الملقن
ماذا جرى لي؟ هل أنا في حلم؟ ألم يكن معي طول الوقت، نتذكر أيامنا ونحكي ونمثل ونضحك ونبكي معًا؟ هل تركني وذهب حتى دون كلمة وداع؟ لا لا، لا يمكن أن أكون في حلم. هذه حجرتي البائسة في البنسيون الحقير. الكنبة، والمرآة مع التسريحة، والمائدة الصغيرة المستديرة، وأشيائي وتذكاراتي وصوري المبعثرة في كل مكان، على الحوائط، وفوق الكراسي، وحتى السرير الذي أنام عليه تزاحمني فيه. نعم هذه هي حجرتي، والأصوات التي تأتيني من بعيد هي أصوات الناس في الشارع وضجيج العربات وصيحات الباعة، ما الذي جرى لكِ يا فاطمة؟ بعد هذا العمر الطويل لا تميزين بين الحلم والحقيقة؟ لأنظر في المرآة لأتأكد أنني لا أحلم ولا أمثل على المسرح. هذه هي أنت ولست أنت. ملكة التمثيل العربي التي لم يبق منها إلا حطام. الوجه الذي جنَّ به العشاق والمعجبون حفرته الأخاديد وامتلأ بالتجاعيد. العيون السوداء الساحرة أصبحت ذابلةً منكسرة وتائهة، والشعر الذي كان يميل على الجبهة وينسدل على الظهر أصبح ثلجًا منفوشًا كشعر عفريتة أو مجنونة، والخدان، والفم الذي طالما خرجت منه الدرر، والبياض والنضارة، والسحر، والعذوبة، والفتنة التي كانت تشعُّ منك وتدوخ الجميع، كله الآن ظلام. ظلام وحطام.
واثقة أنا من رؤيته والكلام معه واستعادة الماضي الذي حضر أمامنا بلحمه وعظمه، واثقة من أنه هو ولا أحد غيره. جبهته العريضة. رأسه الأصلع. عيناه القلقتان، يده المضمومة على الدوام، ويده الأخرى المسنودة إلى خده وجبينه. آه! لا بد أنه غافلني وتسلل إلى الصورة. نعم هذه هي صورته. معلقة على الحائط منذ سنين. آه يا زوجي وأستاذي ومعلمي وملقني وحبيبي الوفي العجوز. أقف الآن أمامك كما أفعل كل يوم. أصابع يدك اليسرى تنقر رأسك الكبير. فمك الدقيق مزموم على نفس التصميم، ويدك اليمنى المضمومة على الجمر كما كنت دائمًا تقول. أما عيناك المملوءتان مثل كأسين ناصعين بالأسى والحزن مع الأمل والعزم فهما يهربان مني الآن، لكن إلى أين تهربان من تلميذتك وحبيبتك التي لم تكن تمل من الغرق فيهما؟ وكيف تهرب بهما بهذه السرعة وأنت لم تفارقني طول الليل لحظة واحدة. هنا على هذه الكنبة جلست بجانبي وربت بيدك الحنون الصغيرة على كتفي وظهري: ما لكِ يا فاطمة؟ كفى الله الشر. ثبت نظري في عينيك الحبيبتين ووجهك الأبوي وقلتُ: هل يرضيك حالي الآن يا عزيز؟ وحدتي وذلي وفقري وهواني على الناس؟ ألأني اعتزلت التمثيل أجوع وأطوف كالشحاذة على مكاتب الموظفين وأعجز بمعاشي الضئيل عن سد رمقي وشراء الدواء الضروري؟ هل يرضيك؟ عدت تربت على كتفي وظهري وتبتسم ابتسامتك الآسرة التي كنت أستمد منها الثقة والشجاعة والأمان، وتحولت ابتسامتك إلى ضحكة قصيرة وأنت تقول: إذا كنتِ اعتزلت التمثيل فلم تصبحي عدمًا. ما زلتِ يا فاطمة حيةً وملكةً متوجةً على عرش التمثيل. ما زلتِ أنت سارة برنار الشرق المتربعة على هرم المجد. لا تقولي هذا ماضٍ ذهب ولن يعود؛ لأنه حاضر في ضمير الزمن يستحيل أن يسرق أحدٌ كنزه المصون. تعالي نقلب معًا صور الماضي الحاضر في ذاكرتك وذاكرتي بدلًا من البكاء على النفس والأطلال … هل تذكرين … قاطعتُك بسرعةٍ وأنا أقول: وهل تذكر أنت أول لقاءٍ جمعنا؟ إن كنت نسيت فقد كان على قهوة راديو في عماد الدين. تبتسم كالحكيم الذي لا ينسى. نعم نعم، وكان معك ذلك الشاب النبيل النحيل الذي فقدناه وهو في عز شبابه ومجده. نظر إليَّ محمد تيمور طويلًا وقال بعد أن سمع صوتي وتابع حركاتي وإشاراتي وضحكاتي وصيحاتي؛ قال بصوته الحزين الرزين وهو يلتفت إليك: هكذا أنت دائمًا يا عزيز، موهبتك الكبرى هي اكتشاف الجواهر الألماس ونفض التراب عنها … لكن عليك أن تتفق مع أمها وتحضر لها من يعلمها النطق العربي الصحيح. قلتَ له: لقد أحضرتُ لها بالفعل معلمًا من الأزهر، سيعلمها قواعد النحو والصرف ويساعدها على تلاوة ما تيسر من القرآن الكريم. تنحنحتُ أنا وقلت محتجة: وهل هناك من يجاريني في نطق الشعر؟ هل أُسمِعك شيئًا من شوقي بك أم من أبي العلاء المعري؟ رفعتما الحاجبين في دهشةٍ وذهول، وجلجل صوتي كالرعد حتى توقَّف المارة وعابرو السبيل وراحوا يستمعون ويصفقون:
صفق محمد بك ودمعت عيناه وهو يمسح على رأسي بيده ويقول لك: ألم أقل لك إنك موهوب في اكتشاف الجواهر والألماس؟ ولما شعرت أنه ينوي أن يقوم ويتركنا صحت بنزقي الذي تعرفه: يمكنني أيضًا أن ألقي المونولوجات وأغني أغاني الفلاحين … كانت هذه هي بدايتي في مسرح الريحاني وفي ملاهي روض الفرج وكازينو البوسفور بين المشاهد والفصول. التفتُّ إلى البك وقلتُ له: كنت أيامها في الثانية عشرة من عمري. أسرعت أغني للشيخ سيد: طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة … قاطعتني عندما رأيت البك يهمُّ بالانصراف: وهي الآن في الخامسة عشرة، سوف أقدِّمها ليوسف بك وسوف تراها قريبًا على عرش التمثيل.
وأخذنا نتذكَّر كيف قدمتني ليوسف بك الذي أسند إليَّ دورًا في رواية المجنون، ثم دورًا آخر في غادة الكاميليا التي طبقت بعد ذلك شهرتها وشهرتي الآفاق. آه كيف لعبت الدور الأول في رواية الطاغية أمام يوسف بك نفسه، وكم رواية مثلناها من المسرح العالمي عندما كنت المدير الفني لفرقة رمسيس، وكم رواية منذ أن خرجنا سويًّا من فرقة رمسيس وكونا فرقة فاطمة رشدي التي استمرت سبع سنوات — انتظر قليلًا … من سنة ألف وتسعمائة وسبعة وعشرين إلى سنة ألف وتسعمائة وثلاثة وثلاثين — عشرات من الروايات العالمية التي كنت تعمل ليل نهار في إخراجها وأحيانًا في ترجمتها أو اقتباسها، وكيف أتذكر أسماء أكثر من مائتي رواية؟! الحقد واللهب والوطن والمتمردة، أم أوديب الملك وهاملت وعطيل ويوليوس قيصر والملك لير، أم أندروماك وغادة الكاميليا وسلامبو والكابورال سيمون والنسر الصغير وما لا أستطيع أن أتذكر من روائع عالمية؟ وهل أنسى مسرحيات أمير الشعراء التي كتب بعضها من أجلنا وأهداها لفرقتنا؟ مجنون ليلى ومصرع كليوباترا وعلي بك الكبير وأميرة الأندلس … وبالمناسبة يا عزيز … هل تذكر يوم أن ذهبت إلى المسرح مبكرًا وطلبت ملابس قيس وارتديتها مصممًا على تمثيل الدور بنفسك لأنك لم ترضَ عن أداء أحمد علام؟ شوش عليك الجمهور ليلتين، وهدَّد أمير الشعراء نفسه بسحب المسرحية إذا لم يرجع الدور لأحمد علام، وتشاجرتُ معك شجارًا عنيفًا نسيت فيه نفسي واقترحت حلًّا وسطًا ومؤقتًا بأن أمثل أنا الدور أمام زينب صدقي في دور ليلى العامرية. آه! كم كان صوتي يجلجل في رحاب المسرح كناقوس ذهبي في قاعة عرش وأنا أقول:
أو عندما كنت أحيي جبل التوباد وأنا أهتف من صميم قلبي قبل حنجرتي:
أراك تضحك يا عزيز، ألم تكن هذه أحجارًا من هرم المجد الذي تربعتُ عليه بفضلك أنت؟ ودوري في النسر الصغير؟ ألم تكن أنت الذي جعلت الناس يسمونني سارة برنار الشرق بعد أن تفوقت في تمثيله إلى حد الإعجاز؟ وهل يمكن أن أنسى المونولوج الذي كنت ألقيه كل ليلة وأنا أرتدي ثياب الإمبراطور الذي أطلقوا عليه لقب النسر الصغير؟ أتوجه كل ليلة إلى مقدمة المسرح وأقول بل أنشد وأنا أحرك ذراعي إلى أعلى وأسفل: إمبراطور أنا … ما أبهج الليل! أنا في العشرين من عمري وأعتلي العرش. رباه! ما أجمل أن أكون في العشرين وأكون ابن نابليون الأول! أيها الشعب! لقد كذبوا عليك طويلًا فلا تخف أن أكون غير أمين. وأنتِ أيتها الحرية! لا تخافي من أمير كان رهن السجون.
أسمعك تصفق إعجابًا يا عزيز وتذكرني بآلاف المتفرجين الذين كانوا يحرقون أكفهم كل ليلة من شدة التصفيق. تقول إنني أبكي؟ ألا أبكي معك على نفسي وعليك؟ ألم توصني دائمًا بأن أقبض على الجمر كما كنت تفعل طوال عمرك: المسألة ليست جمع أموال يا فاطمة، لكنها رسالة عظمى يجب تأديتها مهما كانت التضحية. كم عاهدت نفسك وعلمتني أن أعاهد نفسي على ضرورة القيام بواجبنا الأسمى، واجبنا في تعريف الجمهور بالفن الحقيقي والمسرح العالمي كما أبدعه كبار الكتاب والشعراء من الإغريق وشكسبير وفيكتور هيجو وإدمون روستان وألكسندر دوما وغيرهم وغيرهم حتى أميرنا وأمير الشعراء شوقي بك. بقينا نقبض على الجمر حتى أفلسنا واضطررنا للتجول في المغرب العربي وبلاد الشام وفلسطين وفي الأقاليم؛ في الدلتا والصعيد، وكم شقيت أنت وقبلت أدوارًا لا تليق بك في روايات الفودفيل وحتى في كازينو ببا عز الدين، وكم تعذبت لعذابك وأنا أحس أن الجمر الذي تقبض عليه يكاد أن يجعلنا جثثًا متفحمة. هل تذكر يا عزيز ماذا قال لك الريحاني بعد أن تزوجنا وواصلنا أداء رسالتنا؟ أكاد الآن أسمع صوته الأجش وهو يقول لك بخفة ظل لا تُنسى: ما ذنب فاطمة يا أخي لكي تلقي بها في أتون عبقريتك؟ لماذا لا تمثلون الكوميديات والفودفيل الذي برعت فيه أيام شبابك؟ ما ذنبها هذه البنت المسكينة؟
