فراشات
يبدو أنه كان يتابع ببصره طائرًا شد الحنين جناحيه لاحتضان زرقة السماء، ربما كان عصفورًا صغيرًا نزقًا، أو حمامة بيضاء طارت من برجها القائم على سطح منزل قريب، أو هدهدًا وحيدًا وبديع الألوان سبق أن رآه واقفًا على حافة الإفريز الأعلى لدار الكتب العتيقة، عندما أقبلت شاحنة سوداء مسرعة كقبضة القدر من الناحية الأخرى ودوت الصدمة التي أخرست عقله وشقت سكاكينها طينة جسده وشجت من الخلف رأسه الذي نزف الدم على سالفيه وقميصه الكتاني الرخيص. انطرح الجسد القصير النحيل على رصيف الشارع بعد أن رفرف لحظة في الهواء كغراب مندفع في هبوطه إلى الأرض، وقبل أن يسقط الجسد في المجرى المخصص لشريطي الترام الذي تصادف زحفه من الشارع الضيق المزدحم نحو الميدان، امتدَّت يدا فاعل خير قفز على الفور فشده بعزم ما فيه ومدده على الرصيف وهو يبسمل ويحوقل ويسأل الله اللطف بعباده. صاحت فلاحة عجوز كانت تجلس على الرصيف المقابل أمام المشنة التي فرشت عليها حزم الجرجير وحبات الليمون: الحقوا الجدع يا أولاد. يا عيني عليك يا ضناي، وفزعت تجري نحو الجسد المصدوم حتى وقفت أمامه وأخذت تشق طريقها وسط الدائرة التي بدأت تتحلق حوله وهي تصرخ: يا كبد أمك يا بني! ربنا يكون في عونها يا حبيبي. وكلما اقتربت أكثر ورأت الرأس الذي دبَّ فيه الشيب قالت وهي تنشج: يا عيني على أولادك يا نن عيني، ربنا قادر يصبرهم ويصبر أمهم. وقبل أن تكمل عديدها أزاحها الرجل الذي عدله على الرصيف وهو يشخط فيها: وحدي الله يا ست، وحدوا الله يا جماعة واطلبوا الإسعاف. وقبل أن ينحني صاحب بذلة أنيقة عليه ليفحصه ويجس نبضه كان صاحب دكان الفول والطعمية على الناحية الأخرى ومعه جاره المصوراتي يجريان لأداء الواجب. قال صاحب البذلة الأنيقة وهو يعتدل ويواجه الدائرة التي تكاثفت حول المصاب: فات الأوان يا إخواننا، ادعوا له بالرحمة، من يعرفه يخبر أهله. هتف صبي يلبس نظارة: أنا أعرفه، ياما رأيته في قاعة المطالعة بالدار وتكلمت معه. وقاطعه ولد آخر يرتدي قميصًا بنيًّا على بنطلون قصير ويمسك في يده ببعض الكتب والكراسات: كنا نسميه دودة الكتب. الجميع في الدار يعرفونه من سنين. بعضهم يسميه الشاعر والبعض يؤكد أنه مجنون وعلى نياته. ارتفع صوت وقور: بس يا ولد أنت وهو، وسعوا يا أولاد، الإسعاف في السكة، هل مع أحدكم جرنال لوجه الله؟
(هو الآن هادئ منكفئ على جرحه وصمته وتاريخه الخاص كتمثال حجري سقط على الأرض وبدأت تطمره الرمال، الجريدة اليومية تغطِّي رأسه ووجهه حتى جذعه وساقيه، والحذاء الأسود المستهلك مستكن ومعفر بتراب الرصيف. هل تتسرب الحروف السوداء إلى رأسه الشاحب المصفر وتلتقي بالحروف والكلمات والأسطر التي تدوم فيها كخلية النحل منذ سنين وسنين، أم خمدت وتراخت وانطفأت فيها الحياة وتناثرت الذكور والإناث والشغيلة مع ملكتهم كالأشلاء الممزقة على الساحة الهامدة لجيش مهزوم؟ هل فكر ساعة الصدمة في القبلة التي لم يمنحها لزوجته حين رآها في الصباح عارية على الفراش كالوردة العطشى لقطرة ندية؟ أم في طفله أو طفلته التي خطر له أن يوقظها قبل خروجه ليداعب وجنتيها ويضمها إلى صدره وهو يضحك ويغريها بالضحك؟ أم تراه لم يفكر إلا في الفصول المتبقية من الحكايات القديمة التي يقرؤها أو في القصيدة التي ما برح منذ أيام أو شهور يلم شتات أطرافها ويجمع بذورها المغمضة الجفون من رياح الجهات الأربع محاولًا أن ينفخ فيها الحياة لتتنفس وتفتح عيونها وشفتيها؟ ها هو الجسد ملقى هناك، والرأس المثقوب غارق في بركة الدماء الحمراء-السوداء المغبرة بتراب الرصيف وغبار الشارع المزدحم في المدينة المتورمة بالضجيج والتلوث والأوجاع والأحقاد. أشياء كثيرة لم يقلها، مواعيد كثيرة أخلفها، وأسئلة جمة راحت تحوم كالفراشات حول الجسد المطروح المهان …)
لاحت عربة الإسعاف من بعيد وهي تتخلل الشارع الضيق المكدس بالعربات والناس مثل سلحفاة ضخمة تشق طريقها في الأحراش، ويضيع صليل أجراسها وسط غابة من زعيق الأبواق ولغط الصياح والشتائم والضحكات المختلطة وجحيم الأغاني الجديدة الذي تسيل حممه من الكاسيتات وأجهزة البث المرئي والمسموع المسلطة على الخلق في المحلات والمقاهي والنوافذ الخشبية المفتوحة على وسعها، ولأن عربات الإسعاف قد عودت المصابين في الحوادث على الوصول بعد فوات الأوان، فقد ابتسم بعض الواقفين حول الجسد الملقى على الرصيف عندما تناهت إلى آذانهم أصوات الأجراس المتكسرة كولولة النائحات بعد خراب مالطة، ووقفت العربة أمام الحشد الذي اتسعت دائرته بمرور الوقت وظهرت فيه بذلة عسكري بشريطين كان قد أسرع إلى المكان إما لأداء الواجب لوجه الله، وإما لكتابة محضر بالواقعة يمكن أن يشهد على نشاطه ويقظته، أو للسببين معًا.
فتح باب العربة الأمامي رجلٌ سمين واسع العينين بشكل ملحوظ وتبدو على وجهه الطيبة والأسى برغم التجهم الذي يكسو ملامحه، بينما لاحقته عبارات ساخطة ومتضجرة من السائق النحيل الذي برزت عظام وجهه الشاحب الضيق الجبهة والعينين: اعمل لك همة يا عبد الحق، صاحبك على لحم بطنه من الصبح. قال عبد الحق وهو ينظر إليه متبرمًا: أنت همك دائمًا على بطنك. يا أخي اتعظ مرة واحدة في العمر. واختنقت ضحكة السائق في الدوي الذي فجره إغلاق الباب بعنف لم يتوقعه من زميله.
وسع المتزاحمون موضع قدمين للرجل الذي ألقى نظرة خاطفة على الراقد تحت ورق جريدة الصباح واتجه إلى الباب الخلفي للعربة وسحب النقالة منه في هدوء. أسرع لمساعدته رجلان من أهل الخير وهما يقولان: عنك أنت يا ريس، حاسب على البالطو الأبيض.
ولكنه لم يتنح عن النقالة الطويلة الخضراء القماش ولم يحاسب على البالطو ولا على نفسه. قلب عينيه بين الواقفين حتى استقرت على العسكري المكرش الطويل القامة فسأله بسرعة وحسم: أي معلومات تفيد التحقيق يا شاويش؟
– طبعًا يا سعادة البيك، صحيح أنا وصلت بعد الرجل ما توكل على الله، ولكن تحفظت على هذه الحقيبة …
قاطعه عبد الحق وهو يمد ذراعه ليأخذ منه الحقيبة السوداء المتهالكة وقال في تصميم يدل على ضيقه بالثرثرة: اطلع معنا بسرعة وأكمل كلامك مع سعادة الضابط وسعادة وكيل النيابة.
– لا أستطيع يا سعادة البيك، أنا عسكري مرور وعندي شغل، وحضرت …
– توكل على الله وروح شغلك، والمحفظة في الحفظ والصون وستوضع في الحرز مع باقي متعلقاته، المهم أن نسرع الآن.
خرج صوت لا يخلو من السخرية من وسط الزحام: ولا داعي للسرعة يا حضرة الباشحكيم، الرجل تعيش أنت والدكتور شافه من نصف ساعة وقال لنا البقية في حياتكم.
– وأين الدكتور؟ تعال يا …
– لا تتعب نفسك، الرجل كان عابر سبيل كشف عليه الله يستره ولما لقي الحال على ما هو عليه راح لحاله.
تقدم عبد الحق وكشف الجرنال عن الوجه المحتقن الغارق في الدم والغياب، وعندما رفع رأسه وعدل قامته وبدأ يقلب بصره مرة أخرى بين الواقفين، تقدم منه رجل وقور تسبقه لحية كثة بيضاء وهو يمد ذراعه اليمنى نحوه: الحقيبة السوداء وجدها الإخوة بجوار المرحوم وسلموها للعسكري أمانة حتى تأخذها الحكومة.
