أو تجعلنا نعيد التعرف على الموقف.
تذكِّرني بعلبكُّ على نحوٍ ضبابي بإحدى مدن «الوسترن» قبل بدء المبارزة بين اثنين من الكاوبوي: شواهد القبور … غريبة للغاية. مبانٍ واطئة تشبه الأكشاك، وعلى اللوحات الإرشادية ولافتات الشوارع والإعلانات المضيئة ليس إلا الحروف العربية. ولكن بين الواجهات صورة مبهرة: في وجه السماء الزرقاء الصحو وقمة جبال لبنان المغطاة بالثلوج، تنتصب عاليًا الأعمدة الستة التي يقوم عليها معبد جوبتر.
أمام مدخل المعبد ينصب بائعو التذكارات (عملات فينيقية حقيقية) والجمَّالون فخًّا للسياح. يخبرنا نسيم بأنه سوف ينتظرنا إلى أن ننتهي من الزيارة، ثم يرافقنا حتى المدخل.
تبهرني عظمةُ المعبد وجلاله، لا سيما بعد أن منحني كتاب بورسينار عن هادريان الشحنة العاطفية المناسبة. أعمدة جوبتر الستة المرتفعة إلى السماء الزرقاء ترمز إلى رهبة الحضارة القديمة وتجذُّرها في الزمن على نحوٍ أكثر إقناعًا من معبد باخوس الذي لم تنَلْ منه السنون، والذي يبدو وكأنه خلفية هوليوودية، وكأنه من الورق المقوَّى، على المرء أن يلمس حجارته حتى يدرك أنه يتعامل بالفعل مع «الحقيقة». باولا الضئيلة كالنملة وسط هذه الكتل الحجرية، باولا أمام أجزاء من الأعمدة التي تسمو فوق رأسها عدة أضعاف، أمام رءوس الأُسود العملاقة التي تقذف المياه، كنقطة على الدَّرَج الضخم في معبد باخوس، باولا بسنواتها الثلاث كمعجزة زئبقية وسط هذه الحديقة السحرية المتحجرة منذ ألفي عام.
كتابنا السياحي الثرثار يقودنا إلى المساحات الشاغرة على أسوار المعبد حيث أزال الإنكليز عام ١٩١٩م اسم القيصر فيلهلم الثاني المنقوش على الحجارة؛ حتى يمحوا من المعبد ذكراه، رغم أنه كان أول أوروبي يتبرع من ماله من أجل ترميمه. لكن المتحف الأثري تحت المعبد ما زال تحت قيادة الجمعية الأثرية الألمانية التي أنشأته.
•••
من المدخل يرى المرء مجموعة ضخمة تنتظر الطعام، خمسة رجال «بودي غاردز» يرتدون نظارات شمس والملابس المعتادة (بدلة زرقاء بصفٍّ واحد وقميص أبيض وكرافتة سوداء)، السماعة في الأذن، يتمشون في الغرفة كأنهم فهود محبوسة، يذرعون الغرفة بطولها، ذهابًا إيابًا، ويحملقون في الداخلين بطريقة لا يمكن أن توصف بأنها مهذبة. في المطعم مائدة على شكل حدوة فرس لسبعين شخصًا. ولم يتبقَّ لنا (ونسيم معنا) سوى الموائد بجانب الحائط.
بارونات مخدرات، أهمس لبترا. تبادل الحديث الخافت وراء نظارات الشمس، النساء المتبرجات الضجرات، التهذب الخنوع تجاه الرؤساء. طبعًا، فزراعة الحشيش لها تاريخ طويل في سهل البقاع. وأتذكر تلك النادرة من زمن الحرب، عندما كانت تهبط كل أسبوع، حسبما يزعمون، مروحية إسرائيلية عسكرية ثم تُشحن عن آخرها بالمخدرات، وترجع مباشرة إلى إسرائيل.
حين خرجنا من بالميرا وركبنا التاكسي، أشرت خلفي وقلت لنسيم: «بارونات مخدرات، هه؟»
لا، يجيب نسيم بأدب، بل مأدبة أُقيمت تكريمًا للسفير الياباني، وفي حضور كبار الساسة اللبنانيين.
•••
•••
في ألمانيا سيخمن المرء قائلًا: حادثة بالدارجة البخارية. ولكن عندنا تُركَّب لمعظم ضحايا الحوادث سيقانٌ اصطناعية. هنا ربما تكون الحرب هي السبب أيضًا. لكن الحرب كسبب تقودنا إلى نقاشات متشعبة. بنبرة أكثر إلحاحًا: «بابا، أين ساق الرجل؟!»
أقول شيئًا عن وقوع حادثة، وإن مثل هذه الأشياء قد تحصل، وإن الحادث لم يَعُق الرجل، وكما رأت بنفسها، عن مواصلة الحياة أو السير.
بصوت أعلى قليلًا: «ولكن أين الساق؟»
أعتقد أنني بدأت أفهم، ليست المشكلة الآن على ما يبدو أن الساق ليست في مكانها الطبيعي، بل إنها عمومًا غير موجودة. لو كان الرجل يحملها على كتفه، لربما كانت أقل فزعًا …
لعجزي أصبح قاسيًا: حادثة، الساق تالفة، مستشفًى، قطع.
أستسلم في نهاية الأمر وأعترف بأن أي شرح أو تفسير لن يفيد، إنها غير موجودة، الساق، وأن صورة الرجل ذي الساق الواحدة ستُمسي واحدةً من الصور التي تتغلغل وتترسخ في ذاكرة باولا، ثم تظل كامنة.
ولكنْ ربَّ ضارة نافعة؛ بينما كانت هي تتابع ببصرها وحيد الساق، يمرق جانبنا تمامًا — دون أن تلاحظ باولا — شاب مبتور الساقين على عربة صغيرة بعجلات، وكأنه كومة من العظام فوق عربة تُصدر صلصلة، في كلتا يديه، السوداوين من القذارة، يمسك بشيء شبيه بالمكواة الحديدية، ويستخدمها — على حد علمي — للدفع والفرملة أيضًا.
بعد مرور يومين أو ثلاثة تسألني بدون مقدمات: «بابا، أين ساق الرجل؟»
•••
بعد القراءة نجلس في بار الفندق ونشرب كأسًا قبل الذهاب إلى النوم. ثم تبدأ مناقشاتٍ أدبيةً طويلة تدور في حلقة مفرغة: ما الأدب اللبناني؟ ما الأدب العربي؟ أهو الأدب المكتوب بالعربية، أم الذي يتناول موضوعات شرقية؟ ما المقياس الذي يحدد أدبًا قوميًّا؟ يقول رشيد: الموضوع. إسكندر: النسيج الأدبي. يعترض عباس قائلًا: اللغة وحدها. أسأل عن أمين معلوف الذي حصل على جائزة غونكور، ألَا يفتخر اللبنانيون به؟ يشير إسكندر بالنفي: إنه يكتب بفرنسية عقيمة تمامًا، فرنسية القرن التاسع عشر التي تعلَّمها في مدرسة مسيحية في بيروت؛ ولهذا لم يضف أدنى إضافة للأدب، أي إنه لم يُسهم في تجديد اللغة؛ لا الفرنسية، ولا العربية بالطبع.
بعد عودتي من لبنان أستخدم الحجة التي سمعتها — وهو أمر أفعله كثيرًا — كأنها قناعة توصلت إليها؛ لأرى ما إذا كانت ستصمد في وجه النقاش. فيقول لي كاتب زميل: اكتساب أرض لغوية بِكْر هو بالطبع هدف مشروع، لكنه ليس أبدًا الهدف الوحيد للأدب الراقي. فمن المشروع أيضًا أن تكتب أدبًا مسلِّيًا على مستوًى رفيع؛ أن تحكي حكايات، أن تنقُل أفكارًا شيقة في لغة وحبكة مناسبتين، أن تؤلف كتبًا مثيرة لقرَّاء مثقفين.
ولكن أيًّا كان الهدف، يبدو أن كلهم يعرفون لماذا ولأي هدف يكتبون. وأنا؟ لماذا أكتب؟
أعتقد أنني أكتب حتى يتجسد شيء أمام عيني.
تبدو هذه الكلمات شبيهة بما قاله يومًا أحد هؤلاء الفلاسفة الذين لم أقرأهم أبدًا. ماذا أعني بذلك؟
أعني أن لغتي (اليوم كشخص بالغ سأقول: الكلمات المنتظمة داخل نصوصي) هي التي تمثلني في العالم، وبها أنتزع اعترافًا بحقي في الوجود. جسدي هو إذن جسد من نصوص.
على قدر ما تعود بي الذاكرة، فإنني شعرت بذلك ابتداءً من عامي الثامن أو التاسع، شعرت بأنني فقدت الصورة المتكاملة التي كونتها عن ذاتي، صورة حياتي الحقيقية، سواء في منزل والديَّ أو خارجه. عندئذٍ مررت بخبرة أنني لا أستطيع تلبية متطلبات الحياة؛ متطلبات الجسد والعقل الذي هو جزء من الجسد. في الوقت نفسه بدأت أستشرف أن اللغة، لغتي، يمكن استخدامها أداةً سلطوية أو أداة احتيالية. اكتشفت أن اللغة تصلح لأن تحوِّل انتباه بقية العالم عن عجزي الجسدي، وأنني بها أفرض إرادتي على العالم، وإذا كان كل ذلك غير ممكن، فأستطيع بها أن أختفي عن الأنظار.
لكنني لم أستخدم اللغة يومًا بديلًا عن الجسد، لم أستعملها عضوًا اصطناعيًّا، لم أفقد قطُّ شعوري بأنني في الحقيقة مدعٍ ومحتالٌ يحاول طيلة حياته التعميةَ عن غياب الأساسي والجوهري داخله. ولأن في استطاعتي أن أحتال باللغة وأختلق حقائقَ ووقائع، أمست تلك الوقائع قانونًا بالنسبة لي، وغدوت أنا عبدًا مطيعًا لها. ولهذا كنت أحتقر أيضًا اللغة بعض الشيء، رغم أنها وسيلتي للبقاء حيًّا وسلاحي الوحيد، وإنني كنت أقف منها دومًا موقف الشكَّاك المرتاب.
ولأن الكتابة بالنسبة لي ليست عملًا اخترته بحرية، بل الإمكانية الوحيدة المتاحة أمامي كي آخذ مكاني في هذا العالم (ولكن على نحوٍ أنا نفسي لست راضيًا عنه كلَّ الرضى؛ لأنني أسرق نفسي من العالم عندما أكتب وألعب)، فينبغي على كل نص أنتهي منه، وعلى كل كتاب أكتبه، أن يُعرَض على الآخرين؛ أملًا في الحصول على مكافأة وعلى اعتراف من الآخرين؛ ليس مكافأةً عن العمل، بل تبرير لوجودي، رغم أنني في الحقيقة أعتبر هذا التبرير لحياتي مُختلسًا، وأعيش في خوف دائم من أن أُضبط متلبسًا، وأن يُفتضح أمرى باعتباري شخصًا يمثل فحسب دورَ الفنان، في عالم مُلِئ بالفنانين المتدربين والمحترفين.
العاقبة غير الجميلة لهذه القناعة هي الاعتقاد بأن كل مَن يهاجم نصوصي أو ينتقدها إنما يريد انتزاع حقي في الوجود. «كتابة سيئة.» أقرأها على النحو التالي: «ليس له الحق في الحياة.» من هنا ينبع كرهي الشخصي للنقاد؛ إنه نوع من غريزة البقاء. وقد تجعلني كراهيتي أنساق وراء تخيلات القتل والاغتيال —التي تبدو لي – وأنا أستعرضها أمام عيني الباطنية؛ حتى أطرحها من رأسي — فعلًا من أفعال المقاومة المشروعة.
ولهذا أيضًا أنجذب للعمل الفني «المستقل»، الذي يسمو كبناء لغوي لذاته، دون أن يبرهن على أي شيء آخر، ودون أن يهدف إلى جعل حياتي أفضل أو أكمل؛ البناء الذي أدَعُ له فضاءً حرًّا، ويدعُني أنا أيضًا في فضاء حر.
•••
«لن تفعل امرأةٌ مثلَ هذه الأشياء»؛ يقول رشيد موضحًا ومعتقدًا أنني أفهم ماذا يقصد بكلمة «امرأة» في هذا السياق. أحكي له أن حبي لبترا بدأ أيضًا أثناء فترة النقاهة: وسط رحلتي فاجأني ضرس العقل بتمرده. بعد العملية سمحت لي بترا بأن أرتاح من الآلام والمخدر في شقتها. وهناك، وأثناء تأرجحي بين الوعي واللاوعي، في حالتي المحمومة المنهكة، ووسط رثائي لذاتي، وقعت في حب الغائبة بعد أن شعرت بالسَّكينة بين جدرانها الأربعة.
«نعم»؛ يقول رشيد، «ولكن: هناك أمراض نبيلة وأمراض حقيرة. آلام الأسنان نبيلة، قد تحبك امرأة وأنت تعاني آلام الأسنان، ولكن الإسهال حقير؛ لن تحبك امرأة إذا كان لديك إسهال. في هذه الحالة لن تساعدك إلا امرأة واحدة: أمك.»
في المستشفى قال له أحد الأطباء: إذا أردت أن تحيا حياة طبيعية بدون شلل أو آلام مزمنة، فعليك بالتوجه إلى مستشفى «سان أنطوان» في باريس، هناك يجرون عملية جديدة من نوعها. وبمعونة زوجته السابقة سافر إلى باريس، حيث أخذوا حزمة من أعصاب الساق (منذ ذلك الحين والساق حساسة تجاه الحرارة) وزرعوها في وجهه وعنقه.
•••
•••
«… الإنسان يشعر هنا بالوحدة بعض الشيء …»
«… نعم، تقريبًا ولا صديقة …»
«… ليس في الوسط الثقافي هنا إلا رجال …»
«… منذ أن مضى …»
«… على الأقل لدفع إيجار البيت ومصاريف المدرسة …»
ماذا يعني ذلك بالنسبة لي؛ أنا المولود في ألمانيا الاتحادية عام ١٩٥٩م؟ هل يعني ذلك أنه — إذا أردت أن أجد ذاتي ولغتي وموضوعي — ليس أمامي مفرٌّ سوى أن أنكبَّ على رواية حياتي أنا؟
«… العقد هنا لمدة خمسة أعوام فقط …»
«… البدء من جديد في الوسَط الأكاديمي الألماني بعد كل هذه السنوات؟ أمر ميئوس منه! …»
هل الأمر كذلك؟ أم أن ما يربط أشخاصًا مثلي هي خبرة الحياة الذاتية، وهي بدورها تحتاج إلى تعبير خاص بها، وإلى شكل خاص، تمامًا كخبرة الحرب التي تركت آثارها على جسد هؤلاء اللبنانيين، والتي تتطلب عبثيَّتُها جمالياتٍ جديدة؟
«… لا تطيق أن أخرج مساءً. لا تصدقني عندما أؤكد لها أنني سأعود …»
«… نعم، هو أيضًا قال لي إنه سيعود سريعًا، لكنه لم يَفِ بوعده …»
وهل أنا الذي سأكتشف مثل هذه الأرض البكر، أم أنني بالأحرى— وانسجامًا مع طبيعتي وتكويني — أخوض مناوشاتٍ نخبويةً تقهقرية؟ وهي مناوشات لا بد وأن تنعكس أيضًا على لغتي المحافظة.
«… أنا أُكنُّ له المعزة كصديق، ولكنه يريد أكثر من ذلك. لا أعتقد أنني أستطيع أن أعطيه ما هو بحاجة إليه …»
فيما تشرح لي بترا هذا التعبير «الأنثوي جدًّا» الذي استخدمته ليزلي عندما كانت تحكي عن ذلك الصديق. بدلًا من أن تقول (وتفكر): «إنني لا أراه جذابًا.» فإنها تقلب الموقف، وتضع الذنب على عاتقها قائلة: «لا أعتقد أنني أستطيع أن أعطيه ما هو بحاجة إليه.»
باولا تشخبط وترسم صورًا صغيرة لكل شخص على المائدة، ثم تدور وتوزعها. بغَيرةٍ أتابع ببصري لأعرف: هل سيضع كلٌّ منهم الصورة في جيبه ويأخذها معه، أم أنه سيتركها على المائدة بلا اكتراث؟ وهو ما سأعتبره إهانة. ببهجة أرى بعد أيام على مكتب رشيد الصورَ التي رسمتها له باولا.
في الليل، قبل الواحدة بقليل، يأتي التاكسي ويأخذنا إلى المطار. بعد المدخل، وفي نهاية الصالة الأولى، لا يُسمح بالمرور إلا للمسافرين، وهكذا تأتي لحظة وداع بترا وباولا بسرعة غير متوقعة. بالسيارة ذاتها — السائق انتظرني حوالي ربع ساعة، ولأن التوقف أمام صالة السفر ممنوع فقد ظل يدور حول المطار — أعود إلى المدينة وإلى الفندق.