وها أنا أسمعك ترد عليه في غضب: هل تريد مني أن أكون مهرجًا؟! ويقول لك الريحاني: ألم تفكر في الزمن وغدره؟ وأراك أمامي الآن وأنت تنظر إليه صامتًا وتضم يدك اليمنى كما هي عادتك في مثل هذا الموقف بكل قوة وعصبية … وقلبتنا الأيام — كما فعلت معنا أيام الشباب الباكر — ودارت بنا من مسرح إلى آخر ومن فرقة إلى أخرى، كنا قد انفصلنا بعد زواجٍ قصيرٍ لكنك بقيت وفيًّا وملازمًا لي — تعلمني، وتلقنني، وتختار لي أعمالي الأخيرة وتتولَّى إخراجها. كسبنا الألوف وخسرنا الألوف، وعندما يئسنا تمامًا رحت أتابعك وأنت تتعذَّب وتتجوَّل في الأقاليم ببعض المسرحيات الفكاهية أو تعيش على الترجمة والاقتباس والإخراج — واتجهت أنا، بعد أن اشتد عليك المرض، إلى السينما حتى لا أموت جوعًا، وهل أذكرك بتجربتنا الأليمة مع الفرقة القومية؟ فصلوك منها بسبب الوشايات والصغائر، ثم استقلت أنا أيضًا وأعيش الآن — لحسن الحظ أو نكده — على معاشي الهزيل منها. آه يا عزيز! يا من حميتني من ذلك المعجب المتيم الذي عرض على أمي مؤخر صداق بلغ أربعة آلاف جنيه، ووعدني بالعيش في قصر بالزمالك، أنقذتني منه فمشيت بجانبك وتبعت خطواتك وتمسكت بالفن الحقيقي والمعرفة الحقيقية، وكم تذكرت عبارتك التي ظللت ترددها حتى وأنت على فراش الموت. هل تتذكرها أم أذكرك بها؟ «إنني رجل كبير الأمل. لا أخشى أن يقتلني ذلك الخيال الذي تراه عيناي في كل ساعة. إني على ثقة من خروجي من كل ذلك صفر اليدين لا أملك أبيض ولا أسود، لكني أريد أن ترى عيناي — قبل أن يغمض الموت أجفاني — ذلك الخيال وقد تحقَّق، ولا يهمني بعد ذلك أن يراني الناس على فراش موتي فقيرًا بائسًا لا أملك ما أسدُّ به رمقي …» وتبتسم يا عزيز وأنت تضع يدك اليسرى — كما هي عادتك — على جبهتك ورأسك، وتضم يدك اليمني بشدَّة كأنها قبضة من حديد، ثم تقول: وخرجت يا فاطمة من الدنيا وأنا لا أملك أبيض ولا أسود ولا تحقق الخيال الذي كنت أراه في كل ساعة. لمست ركبتك ومسحت بيدي على رأسك وقلت: كم عزَّ عليَّ أن أتركك وتتركني بغير وداع. لكن ماذا كان بوسعي أن أفعل؟ زوجتك السابقة وتلميذتك كانت مفلسة يطاردها شبح الجوع، تعذَّبت كثيرًا في مرضك الأخير … تبتسم مرة أخرى وتقول: كانت حلقة من سلسلة العذاب الطويلة. ما أهمية ذلك؟ المهم أن يدي هذه ظلت مضمومة كما عهدتها ولم تستسلم حتى اللحظة الأخيرة. ضمِّي يدك أنت أيضًا يا فاطمة. أم تريدين أن أتركك وأذهب وأنت لم تتعلمي شيئًا مما لقنتك إياه؟ الوداع، الوداع يا فاطمة. صحت بك: أرجوك يا عزيز، لا تتركني، أنا محتاجة إليك كما كنت على الدوام، لا تتركني فريسةً لكلاب الغدر والشماتة والتجاهل تنهش لحمي حتى العظم. قلت وأنت تنهض من على الكنبة التي شهدت حديثنا وذكرياتنا: أنا الآن تراب وعظام في مقبرة التاريخ، ذكرى فكرة مدفونة في ضمير الماضي، عليك أنت وجيلك أن تنفضوا عنها الرماد وتحيوها في المستقبل. أليس كذلك يا فاطمة؟ أليس كذلك؟ لم ينفع الصياح والبكاء. صحوت وأنا أنادي عليك: أتوسل إليك يا عزيز، لا تتركني! لا تتركني وحدي مع العقارب والكلاب والثعالب والأفاعي. قلت وأنت تستدير وتمضي نحو الحائط وترجع إلى الصورة داخل الإطار: مثلي لا يترك ولا يذهب، والفكرة التي تحيا من الأزل إلى الأبد لا تذهب ولا تجيء، المهم ألَّا تتخلوا أنتم عنها، الوداع يا فاطمة، الوداع!