اللحظة الضائعة
لحظة واحدة نبهتْه إلى العمر الذي ضاع منه. ذكرته بالكنز الثمين المنسي تحت رمال الأيام والسنين وفي شعاب الرحلة المضنية في متاهات البلاد والعباد … وجاءت اللحظة المفاجئة كاليد الرحيمة فانتشلته هو والكنز القديم المفقود ونفضت عنهما أكوام التراب والأوراق المصفرة الذابلة. الحقيقة أنها لم تكن يدًا بل صوتًا خيل إليه — أثناء عبوره من رصيف إلى رصيف في ميدان التحرير ظهر يوم صيفي قائظ الهجير — أنه يعرفه أو كان يعرفه من زمن طويل: صابر حسنين الأيوبي؟
تلفت وراءه فرأى الوجه الداكن السمرة والرأس الصغير المستدير كأنه تينة شوكية مسودة نبتت عليها عقد من الشعر المجعد في دوائر وكرات كحبات فلفل كبيرة. هتف صائحًا من الدهشة وهو يضع الشمسية على الأرض ويكشف عن المنديل الأبيض الذي لفَّ به رأسه وجبينه العريض: صبرية فرحات؟ ما هذه الصدف السعيدة؟
– نعم صبرية يا ناكر العيش والملح.
ضحك من أعماق قلبه ومدَّ يده يصافح يدها ويهزها بشدة: والقهوة والشاي على حسابك في كافتيريا الكلية وفي حديقة الأورمان.
وسكت قليلًا ليتأمَّل وجهها والنظارة السميكة التي تضعها على عينيها وملامح وجهها النوبي الطيب الذي جعله يلقبها دائمًا بالقديسة السمراء، على الرغم من ثورتها على هذا اللقب واستهجانها الشديد له. وتداعَتْ على وجه السرعة ذكريات ومشاهد وصور من زمالتها التي امتدت أربع سنوات، وشعر وهو لا يزال يبتسم ويضحك ثم يضحك ويبتسم؛ بالذنب الذي لم يكفِّر عنه أبدًا. ألم يكن يقول لها وهي في صحبة صديقتها الروح بالروح أن وجهيهما مركبٌ من عددٍ واحدٍ من الذرات مع فارقٍ بسيطٍ في ترتيبها؟ ألم يكن ريفيًّا فظًّا عندما صارحها ذات يومٍ بأن الفارق الوحيد بين قطعة فحم وقطعة الماس هو فارق في تنظيم الذرات؟ وكيف يداوي الآن هذا الجرح القديم وهو يقف وجهًا لوجه أمام القديسة المتفحمة الرأس والوجه بعد كل هذه السنين؟
أخرجته من سرداب ذكرياته وسألت ملهوفة: أأنت عائشٌ على الأرض ولا حس ولا خبر؟
ضحك وهو يسحبها من ذراعها ليقف تحت مظلة تتدلَّى من باب محل صغير للتحف والعاديات: عُمْر الشقي بقي. سافرت ورجعت ثم استقلت من هنا ورجعت للإقامة هناك.
وماذا تفعل في مصر؟ هل تنوي …
قال مؤكدًا كلامه وهو ينظر طويلًا إلى وجهها الطيب الذي لم تفارقه براءة طفل لا يكف عن الشقاوة والضحك: لا لا. رجعت نهائيًّا وفتحت دار حضانة في البلد.
صاحت متعجبةً وهي لا تستطيع أن تكتم نفسها من الضحك: حضانة؟ بعد العمر الطويل هناك؟ حسبتك ستفتح كلية أو جامعة أو حتى مدرسة خاصة للغات.
– صبرك بالله، أنا كنت اليوم في الوزارة لإتمام إجراءات التصريح بفتح مدرسةٍ ابتدائيةٍ في البلد. مدرسة مخصَّصة للأيتام والفقراء، وماذا تفعلين أنت؟
– أيتام وفقراء؟ لم تتغير أبدًا يا صابر. أنا ناظرة مدرسة لغات خاصة، آه لا بد أن أذهب الآن. انتظر، هذه ورقة. أكتب عليها العنوان ورقم التليفون … وإياك أن ترجع إلى مصر مرة أخرى ولا تتصل بي.
