لامرتين
(بمناسبة ذكرى مرور مائة سنة على زيارة لامرتين للبنان …)
نَمْ قَرِيرَ الطَّرْفِ فِي ظِلِّ الْفَنَاءِ
وَأَرِحْ نَفْسَكَ مِنْ وَقْرِ الْعَنَاءِ
وَانْشَقِ الرَّاحَةَ مِنْ كَفِّ الثَّرَى
فَالثَّرَى رَاحَةُ أَبْنَاءِ الشَّقَاءِ
وَظَلَامُ الرَّمْسِ لِلْعَيْنِ مَتَى
تَعِبَتْ أَرْحَمُ مِنْ وَهْجِ الضِّيَاءِ
ضَجْعَةُ الشَّاعِرِ فِي أَكْفَانِهِ
ضَجْعَةٌ تُوجِعُ غَيْرَ الشُّعَرَاءِ
فَالْخُلُودُ السَّمْحُ في الرَّمْسِ هَفَا
ظِلُّهُ يَخْفُرُ نَوْمَ الْبُؤَسَاءِ
يَا وَحِيدَ الشِّعْرِ مِنْ أَيِّ دُجًى
جِئْتَ هَذِي الْأَرْضَ أَوْ أَيِّ سَمَاءِ
عِشْتَ فِي الدُّنْيا غَرِيبًا مُلْهَمًا
نَيِّرَ الْفِكْرَةِ شَأْنَ الْأَنْبِيَاءِ
وَتَنَاهَيْتَ هَوًى فِي أُمَّةٍ
جَرَّرَتْ بَعْدَكَ ذَيْلَ الْكِبْرِيَاءِ
كُنْتَ لِلشَّعْبِ أَبًا أَيَّ أَبٍ
دَائِمَ اللَّهْفَةِ فِي غَيْرِ دَهَاءِ
لَكَ فِي التَّارِيخِ ذِكْرَى مَوْقِفٍ
حَبَسَ الثُّوارَ عَنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ
إِذْ تَدَفَّقْتَ خَطِيبًا لَسِنًا
قَائِمَ الْحُجَّةِ مَعْقُودَ اللِّوَاءِ
عَلَمُ الثَّوْرَةِ لَا يَنْسَى يَدًا
لَكَ مَا دَامَ رَفِيعًا بِفَضَاءِ
هَلْ تَلَاقَيْتَ وَ«الصَّيْرِ»؟ وَهَلْ
هِيَ مَا زَالَتْ عَلَى عَهْدِ الْوَلَاءِ؟
أَمْ تُرَاهَا أَعْرَضَتْ مُذْ أَبْصَرَتْ
فِي سَمَا عَيْنَيْكَ أَظْلَالَ الْبُكَاءِ
وَهَلِ الْعَاشِقُ فِي الْجَنَّةِ، يَا
مُؤْنِسَ الْعُشَّاقِ، مَوْصُولُ اللِّقَاءِ
يَرْتَمِي فِي حُضْنِ مَنْ يَهْوَى كَمَا
تَرْتَمِي الْأَطْيَابُ فِي حُضْنِ الْهَوَاءِ
شَاعِرُ الْوَحْدَةِ، قُلْ هَلْ يَعْرِفُ
الْعَالَمُ الْآخَرُ قَدْرَ النُّبَغَاءِ؟
أَمْ تَرَى النَّابِغَ مَجْهُولًا كَمَا
هُوَ فِي الدُّنْيَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءِ؟
هَاتِ حَدِّثْنَا فَكَمْ حَنَّتْ إِلَى
صَوْتِكَ الْعَذْبِ نُفُوسُ الْأَشْقِيَاءِ
وَامْلَأِ الدُّنْيَا بِمَا عَوَّدْتَهَا
مِنْ حَنِينٍ وَابْتِهَالٍ وَدُعَاءِ
وَأَنَاشِيدٌ كَبَوْحِ الزَّهْرِ فِي
أُذُنِ الْعَتْمَةِ بَيْنَ السُّمَرَاءِ