– ألم يستدل منها يا حاج على الاسم أو العنوان أو اﻟ…
– أستغفر الله يا بني، هذا شغل الميري، فتشوا أنتم فيها بمعرفتكم وربنا يوفقكم.
هتف أحد الواقفين ومد رأسه الصغير المحترق بوهج شمس اليوم القائظ التي كانت تميل للغروب دون أن تخف حرارتها: أنا لمحت الرجل وهو ينزل من على سلالم الدار …
قاطعه التومرجي متعجلًا: تقصد داره؟
– لا لا، دار الكتب (وأشار ناحية الدار العريقة المتلفعة بعباءة القدم والغارقة في روائح الكهوف المعبأة بذكريات التاريخ) ثم رأيته وهو يسقط على الأرض بعد أن ضربته الشاحنة لعنة الله عليها وعلى …
– طيب طيب، تحب أن تأتي معنا.
– اعفني الله يسترك، عندك بواب الدار اسأله بنفسك.
وظهر البواب النوبي المستطيل الوجه العجوز الملامح وتطوع بالإدلاء بما يعرفه فقال بلهجته السريعة المحببة: نحن نعرفه يا حضرة الحكيم ولا نعرفه، رجل طيب، الله يرحمه، ولا يفوته السلام أبدًا عليَّ وعلى زملائي، ولكنه ليس موظفًا في الدار، طبعًا أنا أعرف كل الموظفين.
صاح الصبي الذي يضع النظارة على عينيه: نحن نقابله في الدار كل يوم على الله، يظهر أنه … (وأشار إلى دماغه دون أن يضحك أو يتجرأ أحد على الضحك).
قاطعه الصبي الآخر في غضب: لا تصدقه يا حضرة التومرجي، إنه كذاب.
احتج الصبي الأول فأسكته متسائلًا: وما هو الصدق في نظرك؟
اندفع الصبي قائلًا: قلت لك إننا نراه كل يوم في الدار، الجميع أيضًا يعرفونه؛ يقرأ ويكتب في مكان لا يغيره من القاعة ولا يشغله أحد غيره، يظهر أنه شاعر أو ربما …
قال عبد الحق وهو يتأمل الجسد الناحل والرأس الكبير المشعث الشعر وجانب الوجه الذي تجمدت عليه خيوط الدم المتخسر المغبر بالتراب: ربنا هو الأعلم بعبيده، والحكومة أيضًا لا يفوتها شيء، نَفَسكم معنا يا رجالة.
(من أنت أيها المسجَّى هناك وهم ينحنون عليك الآن ليضعوك على النقالة؟ رجلًا تبدو في الأربعين أو الخمسين من عمره. تتسرب أسرار جسده وأفراحه وأحزانه وخطاياه في جسد الأرض، هل تسربت قبل ذلك في قصيدة أو قصة أو كتاب؟ إلى عقل أحد أو قلمه؟ أم احتواها قمقم الصمت وطوقتها أسوار الإهمال؟ مثل برق يمر، مثل صوت المطر، لمع السر لحظة في راحتك فتشنجت تقبض عليه، ثم هوى إلى أطرافك، وابتلَّ شخصك الذاهل عنك وعن العالم بماء الحقيقة. انشقت الروح وشقت قشرتها، وبرز الفتى الحائر والكهل الضائع الذي جلد نفسه وجسده بالتواضع والخجل والانكسار والتردد. أتراه أكمل الآن دورته وأمسك في راحته المتجمعة بوردة الكمال، وردة الموت الذي اختاره ولم يختره؟ أهو يتلفع الآن بالضوء والظل أم ببرودة السكينة والصبر والهزيمة التي نسجتها سنوات عمره العجاف؟ بعيد أنت جدًّا وقريب — ما أبعد الواقفين حولك بالرغم من قربهم منك — وسرك سيدخل معك إلى وحشة قبرك ليؤنسك كما كانت زوجات الملوك القدماء وخليلاتهم يدخلن معهم في صحبة حراسهم المقربين، ولن نعرف أبدًا إن كنت سعيدًا بامتلاك السر أم حزينًا لأنك فشلت في التعبير عنه بكلمات تغلفه وتبقى لنا ولأولادنا وأحفادنا، لكنك صامت هنا وهناك، مزموم الراحتين والشفتين على سرك، منطفئ ومحروم حتى من الدهشة التي انغلقت عليها أبواب جفنيك، وأبدًا أبدًا لن نسمع نبض فؤادك أو همسة شفتيك بعد رجوعك من رحلة الوهم والحلم إلى الشاطئ الأخير، أبدًا لن تستطيع العبارة أن تغري كآبتك الأزلية بالبوح، لن تخترق قناعك الحديدي سهام العيون الجميلة، ولن يهزك حتى السؤال عنك من الأحباب الهاجرين والغادرين، ربما لأن أسئلة أخرى تباغتك، ولأن لهيبًا آخر يتسعر الآن في جوفك، سوالفك اشتعلت بالشيب. رأسك وصدرك يلطخهما وشم دمك القاني المسود، ماذا ترجِّي الآن؟ ماذا تنتظر؟ وهل يمكن أن تشتعل من رماد انطفائك وردة لزمانٍ بهي، لزمان جميل طالما انتظرته وربما عبرت عنه أو فشلت؟)
وضعوه داخل العربة كأنهم يقذفونه في نفق باهت مظلم السقف والجدران لم تزُره أشعة الشمس أبدًا، شكر التومرجي عبد الحق أهل الخير الذين ساعدوه على حمل الجثمان وعزاهم نيابة عن المجهول الذي غطاه بمشمع أصفر كبير وتمتم بقراءة الفاتحة عليه، وبعد أن أغلق الباب بالمفتاح تطلع إلى الواجهة السامقة المخططة باللونين الأحمر والأصفر اللذين يتذكرهما جيدًا كما تتذكر قدماه الدرجات العريضة للسلم العالي الذي طالما تقطعت أنفاسه من الصعود عليها في سنوات فتوته وشبابه الأولى. كانت أشعة الشمس الغاربة ترسم وشمها الذهبي الهش على جدران الدار وتعكس مراياها الآفلة على وجوه المتفرجين الذين بدءوا في الانصراف كل إلى حال سبيله. قال لنفسه وهو يتحسس الباب ويتأكد من إحكام غلقه: شاعر؟ وأمام دار الكتب؟ ما أشبه اليوم بالبارحة. ثم استدار متجهًا إلى الباب الأمامي ليجلس إلى جوار السائق الثرثار، بينما الخواطر والذكريات تفتح أشرعتها وتمخر به بحر الزمن الذي تتلاطم أمواجه ولا تتشابه أبدًا، وعاد ينظر إلى واجهة الدار التي جلس أمامها البوابون النوبيون الذين كان يعرفهم جيدًا، أو أولادهم الذين ورثوا عنهم الطيبة والنقاء والصدق الذي ربما كانوا آخر شهوده وشواهده: ها هي الأيام والسنوات تمر وكل شيء يتغير فيك ولا يتغير، ويموت شاعر تربى في بطون كتبك وداسته العجلات أمام أبوابك وكل شيء هو كل شيء ولا شيء؛ الزحام هو الزحام، والضجيج هو الضجيج، والقبح هو القبح وإن كان يزداد دمامةً ويكتسي بألوان البؤس والبلادة والسأم والتعاسة، وكل شيء لا يحس بك أيها الشاعر ولا شيء، العصافير تطير كعادتها، والشمس تشرق وتغيب كما فعلت بلايين السنين، الفقراء يغطسون في بحار الفقر والأغنياء يتباهون بثرائهم المستفز وقصورهم ومستعمراتهم المسورة وعرباتهم الخنزيرة والشبح وما لا أدري من أسماء، والشعراء الشعراء يُغتالون خفية أو علنًا أو يُنفون عن أوطانهم أو يسقطون صرعى الطغاة أو الشاحنات، وأنت مطروح في هذه العربة ولا أدري إن كان أحد قد سمع عنك.
– يا عم عبد الحق، هل سنقضي الليلة هنا؟
فاجأه الصوت فدلف إلى مقعده والتفت إلى صالح الذي كان يأكل بشراهة سندوتشًا تفوح منه رائحة الفول. قال وهو يضحك: همك على بطنك وحظك من السماء أيضًا؟ ضحك صالح دون أن يخطر على باله الميت المسجى وراء ظهره: صاحب المطعم رجل كله ذوق، يبدو أنه سمعني وأنا أقول لك إنني من صباح ربنا على لحم بطني فأحضر أربع سندوتشات. رحمة ونور على المرحوم، مد يدك باسم الله.
– لا أريد، دعني في حالي.
– يا رجل سلِّ نفسك، كلنا لها.
سكت عبد الحق ولم يمد يده فقال له ضاحكًا وهو يقضم السندوتش الباقي: إذن أسليك بطريقتي.
قال وهو شارد الفكر: وما هي يا شيخ الطرق؟
جلجلت ضحكة صالح وقال: السياسة والكرة، هل عندك غيرهما؟ والنسوان.
