الزرقاء تحتضر
الزرقاء تحتضر … الزرقاء تحتضر.
رن الصوت المشروخ الواهن بينما الليل مشغول بنصب خيمته السوداء فوق أرض اليمامة. كان متهدجًا مختنقًا بالدموع كبكاء ناقة عجوز فقدت صغيرها، أو أنين شاة فوجئت بالسكين تجز رقبتها فراحت تنتفض عاجزة. كانت نبراته المتلاحقة المبهورة أضعف من أن تنفذ من أستار الخيام الكثيفة أو تصدم الأبواب والنوافذ الموصدة في البيوت الطينية الواطئة التي لم تسلم تمامًا من آثار الحرق والتدمير، وظل الغلام يندفع ويتعثر على الطريق المترب المملوء بالحفر والحصى والحجارة كفرع صبارة جافة تطوح بها هبات الريح التي لم تنقطع زفراتها الساخنة منذ أن عمَّ القحط وحط الجدب على الأخضر واليابس والحي والميت.
أخذ يرفع صوته بكل قوته وهو يسلِّط بصره على الأبواب والنوافذ ومضارب الخيام والأضواء الخافتة التي تنبعث من المواقد البعيدة المتناثرة. تخايلت له وجوهٌ أطلَّت لحظات ثم اختفت، وتوهم رؤية أشباح لم تلبث أن ذابت في الظلال الزاحفة، وعندما وجد نفسه أمام شقٍّ في الأرض كأنه باب قبر مفتوح تذكر أنه كان عليه أن يبدأ بقضاعة العجوز حفَّار القبور، ولم يكد ينطق باسم الزرقاء حتى رد عليه من أغوار العتمة صوت امرأة تقول: سبقك يا ولدي إلى هناك. لم ينسَ أن يأخذ معه الرَّفْش والمحفة والحبال والسلال، ولم يكد الغلام يستدير ويفتح فمه ليردِّد نداءه الممزق المكسور حتى شعر بيدٍ تربت على كتفه وظِلِّ شيخ كبير يتمدَّد فوق جسده الضئيل: اذهب يا ولدي، سوف ألحق بك. رفع الغلام صوته مصرًّا على مواصلة ندائه الذي غطَّى عليه نباح كلابٍ خرجت من الأركان والجحور وأخذت تعوي بلا انقطاع، فقاطعه الشيخ: لا تحاول يا ولدي، لم يبقَ أحد يذكر الزرقاء. تحرك الغلام وهو يصرخ: لن أرجع حتى يسمعني الوالي نفسه! أمسكه الشيخ من ذراعه وتدحرجت كلماته كأنها أحجار تهوي على رأسه من أعلى الجبل: عامل كسرى على اليمامة؟ ومن أدراك أنه سمع باسمها؟ من يشغله عن ندمائه وجواريه ومُغنِّيه وكئوسه المترعة بينما يتضوَّر جوعًا كالجراد كلُّ من بقي من جديس؟ وقف الغلام مذهولًا يتطلع إلى الشيخ الرابض أمامه كالجدار الشامخ أو السد المنيع. وتفرَّقت الكلاب بعد أن طافت حولهما وشمت ثيابهما وتفرست في وجوههما الذابلة وأدركت أن أيديهما فارغة كغيرهم من أهل جديس. وترك الغلام يده لليد الكبيرة الخشنة التي أطبقت عليها في حنان، وقبل أن يضعا أقدامهما على الطريق إلى بيت الزرقاء جلجلت في سمعهما ضحكة خليعة قذفتها صاحبتها قبل أن تصفق بابها بعنفٍ أثار نُباح الكلاب: «أكانت الزرقاء لا تزال حية؟!»
كان سعد غلام الزرقاء قد خرج من الباب دون أن تشعر بوقع خطاه، وكانت خطاه أخفَّ من لمسات ظله الذي انطلق يجري وراءه مع حلول المساء كطيف كلب أمين. لم تكن أيضًا لتستطيع أن تسمع صياحه بعد أن أطبق الظلام على أذنيها مع الظلام الذي طوقها منذ أن أمر حسان بن تُبَّع باقتلاع عينيها الزرقاوين. بدأ صدرها يعلو ويهبط ويهدر ويزفر كالريح التي تعصف بأمواجه المضطرمة. رفضت أن تدخل اللقمة جوفها، جف ريقها ولم تطلب الماء، غارت الحفرتان السوداوان في وجهها المشدود مثل كهفين صغيرين في وجه صخرة عنيدة، وعندما كان يدنو منها ويضع أذنيه بالقرب من شفتيها كان يخيل إليه أن رعشات همسها المنغوم تردد الوصية التي طالما لقنتها له: «هناك يا غلام حيث يهوي المنحدر. هناك حيث دبت الحياة في الشجر. احفر لي القبر عليه شاهد من الحجر.» وأدرك أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة فجرت دموعُه مختنقة بصرخاته العاجزة.