قال ضاحكًا وهو يضع الورقة في جيبه ويفرد شمسيته: على الأقل لأشرب فنجان القهوة على حسابك.
وقبل أن تمد يدها لتصافحه تأملته طويلًا وقالت: على فكرة … هل تذكر نعمة؟
خفق قلبه وكتم صيحته: نعمة المرواني؟ هل يمكن أن أنسى صديقتك؟
وتراءت له الألماسة التي كانت الفحمة الطيبة تلازمها كظلها، وأيقظه الصوت ذو الرنين الحنون من شطحات في غير أوانها: زوجها مات من شهرين. مات بالسكتة وترك لها مروان الصغير. مسكينة. نحن على اتصالٍ باستمرار. لا يصح أن يفوتَك القيام بالواجب. خذ. أكتب العنوان. يمكنك أن تذهب إليها الآن. الوقت مناسب والعنوان سهل. مع السلامة ولا تنسَ أن تسلِّم لي عليها، مع السلامة.
طوى شمسيته البيضاء وأشار إلى أول سيارة أجرة وقعت عليها عيناه.
•••
عندما خرج من باب المدرج الصغير الذي استمع فيه مع زملائه وزميلاته إلى محاضرة الشعر وجدهما واقفتين على الباب. منعه خجله الريفي وربما ارتباكه الدائم وتسارع نبضه المجنون كلما رآها، أن ينظر ناحيتهما، ولكنه فُوجئ بصوت صبرية تنادي عليه في غضبٍ واضح: يا صابر، أنت يا شاعر الغبرا.
توقف والتفت إليها ورأى الألماسة الناصعة تبتسم كعادتها ابتسامة الجوكندا الغامضة. أسرعت الفحمة الطيبة قائلة: نحن لم نفهم شيئًا من المحاضرة. هل الدكتور أستاذ أم شاعر؟
قالت ابتسامته الذاهلة وهو يحاذِر النظر إلى وجه الألماسة ويوجِّه كلامه للفحمة وهي وحدها الموجودة في الخلاء: وما المانع أن يكون شاعرًا وأستاذًا في وقتٍ واحد؟
ردَّت صبرية محتدة: يكون كما يشاء، المهم أننا لا نعرف شيئًا عن هذا الوعاء الملعون. تشجَّع ورفع عينيه إلى الوجه المتألق المشع الذي حرم من شعاع واحد منه، وخفض بصره بسرعة وهو يسأل نفسه كيف احتفظ في هذا العالم المزعج بوجه رضيع هادئ، كيف استطاع وسط المستنقع أن يكون نبع براءةٍ صافية؟ ثم تشجع أكثر وفك لجام خجله الريفي المزمن وقال وهو يشير بإصبعه للوجه المتفحم كمن يهدِّد بخطرٍ عظيم: يمكنني أن أدعوكما إلى فنجان شاي أو قهوة على حسابي … في الكافتيريا أو في الحديقة.
ردت الفحمة مع الألماسة: الكافتيريا الآن رائقة، المهم على حسابنا نحن.
قال مسرعًا: قلتها كلمة وكلمة الرجل لا تنزل الأرض، والأفضل أن نجلس في الحديقة لنعيش في جو القصيدة.