•••
شِعره (حصلت على ديوان صغير) أثري، غني بالصور البلاغية، متأثر بمعلمه جبران (الذي ترجمته زوجته إلى الألمانية)، شعر لم يلتفت إلى ما شهدته القصيدة من تطورات خلال السنوات المائة الماضية، مسيحي مؤمن، وطفولي ساذج بامتياز، من ناحية أخرى ذكوري فيما يشيعه، عبر صدقه الملموس، من أمل عنيد ومؤثر في النفس على نحو ما — ثم؟ ماذا يعني ذلك؟ ليس فنانًا؟ فنان سيئ؟ أتأرجح في رأيي ولا أجد مستقرًّا. رغم إيماني الشديد بالكلمة فإنني أعلم تمامًا أن هناك حقائقَ أخرى، حقائق مشروعة خارج الفن — وحياة أخرى أيضًا! أما أن ندَّعيَ أو نفكر عكس ذلك، كما يفعل بعض الزملاء، فليس إلا عجرفةً وفقدانًا للبصيرة، ما ينعكس أيضًا على الإبداع الذاتي.
أتمعن طويلًا في ملامح عساف، الوجه العجوز الذي تركتْ عليه المحن آثارها، الوجه المتعب، الطيب، المفعم بالأمل، المتحمس، المنضبط، الشعر الأبيض الغزير الجميل، والفك القوي، والبشرة الداكنة أسفل العينين: إنها «الرقة الغددية» التي تُشعُّ من عيني يعقوب! هذه العبارة لتوماس مان كنت أجدها دائما نغمةً أساسيةً تتخلل روايته، مثيرة إلى أبعد حد، حتى وإن كنت لم أرَ مثل هذه «الرقة الغددية»، ولا استطعت أن أتخيلها بدقة، أو أن أعرف ما الخصائص المورفولوجية أو السمات التي يمكن أن تتسم بها هذه الكلمة. الآن اتضح الأمر أمام عيني: هذه المساحة التي تبدو للوهلة الأولى وكأن الظلال تعلوها، ثم تبدو وكأنها مرسومة بالكحل، وفيما بعدُ يتضح أن هذا الجزء من البشرة يتغير، ليس فقط لونه، بل بالأحرى تكوين ذلك الجزء وكثافته اللونية، هذا الاسمرار الشبيه بلون اللحم الذي يبقى معرَّضًا فترة طويلة للهواء، هذا التكاثر للخلايا الصبغية إثر التقدم في العمر، هذه الأنسجة التي تبدو مثل صوف ناسل، التي تُذكِّر بورقة بلُّوط جافة ذابلة، هذه الإزاحة الميكروسكوبية التي تحدث في صخور الجبال والوديان العميقة، ترسبات البشرة، الترسبات الجيرية، الجلمودية؛ كل هذا «رقة غددية» كتلك التي تميز البطريرك العاطفي الوديع في رواية «يوسف وإخوته».
بجانب عساف زوجته، بشعرها الطويل المنساب كشعر فتاة، إلا أنه أشيب. هذا المزيج الغريب الذي يوقعك في اضطراب عظيم، مزيج من العمر المُثقل بالخبرة والمُمتحن بالبلايا والبراءة العُذرية. ثمة صور لهما في مؤلفاتهما المشتركة، صور من الزمن الماضي، حين كان هو فتًى شرقيًّا وسيمًا يشبه عمر الشريف في شبابه، شبيهًا بالإله الإغريقي «بان»، ناري الطبع، جموح، شَعره أسود مجعَّد، بطل من ألف ليلة وليلة. وهي تبدو طفلة، زهرة نديَّة، شقراء، شاحبة، ثم يقوم باختطافها — أسطورة «أوروبا فوق الثور» — أو بالأحرى؛ لأنها أبعد ما تكون عن السذاجة: فتاة تجعله يصدِّق أنه اختطفها؛ بينما هي في الحقيقة التي بادرت بفعل كل شيء.
هل سار الأمر على ذلك النحو؟ إلياس كانيتي ينصح في مثل هذه الحالات: الأفضل أن يتوقف كاتب يوميات الرحلة في الموضع الذي يبدأ يُغويه إغواءً مُلحًّا بكتابة عمل جديد.
•••
لرغبتي في التدخين، نذهب إلى البلكونة التي خلَّف عادم السيارات عليها طبقةً من السناج. يشير رشيد إلى سيارة على الجانب الآخر من الشارع، ثم يقول: «قبل عدة سنوات كانت لديَّ سيارة بيجو قديمة وشِبه مُستهلكة، وكنت قد سئمتُها. ذات مرة، حين كنت أهمُّ بمغادرة المنزل لأذهب إلى الجامعة، رأيت على الجانب الآخر سيارة فولكس فاغن، غولف، فأعجبتني على الفور. رحت أدور حولها مارًّا بيدي على سطحها. كان تصميم السيارة بديعًا. ثم استرقْت نظرةً إلى الداخل. وبدأت تراودني فكرة طالما راودتني، لكنها كانت في تلك اللحظة أكثر إلحاحًا: أن أترك وظيفتي في الجامعة، وأبحث عن عمل آخر في القطاع الخاص بمرتب أفضل؛ حتى أستطيع أن أقتني يومًا ما سيارة غولف مثل هذه. استغرقت في الحساب والتفكير، ثم انصرفت بخُطًى متثاقلة. ولم أكد أبتعد خمسين مترًا حتى سمعت انفجارًا هائلًا تولَّد عنه ضغط رمى بي على الأسفلت وكأنه قبضة ضخمة. انفجرت السيارة فور أن فتح رجل بابها حتى يركب. قُتل الرجل بالطبع. إجمالًا لقي اثنا عشر شخصًا مصرعهم على ما أعتقد. كان الرجل ساعِد عرفات الأيمن.»
•••
من لا يحب الكتب لن يفهم أبدًا هذا البحث المضني، ولا إعجابي البالغ به.
بمرور الوقت، وخلال قراءتي لرواياته، يَلفت انتباهي أن معظم الحكايات والنوادر التي يرويها لي رشيد «على الهامش»، وأيضًا آراء واستنتاجات عديدة يصل إليها أثناء الحديث، قد سبق له أنْ كتبها في أعماله، لذا يثير رشيد في بعض الأحيان الانطباع بأنه يستخدم قوالب جاهزة أو كأنه يرفع ألواحًا مكتوبة، أو أنه يجرب نصوصه في الحديث أولًا.
ولكن هنا، في هذا المشهد، في هذه اللحظة القصيرة، أراه على حقيقته: رجل تخطَّى سنوات الشباب، يعيش بمفرده، قد كرَّس نفسه تكريسًا تامًّا لعالم الكتب. رجل على وجهه آثار المحن. واحد من العائلة.
•••
أربعة جنود يجلسون في يوم مشمس في أحد المقاهي، على كراسيَّ حديدية بمساند ومقاعد من البلاستيك.
أُجيل البصر فيما حولي علِّي أجد غرسونًا ألفِت نظره إلينا. نطلب قهوة وعصير برتقال. يحكي لي رشيد عن وجوه الجنود الإسرائيليين ووقفتهم على الدبابات التي كانت تخترق شارع الحمراء. يحكي لي عن الاحتقار الفظيع في نظرتهم التي أرسلوها إلى الجنس الأدنى من البشر — على حد تعبيره — نظرة متعالية متفحصة، لكنها لا ترى وجوهًا. ثم يقول: «لم تكن هذه نظرةَ إنسان إلى إنسان.»
إلى يمين النافذة يقف جندي آخر خلف المائدة مع الجنود الأربعة، الرشاش الآلي معلَّق على الصدر، الوجه يميل إلى أسفل وعليه أمارات الإصغاء، يبدو أنه صبي قُطع وجهُه من الحافة اليمنى للصورة. مباشرة بجوار الصبي ثمة شخص آخر، أيضًا مقطوع من حافة الصورة، شريط ضئيل يظهر مؤخر الرأس المغطى بالشعر الأسود والظهر. الجنود الخمسة يرتدون الزي القتالي. خوذاتهم مربوطة بشريط أغمق قليلًا، يبدو وكأنه شريط قبعة. كلٌّ منهم يرتدي فوق القميص صديريًّا بلا أكمام يبدو كأنه منفوخ. على الصديري أشياء مثبتة أو متأرجحة، جيوب وجراب مسدس وزمزمية مياه.
له نظرية مرعبة فيما يخص إسرائيل: إنها دولة لا يمكن أن تستمر على قيد الحياة إلا بالحرب وفي حالة الحرب. (إن حالة الحرب وحدها هي التي تبرر المعونات السخية التي تحصل عليها إسرائيل من الولايات المتحدة، وصناعة السلاح تحتاج إلى مستهلكين.)
«أتعلم ما هي إسرائيل؟» ثم يجيب قائلًا: «جيش و١٥٠ عائلة.»
مجموعة الجالسين الأربعة تتكون من جنديين خلف مائدة في اتجاه الرائي، لكنهم لا ينظرون إلى العدسة. بين الاثنين جسد الثالث، وهو أقرب الجالسين إلى الكاميرا، وقد أدار رأسه إلى اليمين؛ ولذلك لا يرى المرء إلا جانب وجهه. حسب زاوية عينه اليمني ووقفته، فهو قد التفت لتوه كي يُصغي لشخص يقف خلف الرائي إلى اليمين. الرابع الجالس في أقصى اليمين يظهر أيضًا من الجانب، ولكن من الجانب الأيسر. يقعد على مسند الكرسي، ساعِده الأيسر مسنود على فخذه الأيسر، وبإبهامِ وسبابة اليد اليمنى يُمسك بخارطة ميدانية على المائدة؛ على نحو يسمح له بأن يُزيحها إلى مجال بصره أو بصر جاره. فيما يبدو، كان يتحدث مع الآخر قبل أن يتوجه أحد إليه بالحديث وقبل أن يستدير. تعبيرات وجهه تَشي بأنه ما زال ينتظر جوابًا. له لحية كاملة، قصيرة، حالكة السواد، وعلى الذقن يمر رباط الخوذة. على قدر ما يستطيع المرء أن يحكم استنادًا على الصورة، فإن الجندي ذو ملامح شرقية وفي منتصف العمر.
لأنه إذا عم السلام وفُتحت الحدود، يقول رشيد، إذا أصبحت إسرائيل دولة علمانية ديموقراطية بدون نظام فصل عنصري، فإنها ستختفي من الوجود خلال جيلين في بحر العرب الذين يتكاثرون على نحو أسرع وأكثر؛ بما لا يُقارن مع الإسرائيليين.
جاره — الذي استدار ليكون في مواجهة المقابل غير المرئي — يبدو أصغر كثيرًا، ربما بسبب الشارب الذي نما على شفته العليا. شاب رياضي وسيم مجعَّد الشعر (رغم أن الخوذة تغطيه). ضوء الشمس يسطع على ظهر الكرسي البلاستيكي ومسنده.
بين الجنديين هناك ثالث بلحية كاملة ونظارة شمس، وحول رقبته منظار ضخم. يجلس معوجًّا قليلًا على كرسيِّه؛ لأنه يرتكز بمرفقه الأيمن على المسند، بينما ترتاح يده اليسرى على أعلى الفخذ. يده اليمنى تُمسك بتليفون، النظرة المسددة إلى الرائي تشير إلى أنه يُصغي لما يقوله الطرف الآخر. سلك التليفون اللولبي ينتهي بالضبط عند الشفة العليا للشاب الجالس في المقدمة، هذا يعني أن السلك يمر من خلفه. ولأن هوائيًّا يعلو الكتف الأيسر للجندي الرابع الجالس وراءهم بعض الشيء، فمعنى ذلك أنه ربما يحمل تليفونًا لاسلكيًّا على ظهره، ومنه يتفرع السلك الذي يمسكه زميله.
يروي لي ما حدث له قبل فترة قصيرة، عندما نُشرت مقالة في «لوموند» تضمنت عبارات انتقادية للإسلام منسوبة إليه (على نحو خاطئ)، وخلافًا لتأكيدات الصحفي الذي تحدث معه والذي وصف نفسه بأنه صديق، كان هو المثقف الوحيد الذي ذُكر بالاسم في هذه المقالة. في صباح اليوم التالي جاءته مكالمة طيبة النية من صديقة مسلمة: «احذر، المسلمون أيضًا يقرءون بالفرنسية!»
قال لي صديق فيما بعد. «أن تُنسب مثل هذه العبارات إلى شخص بعينه، دعوة إلى قتله. ذلك المدعو «خبير في شئون الشرق»، ذلك الصحفي كان عليه أن يعلم ذلك، بل ربما كان يعلم، لكنه لم يعبأ بالأمر. لولا مكانة رشيد الراسخة في المجتمع، لو لم يكن من الصعب التخلص منه ببساطة، لو لم يكن الأمر سيثير العديد من المشاكل، لكانوا أباحوا دمه.»
يقول لي رشيد إنه طلب عندئذٍ نفيًا يُنشر في الطبعة العربية من «لوموند»، وهو ما حدث بالفعل، وبذلك انتهت المسألة …
هذا الجندي الرابع، الذي تختفي عيناه خلف نظارة شمس أيضًا، يمسك بيده اليسرى سيجارة يقرِّبها من فمه، ووفقًا للوجنة المجوفة، فإنه كان يسحب نفَسًا لحظة التقاط الصورة. بالعرض على ركبتيه يستقر الرشاش الآلي الذي لا تُرى منه سوى حافته السميكة الشبيهة بصندوق.
تنعكس ظلال إنسان على زجاج فترينة الحلويات في صالة المقهى، الرأس، الكتفان، الجذع؛ ربما يكون المصور نفسه، إذا أخذنا زاوية الظلال في الاعتبار. ثمة خارطة أخرى أسفل الخارطة التي يمسك بها الجندي الملتحي في يمين الصورة. مائدة المقهى مغطاة تمامًا بكلتا الخارطتين.
«إن الإسلام بحاجة إلى ثورة فقهية.» يقول رشيد مرددًا أطروحات نصر حامد أبو زيد. «ثورة تتيح اعتناق الإسلام أو الارتداد عنه بدون إباحة دم المرتد.»
يروي لي عن تنامي التطرف منذ أن تم تقسيم الجامعة الرسمية — كعاقبة من عواقب الحرب — إلى قسم مسيحي وآخر مسلم (في حين ظل هو أحد الأساتذة المسيحيين القلائل الذين ما زالوا يُدرِّسون في القسم المسلم).
ربما يكون الرجل على الحافة اليمنى من الصورة، الذي لا يرى المرء منه سوى الظهر ومؤخر الرأس، هو الغرسون الذي تلقى طلبات الجنود، وقد استدار الآن إلى اليمين ناحية الباب الذي لا يُرى في الصورة والمؤدي إلى صالة المقهى.
تحت الصورة مكتوب: ١٩٨٢، شارع الحمراء، ويمبي موفنبيك. جنود إسرائيليون قبل بدء عملية المقاومة.
«لم تكد تمر دقيقتان على هذه اللقطة.» يقول رشيد، «حتى قفز رجل برشاش آلي وحصد أرواح الجنود الخمسة بدفعة واحدة من الرصاص. كانت هذه بداية مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.»
•••
أن يمر — وهو الملحد العتيد — بخبرات روحية، أن يرى ما يشبه الإشراق الإلهي، هذه الفكرة أعجبته للغاية، لا سيما أنها ألطف كثيرًا من الخوف من الشيخوخة وغرابة الأطوار وكراهية الدنيا، الخوف من أن ينحدر الإنسان عما قريب إلى لا شيء.
•••
إذا صدق الرأي الذي يزعم أن الإنسان في رحلة كهذه يكون أكثر انفتاحًا وشفافيةً وقدرةً على الاستقبال، وأقل في أحكامه المسبقة مما هو في وطنه؛ حيث يكون محصنًا في قلعة العادة والطمأنينة، فلا بد أن الوجه الآخر من الميدالية صحيح أيضًا: إنه من الأسهل زعزعةً يقينُ المرء وإدخال الاضطراب إلى قلبه، وأن الأشياء التي يصدها المرء بدرع الحياة اليومية، تأخذ هنا بُعدًا آخر تمامًا، وتصيب المرءَ على نحو فجائي غير معهود. القراءة هنا عن وفاة بيالا قذفت بي إلى فرنسا وإلى حياتي السابقة هناك. سمعت خرير المياه على السد الصغير بجانب فندق «لافان روج» في غابة «فونتنبلو» التي لا تبعد كثيرًا عن «موريه سور لونغ»، التي رسم إدوار سيسلي كنيستها وسقوفها الحمراء المبللة بماء المطر، والمضاءة بأشعة الشمس الساطعة عليها. سمعت ببغاء الفندق يصيح في غرفة التلفزيون، وعلى الشاشة رأيت حفل تسليم الجوائز في مهرجان «كان» عام ١٩٨٧م. كل شيء، وكل تلك السنوات، ما زالت حاضرةً في ذهني.
كان التصفيق هزيلًا عندما نودي على اسمه ليتسلم أرفع الجوائز التي يمنحها المهرجان، حتى إن هتافات وصفارات الاستهجان كانت لها الغلبة. بمجرد وقوفه على الخشبة، ارتفع منسوب الصوت، لكن العلاقة بين التصفيق والرفض بقيت ثابتة. غلب المعلقَ التأثرُ الشديد، فقال إنه لا يستطيع أن يتذكر شيئًا شبيهًا بذلك. إن عليهم أن يحتفلوا بالنصر، النصر القومي؛ فهي أول سعفة ذهبية يحصل عليها مخرج فرنسي منذ ما يزيد عن عشرين عامًا.