قال عبد الحق ولا تنس الجريمة أيضًا. هل قرأت اليوم عن الولد الذي ذبح أمه؟
أسرع صالح قائلًا: والمرأة التي أكلت ذراع زوجها، والتي عملت منه كفتة بالساطور، الحكاية يا صاحبي وصلت للسيما.
قال عبد الحق كأنما يحدث نفسه: خذ بالك من السكة، أمامك مزلقان وكوبري علوي. ثم وهو يلتفت وراءه وينظر من خلال الزجاج المعتم إلى داخل العربة: ونسيت الشاعر الذي معنا؟ المسكين الذي لطشته الشاحنة؟
قال صالح ولم يستطع أن يكتم ضحكته المتفجرة: حظه ونصيبه، بدل ما يموت من التعذيب أو ينتحر فداء ليلى.
(هل خرجت من قبو الحروف والكلمات المهجور ودخلت النفق المظلم الذي ربما يفضي إلى النور؟ أبلغت الآن مدن الحب والحلم التي طالما اشتقت للحياة فيها؟ وهل استقبلك على أبوابها المنقذ فوق جواده الأبيض وشاهدت سيفه الأبيض وزمردة الحق الضائع التي تسطع على مقبضه؟ وأخيرًا هل ذقت خبز العدل وتفيأت ظلال السلام وتوحدت بنور الحق والجمال والنظام وحدائق الحسن والمعنى والانسجام؟ كم تسللت من هذا القبو — ومعك قصائدك وقصصك الموءودة في رحم الشوق والحسرة والانتظار — وتجولت في مدن القبح وعاينت جيوش الفقر وجراده الذي أطلقه على حقولنا الملوك والطغاة والسلاطين من كل العصور، خرجت شاهرًا شِعْرك وحبك وحزنك وإصرارك على أسنَّة رماح قصائدك في وجه الدمامة والحقارة والظلم والنذالة، وذرفت الدمع العاجز على طفل وطفلة يبحثان عن الفتات في أكوام القمامة، وعجوز يفتش في الأعين عن أمل يسند عليه شيخوخته، وبقيت الطفل العجوز الذي يتجول مع أحزانه في شوارع وحدائق مدن الأحلام، وينتظر وينتظر ويسقط كل يوم في حفر الخراب والفساد والغدر واللؤم، وتجرحه الشظايا المتطايرة من مرايا السراب والوهم. أتراك وصلت الآن إلى المدن التي صنع الله بهجتها، وأجرى ماءها وأنبت فيها شجر الحب ونخيله وأزهاره، أم ما زلت تسير على الأشواك وترتطم بالقذارة والحقارة، وتزكم أنفك عفونة الجثث الفاسدة المفسدة التي تزحم المدن وتعوي فيها مسعورة وأنت تسأل نفسك: كيف يترك هؤلاء الموتى بغير قبور ولا أسوار؟ هل رأيت الآن ذلك الذي شعرت في خلواتك أنه سيقتلك ذات يوم؟ وهل انكشف لك السر الذي لم تفهم أبدًا أنه على الدوام — كما يدل اسمه — مخبوء ومكشوف. ها أنت ملقًى كالحجر ومنكفئ كالقنفذ الجريح داخل جسدك المهان، من يدري إن كنت سترجع أبدًا لتحكي لنا عن مدن الحب والحلم والعدل التي نحن لها ونسافر في كل لحظة إليها؟ آه، ماتت اللغة والقصيدة ماتت معك ولن تستطيع أن تعبر عن دهشتك ودهشتنا العاجزة البائسة، منفرد أنت الآن في صحراء صمتك، ترف حولك فراشات الأسئلة وأجنحة المدن التي عرفتها بالقلب وعرفتك بالذكرى والدموع …)
كانت أطياف الغروب قد بدأت تنفض عنها أطراف الغلالة الشاحبة للشمس التي توارى عرشها الذهبي وراء المباني العالية والمآذن السامقة وأشجار النخيل والكافور والجزورين المتناثرة على الطريق المؤدي إلى المستشفى الكبير. ارتفعت دقات الأجراس لتنبيه الحراس، فانفتحت البوابة الحديدية الضخمة بينما حاول البواب والشرطي الواقفان أمامها أن يوقفا السائق قبل أن يتجها إلى قاعة الاستقبال، كبح صالح فرامل العربة وهو يتأفف ويبرطم وتأهب عبد الحق للاستماع لما عندهما من أخبارٍ جعلتهما يلهثان جريًا وراء العربة.
قال البواب: حاسب أنت وهوه، الدنيا مقلوبة.
صاح السائق متبرمًا: طول عمرها مقلوبة، فيه إيه؟
مال الشرطي السمين بفمه على أذن عبد الحق وهمس فيها: المستشفى كلها على رجل، خلية نحل تشغي بالعساكر والضباط والبكوات الكبار. سألت عينا عبد الحق الناعستان وخرج صوته من الغيبوبة التي احتوَتْه: خير كفى الله الشر؟
كتم الشرطي ضحكته وقال: هي الحوادث بذمتك وراءها خير؟ ابن مسئول كبير يا سيدي …
سأل عبد الحق بعد أن ألقى نظرة تائهة على الزحام المتدافع أمام أبواب الاستقبال والطوارئ: خير إن شاء الله.
قال الشرطي بعد أن تلفَّت حوله في حذر: ابن وزير مهم يا سيدي، حادثة تصادم كانت ستقضي عليه هو والَّذِين معه.
دعا عبد الحق ببراءة: ربنا يسلم وينجيه هو وأصحابه.
أطلق الشرطي ضحكته التي طال حبسها: قل هو وصاحباته، قادر ينجي الجميع، المهم تقف من بعيد ولا تدخل الآن.
سأل صالح متبرمًا: والمسكين الذي معنا؟ يعفن يا شاويش؟
قال الشرطي لأمن البوابة الذي لحق به على كلامه: نصيحة لوجه الله، تقف على جنب حتى ينفض المولد أو تدخل الحالة من سكات وتقف في ركن بعيد.
صفق السائق بيديه وهو يقول: يا مستعجل عطلك الله.
أردف البواب: احمد ربك يا صالح، من بختكم والله.
استنكر صالح وأيده عبد الحق بهزة من رأسه: العطلة من بختنا؟ يعنى أروح كل يوم لأولادي على أذان الفجر؟
قال الشرطي مازحًا: قال لك احمد ربك، بدل الدوخة على المحضر والسؤال على العقيد والعميد ووكيل النيابة قدامك نقطة الشرطة بحالها ومديرية الأمن كلها.
حرَّك صالح الموتور فقال البواب مبتعدًا عن زجاج النافذة: المهم تنتظر لغاية ما الميري يروح لحاله.
قال عبد الحق مواسيًا زميله وملطفًا من الموقف: متشكرين يا جماعة، الأمر أمره وربك يطمئن القلوب، توكل على الله يا صالح.
(وأنت الآن داخل النقالة ملقى في الركن المنزوي البعيد، الكل مشغول عنك وأنت أيضًا في شغل عن الجميع، كما في الحياة كذلك في الموت، لا أحد يسأل عنك أو يكترث بك، ودائمًا تتشبث في العاصفة بمجاديف الصبر والصمت والاستغناء، مسجى هناك متحد مع جسدك ملموم كالحجر، مغمض العينين مسود الجبين مربد الملامح متفحم الطاقة والعزم والطموح والأمل، أتراك تضحك في داخلك أم تبكي؟ وهل كافأك الله على ضحكك أو على بكائك بتحقيق الحلم الذي راودك طوال العمر؟ لعله قد أنبت في كتفيك أجنحة الفرح النبوي وندَّى عشب المحبة في حدائق قلبك وأخرجك من كهوف النار والصقيع ومن غرف الحروف الرمادية وأطعمك من مسراته وأنواره، بل لعله قد أرسل إليك براقًا صغيرًا يليق برجل صغير مثلك وانطلق بك صوب سموات لم يحلق فيها خيالك ودرت معه في مدارات مجهولة وبين نجوم وشهب لم تحرقك وجبت أعلى السموات وصافحت ملائكة الله وأخذت مكانك خلف صفوف الحكماء والشعراء والملهمين الذين حاولت أن تصحبهم على الأرض وطردوك من نواديهم غاضبين؟ ها هو سبحانه قد أمر بأن ترتدي غيمة زبرجدية خضراء وأن تشاهد ما لم تر عين أو يحس قلب أو يعبر عنه لسان، وربما أوصلك عبر غيبوبة الصحو وأسلمك إلى شجرة الملأ الأعلى لتلمس الأوراق وتشم العطور وتعاين الألوان وتقطف الثمرات التي لم تذُقْها في حياتك؟ أم تراك الآن واقف بين الضحك والبكاء، يلفك غبار الكلمات الخرساء وتسقط من راحتيك العبارات البكماء، وتميد بروحك المذهولة المرتعدة تلك الدهشة التي كانت قدرك، وهي الآن تتلفع وجهك الشاحب الغريب وتنصت معك إلى المرثيات التي تترنم بها النجوم والرياح وزهور الأفق الزرقاء المبللة بدموعك أو بندى الفجر الجديد؟ قل لي أيها المسجى هناك: أأنت الآن الميت الحي أم ما زلت الحي الميت المهان في الجسد والروح؟)
طال انتظارهما بجوار النقالة والجثمان الهامد في القاعة الكبيرة المصفرة الأضواء. الأقدام تجري وتتدافع داخلة إلى غرفة العمليات وخارجة منها. ممرضون يجرون المحفات البيضاء وممرضات يحملن الأنابيب والدوارق والأجهزة التي تتدلَّى منها الخراطيم، وعساكر وضباط من كل الرتب يغدون ويروحون ويذهبون ويأتون.