مشيا في دفء شمس العصر الشتوية إلى الحديقة التي لم يكن يفصلها عن مبنى الكلية والقسم سوى الشارع العريض الذي تفرش أرضه ظلال الأشجار الضخمة العريضة الأوراق التي برزت أطراف جذورها المتلوية البيضاء من شقوق الأسفلت، وسرعان ما جلسوا إلى مائدة نظيفة ورحب بهما النادل الشاب الذي بان على وجهه الملل والهم من قلة الزبائن. غاب عنهم لحظاتٍ ليضع الصينية وعليها الأكواب والفناجين فوق المائدة التي غيَّر مفرشها أيضًا بمفرش أبيض منقوش بزهور بنية وصفراء، وها هو يرى الآن تفاصيل المشهد كما عاشه في ذلك الزمن البعيد وكأنه لا يزال جالسًا على الكرسي الطري المصنوع من القش والجريد، وأمامه الفحمة والألماسة تشعان عليه نورًا يتداخل فيه الليل مع الفجر، وشلال الكلام يندفع من فمه رائقًا متموجًا ومتدفقًا بالشروح الطويلة لقصيدة كيتس المشهورة التي كان قد قرأها قبل ذلك ودرسها وجربها أيضًا كأي رومانسي عتيق. لنقرأ السطور الأولى التي يخاطب بها الشاعر ذلك الوعاء الإغريقي الرائع البسيط قبل أن نتجه للنحت البارز المنقوش عليه:
ربما تسألان أية قصة مزهرة تفوق عذوبة أشعار الشاعر، مع أنها قصة تتكون من صور لا من حروف وكلمات، ومن نقوش ثبتها الفنان على جانبي الوعاء المزهري لا من أصوات وأنغام وإيقاعات تتآلف منها معانٍ ورؤى وأفكار. تخيلوا معي هذا الوعاء العجيب:
فالقصة هي أسطورة منقوشة على الوعاء وهناك آلهة وبشر، رعاة وعذارى وصيد مجنون، وأغصان وغابات وعشب وطئته أقدام، ومزامير ودفوف نكاد نسمع نغماتها العذبة فتملؤنا نشوة عارمة؛ نغمات نراها — إذا سمحتما لي بهذا التعبير — بأذن الروح ونسمعها بعينها الباطنة. انظرا إلى الفتى الجميل الذي يجلس في ظل الشجرة وينشد أغنيته. هذا المحب الجسور السعيد لأنه يغني أغاني متجددة إلى الأبد.
لقد فشل في أن يقبل حبيبته التي هربت منه في الغابة، أو انضمَّت إلى الموكب الذي سأكلمكما عنه، ولكنه ما يزال يحب، وما تزال هي جميلة صافية كالنبع ووردية كالفجر. سيبقى حبه دافئًا قويًّا، وسيظل جمالها ربيعًا متجددًا على الدوام. ثم انظرا معي إلى هذا الكاهن العجوز الغامض الذي يقود الموكب المتجه في طريقه إلى المذبح لتقديم الأضحية، وفي وسط الموكب تتدحرج البقرة السمينة المكللة بأكاليل الزهر، ومن خلفهم تبدو المدينة الصغيرة التي انحدروا منها والقلعة الآمنة المطلة على شاطئ البحر، والشاب هناك يتابع منظر الموكب وهو يشدو بأغنية حبه، والحبيبة السعيدة لا تزال مختبئة وبعيدة وراء الأشجار وربما تسمع أغنيته وتتمنع ولا تستجيب، والوعاء كالعروس الساكنة التي تضجُّ رغم سكونها بالحركة والغناء الشجي الغامض من الشاعر العاشق ومن الموكب الجليل الغامض. هل لاحظتما أن الفنان قد ثبت الصور في لوحته التي نقشها على جدران الوعاء ليعطيها خلود الأبدية؟ هل لاحظتما أن الفنان والعاشق كليهما قد ماتا منذ قرون وأن الحب الذي صوره لا يزال يفيض من رسمه ونقشه بالحركة والجمال والحياة، مؤكدًا أن الحب أبديٌّ خالد يتحدى الموت والفناء الذي لا يفلت منه شيء؟ وهل رأيتما كيف تحدَّت لحظته السحرية أنياب الموت وأظافره وفمه الفاغر على الدوام … تأمَّلَا أيضًا ختام القصيدة أو الأنشودة التي يوجهها الشاعر للوعاء ولنفسه:
أخرجه صوت السائق من حلمه الطويل كأنما مزق بيت العنكبوت الذي نسجه وعاش فيه طوال الوقت. قال له: هذا هو الشارع يا حضرة. يمكنك أن تسأل بنفسك عن العنوان. هو إن شاء الله على هذا الرصيف أو الرصيف المقابل.