دخل حفَّار القبور من الباب الخشبي الموارب ومعه حمله الثقيل. لم تفلح الأدوات التي ارتطمت بأرض القاعة الكابية العتمة في تحريك الجسد الطويل الضامر كالمومياء المتحجرة في مغارات الملح الرطبة، وما إن جلس على الحصيرة المهترئة الناحلة وأسند رأسه على ركبته حتى تحرك الوجه الجامد كقناع الموتى وندت عنه صيحة مرتجفة: سعد يا سعد! يا غلام!
اقترب منها الحفَّار تسبقه يده الممدودة التي لم تجسر على لمس الجسد النحيل الممدد كالحربة الصدئة الملقاة على الرمال بعد أن فقدت لمعان النصر القديم: «أنا هنا يا زرقاء، لم أنتظر صياح الغلام اليتيم.» أدارت وجهها نحوه وسلطت عليه الحفرتين الغائرتين: ومن أمره بالصياح؟ من أذن له بالخروج؟ تشجع الحفَّار ولمس كفها البارزة العظام: لا بأس يا زرقاء، ربما أراد أن ينبه الكرام.
انخرطت فجأة في نشيج ممدود ارتج له الجسد المصلوب على الحصير الذابل المجدول من سعف النخيل، وارتبك الرجل الشاحب المصفر الوجه وهي تدمدم وتئن وتموء مواء قطة عجوز قبل أن تغوص في غياهب ظلامها الحميم، ظلامها الذي أخذ يطلق شظايا الكلمات المهشمة كعصافير مقتولة تهوي من شجرة قديمة يابسة: ومن استمع إلى صيحاتي يوم جريت ممزقة الثوب محلولة الجدائل؟ من صدق المجنونة التي راحت تدق الأجراس وتنعق كالبومة وتعوي عواء كلبة مخبولة يرجفها الزلزال قبل وقوعه؟ من صدقني حين صرخت عن الشجر يجر وراءه البشر؟ ألم يقولوا: كيف يجتمع الشجر والبشر؟ ألم يضحكوا ثلاثة أيام حتى قطَّع حسان ضحكاتهم بسيوفه؟
هز قضاعة ذراعها وأوشك أن يكتم على فمها بقبضته، لكنها كانت قد صمتت فجأة كما اهتاجت فجأة، وهزَّت رأسها ثم أخفت وجهها بذراعيها قبل أن تقول غاضبة: الكرام.
لم يشأ الحفَّار أن يخرجها عن صمتها. أراد أن يقول أشياء كثيرة سمعها من عجائز ماتوا بين يديه، ومن راع شيخ كان يبحث عن الكلأ لأغنامه بعيدًا عن مضارب القبيلة وبيوتها ومرابعها التي اكتسحتها المحنة كالعاصفة النارية.
راحت خلجات شفتيها تتلوَّى تحت ضغط المياه الراكدة التي تتصاعد من جوف بئرها المظلم العميق: الكرام! كم وقفوا أمام بابي كأعجاز نخل يابسة في الريح. كنت أحس الندم والحزن يرتعشان فوق وجوههم وأصواتهم المرتجفة بالذنب تحاول أن تلف حبالها حولي. كم طلبوا العفو وتلبية الحاجات فصددتهم عن بابي، وأخذت وفودهم تتراجع حتى لم يعد أحد يطرق بابي أو يذكرني في ليل أو نهار. عرفت الحرمان وشظف العيش وأغلقت جحري علي كذئبة جائعة متكبرة. كان زوجي قد اختفى ولم يظهر له أثر. قيل قد نجا من المذبحة وقيل بل شطره ابن تُبَّع بسيفه شطرين، وشقيقي رباح الذي وشى بي؟ ما كان أَخَسَّك يا رباح وكم كان حنانك وبرك بي! وهل كان بوسعي أن أرفض الصرة المملوءة بالطعام والمال والثياب التي يسلمها لي عابر سبيل بين الحين والحين وهو يقول: هذه من رجل أوصاني ألَّا أذكر اسمه؟
صبرت على سنوات الجدب السبع وسنوات الذل العشرين، وانطفأت كل نجوم سمائي وشموعي ذابت في الصمت المتفحم، وصمت عن الضحكة واللقمة منذ أن فقئ سراجي وتم ظلامي وخيمت عليَّ صور الرعب القاتل من أن يقطع حسان لساني.