ظهر مسئول كبير تبدو على وجهه المحمر المحتقن علامات الجزع والاضطراب والمهابة، يحيط به ويمشي وراءه عدد كبير من الأطباء النواب والامتياز وأكبرهم يحاول أن يطمئن المسئول ويرد على أسئلته الملهوفة. حاول عبد الحق أن يكلم أحد النواب الذين يعرفونه فصاح به: بعدين، بعدين.
ورجع إلى مكانه ليستند إلى النقالة المهجورة وهو يتشبث بالحقيبة السوداء كأنها حرز الأحراز أو كنز الكنوز. لم يكن قلقًا ولا ملهوفًا على شيء، فكم رأى وجرب في حياته الطويلة حتى لم تعد ترتسم على ملامح وجهه ولا تحرك قلبه علامات الدهشة أو الاستغراب.
واستطاع أخيرًا أن يعثر على كرسي جلس عليه وهو يتمتم بأن يلطف الله بالعباد.
أما صالح فلم يطق الصبر وانفلت مسرعًا إلى نقطة الشرطة الملحقة بقسم الحوادث والطوارئ، وتمكن بعد جهد من اختراق الزحام والوصول إلى الشاويش علام الذي يعرفه حق المعرفة وكم أكل معه العيش والملح في الأيام والليالي السابقة. أفهمه علام أن عليه الانتظار لأن الموضوع كبير والبهوات مشغولون. أفهمه كذلك أنهم ينتظرون مثله انصراف المسئول الخطير والاطمئنان على المصابين وأسرَّ في أذنه بأسرار مهمة سرعان ما فقدت — ككل الأسرار في بلادنا — سريتها ولم تنعم بدفء الكتمان لحظات، ثم طمأنه في النهاية أن البيك العقيد ومعه البيك وكيل النيابة لن يكون لديهما وقت ولا جهد لإطالة التحقيق وسيخلصان المحضر بأسرع مما يتصور، ثم ابتسم مداعبًا: هذا إن بقي لديهما وقت كافٍ ولم يؤجِّلا موضوعكم للصباح رباح.
رجع صالح يجر جسده النحيل الطويل جرًّا إلى زميله عبد الحق الذي يبدو أن النعاس غلب جفنيه وخلايا مخه فصدر عنه شخير خفيف. أيقظه من غفلته وهو يهتف به: يا بختك يا أخي، ويجيئك نوم وسط الزلزال؟
فتح عبد الحق عينيه المحمرتين وسأله دون أن يزايله الهدوء الذي عرفه عنه: وماذا فعلت أنت أيها الهمام وسط حقول الألغام؟
– عرفت كل شيء، هل فيك من يحفظ السر؟
ضحك عبد الحق ثم وضع كفه على فمه وهو يحس بالذنب الشديد: لم يبق سرًّا بعد أن وصل إلى طرف لسانك.
قال صالح متخذًا سمت العارف ببواطن الأمور: الموضوع كبير وخطير، آخرة التسيب والفوضى وبعزقة المال بغير حساب.
سكت عبد الحق فاستطرد: ابن الوزير كُسر له ضلعان وجاءه ارتجاج في المخ، أما البنتان …
– هل كان معه أحد؟
– طبعًا طبعًا، شباب هذه الأيام، الكاسيت العالي والشرب والمسخرة والاستفزاز، كان لا بد أن يحدث ما حدث.
– وما للناس وما لهم؟
– يا أخي افهم، قلت لك استفزوا الناس بالمسخرة والضوضاء، كانوا في الهرم بالقرب من مزرعة خضار فخرج عليهم الفلاحون بالنبابيت، والنتيجة ما سمعته الآن؛ الابن ربك هو العالم بحاله والبنتان واحدة كسر في العمود الفقري والأخرى كدمات في الوجه والصدر ونزيف حاد بين الفخذين.
– ربنا يلطف بعبيده.
– هذا هو كل ما عندك؟
– ماذا تقصد يا صالح؟
– هذه هي الحوادث وإلا فلا، لو كان من حظنا أن نسعفهم لكان الحال غير الحال.
– يا أخي ارضَ بنصيبك واحمد الله.
– له الحمد في كل الأحوال، لكن هل يرضى الأولاد؟ أحمد ابني يريد الجينز الأمريكاني وفاطمة مصرَّة على الجزمة البوت ماركة أديداس، وحسين، على فكرة، هل سيسأل أحدٌ عن صاحبنا؟
قال عبد الحق في ضيقٍ لم يستطع أن يخفيه: وماذا يهمك أنت؟ الله ورسوله أعلم.
أشار صالح بيده في سخط وأسند ظهره إلى الحائط وهو ينظر في غيظ إلى زميله وإلى الراقد تحت المفرش الأصفر ثم قال وهو ينغم صوته ويردد أغنية محفوظة: مفقود يا ولدي مفقووود.
(وأنت في الحق مفقود في نظر الحياة والأحياء لا في نظر السائق وحده، لم يعرفك أحد ولم يحاول أحدٌ أن يعرفك، لكن من ينكر أنك بالموت تكتمل الآن وتصبح مؤهلًا للبهاء أو للفناء؟ وبعد أن تسلمتْك الأيدي الخفية ووضعت على رأسك تاج العدم الخالد، هل تنداح من حدقتك النعسانة الحدائق والمرايا والقباب الذهبية لمدائن الغد المأمول والمستحيل، أم تراك تتدحرج كعادتك في آبار الشجون وأغوار السجون وأنهار الجنون التي تسحبك إلى قاع الحزن الأبدي أو الأبد المحزون؟
بالموت وبالصمت تكتمل الآن، تعرف أنك جئت منه ووصلت إليه، أن البداية والنهاية تتحدان فيه، أنه هو الذي كان وهو الذي سيبقى ويكون، الصمت أنت الآن والوحدة والكمد، والأرض نفسها مهجورة بلا سند، والحب لما لم يجد مكانًا في صحارى القلب طار وابتعد، وحين ساد الجوع للحنان والأمان واستشرى الظلام واستبد، لم يبقَ غير القحط والبدد، لا شيء غير الموت غير الصمت لا أحد.)
كانا قد استسلما لسلطان النوم كالخيول المجهدة التي تنعس وهي واقفة، وقبل أن يوغل الليل إلى منتصفه بقليل دوى على بلاط القاعة الساكنة الشاحبة الأضواء كعب الحذاء الميري للشاويش علام الذي اقترب منهما لاهث الأنفاس دون أن يوقظهما، لم يكن لديه وقت ولهذا مد يده وهز كتفي عبد الحق هزةً شديدةً ففتح عينيه وعرف وجه الشاويش وابتسم بصعوبة كأنه يغتفر له حركته المفاجئة من عشمه فيه: خير إن شاء الله يا علام.
– أنتم فين؟ الدنيا مقلوبة عليك وأنت ولا هنا.
– سعادة البيك العقيد سأل عني؟
– العقيد تعب وروح بيته، لكن النقيب حازم الله يستره ولأجل خاطرك.
– شاب طيب وابن حلال، عمري ما قصدته في شيء …
– وهو منتظر ويريد أن ينصرف، اعمل لك همة، وتعال بسرعة لإتمام المحضر، ولا تنسَ الحرز والذي منه.
فتش عبد الحق عن الحقيبة السوداء التي كانت قد انزلقت من على حجره واستقرت تحت الكرسي، قبل أن يسوي شعره وملابسه سمع الشاويش يوبخ صالح على نومه وإهماله: وأنت يا حضرة، لو كنت في الجيش أو البوليس كنا علمناك النظام.
– حصل خير يا شاويش علام، كفى الله الشر.
ضحك الشاويش برغم تعجله ولهفته قائلًا: الاسم إسعاف وأنت محتاج لمن يسعفك، التليفونات هوستنا وأنت ولا هنا، تفضل العنوان، بسرعة على الزمالك.
قاطعه صالح هاتفًا: الزمالك مرة واحدة؟
قال الشاويش: يالله شد حيلك، ولد وقع من البلكونة والحادث غامض.
قال صالح ولم يخفِ فرحته: غامض ولا واضح، المهم أنه في الزمالك، والله وفرجت يا أولاد … خليك أنت يا عبد الحق مع الشعر والفقر، تركتكم بعافية، على فكرة يا شاويش …
برطم علام كأنه ينخس حمارًا بليدًا: قلت لك يالله الولد زمانه غرقان في دمه.
قال صالح وهو يتهيأ للانصراف: يا ترى ابن الوزير و…
رد علام شاخطًا فيه: كلهم في الجبس والحمد لله، يالله تحرك يا أخي.