إنني متأكد من أن بيالا كان يَحدِس شيئًا كهذا، كان يستشفُّه، ببساطة لأن هذا هو قدره، حتى لحظة النصر ورد الاعتبار، لحظة الثأر والاعتراف المتأخر الذي حصل عليه بعد طول انتظار، حتى هذه اللحظة لا بد أن يدنِّسوها بالأوساخ، ويشككوا في فوزه، لا بد أن يقللوا من قدْرِه، ويفسدوا عليه الفوز.
لا أعرف كيف كان تعاقُبُ الأشياء بالنسبة لبيالا: الإهانة أم الشعور بالغربة؟ الفخر أم المرارة؟
كان قد تجاوز الأربعين عندما بدأ أخيرًا يُخرج أول أفلامه. ذاعت سمعته السيئة بسبب نوبات الغضب التي كانت تنتابه، وبسبب مزاجه السيئ وطريقة تعامله مع الممثلين والفنيين. نجاحاته كانت دائمًا بينَ بينَ، النقد يتقبل ما يصنعه، على الأقل بنسبة خمسين في المئة، لكن جمهور السينما لم يرحب بأفلامه قط. إنه إنسان لا ينجز شيئًا بسهولة، إنسان تتسلل السهولة والخفة من بين يديه (إلا في صوره التي تنساب في أفضل لحظاتها مثل نهر الغانج في لوحات رينوار)، إنسان يهرب منه الحظ الذي يلاحق الآخرين. لا ينتمي إلى الوسط السينمائي، لا ينتمي إلى شيء؛ لا إلى الموجة الجديدة، ولا إلى سينما الآباء بالطبع، بل ولا حتى إلى ذاته.
غريب ذلك الشيء المُسمى بالحظ: هناك أناس لا تتشوق حساسيتهم إلى شيء مثلما تتشوق إلى الجمال؛ جمال إنجاز شيء موفق ومبهج، ولكن ذلك تحديدًا يبقى بعيدًا عن متناول أيديهم، ولا يسعدون أبدًا بالحصول على ما يريدون. هل طبعهم، هل شخصيتهم هي التي تضع العوائق في طريقهم؟ هل هناك ارتباط بين الشعور بعدم الارتياح داخل الجسد، ونقص اللطف ورقة الشمائل من ناحية، وفقدان الحب والنجاح من ناحية أخرى؟ هل هناك أطفال محظوظون؟ ربما لا يكون نجاحهم أكثر من الآخرين، أو أعمق، ولكنه أكثر إمتاعًا؛ لأنهم وُهِبوا القدرة على الاستمتاع، وعلى النسيان.
إلى أي حد كان يشعر بالمرارة وهو يكره نفسه، وهو يعرف في الوقت ذاته عبقريتَه وفَرادته ورسالته الفنية! لم يَرضَ يومًا عن نفسه، ولم يثق بذاته قط، لكنه كان يعي عظمته، حتى لو لم يكن هناك من يعرف ذلك غيره. من اليمين واليسار يجتازه الأصغر سنًّا، الذين بدءوا بعده، الذين وجدوا الطريق معبَّدة، ولم يجدوا أنفسهم مجبَرين على تمهيد ما مهَّده، الذين انفتحت أمامهم أبوابٌ دون أن يطرُقوها بقوة. ربما تأثروا به، لكنهم لن يعترفوا بذلك؛ لأنه لا يجلب الحظ.
ويأتي الوقت الذي تنقلب فيه المعاناة والخوف المتأصلُ في النفس إلى كبرياء. ربما يكون نهجه هامشيًّا، لكن أحدًا لن يخرجه عنه. قد يكون الآخرون أصغر عمرًا، أكثر جمالًا ونجاحًا وسعادة، إلا أنه بيالا. مثل أرنولد شونبرغ الذي سُئل مرةً في المنفى الأمريكي عما إذا كان هو شونبرغ المشهور المعروف، فأجاب قائلًا: «لم يُرد أحد أن يكون شونبرغ، وكان لا بد على أحد أن يكونه؛ لذا قمت أنا بالمهمة.» بيالا غير المنتمي. بيالا الذي — رغم ذلك — لم يَمُت. بيالا الذي لا تشبه أفلامه سواه. نعم، لقد أهدر حياته ولم يَعُد بإمكانه إنقاذُها. لم تكن هذه بالحياة السعيدة، لكن تبقى الأفلام التي ما زال بإمكانه أن يُخرجها. ما كان جوهر الحياة ذات يوم، أمسى زيتًا يُلين تروس آلة الفن، ثم ضاع هباءً. ما يبقى هي الوحدة والكبرياء والمرارة.
«إذا كنتم لا تحبونني، فلتعرفوا أنني أيضًا لا أحبكم!»
لم تكن مصادفةً أن يخرج عندئذٍ فيلم «فان غوخ». لم يكن هذا اختيارًا عشوائيًّا، إنه سيرة ذاتية؛ لأن ما يجمع الاثنين هو الثورة الشخصية: كلٌّ عثَر على ذاته في الفن عبر الاجتهاد الذهني المعذِّب، حتى يجد التعبير المناسب، مخاطرًا بألا يفهم أحد آخرُ ما يعنيه بصوره. كلٌّ حفريةٌ فريدة في تاريخ فنه. كان كلٌّ منهما مفكرًا أصيلًا، ومنفذًا لأفكاره وجلَّادًا لذاته. آخر الجمل الحوارية في فيلمه تتطابق مع ثلاثة مواقف ثابتة، تسخر عاديتها البشعة والمبتذلة من محاولات الفن السامي. تيو على فراش أخيه: «كيف حالك؟» ثم قطع، وتسلط الكاميرا على فينسنت الذي يستدير ناحية الكاميرا: «أنا جوعان.» قطع، الكاميرا على تيو الذي يصعد الدرج وفي يده فنجان من الحساء، يدخل الغرفة، الحساء في يد، وباليد الأخرى يلمس رأس الجريح الذي انكمش كأنه رأس جنين: «لقد انتهى الأمر.» وبذلك ينتهي الفيلم.
حياة صعبة وموت صعب. هذا الوجود وهذا القدر يؤثِّران فيَّ بقوة، ويلاحقانني أكثر مما تفعل حياة وسيرة الفنانين الذين أحبهم وأقدِّرهم أكثر منه.
•••
•••
عبر أربعمائة صفحة يرسم هيسه شخصية خارقة للمألوف، يوزف كنشت، الذي يشق طريقه حتى يصبح أستاذًا في صنع الكريات الزجاجية، بل ويجرؤ على الخروج من الدائرة الضيقة في كاستالين. القارئ، لا سيما قارئ هيسه، يتساءل بالطبع: ما الهدف العظيم الذي يدفعه إلى ذلك؟ غير أن البطل لا يفعل أي شيء آخر، سوى أن يصبح معلمًا منزليًّا لطفل وحيد! حتى هذا الطفل ليس بالطفل الفقير، كما كان البطل يومًا، كلا، بل طفل أحد الرأسماليين! أي إهدار وتبذير لطاقاته! أليس كذلك! يا له من تفكير غير اقتصادي! وما يكاد البطل يشرع في تربية الطفل حتى يموت، ويفشل (ظاهريًّا) في هذه المهمة التافهة البسيطة. ألم يكن بمقدوره أن يفعل شيئًا آخر أكثر قيمةً ومغزًى، شيئًا خطيرًا مؤثرًا، بكل ما أُعطي له من طاقات وإمكانات، غير أن يهتم بطفل وحيد؟
•••
غير أنهم يظلون جالسين، كلهم، يرتشفون النبيذ، ويصفقون في تهذب.
•••
أتحدث مع عباس عن مستقبل البلدان العربية، وبذا نتحدث أيضًا عن الماضي والحاضر. يقول: «لا دمقرطة بدون حل القضية الفلسطينية. ستبقى الشعوب العربية كلها رهينة أنظمتها، طالما بقيت هذه المشكلة بلا حل.»
بعد هزيمة عام ١٩٤٨م أمام إسرائيل، يقول شارحًا، امتلأ صدر الشعوب العربية جميعًا بمشاعر الكراهية والإهانة، وتولدت رغبة عارمة في الانتقام. كل هذه المشاعر توظِّفها الأنظمة ضمن أيديولوجية الكراهية والحرب، وكل فرد مرغَم على اعتناقها إذا كان يريد أن يرفع الظلم عن المشردين واللاجئين، وهذا ما يعيق أي نقاش حول المشاكل السياسية أو الاجتماعية داخل كل دولة على حِدَة. هذا الموقف مهَّد الأرض الخصبة لنشأة نظم عسكرية مستبدة بدَت الضمانَ الوحيد لخوض حرب ثأرية تنشَب في يومٍ ما، ويخرج منها العرب منتصرين.
«وهكذا فإن المنطقة كلها في حالة جمود منذ خمسين عامًا. تقريبا كما كان الحال في منطقة النفوذ السوفيتي. الكراهية المتنامية تجاه الغرب وأوروبا والولايات المتحدة من ناحية، والتعاطف مع «بن لادنات» هذا العالم، لا تعدو أن تكون في خاتمة المطاف سوى كراهية للذات بسبب عجزها؛ كراهية أن يكون المرء سجين تناقضاته الشخصية التي يَعيها المرء على نحوٍ أكثر ألمًا …»
ثم يحكي عن اللقاء الأدبي في اليمن الذي حضره مع كبار الأدب الألماني. يقول لي إن غراسًا أعطى الشاعرَين الكبيرَين أدونيس ودرويشًا درسًا في الجرأة والشجاعة الأدبية حين تحدث أمام الرئيس اليمني عن كاتب يلاحقه المتدينون، وهو ما لم يكن ليخطرَ على بال الشاعرَين أبدًا، رغم علمهما بالقضية، ورغم نفوذهما الواسع.
«غراس رجل دبلوماسي!» يقول عباس بنبرة تمزج بين الإعجاب والشك، ثم يضيف: «قد يكون دبلوماسيًّا أكثر منه كاتبًا. كم كان ماهرًا لبِقًا في حديثه مع الرئيس الذي كان يهم بتقليده أحدَ الأوسمة: إذا لم تكن موافقًا على ما أقوله (لصالح الأديب الملاحق) فلا بد أن أشعر عندئذٍ أنك لا ترى أنني أستحق فعلًا هذا الوسام. بدلًا من أن يقول: إنني أرفض عندئذٍ قَبول الوسام. كلا، إنه دبلوماسي كبير …»
وفجأةً يصمت، وكأنه يُصغي، يُصغي لصوتٍ ما في داخله، وبحركة هادئة يضع الملف الذي كان يمسكه على أحد المقاعد، ثم يضع يده على صدره، ويحملق في اللاشيء، ويسود السكون.
«عباس، ماذا جرى؟» يرفع اليد صادًّا: ليس الآن.
تمر ثوانٍ أجلس فيها بجانبه، قليلَ الحيلة، متطلعًا إليه.
بعد لحظات يتنفس الصُّعداء ويبتسم لي.
يهوِّن من الأمر كالمعتاد، ويتجنب الحديث عن ذاته. يقول: القلب يخفق بقوة، والنبضات تتسارع، وضغط على الصدر. ليس أمرًا خطيرًا، حالة عصبية فحسب. تحدث أحيانًا. لقد هدَّأ الطبيب من روعه.
•••
رغمًا عني لم أستلطف الأجواء ولا الناس. أو على نحو أدق: أود أخيرًا أن أجد شخصًا غير لطيف وغير ودود في هذا العالم المليء بالناس الودودين. إنهم مثقفون، ولكن في الوقت نفسه راضون عن أنفسهم غايةَ الرضى، فاحشو الثراء، يرتدون البدل الأنيقة والساعات الرولكس، وفي صحبتهم نساء فاخرات، ثرثارات، متبرجات، متجملات. ربما يكون نفوري ليس في محله، إذا فكرت فيما أنجزوه: معارضة سوريا، التقارب بين المسيحيين والمسلمين، فعاليات مشتركة، حتى أثناء فترة الحرب كانوا ينظمون القراءات الشعرية التي كان عباس من ضمن المشاركين فيها.
أهرُب من هذه الأجواء، وأحاول التقاط خيط الحديث مع زوجة يوسف عساف، كي أعرف ما حدث لها وأسمع حكايتها. الحب الذي تُكنُّه لزوجها والذي انصهر وتنقَّى وتبلور في أُتون الحرب، عملهما المشترك منذ عقود، شيخوخة الوجوه الشابة الجميلة بعد مرور الزمن ومعاناة التجارب، رقة الرجل الغددية، حُنوُّه البطريركي، قَسِمات الوجه الذابل، وجه البنت الصغيرة، حكايتهما التي تبدو منتزَعةً من رواية (أفكر في «كازابلانكا» و«في بلد آخر» و«لمن تُقرع الأجراس»)، حكاية تمد جسرًا إلى الأساطير القديمة: فيلمون وباوكيس، أدونيس وعشتار، وربما أيضًا يعقوب وراحيل، أو — إذا كان للأسماء مدلولٌ ما — يوسف وزليخة من ديوان غوته الشرقي الغربي؛ كل هذا يثير فضولي إلى أقصى حد، ولكن — كما ألاحظ — بطريقة مزدوجة: غريزةٌ ما داخلي تتصيد «مادة القص»، ومع كل جملة تقولها لي أُرزولا عساف أطوِّر هذه المادة وأختبرها، ألقي بها أرضًا، ثم أجمع بين أشلائها، مستدعيًا صورًا وأحداثًا، أنماطًا للحكي، منظورًا للسرد، قصصًا، أصواتًا …
عند ذكر كلمة «حرب» للمرة الأولى تتوتر بشرة وجهها قليلًا، كأنني نكأت بأصبعي موطن حزن لديها، كأنني ذكرت موت طفل من عائلتها مثلًا. الندبة الرقيقة التي نمت فوق الجرح تنفتح من جديد.
«على المرء ألا يتحدث عن ذلك.» تقول وهي تغالب دموعها، «وإلا استدعت الذاكرة كلَّ شيء مرةً ثانية.» ثم قالت عندما تحدثتُ عن الإيمان: «أن تكون مسيحيًّا لا يفيد شيئًا في مواجهة الخوف، ربما فيما بعد، حتى يستطيع الإنسان أن يغفر.»
كم يبدو النصف الأول من جملتها محمَّلًا بخيبة الأمل، ولكن ربما لا يرجع ذلك سوى إلى عاطفيتي التي كانت تنتظر شيئًا آخر. ثم كلمة «ربما» التي تأتي فيما بعدُ منفصلةً قليلًا، هذه الكلمة التي تشي بنسبية كل الآمال في مستقبلٍ سلمي.
على كل حال فإنها أضافت: «قبل الحرب كان اللبنانيون يعيشون في غتوهات دينية ومذهبية منعزلة، وكانوا صيدًا سهلًا للدعايات المغرضة. هم اليوم أكثر انفتاحًا، أكثر لبنانيةً.»
يتلاقى هذا الكلام مع ما قاله عباس لي: إن الحرب الأهلية هي التي جعلت مسلمين ويساريين كثيرين يدافعون عن الدولة اللبنانية كقيمة ينبغي حمايتها. لم يحدث ذلك إلا عندما أصبحت الدولة غير موجودة تقريبًا، ناهيك عن أن تكون مستقلة ذات سيادة.
أقفز معها من فترة إلى أخرى، من حكاية إلى ثانية، من هذه الذكرى إلى تلك التي ربما تتعارض مع الأولى. طوال الوقت لا يتوقف رأسي عن الترتيب حتى أجد التسلسل المنطقي للحكاية، وحتى أستطيع أن أفهم، وأن أقرر بنفسي أين هي المواضع المهمة، ما هي النقاط التي ينبغي أن يتم إبرازها حتى أنطلق منها بقفزات كبيرة إلى الأمام أو إلى الوراء؛ كي يتولد التشويق، ويتضح تطورٌ ما، ولكي أتلقَّف مأساة الزمن الماضي، واللازمنية، والحاضر الأبدي للَّحظة المتجلية.
تبدأ حكايتها من مدينة دوسبورغ في فترة ما قبل الحرب وأثنائها. إنها نصف رواية عندما أتخيل وجه الفتاة في تلك المدينة الواقعة على نهر الرور، بين رافعات الميناء، وأفران الحديد والصلب، والحُفر التي تُحدثها القنابل في الأرض. تعرَّف إليها يوسف عساف في الستينيات في مدينة فرايبورغ حيث كانت تدرس، وحيث كان — وهو الحائز على الدكتوراه من ستراسبورغ — يعطي دروسًا لغوية. الطالبة المستشرقة الرقيقة تلتقي مع الرجل الشرقي الشهواني، الحذِر من الصور النمطية، والحذِر من «الكيتش»! لا سيما وأنه درس اللاهوت، وكان — إذا فهمت على نحو صحيح — قسًّا مارونيًّا. لم يكن هذا يمثل مشكلة آنذاك؛ لأن المارونيين، وكما قال لي عساف في إحدى المناسبات، لم يكونوا يشترطون عدم زواج القس: «بالطبع هذا أفضل. عندما يصبح آباءٌ ذوو خبرة قساوسة، فإنهم يستطيعون أن يعطوا النصح والمشورة من نبع تجاربهم الذاتية.»