نقده أجرته وهز رأسه ليكمل تمزيق النسيج الذي تشابك حوله وينفض خيوطه بعيدًا عنه، وفرد الشمسية وراح يسأل عن الرقم المكتوب على الورقة والشلال ما يزال يتدافع ويجيش ويتدفق من داخله.
•••
لم يجد صعوبة في الاهتداء إلى رقم العمارة، ودلَّه البواب النوبي العجوز على الدور والشقة التي تشغلها شركة التوكيلات الإليكترونية التي يبحث عنها وهو يقول: نعمة هانم أمامك وأنت داخل من الباب. ست طيبة خالص. الله يسترها ويكون في عونها. وعندما خرج من المصعد وواجه الباب المفتوح وجدها جالسة على مكتب فخم عريض، تكدست فوقه أجهزة الهاتف والفاكس والحاسوب وما لا يدري من لوازم العمل والأبهة. خطر له في ومضة خاطفة أن كل شيء فيها قد تغير، لكنه شغل عن التفكير في ذلك بمد ذراعه وتقديم العزاء بكل ما يملكه من إخلاص وتأثُّر.
هتفت قائلةً وهي تنظر إلى اليد الممدودة والوجه الضامر الذي انحنى عند مصافحتها: صابر؟ صابر الأيوبي؟ غير معقول.
قال وهو غارقٌ في خجله الريفي الذي ساعدها على تذكُّر الزميل القديم: البقية في حياتك يا نعمة هانم، لم أعرف إلا اليوم من صبرية.
رجتْه أن يتفضَّل بالجلوس وخلعت النظارة السميكة من فوق عينيها وهي تقول: فيها الخير، هي الوحيدة التي تتصل بي باستمرارٍ وأول من عزاني في المرحوم.
رفع رأسه قليلًا لينظر إليها وهو لا يصدق أن هذا الوجه الممتلئ العريض الذي تهدَّل لحم خديه وانتشر الشيب في شعره هو وجه نعمة عبد المنعم، ولم يستطع أن يفهم كيف يمكن أن يكون الجسد الضخم المترهل الذي يملأ المكتب هو جسدها، وكان من الضروري أن يقول شيئًا فتمتم: البقية في حياتك وشدِّي حيلك. ترك لك طول العمر.
قربت وجهها من وجهه كأنها تحاول إحياء الألفة القديمة وهمست في صوتٍ حميمٍ تحرص على ألَّا يصل إلى أذن أخرى: والمشاكل التي لا آخر لها أيضًا، تصوَّر يا صابر …
وقطعت كلامها فجأةً لتوجِّه حديثها إلى صبي أسمر شديد السمنة يجلس على كرسي صغير بجوار المكتب ويشغل نفسه بلعبة آلية معقدة يبدو أنه لا يريد أن يتركها قبل تفكيكها وتخريبها: تعال يا وليد، سلِّم على عمك صابر.
قام صابر إلى الصبي يريد أن يقبله بحنان ويربت على ظهره، لم يكترث الولد برفع عينه عن اللعبة التي دخل معها في صراع عنيف، واكتفى بإزاحة اليد التي حاولت الاقتراب منه.
قالت نعمة معتذرةً ومؤنبةً ابنها: جيل العنف والتلفزيون. طبعًا لا يمكنه أن يفهم شاعرًا مثلك، على فكرة …
قطع كلامَها مرورُ الساعي أمامها متجهًا إلى باب الشقة. نادَت عليه وسط دقات وليد وخبطاته المريعة وهي تصيح: تعال يا محمد — قلت لك اترك السوبرمان الزفت من يدك يا وليد — قهوة مثل زمان أم تفضل …
قال صابر وهو يبتسم في حرج كأنما شجعته على الخروج من الجو الجنائزي الذي هيأ نفسه له: نعم نعم، مثل زمان.
استأذنته بضع دقائق حتى تأتي القهوة في تشطيب الأوراق التي أمامها …
وضعت نظارتها السميكة على عينيها واستغرقت في القراءة والمراجعة.