جرى صالح مسرعًا نحو الباب كغراب جائع يستعد للهبوط على صيده، بينما مشى عبد الحق إلى جانب الشاويش وشفتاه تتمتمان وتستغفران الله من كل ذنب عظيم. كانت يده تمسك بالحقيبة السوداء المنتفخة التي أصابها الجرب وتهرَّأت أطرافها وهو يسندها إلى صدره كأنه يحتضن طفلًا محمومًا تورمت خدوده وبرزت عظام وجهه وضلوعه، بينما وردت عليه أثناء عبوره للقاعة الفسيحة إلى الممشى الطويل الناصع البياض لمحة من الحلم الذي طاف به للحظات لا يدري هل طالت أم قصرت. تراءت له طرقات الجبانة الكبيرة وشوارعها الضيقة ومقابرها الداكنة المتشابهة كالمتاهة التي راح يبحث فيها عن قبر جديد لم ينشف الأسمنت الطري الذي سد فوهته ولم يوضع عليه اسم ولا تاريخ ولا فرع صبار ولا ورقة خضراء واحدة. خُيل إليه من التعب والدوخة أنه عثر على القبر الطازج وأسند عليه رأسه المتعب وراح يسأل ساكنه الجديد عن اسمه وعنوانه وهويته وصنعته، والأغرب من ذلك أن الميت رد عليه وأفهمه أنه شاعر يبحث عن نفسه التائهة في المدينة الضخمة التي لا تقل رعبًا عن مدينة الموتى التي كلت قدماه من السعي بين أضرحتها وقبابها وشواهدها الصامتة، ويبدو أنه كان على وشك أن يتذكر بقية الحوار بينه وبين الشاعر الضائع المجهول حين تنبَّه إلى أنه قد وصل بالفعل مع صديقه الشاويش علام إلى الباب الذي سيدخلان منه على النقيب.
وجد نفسه مباشرة أمام وجه مشرق بالرضا والابتسامة العريضة بالرغم من آثار الإرهاق البادي عليه. هتف وهو يمد ذراعه مرحبًا: قربنا من نصف الليل يا عم عبد الحق، تفضل اقعد.
قال التومرجي وهو يطرق برأسه معتذرًا: العفو يا حازم بك، أستغفر الله يا سيادة النقيب.
هتف به النقيب: دائمًا مثل البلسم على الجرح، قلت لك ألف مرة نادِ باسمي فقط، ألست واحدًا من أولادك؟
– ربنا العالم بالقلوب، وأعز والله.
– تأخرنا عليك يا عم عبد الحق والعقيد استأذن من شدة تعبه.
– الله يكون في عونكم يا حازم بك، كنتم مشغولين على الآخر.
– ياه، كان مولد وانفضت زفة العريس والعروسين، تصور، عريس وعروسين مرة واحدة، المهم ربك سترها. ابن المسئول الكبير نجا بمعجزة، شفت آخرة الفُجر وعدم الانضباط؟ خلِّ الحكومة تندم على تدليلها للأغنياء وأولاد الأغنياء، المهم ندخل في الموضوع، ما هي آخر أخبار المصاب؟
– المصاب بعيد عنكم مات في ساعتها. لما وصلنا كان السر الإلهي خرج منه، صدمة شديدة في المخيخ كما قال الدكتور نبيل.
– هل كشف عليه بنفسه؟ والله كتر خيره، مع أنه كان معنا طول الوقت في الدوامة، وأين حدث هذا؟
– أمام دار الكتب، عشرة أمتار فقط من سلالمها العالية، كان المسكين يريد أن يلحق بالترام القادم من شارع محمد علي فصدمته شاحنة فاجأته كالصاعقة، الظاهر أنه …
كان النقيب حازم يدوِّن بعض الملاحظات في دفتر أمامه ليثبت الحالة ويتمم المحضر.
ولأن الكاتب ووكيل النيابة كانا غائبين بعد ذلك اليوم المرهق، فقد وجد نفسه مضطرًا لتسجيل كل شيء بنفسه. رفع رأسه بعد قليل وسأل عبد الحق الذي غمر وجهه الأبيض العريض ضوء ناصع ينبعث من نور داخلي خفي: قلت الظاهر أنه …
– نعم، نعم، الظاهر أن خياله سرح من كثرة ما قرأ في الدار.
– ولماذا لا تقول إنه موظف فيها؟
– لا لا. البواب بنفسه أكد أنه يتردد عليها من سنوات ليقرأ فيها، بل أكد لي صبيان أنهما يعرفانه أيضًا بالمكان المحدد الذي يشغله دائمًا في قاعة المطالعة، على فكرة …
تساءل حازم وقد غلبه الشوق لمعرفة الحكاية وأنساه لهفته على الانصراف: نعم يا عم عبد الحق؟
– أحدهما قال إنهم يسمونه الشاعر، والآخر قال عنده لطف.
ضحك حازم رغمًا عنه وقال: والشعراء في كل وادٍ … ما المانع أن يكون الاثنين في وقت واحد؟
قال عبد الحق وهو يمد ذراعه إلى النقيب ويسلمه المحفظة السوداء التي ظلت طول الوقت راقدة على ركبته كقطة سوداء ميتة: من يدري يا سعادة النقيب؟ ربما تكشف هذه الحقيبة التي وجدناها …
أمسك حازم بالحقيبة وقلبها بين كفَّيْه وطافت على وجهه ظلال حزن غامض عندما أحس أن كل ما فيها ورق في ورق، نظر لوجه عبد الحق وقال: قبل فتحها وفحص محتوياتها، ألم تجد في جيوبه شيئًا يدل على شخصيته؟
– طبعًا قمت بالفحص الأولي، لم أجد أي شيءٍ مفيدٍ.
– لا بطاقة ولا إيصال؟ من أي نوع لا يهم، إيجار، نور، سداد مبلغ مالي، أي شيء يمكن …
– للأسف يا حازم يا بني، منديل جيب رخيص، بضعة قروش وورقة قديمة من ذات الخمسين قرشًا، وتذكرة الترام الذي ركبه في الصباح.
– من أين؟ ربما تهدي إلى سكنه أو حتى الحي الذي ركب منه.
– يظهر أن حضرتك لم تركب المواصلات من سنين، التذاكر لا يوجد عليها إلا السعر والرقم المسلسل، ثم كيف نهتدي إلى …
وضع حازم القلم على المكتب وحاول أن يخرج ضحكة تخفف حيرته ثم قال وهو ينظر في ساعة يده: والعمل الآن؟ أغثنا، أدركنا يا عم عبده.
– ليس أمامنا إلا فتح الحقيبة، ربما …
– وماذا تنتظر؟ هيا بسرعة، تشرب فنجان قهوة.
اقترب الشاويش علام الذي كان يقف زنهارًا على الباب من النقيب عندما سمع كلمة القهوة وأسرَّ في أذنه أن البوفيه شطب مبكرًا هذه الليلة، فصاح الضابط الشاب من ضيقه: مفهوم، مفهوم، كل الأبواب مسدودة، لم يبقَ إلا أن تسرع بفحص الحقيبة قبل أن نقع من طولنا، تفضل يا عم عبد الحق، على مهلك.
– كلها أوراق، هل نفحصها واحدة واحدة؟
– المهم نعثر على شيء يفيد في تحديد شخصية الرجل، وإلا اضطررنا لتحويله كما تعلم …
– لا داعي أبدًا، الدكتور نبيل لم يجد ضرورة لتشريحه، كما أن مستشفى الجامعة لا يحتاج في الإجازة، المهم.
أخذ التومرجي يفرغ ما في الحقيبة وعلامات التعجب ترتسم على وجهه وتزحف على جبينه المتغضن وتسحب التمتمات من بين شفتيه فلا تلبث أن يسمع حفيفها شيئًا فشيئًا: لا حول ولا قوة إلا بالله، أوراق من كل الأحجام والألوان والأشكال صغيرة وكبيرة، بيضاء وحمراء وزرقاء، وملاحظات وخطوط من كل الأنواع نَسْخ ورقعة وكوفي، ما هذا؟ أشعار أيضًا؟ يظهر أنها مختارات من المتنبي والمعري و…
قاطعه حازم مغتصبًا ضحكة قصيرة: هل قلت المعري؟
لم يتركه يكمل دعابته فاستطرد: أجل أجل. أبو العلاء المعري، صاحب اللزوميات ورهين المحبسين.
– مفهوم مفهوم.
– وقيس بن ذريح، أقصد مجنون ليلى، حتى شوقي وناجي و…
تدخل حازم: يمكنك أن تقرأها فيما بعد — ثم وهو يتفرس وجهه بحب وشوق — هل كنت شاعرًا يا عم عبده؟
قال عبد الحق وهو يرفع رأسه ويهزها في أسف: كنت وأفلست، ياما قرأت وحفظت، ياما كتبت أغنيات للإذاعة ولم يرد عليَّ أحد، أقصد بالعامية، هل تعلم أنني عرضتها يومًا على بيرم فنظر فيها قليلًا وربَّت على كتفي قائلًا: رح يا بني شف لك شغلة تنفع الناس. ثم أعطاني ظهره المنحني قليلًا وضغط على حزمة الأوراق التي لا تفارق إبطه.
– يعني قابلت بيرم نفسه؟ صاحب الأوله آه وغنى لي …
– نعم نعم، وفي مرة أخرى قال لي: رح يا بني وتزوج، المهم تبعد عن الشعر ويبعد عنك.
– لا بد أنك كنت مدمنًا على دار الكتب.
– وعلى المكتبات القديمة في الأزهر والحسين، بعدها قررت أن أسعف الناس ما دمت لا أستطيع أن أسعف نفسي.