ولكن منذ أن انضوى المارونيون طواعيةً تحت لواء روما، يحاول الفاتيكان — الذي يعترف رسميًّا بالكنيسة المارونية — أن يغير من هذا الوضع، ويبدو أنه نجح في فرض رأيه: السماح للرجال المتزوجين أن يصبحوا كهنة، ومنع القساوسة العزاب من الزواج. على كل حال، يبدو أن الوضع ظل متأرجحًا فترةً طويلة حتى استطاع الاثنان الزواج، إذ إن أُرزولا عساف قالت لي إنهما انتقلا بعد الزواج بفترة قليلة إلى لبنان، كان ذلك في عام ١٩٧٤م، أي قبل اندلاع الحرب الأهلية بعام.
عام من السعادة والعمل المشترك في سويسرا الشرق، هكذا أتخيل، جبران والشِّعر والشمس والبنايات ذات البواكي. ثم خمسة عشر عامًا من الخوف المميت، كل يوم.
لماذا حرَص يوسف عساف طوال تلك الأعوام على أن يظل معهد غوته مفتوحًا، المركز الوحيد بين المراكز الثقافية الأجنبية، مخاطرًا بحياته حتى بعد أن هرب كلُّ الألمان من لبنان؟ لماذا يجازف بالموت وبأن يترك زوجته وحيدة؟ بدافع من المثالية؟ بدافع من حبه للثقافة؟ مِن الشعور بالواجب الذي تعلَّمه في ألمانيا؟ هنا لا بد أن نقول كلمة عن تلك «الفضائل الثانوية» — مثل فضيلة أن يؤدي المرء واجبه — تلك الفضائل التي أصبحت خارج الموضة في ألمانيا منذ الهجوم على المستشار الأسبق هيلموت شميت. فليحفظنا الله، وليحفظ العالم، من فضائل الألمان الأساسية كالمثالية، خصوصًا بكل تجلياتها المتعصبة! تلك الفضائل الثانوية هي التي جعلت إدارة معسكرات التصفية شيئًا ممكنًا، نعم، ولكنها أيضًا — يا سادتي — هي التي أبقت أبواب معهد غوته مفتوحة طوال أيام الحرب.
«هل سمع الرجل كلمة شكر على ما قام به؟» أسأل زوجة عساف. تنظر إليَّ نظرة عميقة، وتطفو مياه السخرية الرائقة فوق طبقة الاحتقار المترسب، ثم تهز كتفيها ورأسها نافية. (فيما بعد عندما قلت للسيد شتيلة: إذا كان هناك أيُّ معنًى لوسام الاستحقاق الألماني، فلابد أن يكون عساف قد ناله منذ فترة طويلة. فأجابني قائلًا إنه أمر بمنحه ميدالية المعهد تقديرًا لجهوده عندما يُحال إلى التقاعد في العام القادم، إلا أن هذا لن يرفع من قيمة راتب التقاعد المتواضع جدًّا؛ إذ إن «أبناء البلد» العاملين في المعهد لا يتقاضون رواتبهم وَفق الأجور الألمانية بالطبع، بل وفق الأجور المحلية وبالعملة المحلية التي فقدت قيمتها بسبب التضخم.)
«الخوف المميت كل يوم. هل سيعود إلى البيت؟ هل احتجزوه؟ هل حدث له شيء في الطريق؟ في بعض الأحيان كان يظل مُحاصرًا لمدة أسبوعين في بيروت الغربية، دون أي وسيلة اتصال. ألا تعرف ماذا …؟» تقول ولا تكمل الجملة، ويتردد صدى الصمت في الغرفة. شعرها الشائب … عند النظر إليه يمكن قياس عدد الساعات التي قضتها في انتظار وصبر وترقُّب.
أتذكر ما حكاه لي: كيف كان يأتي من جونيه ويضع سيارته في إحدى الحاويات المفتوحة في ميناء بيروت حتى لا تدمرها القنابل، كيف كان يركب السيارة المصفحة ويأمر السائق بعبور الخط الأخضر، خط القتال، كلَّ ذلك حتى يفتح أبواب ذلك المعهد الواقع بجانب المنارة، وكي تستطيع حفنة من اللبنانيين مواصلة تعلُّم لغة غوته.
تحكي لي عن ذلك اليوم حين أوقفوه على الطريق السريعة خلال رحلة العودة إلى جونيه، عند أحد الحواجز ونقاط التفتيش التي لا تنتهي. كيف انتزعه المسلحون من السيارة وأوسعوه ضربًا …
أراه أمامي: كيف يصفعونه حتى إن رأسه يميل يمينًا ويسارًا، ومعه يطير شعره الأسود أو الأشيب، ثم يضربونه بكلتا اليدين على أذنه إلى أن يفقد السمع، ويطئون بأقدامهم بطنه وخصيتيه حتى يركع، ويضربونه على الطحال والكبد، ويكيلون الضربات لهذا المطروح أرضًا بأحذيتهم العسكرية القذرة، كيف يحاول بكفيه أن يحمي وجهه. ثم كيف يبصقون عليه، ويفرغون سيارته، وبالسكين يَبقُرون بطن كل شيء، ويشقون بطانةَ سقف السيارة، وكيف كانوا أثناء ذلك يضحكون ويدخنون، ويبصقون عليه. ثم كيف اكتشف أحدهم خاتم الزواج على إصبعه، وكيف حاول انتزاعه عَنوةً حتى كاد المفصل أن ينخلع، وكيف ظل يدير الخاتم دون أن يتوقف عن السب واللعن حتى اقتنصه ووضعه في جيبه. كيف انساب الدم القاني المتخثر المختلط بالتراب على جبهته وفوديه، من فمه الذي سقطت أسنانه ومن اللسان المعضوض. كيف تركوه يزحف مبتعدًا، وكيف أطلقوا الرصاص حوله، الرصاص الذي فجَّر طبقة الأسفلت وتسبَّب في إنزال سيل من الأحجار الصغيرة المدبَّبة عليه.
ماذا طلبوا منه؟ هل أجبروه على شيء؟ أيَّ شيء جعلوه يقول؟ …
«كان شخصًا آخر عندما عاد إلى البيت.» تقول زوجته. «احتاج إلى وقت طويل، إلى شهور، حتى تغلَّب على ما حدث له.»
«ولكن، لِمَ تحمَّلتُما كل هذا؟» أسألها. لقد كانت تستطيع العودة إلى ألمانيا، وهو معها.
«يوسف يحنُّ سريعًا إلى الوطن. لا يتحمل الحياة في الخارج لفترة طويلة.»
طبعًا كانا يسافران إلى ألمانيا بين الحين والآخر، هو مرةً أو مرتين، هي أكثر، كلما أتيحت لها فرصة السفر، ولكنها كانت دائمًا تعود إليه. ولأن المرء لم يكن يعلم أبدًا ما إذا كان سيُسمح له بدخول البلاد، فقد كانت تفضِّل في معظم الأحيان البقاء معه.
«ذات مرة»، حكت لي، «كان السفر ممنوعًا في كل لبنان، ثم سُمح لنا بالسفر لمدة محدودة من ميناء جونيه المخصص في الأصل لليخوت. تجمَّع أكثر من ألف إنسان هناك في انتظار السفر على أحد الزوارق الصغيرة المكشوفة.»
كانت هي أيضًا تقف في الطابور؛ لأنها وعدت إحدى صديقاتها أن تسافر مع طفليها. كانت الأم قد استطاعت الخروج من المكان المحاصر، ولم تستطع العودة لاصطحاب الطفلين.
أبحروا ليلًا، لمدة اثنتي عشرةَ ساعةً وهم واقفون في زورق يشق طريقه إلى قبرص. اثنتا عشرة ساعة في الظلام، وسط أناس متزاحمين متلاصقين، كلٌّ يمنع غيره من السقوط أو التهاوي على أرضية الزورق المكدس. الطفلان يتقيآن. الذعر ينتشر. القبطان السكران في كابينة القيادة يزأر بلسان ثقيل. ثم الوصول في غَبَش الفجر إلى الشواطئ القبرصية.
هذه الصور تمر برأسي صورًا سينمائية أكثر منها أدبية.
الألم والرعب والصدمة تصيب الإنسان — كما هو معروف — بالخرس. لغة الكلام تتعطل فترةً أمام ما يُوصف بحق بأنه «لا يُقال»، ثم تستأنف العمل بعد بُرهة. وعندما يمر وقت طويل ويجد المرء نفسه مرغمًا على أن يعبِّر عن «ما لا يُقال» — الذي لا يقابله وقت حدوثه إلا بأصوات حيوانية، بصرخة، بعويل أو تأوُّه — عندما يعطي المرء «ما لا يُقال» بدايةً ونهايةً، لا ينتج عن ذلك سوى نادرة أو حدوتة، فهي أكثر الوسائل لطفًا وإنسانية؛ لأنها أكثرها سهولة …
الحكاية التالية التي تحكيها لي السيدة عساف تبدو أيضًا صالحة لهوليوود: ذات مرة أُقيم خلال الحرب حفل لموسيقى البيانو في جونيه. وفجأة: ضجيج، اهتزازات، زلزلة. هجوم بالقنابل على الميناء. الحاضرون كلهم هربوا إلى القبو، وجلسوا هناك منكمشين طيلة أربع ساعات. وعندما بدا أن كل شيء قد انتهى، صعِد الشجعان إلى الأعلى، وتبعهم الآخرون شيئًا فشيئًا. كانت عازفة البيانو في مقدمة الصاعدين من ظلمة القبو. نفضت ثوبها، وجلست إلى البيانو، ثم استأنفت العزف في الموضع الذي توقفت عنده تمامًا.
أود أن أمارس علم آثار البشرة في هذا البلد المليء بالحفريات، في هذا البلد ذي الطبقات المتراكمة من التاريخ. أريد أن أستكشف كيف نشأت التجاعيد، وأن أتتبع بكل دقة الخطوط على الوجوه المتغضنة. من أين جاءت الثنايا الرقيقة على جانبَي العينين؟ وماذا أحنى ظهر الرجل القوي وأثقل كاهله؟ وما الذي يجعل عينيه فوق الغدتين الرقيقتين تبدوان في بعض اللحظات منهكتَين إلى هذا الحد؟
الآن تحكي لي كيف حاولت أن تعود إلى لبنان بمعاركه الدائرة، بعد أن خرجت منه وقضت فترة في ألمانيا. في الطائرة كانت تُصغي إلى الراديو مثل الجميع؛ الأخبار، الموال القديم المعروف: معارك عنيفة حول ميناء بيروت الجوي. الطائرة تغير مسارها وتبحث عن مطار بديل، ربما مطار القاهرة. هناك يبدأ الانتظار. صالة الترانزيت، تمر ساعات، يوم وليلة، يوم آخر. ثم النبأ الذي يفيد أن طائرةً ستأتي في رحلة دائرية فوق المنطقة وتلتقط المسافرين القلائل المنتظرين في مختلِف المطارات، الذين يريدون السفر إلى بيروت رغم كل المخاطر والظروف.
«وأنا، كان لازم أسافر! يوسف كان ينتظرني في المطار …»
حاولت أن أحسُب عدد الأيام التي قضاها هناك، منتظرًا، متحصنًا في مكانٍ ما؛ وطلقات المدافع الرشاشة تنهال على أرض المطار.
كانت أبشع رحلة جوية قامت بها في حياتها، تقول أُرزولا. «حفنة من الأشخاص يجلسون في الطائرة الكبيرة. الخوف والرعب يسيطران على الجميع. كلهم يستمعون بلا انقطاع إلى الأخبار من الراديو الصغير الموضوع على الأذن. أما المضيفات فكن قد فقدن أعصابهن تمامًا حتى إن كل شيء كان يسقط من أيديهن المرتعشة. تفجَّر الضجيج والضوضاء في الطائرة وكأنها قد أضحت هدفًا للنيران.»
في وقتٍ ما أصاب التعب والإنهاك كلينا؛ هي من الحكي واستدعاء كل هذه الذكريات، وأنا من الإصغاء على مستويات عدة. حديث كهذا لا يعرف خطًّا تصاعديًّا أو إخراجًا مسرحيًّا، ولهذا ليس له نهاية. إنه ينضَب في لحظةٍ ما … في لحظةٍ ما صمت كلانا …
•••
•••
يقدر عباس رئيس التحرير تقديرًا عاليًا، وهو رجل يغطي رأسه شَعر مجعَّد بدأ يشتعل شيبًا. من الواضح أنه يحب الحياة، ويحب أن يدع غيره يحيا. يلتفت إليَّ شارحًا: «أولادي يقولون لي: إننا ننتظر حتى تظهر كتبك مترجمةً إلى الإنكليزية أو الفرنسية قبل أن نقرأها.» لا رغبة لديهم في القراءة باللغة الأم المملة.
على مكتب أصغر المحررين نسخة بالأبيض والأسود للصورة الرسمية للمنتخب القومي الألماني لكرة القدم، وعليها كُتب بخط اليد: «ألمانيا فوق الجميع.»
أردد الشكوى المعتادة لأن الألمان نادرًا ما يلعبون لعبًا جميلًا. غير أنه يقول مدافعًا عن الفضائل الألمانية:
لدهشتي العظمى أسمع أن الفريق القومي له مشجعون كثيرون هنا (تقريبًا مثل مشجعي فريق البرازيل)، وأن عددًا كبيرًا من الناس قد شاهد المباراة النهائية في بطولة كأس العالم.
يأخذنا الحديث بعد كرة القدم إلى حرب العراق الوشيكة:
– نأمُل أن يأتي الأمريكان، وأن يزيحوا كل شيء في طريقهم؛ صدام وسوريا وإيران. نعم، سوريا أيضًا. السوريون هنا في لبنان يشبهون الروس في تشيكوسلوفاكيا عام ١٩٦٨م: «جئنا لمصلحة الشعب كله!» ولكن هل سأل أحد الشعب؟ بعد الحرب سنرى. إذا فعل الأمريكان ما لا يعجبنا، فربما نكافح نحن لإخراجهم. ولكن فليأتوا أولًا:
لقد تأثروا أيضًا بشعر عباس: «إنه ليس صنمًا ينبغي علينا أن نتعبده مثل أدونيس. هو بالأحرى نهر يغوص المرء فيه ويَسبَح دون أن يغرق.» من الغريب في هذه اللحظة أن ألقي نظرة تجاه عباس الذي كان يمزح مع أحد المحررين من أصدقائه القدامى: حاضر، وفي الوقت نفسه أضحى تاريخًا؛ رفيق وأسطورة في آنٍ معًا، مرجع. «إننا متأثرون أيضًا بتشارلز بوكوفسكي ورينيه شار.»
في انتظار عباس أُثرثر مع رئيس القسم عن تأخر عباس الأسطوري عن المواعيد، والمفهوم المطاطي للزمن لديه («كما يقول أهل اليمن: سنلتقي قبل الأذان، أو بعد الأذان؛ هذا هو الإطار الزمني الدقيق لتحديد المواعيد هناك.»)، تشتَّت ذهنه الذي يُذكِّر بالعلماء (المعطف الذي أخذ غيره في برلين، والنظارة التي بدَّلها مع نظارة ﻫ.) المحرر الشاب يبتسم قائلًا:
•••
يحب الشباب من الجنسين هنا التجمع على الصخور الضيقة المنحدرة ناحية البحر، والتي ترتفع ٢٥ مترًا، يفعلون ذلك على نحو مستفز للموت (وهو ما يتلاءم — هكذا أرى — مع خبرة الحرب وما سببتها من صدمات نفسية). عندما يتصادم الشباب ويدفع بعضهم بعضًا، أشعر بالدوار (لا أستطيع في وجود آخرين أن أخطو أكثر من أربع خطوات في اتجاه الهاوية، كما لا أكفُّ عن التطلع حولي باحثًا عما أتشبث به، لو خطر على بال أحد أن يُمسك بي ويرميني إلى أسفل).
على المنحدَر، وأنا أصعده لأعود إلى الكورنيش، أكتشف قططًا صغيرة. آمُل ألا يعثر عليها الصبي رامي الحجارة، بالغريزة أعتقد أنه لن يتورع عن تعذيبها وقتلها.
أجلس — أنا المستمتع بتمشية يوم الأحد — في شرفة «بيتي كافيه»، فوق الصخرة على الكورنيش، مقابل مطعم «غروت أو بيجون». بجانب المائدة المجاورة تجلس لبنانية في منتصف العقد الرابع، حواجبها مرسومة بعناية كالمعتاد، ترتدي فستانًا بشراشيب، وهو الموضة الشائعة حاليًّا، لذا يراه المرء في كافة البوتيكات، وتدخِّن الأركيلة. تضع على المائدة (ككل شخص يجلس في أي مكان هنا) الخليوي الذي لا يخيب أملها ويشرع في الرنين. إذا خلطنا نغمات الهواتف النقالة هنا لحصلنا على الموسيقى التصويرية لفيلم هذه المدينة.
•••
ثم يحضر عباس ورشيد، وترتفع قهقهة عباس قائلًا إنه نقل إليَّ العدوى:
أي انحدار لألماني مثلي منضبط وملتزم ويُعتمد عليه!
تشغل شقة ليزلي الطابق الثامن بأكمله من بناية عالية حديثة. في المدخل وفي المصعد تفوح رائحة الطلاء المشبَع بالرطوبة. تشكو ليزلي من التشطيب البائس، ومن الطبقة العازلة التي ليس لها وجود تقريبًا في هذه البناية التي شُيدت على عجل. أما الأثاث والمفروشات فهي جميلة وأنثوية، أغطية ووسائد، ألوان دافئة، صور ولوحات من القماش وزينة على الحائط، تماثيل وأشكال رخيصة للزينة، علامات حياة. أي تناقض مع شقة رشيد!