أَيُّ رِزْءٍ فَتَّ مِنْ قَلْبِكَ إِذْ
هَجَمَ الدَّاءُ عَلَى أُخْتِ الظِّبَاءِ
«جُوْلِيا» وَاللهُ قَدْ كَوَّنَهَا
مِنْ أَمَانِيكَ لِنُعْمَى وَرَخَاءِ
طِفْلَةٌ يَحْتَشِمُ الْفَجْرُ إِذَا
أَقْبَلَتْ تَخْطُرُ فِي آيِ الْبَهَاءِ
تَتَلَاشَى فِي يَدِ الْمَوْتِ كَمَا
يَتَلَاشَى النُّورُ فِي حُضْنِ السَّمَاءِ
فَإِذَا اللَّيْلُ مَدَى عَيْنِكَ
وَالعُمْرُ شَطْرٌ مِنْ مَنَاحَاتِ الشِّتَاءِ
مَأْتَمٌ عَزَّ عَلَى الْأَرْزِ بِهِ
أَنْ يُوَاتِيكَ بِشَيْءٍ مِنْ عَزَاءِ
فَتَنَادَى الزَّهْرُ مِنْ أَدْغَالِهِ
وَمَشَى فِيهِ مُنَدَّى بِحَيَاءِ
وَاسْتَفَاقَ الْفَجْرُ مِنْ أَحْلَامِهِ
شَاحِبَ الْأَلْوَانِ مُعْتَلَّ الضِّيَاءِ
أُخْتُهُ مَاتَتْ فَمِنْ أَيِّ سَنًى
يَكْتَسِي الْوَهْجَ، وَمِنْ أَيِّ سَنَاءِ
وَلَوَ انَّ الْجَبَلَ الْخَالِدَ فِي
وُسْعِهِ دَفْعَ تَصَارِيفِ الْقَضَاءِ
خَلَعَ الْخُلْدَ الَّذِي يَلْبَسُهُ
وَكَسَاهَا الْعُمْرَ فِي أَبْهَى رِدَاءِ
يَا أَبَا الْآمَالِ كَمْ مِنْ أَمَلٍ
لَكَ لَمْ يَنْعَمْ بِأَنْفَاسِ الْبَقَاءِ؟
إِنَّ بَيْنَ الشَّاعِرِ الْمُلْهَمِ وَالْـ
ـقَدَرِ الْأَعْمَى مَوَاثِيقَ عَدَاءِ
كُلَّمَا هَمَّ فَتَى الشِّعْرِ إِلَى
مَطْلَبٍ يُعْلِيهِ بَيْنَ النُّجَبَاءِ
وَامْتَطَى ظَهْرَ خَيَالٍ جَامِحٍ
وَمَضَى يَضْرِبُ فِي كُلِّ فَضَاءِ
وَهَفَا الْوَحْيُ عَلَيْهِ وَارْتَمَى
كَارْتِمَاءِ النُّورِ فِي صَفْحَةِ مَاءِ
يَنْبَرِي مِنْ كُلِّ أُفْقٍ قَدَرٌ
يَتَخَطَّاهُ وَيَرْمِيهِ بِدَاءِ
حَفِظَ الْأَرْزُ اسْمَكَ الْخَالِدَ، وَالْـ
أَرْزُ يَرْعَى عَهْدَهُ فِي الْأَصْدِقَاءِ
يَنْبُعُ الْإِخْلَاصَ مِنْ أَنْحَائِهِ
مِثْلَمَا تَجْرِي السَّوَاقِي بِوَفَاءِ
أَوْ كَمَا تَنْعَمُ فِي كُلِّ ضُحًى
هَذِهِ الدُّنْيَا بِأَنْوَارِ ذَكَاءِ
إِيهِ لَامَارْتِينَ إِنَّا أُمَّةٌ
كَادَ يُرْدِيهَا وَفَاءُ الْخُلَصَاءِ
غَيْرَ أَنَّ الْبِرَّ هَذَا حَدُّهُ
إِنْ تَلَقَّاهُ صَدِيقٌ بِازْدِرَاءِ
جَوُّنَا الْجَوُّ، وَهَذِي أَرْضُنَا
لَيْسَ فِيهَا حَفْنَةً لِلدُّخَلَاءِ