– وتعلمت التمريض وصرت أعظم وأشهر …
– أستغفر الله، ولم أنقطع مع ذلك عن القراءة، على الأقل لمساعدة الأولاد في دروسهم.
– المهم أنك ما زلت تعيش الشعر بدلًا من أن تقوله، الطيبة والكمال وحب الناس يا عم عبده، أكمل أكمل.
رجع عبد الحق الفحص الأوراق والدهشة تطل من عينيه في كل لحظة دون أن تفصح عن نفسها بكلمة، كان يعلم أن الوقت ضيق والنقيب مرهق ومتعجل؛ ولذلك راح يقول كأنه يقرأ من لوح مسطور أمامه: ومذكرات، ربما كان يكتب مذكرات أيضًا، لكنها مبتورة كقطع فخار مهشمة وليس فيها شيء محدد يدل على شخص محدد، ما هذا؟
– هل وجدت شيئًا يا عبد الحق؟
– أوراق مطبوعة، بروفات، لا بد أنها بروفات كتب تحت الطبع، انتظر، العنوان موجود أيضًا، وبعض الملازم تم تصحيحه وشكله، بدائع الزهور في وقائع الدهور.
– ماذا؟
– الكتاب المشهور لابن إياس الحنفي، فيه سير الأنبياء عليهم السلام، من آدم إلى موسى وعيسى ويونس بن متى وسيدنا الخضر وأهل الكهف، وهذه ملزمة من كتاب آخر أهوال يوم القيامة وعذاب القبر.
– أعوذ بالله، وماذا نفهم من هذا؟
– ربما يكون نساخًا يرتزق من …
– نقول نساخ؟
– نعم نعم، كنت أراهم بكثرة في الدار، عجائز ملتحين مصفري الوجوه محنيي الظهور على الكتب والمخطوطات، ينسخون ما يطلبه منهم العلماء والأدباء والناشرون، لا سيما الكتبية والوراقون وأصحاب المطابع القديمة في الأزهر والحسين والعتبة وشارع المعز …
– المهم، المهم، كان ينسخ بخط جميل كما تقول، وربما كان يكتب الشعر أيضًا وينشره، وربما يعرفه الكتبية في الأحياء الشعبية والأدباتية.
– تقصد الأدباء يا سيادة النقيب؟
– لا فرق، وربما بعض النقاد والقراء، لكن ماذا ينفع هذا كله؟ لم نعرف الاسم ولا العنوان، لن نستطيع الاتصال بأهله إن كان له أهل، ولا يمكن أن نوزع صورته على هؤلاء الناس ولا أن نطرق كل الأبواب في الشوارع المقطوعة والحارات المسدودة لنسأل عن شاعر بائس فوق السطوح أو نساخ فقير أو مصحح على باب الكريم.
قال عبد الحق في صوت حزين: بالطبع مستحيل، حتى هذه الأوصاف لا ندري إن كانت تنطبق عليه، المسكين عاش مجهولًا ومات كذلك مجهولًا.
– مجهول، معك حق يا عم عبد الحق، وليس أمامي الآن إلا أن أقفل المحضر وأعطيك الأورنيك كما هو معتاد: يُحوَّل إلى المشرحة ويحفظ لمدة أسبوع على سبيل الاحتياط حتى يسأل عنه أهله.
(فحصوا أوراقك وجذاذاتك وخواطرك ومشروعاتك، لكن لم يجدوا وجهك منعكسًا في أية صفحة، أيضًا لم يجدوا ذلك الطفل الذي كنته ذات يوم وربما يتأمل الآن وجهك المحتقن العجوز وجسدك المنسي المهان، وهل تذكرته عينك الداخلية التي تفتحت فجأة كوردة الموت. عندما كان يدخل خلسة إلى مكتبة أبيه ويغرق نفسه في بحار الحروف الغامضة؟ والكتب تطل عليك من فوق الرفوف كوجوه مومياوات محنطة تبتسم لك وتغريك بالنزول إلى توابيتها، أو كملاحين عجائز يرتدون أقنعة نساك أو مغامرين أو أولياء يمشون على الماء ويشيرون إليك من بعيد ومن قريب. الأغاني كانت هناك وإحياء علوم الدين والبخاري والمسعودي وعرائس المجالس وتلبيس إبليس وألف ليلة وليلة، وأنت تبكي على الشاطئ من الرعب بينما تتخلَّق في داخلك القصائد المبتورة والقصص المهشمة والحكايات التي رويتها بعد ذلك ولم يسمعها أحد، أتراه الآن بعينك الداخلية التي تغلي وتستعر فيها النيران كعين الحياة التي غطس فيها الخضر، بعد أن سقطت عنك أقنعة الخوف والحيرة والطموح والفرح والحزن؟)
من أنا؟ ماذا أريد من العالم وماذا يريد العالم مني؟
كانت هذه هي الكلمات أو بالأحرى الأسئلة التي نفذت كالمسامير المحمية في صدر عبد الحق عندما لملم الأوراق المبعثرة ووضعها بحرصٍ في المحفظة السوداء ثم أسندها على صدره واستأذن من النقيب حازم وتمنى له الراحة واللقاء القريب على خير. عاودته صورة القطة السوداء الميتة التي خطرت على ذهنه عندما وجد نفسه يحتضن الحقيبة السوداء وهو في طريقه مع الشاويش علام إلى حجرة النقيب فتساءل وهو يبتسم لنفسه: من كان يصدق أن القطة الميتة تختزن في بطنها المتورمة هذا القطيع من صغار القطط العمياء؟ هل كانت تتصور أن الحكم قد صدر عليها وعلى أولادها بالموت قبل أن تفتح عيونها وتستقبل النور؟
جر خطواته المتئدة على بلاط القاعة الفسيحة الشاحبة الإضاءة كأنها سماء مقلوبة غشيها الضباب الكثيف وانطفأت فيها كل الكواكب والنجوم، ووجد في طريقه إحدى العربات البيضاء التي تستخدم في نقل المرضى فسحبها أمامه في هدوء واتجه إلى الركن البعيد الذي أُركنت فيه النقالة والجثمان الذي لا يعرف له صاحب ولا أهل، وبالرغم من إحساسه بالدوار والجوع والعطش وجد من واجبه أن يسلم الأمانة ولا يؤجل شيئًا إلى الغد. تحامل على نفسه حتى وضع النقالة على العربة وراح يدفعها ناحية المشرحة. الباب الكبير مفتوح والأضواء الباهتة تنعكس على الأرضية والجدران الرطبة والثلاجات الرابضة بجوار بعضها كصفوف وحوش مائية منقرضة تجفف نفسها على اليابسة، لكن أين أنت يا عبد العاطي المتعوس؟
نادى بصوت خفيض ثم بصوت أخذ يرتفع شيئًا فشيئًا ويرتد إليه صداه الثقيل: يا عطا، يا عطية، يا ولد يا صعلوك في وادي الملوك. وابتسم لهذه الكنية التي أطلقها عليه أكثر من مرة وهو يسلمه رزقه الموعود في أوقات الليل والنهار دون أن يفقه الصعلوك الذي يفغر فاه من الدهشة شيئًا مما يقول؟ كان عجبه يتزايد وتتسع ابتسامته كلما رأى أمامه الجسد القصير المفتول العضلات فيسأله على الدوام: كيف نقلوك من السيرك إلى المشرحة يا عطية؟ ثم يتذكر ما قاله له النائب سمير ذات مرة وهو يداعبه: كلما رأيتك يا عطية تذكرت حفار القبور في هاملت. ويواصل عطية نشاطه الدائب كالنحلة دون أن تزايل الدهشة والحيرة فمه ولا عينيه، ويضرب عبد الحق الذي لم يفهم كذلك شيئًا مما قال النائب كفًّا بكف ويردِّد وهو يبسمل ويستعيذ بالله من شر ما خلق: حكمتك يا رب، بلياتشو وحارس مشرحة، اللهم لا اعتراض، لك حكمة في هذا وأنت أحكم الحاكمين.
لما يئس عبد الحق من سماع صوت عبد العاطي أو رؤية جسده ورأسه الصغير المضحك أقنع نفسه بأنه سيرجع حتمًا بعد قليل وليس أمامه إلا أن ينتظره في ركن هادئ، وتذكر الحقيبة السوداء عندما سقطت منه على الأرض وقال لنفسه: هي فرصة للتقليب في أوراقها قبل تحريزها وختمها بالشمع الأحمر في الصباح. فرش منديلًا على الأرض تحت مصباحٍ صغير معلق على الحائط وفتح الحقيبة وأفرغ محتوياتها على البلاط وبدأ يستعين بالقراءة على الملل المُميت الذي تلفحه أنفاسه الثلجية من الكتل المعدنية الرابضة أمامه.