لم يسمع قضاعة هذا الكلام، ولو سمعه لما أدرك معناه. كان غريبًا رمته محنة قبيلة مجاورة على هذه القبيلة أو ما بقي منها. دخلها مع الراجعين إليها من فلول الناجين والهاربين الذين خرجوا قبل المقتلة يستطلعون أخبار القوافل العابرة إلى الحدود مع اليمن أو يهاجمونها وينهبون ما يستطيعون نهبه، وعندما رجعت النساء والفتيات الصغيرات اللاتي سباهن جيش التبابعة ومعهن اليتامى والعجزة والمتسولون، وجد له خيمة وعرف الطريق إلى أرملة ثكلى وسلك الدروب الجبلية الوعرة إلى الآبار البعيدة ليحمل الماء إلى خيام الفقراء وبيوت التجار وأوكار اللصوص وقطاع الطريق، ولما شحَّ الماء في الآبار وطال الجفاف الينابيع بعد أن شقق الأرض وأحرق الزرع وحصد الأشجار والأعمار، اكتشف أن حفر قبور الأموات يضمن حياة الأحياء في زمن القحط، القحط الذي لم يسمن سنواته العجاف سراب الوعود من عمال حسان وخلفِهِ على جديس، ولا الفضلات المتبقية من موائدهم وقوافلهم المتجهة في حراسة جنودهم إلى ما وراء الحدود.
خرج قضاعة من بئره ولم تخرج الزرقاء. أخذت تغوص في مياهها العكرة حتى ارتفع صوت شخيرها الذي لم تقطعه حشرجة صدرها ولا ارتفاعه وهبوطه مع أمواج رؤاها التي ظلت تفور في باطنها وتمور، وعندما دخل سعد وراء الشيخ العجوز الذي أوقفه على الطريق كان جسدها قد تصلَّب وتخشَّب كفرع نخلة جافة تسف الريح عليه ذرات الغبار وتلفه سحب الرمال. جرى الغلام نحوها والتقط يدها. لمس الصدر الذي يعلو ويهبط فاضطرب صدره وتحجرت غصته وخنقت آهته الخافتة كحفيف جناح كسير: خالتي، سيدتي … وبدأ ينشج بصوت عالٍ عندما أحس أن الصدر يتوقَّف لحظاتٍ قبل أن يعاود ارتجافه ويقذف حممه من جديد. أسرع الشيخ نحوه وضمَّه إليه قبل أن يهتف بصوته القوي الذي خرج من فمه الخالي من الأسنان كما يخرج زئير وحش أشعث من جوف وكره المخيف: زرقاء! يا زرقاء! تحرك الرأس قليلًا واهتزت الشعرات البيض في عارضيها قبل أن تختلج الشفتان وتهتز اليد تحت كف الغلام الصغير: سعد … هل نسيتني يا ولدي؟ انفتحت فوهة الفم الأهتم ومالت رأس الشيخ فوق الجبهة المتغضنة بالتجاعيد حتى كادت الأنفاس تصغر في الفتحتين الغائرتي السواد: أوصنا يا زرقاء. صمتت طويلًا وتجمد وجهها الصخري ثم خرج الصوت من فمها كصوت الماء المنسكب من جرة قديمة: هناك حيث دبَّت الحياة في الشجر! هتف قضاعة وهو يلم أدواته: الغلام يعرف الطريق يا زرقاء. وقال الشيخ لنفسه وهو يلتفت إلى حفار القبور الذي أخذ يربط الرفش والسلال والحبال ويضعها فوق كتفه: أجل! أجل! هناك حيث البرج والشجر!
تجمدت اليد التي كانت تربت على كف الصبي. تثلجت فوقها كعصفور ميت ثم سقطت.