في غرفة الابنة شوشي ألاحظ أنني تقدمت في السن. الجدران — ككل جدران غرف المراهقين في كل العصور — مغطاة بالصور الكبيرة لنجوم البوب. تقول ليزلي بلهجة انتقادية إن الحدود تتلاشى بين مغنيات البوب وممثلات البورنو. وبالفعل أشعر بالصدمة. كلهن يجلس بسيقان مفرشحة — النهود السيليكون نافرة، البنطلون هابط إلى حدِّ أن المرء لا يحدِس مكان العورة فحسب، بل يراها — أو يركعن على أربع (بأرداف بارزة، اللسان في زاوية الفم، وعلى الشفاه الطلب الصامت: «انكحني.») رغم أن هذا التفسير ربما يكون خاطئًا للمشهد كله؛ ما يُبرهن على أنني لم أعُد أعرف كيف أفهم شفرة التواصل مع العصر الراهن.
خليط لغوي بابلي عجيب: ليزلي تتفاهم مع طفليها بالإنكليزية والعربية والألمانية، متنقلةً بين لغة وأخرى، وبين الحين والآخر، تتحدث معنا بلغة فرنسية ذات لكنةٍ إيطالية ساحرة، ومعي فقط بالألمانية، فإذا توجهت بالكلام إلى عباس ورشيد فبالعربية.
•••
عن الحرب: «عندما أتذكرها، أبدأ على الفور في التهتهة، وينتابني شعورُ مَن يرى فيلمًا لا يتناسب فيه الصوت مع الصورة.»
ثم تقول جملة تثير تأملاتي حول جيل الآباء والأجداد في ألمانيا: «بعد خبرات كهذه يشعر المرء تلقائيًّا بفقدان في الذاكرة. المرء ينسى ببساطةٍ كلَّ شيء. عندما تنبهنا إلى ذلك، أجبرنا أنفسنا على كتابة كل شيء على الفور.»
ما يبقى، ما يمكن قوله وسرده للآخرين الذين لم يعايشوا تلك الفترة، هي الحكايات والنوادر.
«طوال إحدى مراحل الحرب.» تقول السيدة قصير، «كانت المياه مقطوعة عن بيروت. طرابلس، مسقط رأس زوجي، كانت مدينة معزولة، ولكن بها مياه. كان الطيران هو الإمكانية الوحيدة للخروج من بيروت المتعاركة. لم تكد الطائرة تحلق فوق بيروت، حتى كانت تهبط بعد هذه المسافة القصيرة. وهكذا كنت أصعد إلى الطائرة في بيروت مرتين في الأسبوع بملابسي المتسخة، وأقوم بغسلها في طرابلس؛ كي أعود بطائرة المساء.»
وجدنا في انتظارنا مرشدًا سياحيًّا. مرة أخرى أنساق وراء المظاهر وأحكامي المسبَّقة: رجل قصير ممتلئ، يصعب تحديد عمره بدقة، على رأسه بيريه عريض، ذو شارب أشيب قصير، ويرتدي سترة جلدية حال لونها، وبنطلونًا من القطيفة. يبدو مثل سائق تاكسي في إحدى المسلسلات التلفزيونية من الستينيات (فولفغانغ غرونر أو فيلي رايشرت)، لذا اعتقدت أنهم أرسلوه إلينا كي يحميَنا من المضايقات فحسب، وأنه سيرضى إذا منحه المرء مقابل أتعابه حفنةً من الليرات، كما يفعل المستعمِرون الطيبون.
ثم يتضح أن الرجل متخصص في الجيولوجيا والحفريات، قد تخرَّج في جامعة شتوتغارت التقنية (حيث عاش عشرة أعوام)، إلى ذلك فهو مترجم مُحلف («معي شهادة من غرفة التجارة في دوسلدورف!») ويدير مدرسة خاصة للغات في ضواحي طرابلس.
نغوص بكل حواسنا في المدينة المملوكية العتيقة التي لم تكد معالمُها تتغير طوال ثمانية قرون. داخل حدودها تمتد السوق الحالية. السيد قصير — الذي انضم إلينا — يخوض معه على الفور نقاشًا حاميًا حول تاريخ مدينتهما وكأنهما مؤرخان.
بعد أمتار قليلة أطلب في سرِّي من مرشدنا أن يصفح عني لما ظننته. يشير إلى درج بين بنايتين يؤدي إلى السوق، ويقول بألمانية طليقة، تشوبها لَكنةٌ سوابية خفيفة: «ثمة أوجه شبه عديدةٌ بين طرابلس وشتوتغارت؛ هذا الدرج على سبيل المثال!»
عندما وصلنا إلى فوق، نجد أنفسنا أمام قلعة سان جيل؛ حصن الصليبيين الذين كانوا يسيطرون على طرابلس فترة طويلة. عبر فتحات السور نُلقي نظرة طائر على المدينة العتيقة الضئيلة ذات البنايات المنخفضة، المحاصرة بالأبراج السكنية والحواجز والمتاريس. من وراء الأبخرة والضباب تتراءى لنا صحراء من المنازل، يتداخل لونها الرمادي في الأفق مع لون البحر الرمادي. تدير المدينة ظهرها للبحر غير مكترثة به.
في اللحظة التي تسلقتُ فيها السور ولم يعُد فوقي سوى السماء، تصاعدت من كل المساجد أصوات المؤذنين. شعرت بالدوار وكدت أسقط مغشيًّا عليَّ من سيل النداءات الحلقية الممدودة التي انهالت فوق رأسي من كل اتجاه، وكأنني أقف على صخرة فوق البحر وسط عشرات من طيور النورس الصيَّاحة. إنهم لا يقلُّون بالتأكيد عن عشرة مؤذنين أو خمسة عشر مؤذنًا، أو ربما يتصاعد الصوت من شرائط مسجلة. الأصوات تلتف على بعضها البعض وتتشابك وتتداخل مثل عدد لا يُحصى من الشرائط الملونة التي تتطاير من المآذن القريبة والبعيدة، الكبيرة والصغيرة.
هذا هو المرادف الإسلامي لما ورد في مستهل رواية «المُختار» لتوماس مان: «رنين أجراس، موجة من رنين الأجراس تَسبح فوق المدينة» … يشعر الإنسان على الفور أن شيئًا مهمًّا وساميًا يحدث في تلك اللحظة.
يقف السيد قصير في وضع خطير متهور على سور ضئيل لا يزيد عَرضُه عن عشرين سنتيمترًا، ويرتفع عشرة أمتار فوق الهاوية؛ كي يتمكن من رؤية النهر المنساب في الأسفل بشكل أفضل؛ مثلما يفعل الشباب على حافة صخرة الروشة! وكأنه يريد تحدي الموت، أو معابثة لحيته كما يعابث المرء صديقًا قديمًا. يبدو أن مثل هؤلاء الأشخاص قد فُقدوا خلال الحرب الشعور بالخوف أو بالاحتياج إلى الأمان، وكأنهم فقدوا غريزة البقاء. إن شاء الله … لا فرق هنا بين مسلم ومسيحي، أو من كان يومًا مسيحيًّا. أجد نفسي أفكر رغمًا عني في جملة زوجته: «إنه مُخاطر ومتهور للغاية …»
جمال البضائع في السوق.
ماذا يستثير داخلي شهوة الشراء وأنا أتجول في هذه الحارات العتيقة التي مرت عليها ثمانية قرون؟ الحارات الضيقة المُعتمة، المُغطى بعضها بالخيام، والتي ما زالت تضم كنائس بناها الصليبيون، تطالع السائر بدعائمها الرومانية الطراز، وسورها المنخفض، وأعمدتها الكورنثية السامقة، وتحت قبابها العالية يتردد صدى رفرفة أجنحة الحمام؟ ربما يكمن السبب في غياب الأغلفة. هذا هو ما يحرر الأشياء ويجعلها تسترد ذاتها. إن السوق الشرقية هي النموذج المقابل للحضارة السائدة لدينا، حضارة التغليف التي وصلت إلى ذروة التقدم. علينا أن نعيد التفكير في هذه الحضارة إزاء جاذبية هذه الأسواق وإغواءاتها. هذه العطور والروائح المتصاعدة، المتداخلة، الممتزجة، المتنافرة، التي تحافظ على حيوية البضاعة؛ سواءٌ كانت تفاحًا أو علبًا من الخشب. هذه الروائح تتصاعد إلى الأنف وتشي بأصل البضاعة ومكان تصنيعها، ومن الأنف يتصاعد العبق إلى الرأس المنتشي الذي يرد على ذلك بدفقة من الصور والأشواق والشهوات.
إنها متعة حسية؛ أن يُسمح لك باللمس؛ سواء كنت تلمس سطح صابونة من زيت الزيتون ذي الملاسة الكاملة المتكورة الباردة والرقيقة في الوقت نفسه، وسط البخار المتصاعد لدى إعدادها، حيث تُعرض الكريات الملونة كأنها ثمار دُراق، أو لفة القماش الدمشقي المخملي الزاهي والبهي الألوان، الذي يُذكِّر لونه الأزرق الملكي ذو الخيوط الذهبية بالصور التي التقطها رواد الفضاء للأرض وهم في طريقهم إلى القمر . هذه المتعة توقظ في راحة اليد ذكريات لملامسات أخرى ومداعبات.
نعم، إنها متعة إيروتيكية. أن تدع الأقمشة تنزلق فوق ذراعك، أن تحس بملمس كريات الصابون داخل كفك، أن تستنشق عبق الكمون، كل هذا يجعل الجسم يفرز الأندروفين.
ولكن، أين تشتري؟
هذا السؤال طرحه أيضًا إلياس كانيتي أثناء وصفه الفريد لأسواق مراكش. ماذا يجعل الإنسان ينحاز إلى هذا البائع أو ذاك أثناء تجواله في الأزقة التي تعرض المنتجات نفسها؟ لا بد أنها الوجوه؛ فالأقمشة والأثاث والتوابل والثمار تشع كلها السحر ذاته. تتريث عين المشتري على وجه الرجل الذي يتماهى مع بضاعته، وتحاول أن تستشف جودة البضاعة من ملامح البائع الجسدية وإيماءاته، من كلامه وإشاراته.
عندما غادرنا السوق كنت منهكًا وكأنني قد انتهيت لتوي من ممارسة الحب.
بعد القراءة التي أجاب فيها عباس على سؤال أحد المستمعين بقوله: «ما ثمرة هذا اللقاء؟ صداقة!» دُعينا لنحل ضيوفًا على زوجين مثقفين برجوازيَّين من «أصدقاء الفن»، وكلاهما أستاذ في الأدب. صالون على طراز لويس السادس عشر، ثُريات، خزانات من خشب الكرز، بُسُط فارسية. كالمعتاد هناك خادمة فلبينة صامتة تدور في المكان، وتلتقط من هنا أو هناك شيئًا في غير مكانه، أو تعدِّل من وضع شيء.
•••
فيما بعدُ قلت لنفسي: قد يفهم الديمقراطيون الأوروبيون كراهيتي لهذا النوع من التفلسف الذي يحتقر «الحضارة» (ولم يكن من قبيل المصادفة البحتة أن ينظر ذلك المتفلسف إلى هتلر باعتباره «المسيا» أو المخلص)، لكن المثقفين العرب لن يفهموني؛ لأنهم يمارسون يوميًّا نوعًا من التفكير الذي لا يتساءل عن عواقبه الفعلية، إنهم لا يفحصون كيف تبدو نظرية من النظريات عند ممارستها وتطبيقها.
•••
كيف — يسأل رشيد متربصًا بي — يعارض كل الأفراد الحرب، ومع ذلك فهي تسود في كل مكان؟!
أقول له إن الحرب كوسيلة وإمكانية قد أضحت في ألمانيا خلال ثلاثة أجيال شيئًا محرمًا لا يمكن تصوره. لا يمكن أن يتحمل أحد أن يرفع ألماني سلاحه خلال أحد الصراعات، أو — وهذا هو الأسوأ — أن يُصاب خلال الحرب. ثم أضيف أن هذا يوضح أن الأشياء يمكن أن تتغير تغيرًا جذريًّا خلال نصف قرن، حتى في بلد كان يصِمُه الجميع بأنه بلد عسكري.
عباس أيضًا لا يستطيع تفهم استيائنا من الحرب على العراق.
«إن خوض الحرب أمر يدخل البهجة إلى القلب، الناس كانوا سعداء!»
عينا رشيد تبرقان حين يلاحظ أن كلامه، الذي يبدو كأنه طالع من القلب، يصيبني بالصدمة. لكنه يعترف أن سعادته آنذاك لم تدُم طويلًا. التحمس الشبابي المثالي المغامر الذي يذكِّره بالأيام الأولى للحرب الأهلية اللبنانية، يوقظ في نفسي التفكير في مقالات قرأتها عن الحرب الأهلية الإسبانية (من الجانب الجمهوري بالطبع)، وأساطير تحرير نيكاراغوا على يد الساندينو، والتي جذبتني بشدة وخلقت فيَّ حنينًا مشابهًا، حتى إن تذكرة الطيران إلى السلفادور كانت في جيبي عندما سمعت خبر سقوط سوموزا.
رشيد يفاجئني على الدوام. اللبناني الوحيد الذي يحترم قواعد المرور. أعتقد حينًا أنه يفعل ذلك استعراضًا لانضباطه، وأحيانًا حمايةً لسيارته «الرائعة» من الخبطات. اللبناني الوحيد الذي يحافظ على المواعيد، ملتزم، ويُعتمد عليه إلى درجة أن ذلك يغدو اتهامًا دائمًا للآخرين. رشيد يتلاعب بكلِّ ذلك، ولا يتضح أبدًا؛ أي الأشياء يفعلها جادًّا، أي عن قناعة ومبدأ. هذا ما يجعله يبدو لكثيرين إنسانًا غامضًا يثير الخوف، لأنه مُربك. غير أنني أعتقد أنه هو نفسه لا يعرف. إن صدمة الحرب تكمن في عمق جسده، في الندبة على العنق، في البشرة الملساء المزروعة، في حساسية الساق للتقلبات الجوية بعد أن نُقلت منها الأعصاب. ولذلك لم يعد يرى الواقع إلا على شكل رقعة شطرنج، أما حياته ووجوده فهما رهان في لعبة عبثية لا يعرف أحد قواعدها. الارتجال هو سيد هذه اللعبة التي تُقلب قواعدها رأسًا على عقب مع كل حركة جديدة. والطريقة الوحيدة للتفاهم معه هي أن يرتجل المرء أيضًا، فإذا قال «شمين» فعلى المرء أن يجاوبه «يمال.» فقط في مثل هذه اللحظات، عندما يتلعثم كما يتلعثم محدِّثُه، تظهر الابتسامة الرقيقة على محيَّاه، الابتسامة العميقة التي تنم عن التفاهم، وعندئذٍ فقط يصبح تبادل الأفكار ممكنًا.
السمات «اليهودية» فيه: رغم امتعاضه من إسرائيل، فإن الشخص الذي فكرت فيه على الفور عندما تحدث معي رشيد لأول مرة، وعندما لاحظت البارانويا المصاب بها فيما يتعلق بالمؤامرة الصهيونية للسيطرة على العالم، كان وودي ألن. لماذا؟ طريقته المرتبكة، ابتسامته الماكرة، سخريته من الذات المتربصة بالآخرين، صراحته المفاجئة في أشياء معرية للنفس، توهم المرض الذي يستفيض في شرحه، بابتسام ثم بمرارة، وتعليقاته الغامزة المهوِّنة من الأمور، التي تجعل المرء يخجل من نفسه حين يقدم ذاته باعتباره وحدة متماسكة واضحة المعالم. ولكن إذا أقر الإنسان بتمزقه، فإن رشيدًا ينخزه برأيه كصقر ينهش في اللحم، غير أن المرء لا يمكن أن يأخذ رأيه مأخذ الجد، رغم وجهه الجاد جديةً متناهية: إنه إنسان المدينة العُصابي. البيروتي العُصابي.
•••
لم تسنح فرصة للحديث معه. نظر في عيني عندما صافحني وكأنه يتطلع إلى جاسوس، أم أنني أتوهم فحسب؟
عندئذٍ وجدت نفسي أفكر في لقائي مع الفلسطيني الآخر، محمود درويش، الذي أُتيحت لي فرصة مراقبته عن قرب أثناء أحد المؤتمرات التي أقامها معهد برلين للدراسات. أعتقد أنني لم أرَ في حياتي عينين في برود عينَي درويش. لم أصدق نظري، وساءلت نفسي: أهما عينان متعبتان أم ميتتان؟ لم أستشفَّ فيهما أي قدر من الخبث، كلا، وحتى ما لمحته من تعالٍ لم يتجاوز ضريبة الشهرة وما تفرضه على المشهورين. وفي النهاية تذكرت الصُّلب الذي لا يكتسب صلادته وبريقه إلا بعد أن يمر بحرارة جهنمية، وبعد أن تشكِّله المطارق المتوهجة.