واستغرق صابر بدوره في تأمل الوجه الذي طالما احتضنه بعينيه ثم احتضن صورته في قلبه طول العمر. يا إلهي! أيمكن أن يفعل بنا الزمن كل هذا؟ أين وجه الرضيع الذي كان لا يشبع من نضارته وبراءته؟ والملامح الرائقة المنسكبة كأشعة الفجر الوردية، كيف خدَّدها الزمن وغطتها سحب الحزن والتعب والشيخوخة قبل الأوان؟ الألماسة التي كانت تبرق وتتألق كلما رآها بجوار صبرية وكلما لاحظ العرق على جبينها يتحول إلى قطرات الندى أو حبات الماس، كيف انطفأ بريقها وخبا الفجر في عيونها؟ وها هو الموت يفاجئها أيضًا ليجفف نبع البراءة الذي عرفه ونهل منه خياله؟ والضحكة الخالية البال هل ذهبت هي أيضًا وداستها خيول الزمن والألم والملل والضجر؟
•••
رن صوت الفنجان على المكتب فرفع بصره إلى الساعي وشكره. وتمثلت له تلك الجلسة البعيدة في الحديقة عندما لبَّت دعوته مع صبرية لشرب القهوة، وأوشك أن يبعث اللحظة المسحورة حية من أكفانها القديمة، حين فاجأه صوتها: وما أخبار الشعر معك يا صابر؟
نظر إليها نظرةً طويلةً تمنى أن تخلو من أي اتهام وقال وهو يضحك ضحكة خافتة: لا شعر ولا نثر … من أيام الكلية توقفت تمامًا عن الشعر. ثم جربت حظي مع القصة والمسرحية فلم أجد أي صدى.
قالت وفي صوتها نغمة تحسُّر خففت منها روح المجاملة: خسارة، كان يمكن أن تصبح شاعرًا كبيرًا.
قال باقتضابٍ وهو يشيح بيده ليغلق هذا الباب: تعرفين متاعب التعليم وهمومه … ترجمت بعض القصائد أثناء وجودي في البلاد العربية. نشرت كذلك بعض الدراسات، لكن لم يبق لي من الشعر إلا القراءة والحسرة.
رنَّت ضحكتها الخالية التي طالما انتشى بصفائها وإن خالجتها الآن بحةٌ وتهدج لاهث مضطرب: الحسرة؟ لا لا لا.
أضاء زر على جهاز صغير أمامها بالنور الأحمر مصحوبًا بصوت آمرٍ متحشرج.
نهضت واقفةً واستأذنته لحظات حتى تعرف ما يريده المدير، وجمعت بعض الأوراق ثم قامت مسرعةً وهي تجر حمل اللحم الضخم المترهل وتتنفس بصعوبة.
قال لنفسه: كيف أقول لها إنها هي السبب؟ ألم تكن هي التي أهملت قصائده وردت إليه آخر قصيدةٍ كان يريد أن يعطيَها لها وهي تعتذر قائلة: ليس لي في الشعر أبدًا، ثم إن شِعرك غامضٌ وفيه فلسفة. وها هو يشرب القهوة معها بعد عشرين سنة أو أكثر منذ شرباها في الحديقة تحت ظلال الشجر. فهل تذكرت اللحظة المسحورة التي عاشها معها وجرب فيها نعيم حبها وعذابه؟ هل خطر على بالها لحظة واحدة أنه حين كان يشرح لها ولصبرية أبيات القصيدة والصور المنقوشة على الوعاء الإغريقي فإنما كان يريد أن تشعر بلحظة الحب الذي جذبه إلى وجهها البريء وضحكتها الصافية، وأنه قد عاش اللحظة المسحورة وثبتها في قلبه رغم أنها ردته عنها وأفهمته منذ البداية أن لا أمل على الإطلاق ولا داعي للتعلُّق بالأوهام.