وتشبث بها الغلام وهو يرتمي على الصدر الذي سكنت فيه الحركة وكف عن الصعود والهبوط، وتساءل الشيخ وهو يضع يده على رأسه ويمد ذراعه ليبعده عن الجسد المتصلب في كهف الموت: ألم تعرف أن الشجر جف واقتلعه أهل جديس ليستدفئوا به في برد الشتاء؟ ألم يقل لها أحد أن البرج تهدم كما تهدمت سائر الأبراج والحصون وأخذ الناجون من المذبحة أحجاره ليبنوا بها بيوتهم المخربة؟
-
هامش أول: يقال — والعهدة على راوية مجهول — إن الزرقاء انتفضت فجأة قبل أن يفلت طائر الروح من
صدرها وطلبت مرآة. سألوها: وماذا تفعلين بالمرآة يا زرقاء؟
قالت: أنظر عينيَّ الزرقاوين اللتين سأرجع بهما في وجه بومة جميلة. تعجبوا وكادوا يضحكون: وجه بومة؟ قالت: أجل أجل! تتخلَّق من بقايا رمادي وتقف على شاهد قبري وترفرف فوق أطلال جديس القديمة وسطوح ربوعها الجديدة وهي تولول صائحة: تنبهوا فقد تحرك الشجر! تنبهوا فقد تحرك الشجر!
- هامش ثانٍ: يقال كذلك — والعهدة على المؤرخين والرواة الأقدمين — إن أحد الشعراء الصعاليك كان يحوم في مقابر الفقراء في أطراف جديس عندما وجدهم يحفرون قبرًا صغيرًا بطول جسد الزرقاء الفارعة الطول. كان قد يئس من العثور على شيء يأكله أو ينهبه من مرابضها المقفرة ومراعيها اليابسة وربوعها الدارسة فاتجه صوب المقابر لعلَّه يعثر على حيوان ضالٍّ مثله أو يلتقط ثمرة من شجرة نسيها الجائعون، وعندما عرف أن القبر للزرقاء تذكر طرفًا من شعرها الذي وصل إليه وتطلع إلى قمم الأشجار فوجد الأوراق ترتجف في الريح، ولم يملك أن صاح بأعلى صوته قبل أن يواصل الرحيل في الجبال: تعلموا من الشجر! تعلموا من الشجر!
- هامش ثالث وأخير: بعد أجيال وأجيال جاء إلى جديس زائر غريب، وفي الطريق إلى دار الضيافة أدهشته مناظر العمارات الضخمة والأبراج السكنية العالية والطرق العريضة المسفلتة والأسواق والمحلات والمعارض المرصعة بأضواء النيون الساطعة. سأله موظف الاستقبال عن أوراقه فقدم له جواز سفره وهو يبتسم: أنا مؤرخ يجمع أخبار الأولين ويدوِّن حكاياتهم. لقد أصبحت جديس الجديدة مدينة رائعة!
نظر إليه الموظف باستغراب وهتف: ألم تسمع بقرار مجلس الثورة بتسميتها مدينة الزرقاء؟! قال الغريب: حقًّا؟ وأين أجد المكان الذي رأَتْ فيه الشجر يتحرك؟ هل يمكنني أن أصعد البرج الذي اكتشفت منه جيش ابن تُبَّع؟ قدم له الموظف خريطة المدينة وفردها أمامه وهو يشير بإصبعه إلى سهم أسود في الطرف الأقصى منها: لقد أقيم فيه فندق سياحي خمسة نجوم! سأل الغريب: وهل بقيت آثار تدل عليها؟ قال الموظف: بالطبع، ولا يصح أن تفوتك زيارة متحف الزرقاء. ثم مال بجذعه ومد وجهه نحوه وهو يهمس في أذنه: يقول المختصون إنهم عثروا على خصلة من شعرها الذي أمر حسان بحلقه، وقطعة من ثوبها الذي مزقه جنوده، والحجر الذي انطبعت عليه آثار قدميها الحافيتين في الرمضاء، وفي المساء يمكنك أيضًا أن تشاهد في حديقة دار الضيافة عرض الصوت والضوء … إلى هذا الحد نهتم بالتراث! عاد الغريب يسأل: وطسم التي حكمها عملوق الظالم، هل توقفت غاراتها؟ قهقه الموظف ضاحكًا حتى تندَّت عيناه: هناك أجهزة الإنذار المبكر؟