لأن الصالة كانت مكتظة بالحضور في ذلك اليوم، لم يجد البعض مكانًا للجلوس إلا على حافة الشباك. خلف درويش كان يجلس عالم يهودي. كان بإمكانه — لو مد يده — أن يلمسه. إنني متأكد من أن درويشًا شعر بهذا الحضور خلفه. إنني متأكد من أن ذلك أثار استياءه. إنني متأكد من أنه لم يكن سيلتفت إليه لحظةً واحدةً حتى لو كان الجالس هناك عدوًّا لدودًا بسكين في يده. أعتقد أن هذا الرجل الجسور يحتقر الموت احتقارًا.
عندما قلت لسماحة رئيس تحرير «السفير» إنني لم أرَ حتى الآن متعصبًا دينيًّا واحدًا في هذا البلد، أجابني أنه يستطيع أن يعرِّفني في الغد بأربعة قياديين من حزب الله، ومعهم أستطيع أن أتحدث أمسيةً بأكملها عن الأدب والموسيقى، دون أن يخطر على بالي ولو للحظة واحدة أنني أتكلم مع متعصبين. (إلا لو — هكذا أفترض — ذكرت إسرائيل أو أي فنان يهودي أو أميركا أو … أو … أو …)
يبدو لي هذا نقصًا جوهريًّا في حصيلة الخبرات التي اكتسبتها في رحلتي؛ أنني لم أقابل أحدًا لا سبيل إلى جَسر الهوة بينه وبيني، كما أنني لم أقابل غير المثقفين، أنني لم أزُرْ أحد أحياء الفقراء (مثلًا حي الأرمن شمالي بيروت)، ولم أزُرْ «غيتو» مثل شاتيلا. خارج النخبة الصغيرة من المثقفين لم أقابل أحدًا ولم أرَ شيئًا. غير أنني أيضًا في برلين لم أذهب مع عباس إلى بيوت اللاجئين أو الاجتماعات التي ينظمها «بلطجية» النازيين الجدد، لم أذهب معه إلى حي مارتسان مثلًا، لم أرسله إلى المساكن الشعبية المشيدة بالحوائط سابقة التجهيز، لم أعرِّفه بضحايا الوحدة الألمانية، أو الضباط القدامى في جهاز استخبارات ألمانيا الشرقية (الشتازي) … أنا لا أعرف هذه الأوساط، إلا أنني أعتقد تلقائيًّا أن أصدقائي هنا لهم صلة بخصومهم وغرمائهم …
يقول سماحة: صحيح أن المشروع اللبناني، كدولة يسارية علمانية، قد أخفق، لكنه ترك آثاره لدى كافة الأطراف، حتى أولئك الذين يرفضون مفهوم الديمقراطية ومفهوم الدولة اللبنانية. ما يريد قوله: لم يعد اللبنانيون يذبحون بعضهم بعضًا برعونة وطيش كما كان يحدث سابقًا.
الدرس اللبناني: إن الفكرة التي تخطر على ذهن المرء تلقائيًّا ويتقبلها دون تمحيص — أعني أن وجود الديمقراطيين مرتبط بوجود نظام ديمقراطي مزدهر — فكرة خاطئة واستنتاج مضلل. الديمقراطيون هنا على القدر نفسه من الديمقراطية مثلما هو الحال في ألمانيا، الفارق هو أنهم هنا لا يشكلون «رأيًا عامًّا نقديًّا»، أو مجتمعًا مدنيًّا هو سمة الدول الديمقراطية. عندما يكتب عباس مقالةً تتلاشى في الجو؛ أي لا تتسبب في إثارة مناقشات عامة أو نقد، وغير الأحاديث الخاصة ليس إلا الصمت العظيم. ولكن الاستنتاج العكسي صحيح أيضًا: إن وجود مثقفين ديمقراطيين لا يكفي إطلاقًا حتى تنمو الديمقراطية وتترعرع في أنظمة كالنظام اللبناني. إن نفوذ المثقفين الديمقراطيين هنا معدوم، ولا يقارَن على الإطلاق بالحال في ألمانيا (ما يؤدي إلى انتشار نوع من الخمول والقدرية لدى المثقفين فيما يخص العمل السياسي).
•••
يشرع كل شخص في حكي حكاية عن تشتت عباس، ويستهل حسن النوادر متسائلًا: «هل تتذكرون آخر مرة غيَّر فيها عباس شقته؟ كان قد استأجر شقة جديدة أوسع وأكبر، ثم جمع أغراضه وحشرها في عربة نقل الأثاث، وركب جوار السائق. وبعد أن استطاع السائق أن يشق طريقه وسط زحام الشوارع، تطلَّع إلى عباس متسائلًا: إلى أين؟ وعباس تتسع عيناه دهشةً ويفتح فاه! لم يعد يعرف! لقد نسي عنوان شقته الجديدة! وبمَن يتصل؟ بي بالطبع! «حسن، قل لي أين تقع هذه الشقة الملعونة؟» قلت له أن يمرَّا بي ويأخذاني معهما. صحيح أنني كنت أعرف على وجه التقريب أين تقع الشقة الجديدة، ولكنني أيضًا لم أكن أعرف اسم الشارع. وهكذا، جاءا بسيارة الأثاث، وأنا قدت عباسًا إلى شقته الجديدة.»
شخص آخر يحكي عن لقاء في مقهى باريسي: مجموعة من اللبنانيين، بعضهم يزور المدينة، والبعض الآخر يقيم هناك. يجلسون معًا، وعباس يظهر — كالمعتاد — متأخرًا بعض الشيء (صيحات تهليل من الجميع). يكتشف عباس صديقًا، فيذهب إليه، ويسلم عليه طابعًا قُبلةً على خده الأيمن والأيسر، ثم يقبِّل التالي، والجالس جواره، وهكذا …
يتطلع المستمعون إلى الراوي في انتظار المضحك في الأمر: «كنا ربما سبعة أو ثمانية لبنانيين، لكن عباسًا واصل ببهجةٍ توزيعَ قُبلاته على المقهى كله، صفًّا صفًّا، على الأقل ثلاثين شخصًا …»
أحكي لهم عن أول أمسية في برلين: توتر واضطراب عندما دخل عباس شقة ﻫ: كان قد تمشَّى قبلها وجلس في مقهًى. بعد قليل ذهب إلى المشجب وتناول معطفه المعلق وغادر المقهى حتى يقابل ﻫ. ثم في الطريق اكتشف أن مفتاح معهد برلين للدراسات ليس في جيب المعطف. أثار ذلك غضبه لأنه بعد الثامنة مساءً لن يجد أحدًا في المعهد، وبدون مفتاح لن يستطيع الدخول. لم يكن سبب عدم وجود المفتاح في الجيب أنه سقط أو أن الجيب مثقوب، إذ إن عباسًا اكتشف فجأة أن المعطف كله غريب بعض الشيء، وبالفعل، لم يكن ما يرتديه معطفه … ولكن، كي يعيده ويستعيد معطفه — إذا كان ما زال معلقًا في المقهى — كان عليه أن يتذكر أولًا: أين في هذه المدينة الغريبة يقع المقهى الذي استبدل فيه معطفه؟
حين لاحظت أن الحكاية نجحت في إثارة الضحكات، رحت أزودها تحت تشجيع الجميع بالتوابل والبهارات، وهكذا صنعت من المعطف الذي أخذه عباس معه معطفًا من الكشمير المزين بالفراء (يصيحون على المائدة: أووه!)، ثم أضيف المزيد من البهارات وأقول إن المعطف كان نسائيًّا، مزينًا بالفراء وضيقًا عند الخصر. أسمع صفارات الإعجاب، وعباس، الذي يعلم بالطبع ما حدث، يقهقه مائلًا برأسه إلى الخلف، ولا يعترض.
•••
ينزل من السيارة، يبتسم لنا، ويستدير، اليد المرفوعة للسلام والدفاع في آنٍ معًا، ثم ذيل المعطف المتأرجح.
•••
أقرأ في نظرات والدي القصيرة الصامتة: التفوق الذهني للأوربي المتحضر واستعلاءه على راعي الجمال الأمي القادم من المشرق؛ التفوق الأخلاقي للمسيحي الغربي الحديث، العبد المطيع للديمقراطية والرأسمالية، واستعلاءه على الإرهابي الإسلامي المتعصب، سفاك الدماء الآتي من العصور الحجرية، عصور ثقافة الكراهية والحقد. لأمثاله من المجرمين نبني في ألمانيا المساجد بنقود دافعي الضرائب، حتى ينجحوا فيما أخفق فيه نظراؤهم — آنذاك مع الأمير أويغن، وقريبًا مع جورج دبليو بوش — أي في أن يدهسونا بالأقدام، وأن يفعلوا ما لم يستطع الشيوعيون أن يفعلوه يومًا.
كان عليَّ — أقول لنفسي — أن أشرح لك باستفاضة حتى تستطيع أن تحكم حكمًا أفضل على هذا الرجل؛ الذي توجه له أنت الآن في سرك الاتهامات بأنه السبب في أنني سأقوم قريبًا مع عائلتي برحلة إلى بلد غير آمن، وهو ما يولد خوفًا مميتًا لدى أمي التي نتكتم أمامها الأمر تمامًا.
كان عليَّ أن أحكي لك حكاية، وهو ما سأفعله الآن.
حكاية من صور وبنت جبيل. حكاية شاب لا يرث منزل أبيه رغم أنه الابن البكر، ولا يخلف أباه ربًّا للعائلة. شاب يدير له مسقط رأسه الكنعاني ظهره إلى الأبد، فيرحل إلى الساحل حتى يعمل معلمًا.
هذا الرجل، عالم وفقيه في أمور الدين، يحيا مثلما يحيا أفراد أقلية دينية مُضطهدة ومُحَتقَرة داخل بلد محتل، أقلية استُبعدت دومًا من الحياة السياسية. هذا الشاب يعشق شعر القدماء الجميل البليغ، وهو يحاول في قصائده المتواضعة أن يحاكيه. شاب مؤمن بالله ورسوله.
لا بد أنه شخصية متميزة، إذا أصغينا إلى حكايات ابنه، رجل يتحلى بقدر كبير من التسامح. لم يصرخ أبدًا في وجه زوجته، لم يضربها أبدًا، ولم يحدثها بلهجة أمر؛ لذا يبتسمون ساخرين منه في القرية، ويتهامسون حول رجولته. لكن ذلك لا يزعجه. أنجب ابنين، الأول مع نهاية حرب، والثاني في بداية حرب أخرى. إنه يعطي ولديه القدوة في كيفية الحياة على نور الإيمان، ولكن بحرية. لأن أحد ابنيه يحب الجامبون، يسمح له بأكل الجامبون. ليس الجامبون هو المهم. الرجل يمعن التفكير في القضايا الراهنة المطروحة على بلاده التي نالت الاستقلال حديثًا، ويتأرجح فترةً بين التخلي عن إلهه وعبادة إله المثقفين الجديد، المادية الجدلية.
ثم يجيء اليوم الذي يلقى فيه ابنه الثاني حتفه في حادثة، كان الآخر آنذاك في التاسعة من عمره. يقرر الأب أن يهجر مع زوجته والصبي القريةَ الواقعة على الجبال حيث وقعت الحادثة، وأن يعود إلى صور. يريد أن يهتدي من جديد بنور الإيمان، فربما يستطيع الإنسان أن يحيا بلا دين، ولكن ليس بدون ما يقدمه الدين من إمكانيات ووسائل. عندما شرع ابنه المراهق يدعو أصدقاءه إلى المنزل حتى يتناقشوا حول الشيوعية، فتح لهم الأب أبواب بيته. ورغم دخله المحدود كمعلم، فقد تحمَّل تكاليف دراسة الابن الجامعية. ثم يلقى الأب أيضًا حتفه في حادثة.
من هو باول تسيلان؟ باستطاعة عباس أن يحكي لك الكثير عن باول تسيلان.
عندما اندلعت الحرب الأهلية في وطنه، وضع البندقية على كتفه، إلا أنه لم يستخدمها قط. وبينما كان الآخرون يفرطون في استعمالها، ظل على إيمانه بالكلمة. لا بد أن ذلك كان صعبًا للغاية: أن تؤمن في تلك الفترة بالكلمة. ربما يكون ذلك أصعب من الإيمان بإله.
هو أيضًا لديه ولدان، تحمَّل عنهما تكاليف الدراسة رغم عدم ثرائه، لأن التعليم في بلده يحتل مكانة المال لدينا. وهو يؤمن بالتعليم كما يؤمن آخرون بالمال. حينما تُوفي والده، أصبح هو، اسميًّا، رب العائلة، فانتقلت أمه كي تعيش في كنفه. إنه اليوم رجل مشهور، يقابله الناس أينما ذهب بالاحترام والتبجيل. هل هو رجل سعيد؟ هذا ما لا أستطيع الإجابة عنه.
هذه هي كل الحكاية التي كنت أريد أن أقصها عليك. لماذا أحكيها؟ ربما لأني أنظر بقليل من الحنين وببعض الوهم إلى هذه الطريقة في التربية والتعريف بالحياة، طريقة قائمة على التقاليد والتسامح والقناعات الراسخة، قائمة على الأخلاق والثقافة؛ أنا الذي تربيت على الطموح، ولكن ليس بغرض الوصول إلى هدف سامٍ، أنا الذي لم أسمع سوى عن وسيلة واحدة كي يعيش الإنسان حياة سعيدة: المال؛ أنا الذي لا أتذكر أنني سمعتك في طفولتي وشبابي تتحدث باحترام ورقة وتفاهم عن البشر، عن الكتب والمثل العليا.
•••
«فويه دو شارتيه» أسسه الفرنسيون (كما قرأت لاحقًا، فإن راهبة مشلولة ظهرت على جسدها جروح المسيح؛ هي التي أسست أول بيت، أو إذا شئنا الدقة فقد أسسه أبو الاعتراف الذي تتردد عليه)، وهو عبارة عن دير مخصص لغير الرهبان، يقوده كاهن يظل في منصبه حتى يتوفاه الأجل. هناك ٥٠ بيتًا في العالم كله، عدد كبير منها في أفريقيا وأمريكا، ولكن ليس له فروع في ألمانيا. وهذا البيت هو الوحيد في العالم العربي.
عندئذٍ أهلَّ علينا رئيس الدير، الأب أنطوان، وهو راهب أنطوني ماروني، شَعره غزير قصير، وجناته ممتلئة بعض الشيء، والياقة البيضاء منغرزة في العنق السمين اللين. يرتدي الأسود. مضياف للغاية، يقدم لنا في البداية عصير برتقال شهيًّا، ثم يجبرنا على البقاء لتناول الغداء معه.
تأخذ المباني في الوقت الراهن أبعادًا إنسانية ولطيفة. ومثل كل اللبنانيين لا يكاد النقال يفارق أذن الأب أنطوان.
حسبما يقول أنطوان، يتردد أيضًا مسلمون كثيرون على الخلوة الروحية في نهاية الأسبوع. البستاني — وهو مسلم أيضًا — يجلس إلى المائدة ويتناول معنا الطعام، ويُعامل بتهذب وأريحية. صلاة قصيرة روتينية يتلوها الأب أنطوان، ثم ينكبُّ على النبيذ الأحمر والأطعمة بشهية دنيوية تمامًا، تاركًا نساء البيت يقمن بخدمته.
•••
اليوم — يقول لي — يجيئون جميعًا إليه، مسيحيون ومسلمون، يأتون إلى القس السابق الذي طعن في العمر، يلتمسون منه المشورة، ويسألونه أن يفض النزاعات بين العائلات والجيران، أو أن يصدِّق على عقد بيع عقارات؛ باعتباره موثقًا فخريًّا، أو يطلبون منه أن يقرضهم مبلغًا يكملون به ثمن تذكرة الطائرة للحفيد أو الابنة التي ستسافر إلى أوروبا أو الولايات المتحدة.
ماذا يجذبني إلى هذا الرجل وزوجته؟ ماذا يثير اهتمامي؟
في كل مرة أنظر إليه أراه أجمل من المرة السابقة. عند التطلع إلى بعض الوجوه، لا سيما بروفيل الوجه، يغمرني فجأةً فيض من الحنان لا أعرف له سببًا. انطباع بالهشاشة الرقيقة يوقظ داخلي هذا الشعور دومًا، الشعور بالمخلوق اللطيف الهش الزائل، الشفة العليا المرتفعة قليلًا التي تشبه محارة الأذن، والتي تُذكِّر استدارتها بألق الطفولة، والخطوط التي تنحدر منها إلى الفك وعظام الوجنة. شيء ما في وجه يوسف عساف أثار لديَّ منذ الوهلة الأولى هذه الشفقةَ وذلك الحنان.
يشغلني أيضًا هذا المزيج من قلة الحيلة والعظمة. من ناحية السذاجة وبطء الفهم، قدرته الذهنية التي تسير بسرعة السلحفاة، أو بالأحرى بسرعة عربات الخيل في عصر سيارات التوربو، وهو ما يجعله في كل حديث بين عدة أشخاص يتخلف عنهم. من ناحية أخرى الإصرار والجَلَد، الطيبة العنيدة التي يتحلى بها، هي أيضًا تتسم بالسذاجة، غير أنها تتفوق على الذكاء، كما تقهر المياه الوديعة جلاميد الصخر. تجاربه الشعرية الموسومة بالإخلاص والصدق، ما يُكسبها لمعانًا خفيًّا، بريقًا كما في النوافذ الملونة بالكنائس، هذا البريق يصيب ناقد الأدب بالخرس؛ لأنه لا ينم عن حرفة متقنة بقدر ما ينبئ بشيء وراءها، ولذلك يخرج بكل وضوح عن نطاق عمل الناقد.