كانت قد رجعَتْ إلى مكتبها ورتبت أوراقًا كثيرة في الملفات قبل أن تتناول رشفةً من الفنجان وتقول له: على فكرة، صبرية أيضًا تحب الشعر.
قال في مودة: هي أخت عزيزة، كنت دائمًا أسميها القديسة السمراء.
قالت في عتاب: وكان هذا يُغضبها جدًّا.
قال وهو يرفع الفنجان إلى فمه ويردد بصوت محايد كصوت المسجل: شيء مؤسف، ولكنني …
ردت مسرعةً كأنها تطلق قذيفة: ولكنك لم تفهم أبدًا أنها كانت تكتب الشعر فيك أنت.
لم يجد ما يقوله ردًّا على الدعابة التي جاءت متأخرةً ونظر إليها نظرة تمنى أن تلمح فيها طيف العتاب: تعلمين أنني بطيء الفهم، لم أفهم أيضًا أن النعمة كانت وما زالت بعيدة عني، لكن في النهاية كل واحد …
أسرعت تكمل عبارته: نعم، نعم، كل واحد يأخذ نصيبه. ثم كأنها طوَتِ الصفحة وانتهَتْ منها إلى الأبد: لم تقل لي ماذا نويت عليه بعد رجوعك، سمعت أنك عشت مدة طويلة في بلاد النفط.
قال وهو ينتزع ضحكة خافتة ويحدق في وجهها: أنوي أن أكفِّر عن ذنوبي، كما فعل أفلاطون.
ندت عنها صيحة استنكار: أفلاطون؟ وتقول إنك توقفت عن الشعر والخيال؟
قال وهو يرتشف جرعةً من فنجانه: بعد أن يئس ورجع خائبًا إلى أثينا، قرَّر أن يكرس بقية حياته للتعليم على أمل …
قالت متحيرة: ولكنك كنت تُعلِّم دائمًا، لا بد أنك …
قال مصححًا ما لم تفصح عنه: قررت أن أنشئ مدرسة في بلدي؛ مدرسة لأبناء الفقراء وللأيتام، يعني استثمار معكوس.
ضحكت قائلة: استثمار شاعري أفلاطوني، يظهر أنك لا تعرف الأحوال هنا.
قال بسرعة: بل لأني أعرفها جيدًا، وماذا تنوين أنتِ أن تفعلي؟
اختلستْ نظرة حذرة إلى ولدها الذي لا يزال عاكفًا على تخريب لعبته المعقدة: ذهب وترك لي المشاكل كما قلت لك؛ ديون ثقيلة وتركة مفلسة ومفاجآت وصدمات أكتشفها كل يوم.
ترقرقت عيناها بالدموع، ومدت يدها تحت النظارة فمسحت دمعتين قبل أن يسقطا على خديها.
شعر أن اللحظة المسحورة تلتف في غيمة تزداد سوادًا، وأن الرياح تزحف عليها من كل ناحية بالعويل والبكاء فترتطم بالأرض كالشهاب محترقة. خيل إليه أيضًا أن يدها ترتعش وصدرها يعلو ويهبط. قال وهو يمنع نفسه من وضع يده على يدها: لماذا نعذب أنفسنا ما دمنا عاجزين عن تغيير ما حدث؟ ادعي له بالرحمة وفكري في نفسك وفي ولدك.
أخذت تقلِّب الملعقة في الفنجان. صمتت ولم تجد شيئًا تقوله، وصمت هو أيضًا وتعذر عليه أن يقول شيئًا، ونظر في ساعته فتأكد أن الوقت قد تأخر فنهض واقفًا وهو يقول: أستأذنكِ فلا بد أن أرجع اليوم إلى البلد. أرجوكِ أن تعتبريني دائمًا مثل أخيك. سأكون على اتصال بصبرية للاطمئنان عليك، وإذا أذنتِ لي يمكنني أن أزوركِ كلما حضرتُ إلى مصر، مع السلامة.
قالت وهي تجفِّف عينيها وتضع يدها في يده: مع السلامة. لا لزوم للتعب. هل يمكن أن نغير ما حدث، هل نستطيع إحياء الموتى؟