– كل هذه الأوراق يا ربي. كل هذه السطور المضطربة كخربشة الدجاج؟
لم يلبث أن هتف بهذه الكلمات بمجرد أن تراكمت الأوراق أمامه وكونت تلًّا هرميًّا تجري عليه الحروف الصغيرة والكبيرة والسوداء والحمراء كجيوش النمل الأبيض والداكن من كل الألوان … وقعت عيناه على خليطٍ يصعب تمييزه: أوراق سائبة دونت عليها ملاحظات ونصوص نثرية وشعرية منقولة عن كتب عديدة ودواوين لا حصر لها، حزم ورقية كدفاتر اليد الصغيرة على كل منها عنوان مختلف عن الآخر: مشروعات، مسودات قصص وحوارات نثرية وشعرية، لم تركتني (وتحتها عنوان فرعي: سيرة ذاتية لن تكتمل)، مختارات شعرية (وتحتها كذلك عنوان فرعي: تم العدول عنها مؤقتًا)، قصص حاضرة وقصص مؤجلة لم تنضج بعد، خواطر كاتب حر (وبين قوسين: يصارع كل شيء ليكون حرًّا من كل شيء …)، النسخة الأولى من الجحيم، مذكرات من وحي اللحظة (وعنوان فرعي شطب على أكثر كلماته: أو من وحي الغربة، الحرمان، الإحباط، المرارة، غدر العقارب اللعينة والذئاب والكلاب السمينة …)، نصوص يمكن الاستفادة منها في أعمال مقبلة (كانت حزمتها هي أضخم الحزم وأغناها بالنصوص وبالحذف والشطب والمحو المتكرر)، بجانب الصفحات المنسوخة والملازم التي أخرجها قبل قليل وعرضها على النقيب حازم وهو يقول إنها قد تكون تجارب طبع لكتب قديمة تعيد نشرها مكتبات قديمة في الأحياء الشعبية العتيقة، وإنها ربما تدل على أن الميت كان يكسب خبزه اليومي من نَسْخ الكتب والمخطوطات أو من تصحيح تجارب الطبع أو منهما معًا ومن أشياء أخرى لا يعلمها.
أسند عبد الحق رأسه إلى الجدار الرخامي البارد وأخذ ينظر إلى الأوراق المتناثرة كسائح متعب يتأمل أطلال مدينة أثرية ترامَت على ساحتها الخربة صنوف وأشكال من الأحجار والنقوش ورءوس تماثيل مبتورة وبقايا أسوار هياكل ومعابد وأمكنة مفرغة من أزمنتها القديمة.
استراح قليلًا ليلتقط أنفاسه ومد أصابعه ليلتقط الحزمة التي كتب على غلافها المطوي بخط كوفي منسق وبديع: لم تركتني؟ سيرة ذاتية لن تكتمل، نزع الخيط المطاطي الذي رُبطت به وبدأ يتابع السطور والجمل التي تشبه عناوين مؤقتة لا تؤدي معنًى مفيدًا، مجرد علامات طريق أو إشارات وتنبيهات للذاكرة ومفاتيح لأبواب يمكن أن تُفتح في المستقبل: المطرود أو المنبوذ أو الغريب أو الشريد، لا، لا، كلمات صاخبة ومثيرة للسخرية.
لا داعي للفجاجة المنتشرة في هذه الأيام، ربما يكون الأفضل: لم تركتني؟ على الرغم من إشارتها الواضحة إلى المسيح على الصليب، أنا أيضًا تُركت وتَركت نفسي للجلادين من كل نوع.
الفصول الأساسية
-
(١)
المطرود: الخروج من البيت ليلًا على صراخ الأم ونباح الكلاب الفشل في التعليم الديني والتصميم على عدم إكماله ورفض العمل مع أبي وإخوتي، كيف وهبت حياتي للأدب مع علمي بأنني وهبتها للجوع والحرمان وتنكر الحياة والمجتمع.
-
(٢)
التوجه للمدينة والبحث عن عمل ومسكن. صديقي عبد البصير الذي سبقني إليها واستقر في العمل الصحفي يرشدني إلى مطبعة الهدى والنور ويوصي عليَّ صاحبها العجوز البخيل. عذاب النسخ والتصحيح وضياع الوقت والعمر.
-
(٣)
الحب الأول (لا لا، الثاني بعد صفاء ابنة مدير مكتب البريد التي ردت رسائلي وفضلت عليَّ معلمًا مضمونًا يعمل في السعودية لتعيش في جوار الحرم ونعيم الريال) كيف عرفني عبد البصير على اليونانية الضخمة ذات اليد الحديدية صاحبة البنسيون في شارع محمد علي، وكيف حللت محله في الغرفة التي كان يستأجرها ويعاكس منها حفيدتها الجميلة التي ازدرَتْه وكرهته. قصتي مع الحفيدة التي فاجأتني بحبها لي وفاجأتها بأشعاري وحكاياتي التي لا تفهمها وإن كانت تضحك كثيرًا عند سماعها، مفاجأتها الأخرى الكثيرة واتفاقنا على الزواج ثم رفض أهلها للشاعر الذي لا يطعم نفسه وإشفاقي عليها من المصير البائس مع كاتب لم يعترف به وربما لا يكسب من عمله إلا المزيد من التجاهل والفقر، تركي للغرفة ومفاجأتها الأخيرة بزيارتي في حجرة البدروم التي أويت إليها في الغورية وسفرها مع زوجها إلى اليونان قبل أن تعلمني اليونانية أو أعلمها الفصحى.
-
(٤)
الشعر قيدي وخلاصي، توقُّفي عن قوله بعد فشلي في نشر الديوان، عبد البصير التقدُّمي يسخر منه ويسفهه وينصحني بالاتجاه للقصة والرواية والتردُّد على المسرح، البدء في مشروعات قصصية ومسرحية لم يتم منها إلا «الجحيم».
-
(٥)
تفاصيل الرواية التي عرضت فيها جحيمي الخاص واستفدت من ترجمة جحيم دانتي التي دلَّني عليها عبد البصير ومن رسالة الغفران ورفض الناشر الذي دخت حتى وصلت إلى مكتبته في الفجالة. بعد ستة شهور يعيد إليَّ المخطوطة وعليها تأشيرة ناقد كبير: عنوان منفِّر وكاتب مبتدئ مشوش وليته يجرب الكتابة عن النعيم بدلًا من الجحيم الذي نحيا فيه ليل نهار. غضبي وثورتي على الناشر وتمزيق المخطوطة أمامه وخروجي من جحيمه إلى الأبد والدوخة بالمجموعة القصصية على غيره من الناشرين.
-
(٦)
مشروعات أخرى تستغرقني بينما تغرقني دوامة النسخ والتصحيح والعجز الدائم عن مواجهة الضروريات، اللجوء لتعليم الصبية والأطفال مبادئ القراءة والكتابة والحلم المستمر بمدينتي الفاضلة المستحيلة.
-
(٧)
فصول أخرى لم أستقر عليها واضطراري لترك البدروم بعد رفضي للزواج من صاحبته المعلمة الثرية التي أصرت على إبقاء العصمة بيدها ومواصلة حياتها ولهوها.
-
(٨)
الحب الأخير للقارئة الجميلة التي تعرفت عليَّ في قاعة المطالعة بالدار ونسخت لها كراريس المحاضرات وأصلحت بحوثها ثم فوجئت بها يومًا أمام الدار تعرفني على خطيبها الرقيع الرابض في سيارة فارهة أمام السلالم العتيقة والبوابين النوبيين الطيبين … إلى آخره، إلى آخره.
طوى عبد الحق حزمة السيرة الذاتية التي لفتت نظره سطور أخرى على غلافها لم يكن قد انتبه إليها: مراجعة الأيام وزهرة العمر وحياتي والسبعون، البحث عن ترجمة اعترافات روسو ومذكرات جوته اللذين سمعت اسمهما لأول مرة من عبد البصير، ثم هذه الملاحظة وتحتها خطوط سوداء كثيرة: لا بد من تعلم لغة أجنبية، المعاهد الخاصة نفقاتها باهظة … وبعد أن استراح قليلًا ومسح زجاج نظارته ونادى عبثًا على عبد العاطي مد يده مرة أخرى إلى حزمة كتب عليها بخط نسخ أحمر جميل: مشروعات (وبين قوسين هاتان الكلمتان: فرعونية وإسلامية) أخذ يتابع المخططات التي تشبه السقالات المقامة فوق العمائر التي لم تكتمل جدرانها فبقيت كالهياكل العظمية المفتقرة لِلحمٍ يكسوها: المجد لسيت: صياغة جديدة لأسطورة قديمة. كنوز رامسيتيت معالجة مسرحية، شعرية أو نثرية، للقصة البديعة التي قرأتها في كتاب «هيرودوت في مصر». الشقيقان المسكينان يضحكان على فرعون المستبد الخبيث وينتصران عليه ويخرجان سالمين من كمائنه وفخاخه. سقوط الشقيق الأصغر في الفخ واضطرار شقيقه لقطع رأسه حتى لا يتعرف الفرعون وجنوده على شخصيته وتسليم الملك في النهاية وتزويج أخيه من ابنته ثم هروب العريس من حفل الزفاف إلى قريته ليقف إلى الأبد في صف الشعب ويساعده على التخلص من الحاكم المستبد ويسلم كنوزه للناس.
-
«الحمار الفصيح»: إعادة كتابة القصة المشهورة على لسان الحمار، الاستفادة من القصة القديمة ومن حمار الحكيم وحمار الكاتب الإسباني الذي غاب عني اسمه.
-
«اعترافات الحلاج»: مشاهد نثرية في حوار.