أثناء رحلة العودة من وادي أدونيس إلى الساحل، ثم إلى جونيه، حيث شقة عساف، تطرأ على بالي فجأةً، وأنا مستغرق في التفكير في أمر مساعد مدير البرامج بمعهد غوته ذي الرقة الغددية، فكرةٌ غريبة: ربما لو كنت قابلت يسوع المسيح في الطريق لاعتبرته أبله لا يُؤخذ على محمل الجد.
يعتقد المرء دومًا (هذا إذا كان المرء يتأمل في تلك الأمور على الإطلاق) أن الإنسان سيلحظ على الفور من هو المسيح، بناءً على الكاريزما أو الهالة التي تحيط به، وأن المرء سيعي خصوصية شخصه ومدى أهمية كلامه، وسيتصرف بناءً على ذلك. ولكن إذا تخيلت نفسي يهوديًّا أو رومانيًّا، لديه بعض الثقافة، ويحب خوض الأحاديث اللطيفة الساخرة، أنني شخص متهكِّم يُعلي خفة الدم على العمق المضني للأحاديث، لكان ذلك الواعظ الجوال الجاد، الريفي الساذج، في أحسن الأحوال، هدفًا لتهكمي وسخريتي. مستحيل أن أدردش معه عن الشعر الحديث، عن المسرح والسياسة؛ المرء كان سيهز رأسه عندما يقابله دون أن يلاحظ أبدًا أن خصوصيته تكمن في أنه نموذج فاعل، وأن على المرء أن يتبعه في أفعاله كي يفهم شيئًا. أن يتجاوز المرء قدراته، وأن يفعل المستحيل والمنافيَ للعقل، أن يفعل ما يطالب به، هذا فقط هو الذي يفتح الأعين.
وهذا يعني مرةً أخرى أن حضوره الجسدي الملموس لا داعي له على الإطلاق، لا يغير شيئًا مطلقًا من التحديات المطروحة اليوم، فهي — بدون وجوده — ليست أكبر أو أكثر حرجًا وإرهاقًا مما كانت آنذاك بالنسبة إلى إنسان متحضر مديني …
يسكن آل عساف في بناية من ثلاثة طوابق على المنحدر، ومنه كان يمكن في الماضي إلقاء نظرة على الخليج بأكمله. أما اليوم فإن الأبراج السكنية ذات الطوابق الاثني عشر المبنية أسفل منزله مباشرةً تحجب الرؤية تمامًا؛ هناك زاوية ضئيلة تكشف عن البحر إذا وقف المرء في أقصى يسار البلكونة مُنحنيًا إلى الأمام. مرة أخرى أجد نفسي في شقة واسعة. خلف المطبخ حجرة صغيرة، «حجرة الشتاء»، الحجرة الوحيدة التي تُدفئ بصوبة كبيرة، وفيها — تقول السيدة عساف لي — يجلسان ويقرآن معًا مِن كانون الأول حتى آذار.
الغرفة اللطيفة هي غرفة المكتب الكبيرة المشتركة، في رفوفها تتراص الكتب العربية والألمانية والفرنسية؛ أدب، كتب كثيرة في اللاهوت والفلسفة، منها خمسة مجلدات لهايدغر الذي يلاحقني. المكتبان موضوعان بجوار بعضهما، لا تفصلهما سوى زاوية قائمة، يتلامس جناحاهما بخجل واحتشام. على رفوف الكتب تتناثر هنا وهناك صور للزوجين اللذين يتطلعان إليَّ.
أي أسطورة يمكن أن أتخذها أساسًا كي أكتب رواية عن هذين الزوجين؟ إذا بدأت هنا، في معبد الكتب فسأجعل منهما حارسين للثقافة، تقدَّما في العمر معًا، فيلمون وباوكيس، سأجعلهما يُنجيان من طوفان الحرب الأهلية، وينهمكان في الحجرة الشتوية في ترجمة خليل جبران، على وقع قرقرة المدفأة، ومن هنا يبعثان بتحياتهما إلى العالم: السلام للأتقياء الطيبين. (في غرفة المعيشة لم تزل شجرة عيد الميلاد — البلاستيكية — قائمة، وبجانبها المغارة وطاولة مغطاة كلها ببطاقات عيد الميلاد من حوالي عشرة بلدان مختلفة.) ولأنهما قد طلبا من الآلهة، ويد كل منهما تمسك بيد الآخر، ألا يسبق أحدهما الآخر في الموت، فإن حياتهما تنتهي بالتجلي أو التحول والانسلاخ؛ هو يتحول إلى شجرة بلوط، وهي إلى زيزفونة. في هذه الحالة الخاصة سأمنح نفسي الحرية في تحويله هو إلى شجرة أرز وهي إلى شجرة غار …
أم أحكي حكاية البطريرك الوديع برقته الغددية مرة ثانية، الذي أُجبر على العمل سُخرةً سبعة أعوام في بلد غريب — في مكانٍ ما بين جامعة فرايبورغ ودوسبورغ — حتى يتزوج راحيل؟
أم أبدأ بالبيت في وادي أدونيس، وأروي كيف ذبح السوريون عشيق أفروديت على الطريق إلى جونيه؟ ثم كيف بُعث إلهًا للموتى في العالم السفلي لمعهد غوته؟
المغارة، شلال المياه، النبع، المطر، شقائق النعمان الحمراء، المياه الحمراء، حمراء من دم الإله المقتول. الحجاج الصارخون، الباكون، الذين ينهالون بالسياط على أجسادهم إلى أن يسيل منها الدم؛ وفقًا للتقاليد الفينيقية القديمة. لدى أوفيد هاجم خنزير بري أدونيس، عشيقَ أفروديت، وأصابه بطعنةٍ نجلاء، ثم قطعه إربًا إربًا. الخنزير هو أريس، إله الحرب الغيور. ناحت أفروديت وبكت على جثمان حبيبها، ومن قطرات دمائه نبتت شقائق النعمان الحمراء. وفقًا لأسطورة أدونيس الفينيقية القديمة، وهبت عشتار أتارغاتيس القوةَ كي تنفخ في عشيقها مرة أخرى أنفاسَ الحياة. ولكنه بُعث إلى العالم السفلي، سيدًا عليه من الآن فصاعدًا. وفي الربيع تتلون مياه النبع بدمه الأحمر الذي يمنح الأرض الخصب والنماء. يوسف عساف؛ فداءً للسلام والكنيسة المسكونية الواحدة …
أسطورة الإله أدونيس كانت أسطورة خصوبة، عساف وزوجته ظلَّا عن وعي بلا أطفال. «الفرصة لم تكن متاحة.» تقول لي السيدة عساف، الزواج المتأخر، العمل الجامعي والترجمة، الحرب.
•••
أثناء العودة، وهي آخر رحلة لنا معًا، تنحلُّ عقدة لسانه، وينطلق يحكي لي بكل فخر أنه سيشتري قريبًا سيارة مرسيدس. السيارة الحالية، طراز ٢٠٠، موديل ١٩٧٥م، أدت ما عليها، وسيستبدلها بأخرى من طراز ٥٠٠، موديل عام ١٩٩٠م. ينتظر مجيء هذا اليوم على أحرِّ من الجمر. يبدو أنه عايَن السيارة، ويستعد الآن لتجهيزها للسير في أدغال المرور الدارونية في لبنان. قبل الوصول بقليل أسأله مشيرًا إلى مرسيدس ٥٠٠: «سيارة مثل هذه، أليس كذلك؟» فيومئ نسيم متهلل الأسارير، ويجيب: «بالضبط. سيارة رائعة. ستعيش فترة أطول مني.»
•••
القاعة الأساسية التي يقع البار في صدرها متوسطة الاتساع. الموائد تأخذ شكل المقابر، بشواهد قبور رأسية، وعليها صور كئيبة بالأبيض والأسود، وكأننا في أحد مدافن إيطاليا. وفقًا لشتيلة فإن الصور لضحايا إحدى المذابح المطمورة جثثهم بالقرب من هنا. أتطلع إلى الصور (فنحن وحدنا تمامًا في القاعة، من الساعة الحادية عشرة مساءً حتى الواحدة والثلث فجرًا، طوال وجودنا هناك لم يدخل إنسان واحد إلى الديسكو؛ فيما بعد قال إسكندر إن الناس لا يترددون على المكان وسط الأسبوع قبل الثالثة أو الثالثة والنصف فجرًا)، وأقول لنفسي: لقد رأيتهم في مكانٍ ما، لقد رأيتهم من قبل … ثم يشرق عليَّ نورُ الفهم: هذه بيلي هوليداي، وهذا بيرد، هنا كولترين، وهناك مايلس ديفيس … هؤلاء هم الضحايا المطمورة جثثهم …
مساند الظهر في الدكك الصغيرة مطوية، ويمكن رفعها باستخدام ذراعين حديديتين، وكأن المرء يفتح صناديق سلاح. على كل مائدة من موائد المقبرة شمعة صغيرة (أبدية)، ومنفضة (مزهرية صغيرة). يُقال إنهم يطوون كل المساند عندما يزدحم المكان، حتى يرقصوا أيضًا على الدكك. حلبة الرقص صغيرة للغاية، تقع بين البار الذي يعلونا بثلاث درجات وأماكن الجلوس. كلا الجدارين الطويلين مغطَّيان بستائر بنفسجية اللون مثل تابوت مكسو بالقماش من الداخل. لا أستطيع كبت رغبتي في إلقاء نظرة خلف الجدران: ليس سوى سور من الأسمنت المبتذل في عاديته.
الزجاجات مرشوقة في ثقوب على البار مثل البنادق في خزانة سلاح. كراسيُّ البار لها مساند عالية للغاية، وتشبه كراسي العرش الفرعونية، كما يراها المرء في بعض الصور. أما الأسعار فهي دنيوية تمامًا: أدفع ٤٠ يورو مقابل كأسين من العرق.
مدير الديسكو يتلطف ويفرجنا على ما يميز المكان كله: السقف المعدني ينقسم على طول المحور في المنتصف، وعلى عجلات ينزلق إلى الجانب؛ عندما يفتح يجد الزائر نفسه تحت السماء المرصعة بالنجوم. في الوقت ذاته، فإن الجزء الذي يعلو البار ينفتح إلى أعلى مثل غطاء البيانو، ولأنه لامع وعاكس، فإن المرء يرى صورة مزدوجة للبار كله بمَن يجلس عليه. عندما يكون الديسكو مزدحمًا وحارًّا ولزجًا، ثم ينفتح السقف ويشعر المرء بهدوء السماء الليلية وسلامها فوق رأسه، ويستنشق النسيم المنعش. لا بد أن هذه اللحظة هائلة التأثير. وبقليل من النشوة فلا بد أن الإنسان يمر بخبرة شبيهة بالبعث والقيامة … ولكن في حالتنا هذه فإن الأمر يشبه التفرج على سيارة في معرض. ولكن رغم ذلك: يا له من تصميم!
إضافةً إلى ذلك، فإن الموسيقى جيدة (تتراوح بين الجاز الخفيف والعنيف). أنا مستمتع بوقتي هنا (ربما لن يكون الحال كذلك إذا امتلأ المكان)، وربما يكون السيد شتيلة تخيل رحلتنا على هذا النحو تمامًا: مثل رب عائلة يخرج قليلًا عن وقاره. (ثمة فيلم من مطلع الستينيات يمثل فيه جيمس ستيوارت دور رجل بدأ الشيب يغزو رأسه، ومع عائلته كلها يقوم برحلة إلى الشاطئ، حفيده الذي لا يُطاق يسميه «بروم-با». وبين الحين والآخر يتتبع ببصره شقراء خطيرة الجمال. هكذا تقريبًا أشعر بالسيد شتيلة وبنفسي.)
معماريًّا يذكرني الديسكو برمزيته الفجة، المؤثرة للغاية، بالمتحف اليهودي في برلين الذي صممه ليبسكند.
•••
عندما وصف شتيلة للنخاس الغرفة التي ستقيم فيها الخادمة، أجابه قائلًا: «أكبر من اللازم، وبشبابيك أيضًا! من الممكن أن تسكن خمس خادمات هناك.» هذا يذكِّرني بليزلي عندما أرتني، وهي تهز رأسها، الحجرة الخالية من أيِّ شباك، الملحقة بمطبخ شقتها، والتي يسميها المؤجر «غرفة الفلبينية»، تكدست هذه الحجرة تمامًا عندما وضعت فيها رفًّا للمعلبات والمكنسة الكهربائية والغسالة!
وإذا أراد المرء التخلص منها، الخادمة الفلبينية، يقول شتيلة شارحًا، فإن اتهامًا بسرقة الفضيات يكفي. لا أحد يختبر صحة ما يقوله رب العمل. ليس للخادمات أي حقوق.
•••
مع المرأتين ومع أسعد خير الله الودود للغاية والمنفتح واللامع الذكاء، الذي قضى خمسة أعوام يدرِّس في جامعة فرايبورغ، نتحدث عن الطعام وعن ألمانيا والأدب العالمي، وأيضًا عن ذكريات الحرب الأهلية: عائلة أسعد كانت تمتلك فندقًا على الجبال بين بيروت والبقاع، وأثناء الحرب تعاقَب على احتلاله الفلسطينيون والسوريون والإسرائيليون. كان سلوك الفلسطينيين لا غبار عليه، السوريون كانوا بالأحرى غير متحضرين، أما الإسرائيليون فقد تعمدوا الإذلال والإهانة، وكأنهم من جنس أرقى، جنس السادة (هذا التعبير يُذكَر دومًا لدى وصف ظهور الإسرائيليين أثناء فترة الاحتلال): «لقد اقتحموا الفندق، وكان أول شيء فعلوه هو الدخول إلى كل غرفة والتبرز فوق السرير.»
عندما سألت رشيدًا أثناء ذهابنا إلى صديقته عن سبب عدم اصطحابها معه إلى ليزلي مؤخرًا رغم دعوتها، قال إنها ليست سوى صديقة. ثم اعترف رشيد لي بأنه يرتاب في كل النساء؛ لأنهن سيتركنه وحيدًا في اللحظة الحاسمة. لا يثق ثقة مطلقة إلا بأمه.
«عندما كنت راقدًا في المستشفى مصابًا، مَن أتى من الجبال وسهر الليالي على فراشي، وكان يضع «الأرضية» تحتي؟ لم تفعل ذلك أي حبيبة. كلهن اختفين في تلك اللحظة. لم تكن هناك إلا أمي!»
أحكي له أن أحد معارفي أَسرَّ لي ذات مرة بأنه يتقابل بين الحين والآخر مع فتاة لا يُكنُّ لها أي مشاعر، ولا يقدرها تقديرًا كبيرًا، وأنهما يقضيان بعض الوقت في الممارسة الشرجية، المثيرة للغاية و«الشهوانية» — على حد تعبيره — وهي ممارسة يتحرق شوقًا إليها، لكنه لن يطلبها من زوجته أبدًا، فهو «يحبها ويحترمها جدًّا»، ولا يستطيع أن يفعل معها شيئًا كهذا.
«سيكون تفسيرك قاصرًا.» يقول رشيد، «إذا لم ترَ في جملة كهذه إلا تعبيرًا عن التوائية الرجال وكذبهم. إنها بالأحرى تعبير عن تفرقة واعية لمجالين لا يرتبطان، وعلى المرء أيضًا ألا يخلط بينهما إذا أراد ألا يجني الفشل: مجال الحب، أو العلاقة العاطفية المشفرة اجتماعيًّا من ناحية، ومن ناحية أخرى مجال الإيروس والجنس، وهو مجال إباحي ولا اجتماعي.»
«نعم، الانجذاب الإيروتيكي هو دائمًا نوع من الفتشية. عندما يُنظر إلى الإنسان كله كإنسان (ينتمي للجنس الآخر) لا كجسد (متعدد الهوية الجنسية)، أو كمجموعة منتقاة من الأعضاء الجسدية، فإما يتولد عن ذلك حب أو لا يتولد أي شيء.»
فيجاوبني رشيد: «إن الانجذاب الإيروتيكي الذي يشعر به الإنسان تجاه عضو من جسد غريب، تجاه رائحة أو موقف أو إيماءة، هو نوع من الخيال بالمعنى الموسيقي، ونوع من الرؤيا لهذا الجزء من الإنسان الآخر، وهو بالتالي تصنيف فني، وليس تصنيفًا جنسيًّا.»
الفعل الجنسي أخرس، أقول لنفسي، أو لا يكون مصحوبًا إلا بالأصوات الحيوانية. ولكن الإيروتيكا — التي تجعل الفعل ممكنًا — تتكون من الكلمات والصور التي تستدعي شيئًا من دون التعبير عنه صراحةً بالكلمات (وإلا فنحن أمام بورنوغرافيا مملة). إن ذلك الشيء الذي كان يدور النقاش حوله منذ فترة في الأدب الألماني، ما أُطلق عليه «الأدب الإيروتيكي»؛ أي ذلك الأدب الذي يبرئ نفسه من شبهة البورنوغرافيا عبر استعارات بلاغية معوجة تتمحور حول القضيب الذي يحفر طريقه، هذا الأدب يعري كاتبه على نحو مضاعف. إن الرجل — الذي يظل رجلًا — لا يدرك أنه يصول ويجول في عرس المشاعر المخنثة، وأنه يتحرك في متاهة العواطف، أنه لا يستطيع تبرير ممارساته (المتخيلة) سوى بالوصف الفاضح الدقيق الممل. الإيروتيكا شيء آخر. الإيروتيكا تتجلى في الجملة التالية من مذكرات هادريان لمارغريت بورسينار:
«أتعرف؟» يسألني رشيد، «إن الحميميات، أي الفراش، هي اليومَ الساحةُ الحقيقية التي يجرى عليها الصراع بين التقاليد والعادات والثقافة الغربية في مجتمعاتنا العربية.»
•••
رشيد يوقف سيارته أمام عدة بنايات نصف مهدمة، على جدرانها الخارجية حفر صغيرة كثقوب الجبن السويسري، ويقول بمزيج من الصدمة والافتخار: «انظر كيف أصاب الخراب هذه البنايات، أمر فظيع، أليس كذلك؟»
وبذلك — وهو أمر لا يقل غرابة — يستفز افتخاري السلبي: «بصراحة، فإن كل هذا لعب عيال، مقارنةً بحالة المدن الألمانية بعد الحرب …»
بعد أن عدنا إلى وسط المدينة يحكي لي كيف أنه مباشرة بعد انتهاء الحرب، عندما بدأت أعمال إعادة الإعمار، كان يقضي ساعات في ساحات البناء، أو في المباني التي لم تكتمل، يتفرج على عمال البناء. كان مأخوذًا ويشعر بأنه في قمة سعادته:
«جلست في الطابق الثالث على السقالات، مؤرجحًا قدمي، مستنشقًا رائحة الأسمنت الطازجة، ألوك خبزي، وأُصغي إلى المطارق والمناشير والحفارات، وأتفرج على الأعمدة الخرسانية التي تنهض في كل مكان فوق الأرض المحروقة. كان شعورًا رائعًا؛ أن كل شيء أُعيد بناؤه، وكأن الناس شرعوا في إنجاب الأطفال بعد الحرب، وفجأةً يسمع الإنسان في كل مكان صرخات الأطفال …»
•••
نثرثر عن الطعام والشراب وعن الحرب.
«قد تندلع في أي لحظة.» تقول ليزلي وهي تقطع الخبز.
بالأغلبية نتفق على الفرنسية، لكنها لا تظل بالطبع لغة الحديث الوحيدة. مقارنةً باللغات الخمس التي تتقنها ليزلي إتقانًا تامًّا، واللغات الأربع التي يتحدثها أسعد في طلاقة، فإنني أشعر بمحدودية قدراتي بعضَ الشيء.
بأي لغة نتحدث مساء اليوم؟ حيثما يوجه هذا السؤال، وحيثما يجاب عليه بكلمة مازحة، حيثما لا يتفاخر أحد بالمواهب العظيمة التي يتمتع بها، حيثما يستطيع المرء بخفة ولطف أن يرتجل أمسية تسود فيها الألفة الروحية، فهناك تكون النخبة الصغيرة التي آنس إليها. على هذا البساط الطائر فوق الثقافات واللغات، في ديوان الشرق والغرب، في هذه الحانة المضيافة، هناك وطني الثاني المتحرك.
قطة أبي هريرة
في البداية اعتقدت أن بيروت — التي تخلو من الحدائق العامة والمتنزهات — تخلو أيضًا من الحيوانات. باستثناء كلب أفطس الأنف رأيته على حِجر امرأة متبرجة تبرجًا لافتًا كانت تدفع بالمخبوزات الراقية إلى فمه المفتوح، وباستثناء الكلب الأفغاني المتعجرف الذي كان يتبع بخطوات ضجِرة سيده العداء على الكورنيش ذي الشريط البنفسجي اللامع على الجبهة، وباستثناء قطتين رأيتهما عند صفائح الزبالة في الحارة المؤدية لمقهى الروضة الواقعة بين اللونابارك والحمام العسكري، وباستثناء الجرذان غير المرئية، فإن بيروت تخلو على ما يبدو من الحيوانات.
منذ هذه اللحظة — وكأن حدة بصري كان لا بد أن تُضبط بمشقة حتى أستطيع ملاحظتها — أرى كل يومٍ قططًا أخرى، وكل يوم يزداد عددها.
بين الأعشاب الطويلة النامية على لسان الروشة الممتد إلى البحر، في الأراضي البور التي تكاثرت عليها النباتات والأعشاب، بجانب ماكينة الحساب في محل بقالة، على البلكونات وفي الأفنية الخلفية القذرة في حي الحمراء، في الحدائق المغبرة الملحقة ببيوت السادة السابقين، في ظلال أبراج الفنادق، في الفجوات التي خلفتها الطلقات في أطلال شارع دمشق، تحت السيارات الواقفة، في بهو الفنادق، بين الأنقاض والقمامة، على الأسوار التي تفصل بين البنايات وعلى الأفاريز، على الكورنيش، فوق الصخور البارزة، وكأنها نُسخ مصغرة من أسد القديس مرقس.
بحذر وارتياب، ملتصقة الشعر، قذرة؛ رمادية بلون الغبار، بلون الفئران، كصخر الغرانيت أو الأردواز، كلؤلؤة؛ لينة، نحيفة، صلبة العظام، ضامرة الصدر، هزيلة، بلا آمال أو أوهام، بلا حزن، قد تخطت كافة المفاهيم الأخلاقية الشائعة، عنيدة، متكبرة، حرة.
متسللة، متئدة الخطى، متبخترة، قصيرة الخطى، متأرجحة، مهرولة، قاعدة، راقدة، منكمشة، ماطةً قوائمها الأربعة، قابعة، متربصة، متوترة، مسترخية؛ ساهرة بعيون مغلقة، نائمة بعيون مفتوحة؛ الأذن متدلية، منتصبة، مرهفة، ملتصقة بالرأس.
لونها مموَّه، غوريلا المدينة، دون وكر ثابت، دون ولاءات أو تضامن، جاحدة للعائلة والعش الدافئ والأصدقاء. تكافح وحدها، تستمتع وحدها، تعشق بسرعة، وتحتضر في صمت.
بعد أسبوعين لم أعد أستطيع الخروج دون أن تصادفني قطة. لست بحاجة سوى إلى تصويب نظرتي في اتجاه ما، وعلى الفور أكتشفها: منحوتات مصبوبة من الخرسانة الرمادية، تماثيل للهدوء قبل القفزة المميتة، بنظرة محملقة وكأنها منوَّمة مغناطيسيًّا وبطن متوتر، في محاولة لإقصاء الحمائم المتقافزة على أرضية حديقة الصنائع.
تقعد في شارع السادات، أمام محل يشبه المغارة يبيع الأدوات المنزلية، واعية بنفسها وبأهميتها من قمة الذيل حتى شعر الشارب، نفرتيتي سمراء داخل أصيص نباتات بلاستيكي أحمر قاني، مستعرضة نفسها بإعجاب وخيلاء.
قطط ضالة، متسكعة، متصيدة في ورش البناء بين شارع ويغان وشارع شوقي، في ظلال فندق «هوليداي إن» في فترة العصر. قطط برجوازية ضخمة، رمادية أو بيضاء وسوداء بفراء حريري، لدى احتساء قهوة العصر في حديقة بشارع سرسق. أميرات التسول، تمد جسمها برأس مرفوعة مثل أبي الهول، على درج شارع غورو في الطريق الصاعد إلى الأشرفية؛ قطة بيضاء، لا مبالية ولا تحرك ساكنًا، بعيون مغلقة وكأنها تمثال من الخزف المزجَّج، تقبع بين الشبابيك ومحلات فندق كومودور: رؤية كل هذه القطط تصيبني بالإرهاق والتعب.
أراها هزيلة ضامرة وهي تمر بين عواميد الضخ في إحدى محطات البنزين، وأرى عصابة من ثلاثة فتوات قذرين يتشاورون ويتآمرون بجوار غطاء محرك سيارة أمريكية فارهة، في موقف السيارات بالقريطم حيث ترك رشيد سيارته الباجيرو. بتواكلية وقدرية بائع متجول يهودي تتهادى بخطوات قصيرة قطة رمادية منقطة على طول شارع الاستقلال. على أهبة الهرب، وعلى استعداد للهجوم، يتربص قطان كبيران في الفناء الداخلي المفتوح لأحد مطاعم الأسماك على الكورنيش بصبي يعمل في المطبخ. بعد عدة بنايات أرى قطة رمادية نحيلة يملؤها فخر المالكين، تقبع حارسةً أمام مدخل ورشة لنجارة الأثاث، ثم تقفز بخفة إلى الجانب عندما يقترب سيدها منها ليطردها من مكانها، بينما كان السيد يحمل كومودينو ثقيلًا، في طريقه من سيارة الشحن إلى المخزن. رافعة ذيلها ومطلقةً صيحة دلال تتبعه إلى داخل الورشة المعبَّقة برائحة الخشب والغراء، شاعرةً بالتناقض وعدم الفهم والإعجاب في آنٍ واحد، وكأنها زوجة ما زالت على عهد الوفاء مع زوجها الذي يضربها، ولا تسمح بأي انتقاد له عندما يحاول غرباء أن يَرْثوا لحالها.
قطان رشيقان من قطط الشوارع في نهاية شارع بليس أمام معهد غوته، يرقصان الباليه مع البواب الأسمر للبناية السكنية المقابلة الفخمة ذات الأربعة عشر طابقًا أثناء قيامه بتفريغ الزبالة عدة مرات في الحاويات الكبيرة على الجانب الآخر من الشارع. يأتي ويفزعهما، فيقفزان، ثم يتمهلان ويتبختران في المشي بعد أن يبتعدا عنه. مع كل خطوة يبتعد بها عنهما بعد تفريغ أكياس الزبالة، يقتربان مجددًا. وبمجرد وصوله إلى الجانب الآخر من الطريق، يقفزان برشاقة إلى حافة الحاوية.
في الحديقة المدرجة للجامعة الأمريكية، جنة القطط في بيروت، يطارد آدم ليليث حول شجرة مانوليا، كلاهما متنمر وذو عضلات. على وقع خرير مياه رش النباتات، وتحت أشجار الزان، يغفو رجال أعمال بلحًى حمراء. اثنان من الصعاليك، مثل أبطال دي سيكا الذين يسرقون الدراجات، يهربان في غَبَش الفجر إلى النهار المديني الطالع بلونه الرمادي الأبيض. في الحدائق الصغيرة في حي الرملة البيضا، بين اليونيسكو والساحل، يتحرك أربع هررة بحثًا عما يُؤكل، بارتياب وشك، بثقة وسلام، مع النفس ومع هذه الساعة من النهار.
قطط بيروت: ما كتبه هيمنغواي عن البشر في بلد آخر وفي عصر آخر، ينطبق عليها: قد تتعرض للتدمير، لكنها لا تنهزم. إنها من هنا: كانت قبلنا في هذا المكان. وسوف تواصل الحياة بعدنا. هذا ما يملأ المُعادي للبشر داخلي بالطمأنينة.
في طريق العودة من مقهى الروضة، عبر الزقاق الضيق الذي يحده يمينًا سور اللونابارك ذو الأربعة أمتار، ويسارًا المدخلُ المنحدر المغلق أمام السيارات، المؤدي إلى الحمام العسكري، ثم السور الفاصل الذي يحيط بالجزء الأمامي من المقهى والمغطى بالأعشاب الكثيفة، هناك في الممر الذي تستغله القطط للصيد والقنص، بين صفائح الزبالة الثلاث على حافة الشارع وبين حديقة المطعم، تكتشف باولا قطة بيضاء يميل لونها إلى الأصفر، مبقعة ببُقَع بُنِّية فاتحة. وقفت القطة تتطلع إلينا. عينها اليسرى ملتهبة ومتقيحة. تشير باولا إلى القطة، وتصرخ بصوتها القلق المهموم الذي تتحدث به دومًا عندما ترى شيئًا يصطدم ويتنافر مع نظام العالم كما تفهمه: «بابا، انظر، القطة تبكي.»
أومئ برأسي وقد استولت عليَّ كالمعتاد عواطفُ الشفقة بهذا المخلوق والتقزز من وحشية الوجود. «ولماذا تبكي يا بابا؟»
«ربما لأنها حزينة.» أجيبها بلهجة البالغين السخيفة التي تريد أن تؤنسنَّ عالم الحيوان كي تفسره للأطفال، دون أن ألاحظ إلا بعد فوات الأوان أنني أضعت الفرصة الوحيدة كي أجيب إجابة صحيحة تمنع هذا الموضوع من التضخم. تظل باولا واقفة، القطة أيضًا لا تحرك ساكنًا. تتبادلان النظرات.
«ولكن لماذا هي حزينة؟»
أفكر في الأمر، هل أجيبها قائلًا: ربما في عينها «واوة»، حتى أصل إلى سبب التقيح الحقيقي؟ غير أنني لم أكن أريد أن أتحدث عن مرض القطة على الإطلاق، ولا أريد أن أفكر فيه، لا أريد أن أجد نفسي مجبرًا على القول: إن هذا الالتهاب قد يصيب القطة بالعمى، وربما يكون مميتًا، ربما تعاني الألم؛ ولا أريد أن أفكر، ولا أن أقول إن أحدًا لا يستطيع أن يفعل شيئًا من أجلها. لن يهتم بأمرها أحد، لن يساعدها أحد، لن يعالجها أحد. كيف أوضح كل ذلك لطفلتي ذات الثلاث سنوات، حتى وإن كان الأمر يدور حول قطة «فحسب»؟ أما الحجة السخيفة — أن مقابل هذه القطة التي تبادلنا النظرات معها، والتي سيأتيها الأجل عما قريب، هناك الآلاف من القطط الحية، وأن جنس القطط لن يفنى — فلا أريد أن أستخدمها كي أمنح ابنتي العزاء؛ فلا هذه حجة، ولا هي تمنح العزاء.
«ولكن لماذا تشعر القطة بالحزن؟»
«أنتِ تعرفين، ربما تشاجرت مع القطط الأخرى، أو شتمها بابا …»
«ولكنها تبكي!»
«نعم، ولكن انظري، هذا أمر يحدث كثيرًا؛ أن يبكي الإنسان لأنه حزين، أو لأنه لم يحصل على ما يريد، أو لأنه اصطدم بشيء ويشعر بالألم. ربما أرادت أن تلعب مع القطط الأخرى، لكن القطط طردتها، وقالت لها: لا، اليوم لن تلعبي معنا. وهي الآن تبحث عن قطط أخرى تلعب معها، ولذلك فهي حزينة قليلًا.»
باولا تبحلق في عين القطة المتورمة الدامعة. «ولكن المفروض ألا تحزن!»
بغتةً أهتدي إلى أن السبب الحقيقي لاختياري مهنةَ الكتابة يكمن في هذه الكلمة التي يقذف بها الأطفال في وجه الواقع: ولكن المفروض ألا يحدث ذلك! نعم، إنني أكتب حتى أقول الشيء نفسه، بطريقة ملتوية، باستطرادات أكثر، بطريقة أكثر فنية: ولكن المفروض ألا يحدث ذلك …
نحن الآن في أعلى الكورنيش، وهناك حيث يصبُّ الزقاق في الطريق الرحبة، تقف كالمعتاد سيارة أجرة مرسيدس قديمة في انتظار الزبائن.
«لا، المفروض ألا تفعل ذلك … انظري، هناك في الأمام يقف تاكسي. الآن سنذهب إلى عباس!» أقول محاولًا أن أنقذ نفسي.
«هيه! تاكسييييي!» تصيح باولا في حماس، فهي تعشق ركوب سيارات الأجرة في بيروت؛ لأنها تخلو من مقاعد الأطفال، ولأن باولا غير مجبرة على ربط الحزام على الكنبة الخلفية، ولأنها تستطيع أن تفتح الشباك. ما نكاد ننطلق حتى تسأل: «بابا، هل ما زالت القطة تبكي؟»
«لا، بالتأكيد توقفت عن البكاء.»
«لماذا، هل لم تعُدْ حزينة؟»
«لا، أعتقد أنها الآن ليست حزينة.»
«ولماذا هي الآن ليست حزينة، القطة؟»
«القطط لا تظل حزينة فترة طويلة أبدًا؛ لأن الحزن فترةً طويلةً ليس له فائدة، لا أحد يستفيد من ذلك.»
لا أعرف لماذا، ولكن منظر القطة (لا سيما هذه الباكية) يستحضر في كل مرة لديَّ الذنبَ الجسيم الذي أثقل كاهلي على مر الأيام: الذنوب التي جمعتها بسبب بلادة القلب، والرغبة في الانتقام، والجبن، والتكبر، والخوف الوجودي، والأكاذيب.
غير أنني أعرف السبب؛ إنها عزة نفس الحيوانات، العزة التي تجعلها تتحمل الألم وتتهيأ للموت. عزة نفس تتعدى كل الآمال بالخلاص. عزة نفس لا تتوفر لديَّ، ولا أعلم ما إذا كان بمقدوري يومًا أن أحوزها.
ولكن، كما قال لي صديق مؤخرًا عن ضميري المؤنِّب: «تشعر بالذنب؟ لا أحد يستفيد من ذلك، لا أحد غيرك أنت.»
لا أحد يستفيد من ذلك يا باولا. والقطط حيوانات ذكية.
Garde ton sperme, parce que c’est l’eau de vie qu’il ne faut pas perdre dans le vagin des femmes.