-
شهيد النور: كُتب منها ثلاثة مناظر والباقي يحتاج لمراجعة هياكل النور وبعض كتب التصوف، البحث في مكتبتي وفي المكتبات الخارجية عن اللمع ودوائر المعارف والرسالة القشيرية، أنوار الروح تذيب طبائع الاستبداد، الجلاد هو الصديق الحميم، والسيف هو النور.
-
آه يا سقراط، هل عرفت نفسك في النهاية؟ هل أعرف نفسي أنا أيضًا؟ حوارات معه في شوارع أثينا وفي بيته مع زوجته الشرسة وأولاده وخصوصًا في زنزانته قبل أن يتناول السم.
طبق عبد الحق الأوراق ووضع الحزمة في مكانها وهو حائر يسأل نفسه عن الحلاج والسهروردي المقتول والملك الفرعوني اللئيم وست الجبار الشرير وسقراط المظلوم، لم يكن قد سمع بهذه الأسماء ولا وقعت عينه عليها فيما قرأ ويقرأ منذ أن هجر الزجل أو هجره في أول أيام الشباب، ومد يده إلى حزمة كبيرة كتب عليها المختارات وتكدست أوراقها بقصائد وأبيات انتخبها الراقد تحت المفرش الأصفر بالقرب من الثلاجة من دواوين قديمة وحديثة لا حصر لها. لم تكن كلها أشعارًا بل اندَّست بينها كذلك حكم وفقرات وعبارات متناثرة يبدو أنها حازت إعجابه ولم تقل شاعرية عن القصائد والأبيات المختارة، وقبل أن يتأهب لمتابعتها بشوق ولهفة تحيي جذوة شوقه ولهفته القديمة للشعر الذي تركه إلى الأبد، لفتت نظره على الغلاف هذه العبارات التي ربما يكون الشاعر قد أضافها حديثًا: العدول عن هذه المختارات. أين هو الناشر؟ وماذا ستضيف إلى المختارات القديمة والحديثة؟ إعلان الحرب على القراءة النهمة، خصوصًا على الشعر الذي هجرني وهجرته، لم يبق إلا أن أواجه الجدار الأخرس والقلم في يدي، أن أواجهه وأنتظر الطلقة التي ستمزق القلب أو الطعنة التي تخترق الظهر. لم يبقَ إلا …
كانت الأصوات قد اقتحمت قاعة المشرحة وكادت أن تدنس كذلك حرمة الخشوع في محرابها الساكن سكون الموت، أصوات أقدام تضرب الأرض برعونة وجرأة، وأصوات غناء هابط لا يراعي هيبة المكان ووحشته ورهبته، وتأكد عبد الحق أن الصعلوك قد شرف أخيرًا فرفع صوته مناديًا بينما انشغلت يداه في لمِّ الأوراق وحشرها في بطن القطة السوداء: أخيرًا وصلت يا عطية؟
مرت لحظات قبل أن يظهر شبح قصير ممتلئ الجسم مترنح الخطوات، قطع عبد الحق عليه غناءه الفاضح الخشن بصوته الرزين العميق: ولك نفس تغني أيضًا؟
– من؟ عم عبد الحق؟ يا محاسن الصدف، وأنا أقول المشرحة نورت وأصبحت تشرح الصدر.
– كأنك راجع من البار أو من السيرك.
أغرق عطية في الضحك ثم وضع يده على فمه وقال: الله يجازيك كل خير يا طيب يا أمير، دائمًا تفكرني بالذي مضى، وأنا أطول أرجع للسيرك أو حتى أتفرج عليه، كفاية عليَّ سيرك الأموات من صباح ربنا، تعرف يا عمنا الكبير …
– لا أعرف ولا أريد أن أعرف، يالله وراءنا شغل.
– حلمك عليَّ، والله ولا لك عليَّ يمين، أنا دائمًا أسليهم وأضحكهم وأهوِّن عليهم وأسمع كلامهم وشكاويهم، أعدلهم وأمددهم وأطبطب عليهم وأغني لهم أغاني المهد الأخير قبل ما يرجعوا لأمهم، هي التي تريحهم وتضمهم لصدرها وتغطيهم بترابها لأجل ما يناموا، تعرف يا عم …
– قلت لك وراءنا شغل يا رجل.
– رجل؟ هاها، والله ومعك حق، هل تعرف أين كنت الآن؟
– كنت مطرح ما كنت، المسامح كريم.
– ونعم بالله، عارف يا عم عبد الحق، من طول التعب طول النهار قلت أخطف رجلي للمهرة العطشانة في البيت، رويتها وأشبعتها وغطيتها ورجعت.
– والشغل ولا على بالك، هل هذا يرضي الله؟ قلت لك اعمل لك همة.
– جاهز وتحت أمرك، لأجل خاطرك بس.
– ولأجل خاطر الشاعر المسكين.
أشار عبد الحق إلى النقالة والعربة في الركن الغارق في الظلال المشلولة.
اتجه عطية نحو العربة وهو يسأل: قلت شاعر؟
– أظن يا عطية …
– لا اسم ولا عنوان؟
– اطمئن. على الأورنيك شخص مجهول، حضرة النقيب حازم كتبه بنفسه، ننتظر كالمعتاد إلى أن يظهر له أهل.
وقف الاثنان أمام العربة ثم سحباها إلى إحدى الثلاجات الكبيرة، ولمح عطية الحقيبة السوداء التي وضعها عبد الحق على المفرش الأصفر فسأله: أليس فيها شيء يدل عليه؟ قال عبد الحق وهو يهز رأسه: أوراق في أوراق، كلام في كلام في كلام، فحصتها كلها ولم أصل لشيء، تذكرت، أنت والله ابن حلال، له صاحب اسمه عبد البصير، إذا سأل عليه سلمه له، طبعًا بعد إذن حضرة العقيد أو النقيب والإجراءات اللازمة.
غمغم عطية وهو يرفع المفرش ويمر بيده على الوجه المتقلص الملامح والجبهة العريضة المتغضنة وخيوط الدم المتخثرة على الصدغ والعنق وياقة القميص الكتاني الداكن: نفسك معي يا عم عبد الحق، على مهلك، لا لا، من الناحية الثانية، الثلاجة كلها تحت أمره، يا بركة أم هاشم.
سأل عبد الحق وهو يحدق في الفراغ المعدني: ثلاجة أو خرابة؟
قال عطية وهو يعدل وضع الجثة في جوف المغارة الكهربائية ويمنع نفسه بصعوبة من الانفجار في الضحك: قلت لي إنه شاعر، قلت يشعر لوحده لغاية يوم القيامة.
شاركه عبد الحق في تسوية الجسد النحيل وثني الساقين الطويلتين بالقرب من البطن، وظلت شفتاه تتمتمان بالآيات والدعوات وعطية مطأطئ الرأس بجانبه يتصنع التقوى والخشوع ويرفع عينيه إليه بين لحظة وأخرى حتى سمعه يقول لنفسه أو للميت ما لم يفهمه: نفذت الطلقة وغارت الطعنة، ليس أمامك إلا مواجهة الجدار الأخرس.
أغلق عطية باب الثلاجة، انتظر حتى فرغ عبد الحق من مسح وجهه وخديه عدة مرات ثم قال له: إن شاء الله في عينيه، بالسلامة أنت يا عمنا، بالسلامة.
قال عبد الحق وهو يتأهَّب للانصراف: قبل ما أنسى، سلمهم هذه الحقيبة في الصباح، لا تنسَ وحياتك يا عطية. هي الحرز الوحيد من المتعلقات.
قال عطية: طبعًا طبعًا. في أمان الله.
وتساءل عبد الحق وهو يتوجَّه ناحية الباب الخارجي: هل كان عليَّ أن أضع القلم في يده؟
(وحيد في المشرحة ولا أحد هناك، لا لست وحيدًا فبجانبك رجال ونساء وعجائز ويتامى منسيون، والجدران تطوق صدرك وصدورهم، تطويك وتطويهم في ظلمات العتمة. أتراك ستخرج من هذا المنفى وترى الضوء بعيني قلبك ينداح يفيض كفجر أبيض؟ حتى إن لم تره فهو يراك. سوف يفاجئك ويملأ أركان الأرض ويطرد كل خفافيش الظلمة، وعندما يسير بك النعش أو عربة المستشفى إلى مقابر الصدقة سيخرج وجهك من ضجر الموت ويتوحد مع كل الوجوه في الجبانة الكبيرة، وربما تخرج من شفتيك حروفك وكلماتك التي لم يسمعها أحد ولم يقرأها أحد وتصرخ — كالمتشبث بالعلَم المرفوع أمام الجيش المهزوم — بأبجدية رفضك وتمردك على اليأس والتبلد والغربة والموت المنتظر، عندئذٍ تتجلى بنور وحدتك مع الواحد وتوحُّدك مع الكل، تحوم حولك فراشات الأسئلة التي تحلم بأنها عثرت على الجواب …)
بعد سبعة أيام سلم عطية الجثة لسائق العربة والتومرجية والحانوتية المتجهين إلى مقابر الصدقات، أمام باب المستشفى كانت صبية شاحبة الوجه تسحب أباها الأعمى العجوز المتوكئ على عكاز، همست لأبيها كلماتٍ فرفع صوته بالدعاء: بالسلامة يا حبيبي. بالسلامة يا بني.