تائهة على الصراط (١)
١
صامتة غائبة عن الوعي منذ أن داهمتها الجلطة فعطلت مراكز الكلام والفهم والاستجابة لما يدور حولها أو في داخلها. تجلس مستندة إلى ظهر السرير المعدني البني اللون، أو تتمدد على جنبها الأيمن أو الأيسر كتلة سوداء لا يميزها شيء عن البطانية والملاءة الكالحة في الحجرة المسدلة الستائر التي لا يزورها ضوء الشمس إلا لحظات في الصباح لتجديد الهواء أو نفض الأغطية، وعندما يفتح عليها الباب ليطل عليها زائر من الأهل أو الجيران، أو لتقدم لها ابنتها الأرملة الطعام، تظل على حالها نائمة على جنبها أو مستندة إلى ظهر السرير، وجهها متجه إلى الحائط، عيناها الصافيتان تائهتان زائغتان على الدوام، يداها الصغيرتان تتشابكان ثم تفترقان وتمران على الرقبة والصدر ثم إلى حجرها تتشابكان من جديد، وإذا توقَّف الزائر أمامها أو جلس قليلًا على طرف سريرها فلا بد أن يتعجب من براءة الطفولة التي تكسو الوجه وتسبح في العينين رغم تجاوزها السبعين وربما الثمانين (فلا أحد يحتفظ لها بشهادة ميلاد أو تسنين أو بطاقة هوية …) ولا بد أن يصدق ما يردده الجميع عن ارتداد الشيوخ إلى الطفولة، وأن يندهش من منظر طفلة عجوز لا تتحرك ولا تنطق ولا تهتم. حتى الصلاة التي كانت شاغلها الوحيد لم تعد تؤديها، والمسبحة الطويلة التي كانت لا تكف ليل نهار عن تلاوة الشهادتين عليها والدعاء لأمواتها وأموات المسلمين لم تعد تثير في يدها أي رغبة للإمساك بها فبقيت ملقاةً أمامها كالهيكل العظمي المتحجر لحيوان بحري منقرض. لم يبقَ فيها إلا فم يزدرد الطعام الذي يُقدَّم إليه في نهم حيواني، ولم يبقَ إلا جسد يتغذَّى ويتمثل الغذاء ويخرج الفضلات. وأحيانًا تسأل ابنتها نفسها أو تسأل الضيف أو القريب الذي يتصادف زيارته لهما: هل يمكن أن يتحوَّل الإنسان فجأة إلى شجرة ثابتة أو تمثال حجري أو حيوان أعجم توقف كل شيء فيه إلا الفم والمعدة والمسالك؟ وربما تضحك من شدة عجبها وتعبها في خدمتها وهي تقول: حكمتك يا رب! أنت الذي حكمت بهذا عليها وعليَّ. ثم تستدرك قائلة كأنها تبكي: أحيانًا أسمع من حجرتها صوت أنين كمواء قطة عجوز تنادي على صغارها، وأكاد أميز صوت ندائها: يا ولدي، تعال يا ولدي … وتضرب كفًّا بكفٍّ والألفاظ الخارجة من حنجرتها تتهدج وترتعش على حافة العتبة الصوتية التي يتداخل فيها الضحك مع البكاء مع صيحةٍ تختلج بالغضب والسخرية: اللهم لا اعتراض، اللهم لا اعتراض.
٢
في صباح ذلك اليوم الدافئ من ديسمبر المتقلب رن الجرس ثم تبعته خبطاتٌ خفيفة على شراعة الباب الخارجي للشقة الصغيرة. كانت الأرملة قد فرغت من طعام أمها وحمامها وانصرفت لإتمام زينتها وإعداد فطورها فلم تسمع شيئًا حتى تتابعت اللمسات الحنون على الزجاج كطرقات أنامل طفل أو دقات منقار عصفورة وحفيف رجليها وجناحيها، وعندما فتحت الباب ندَّتْ عنها صيحة فرح لم تستطع أن تخفي نغمة الشكوى الحبيسة: خالي عبد الهادي، جئت في ميعادك يا حاج.
ألقت بنفسها على صدره وأشبعته تقبيلًا قبل أن تترك له الفرصة ليتفضَّل ويدخل بقامته النحيلة الطويلة، ووجهه المضيء باللحية الصغيرة البيضاء، والبركة التي تشع من ملامحه الواضحة وعينيه الهادئتين الطيبتين. قال وهو ينظر في لهفةٍ إلى الباب المغلق على شقيقته: بركة إنكم بخير. قلت أطمئن عليكم بعد المطر والزوابع الأخيرة.
أسرعت الأرملة تقول: قلت لك جئت في ميعادك. الإفطار جاهز وإخوتي على وصول.
سأل وهو يشد كرسيًّا من كراسي السفرة وعيناه مثبتتان على الباب: يصلون بالسلامة، والله لهم وحشة، وواجب يطمئنوا على أمهم.
قالت الأرملة وهي تساعده على الجلوس بعد أن وضعت حشية طرية على الكرسي: لا يقصرون أبدًا يا حاج، كل يوم تقريبًا يتصلون بالتليفون، لكن المشاغل كثيرة والدنيا كما تعلم. قال بعد أن أخرج مسبحته وبدأت سبابته تدور على حباتها الصفراء اللامعة: ربنا يعينهم يا بنتي، كل حي مشغول بنفسه وأكل عيشه. الكل على هذا الحال. لكلٍّ يومئذٍ شأن يُغنيه.
قالت الأرملة قبل أن تتجه إلى المطبخ: كلها ساعة أو اتنين ويحضرون. على الأقل يأخذوا منك البركة. ثم وهي تلاحظ نظراته القلقة المثبتة على الباب: أدخل لها بعد ما تشرب الشاي وتأكل لك لقمة. الحالة هي هي.
سألها وهو يتمتم بالدعوات الخافتة: والدكتور يا بنتي …
قالت وهي تشير بيدها: ربنا هو الشافي، قال استمروا في الدواء والعلاج، الحالة صعبة يا حاج، والعظمة كبيرة، ادعُ لها ربنا يشفيها ويشفي كل مريض، وادعُ لي أيضًا يا حاج، دقيقة واحدة الشاي على النار.
لم يقل لها إنه أفطر كعادته قبل أن يغادر داره. فمنذ أن ماتت زوجته وتفرَّق أولاده وتستَّرت بناته وهو يعيش للعبادة والصلاة ورعاية شئون الجامع في بلدتهم الصغيرة. هو أيضًا ينتظر أمر الله ويسأله اللطف في قضائه بعد أن وهب شبابه وكهولته للتعليم في المعهد الديني وخرج إلى المعاش، لم يبقَ إلا الانتظار في الصف مع أخته الوحيدة وتسليم أمره لرب العالمين.
هيه، ربنا يشفيك يا عالية ويجعل يومي قبل يومك. سنكون آخر الراحلين يا حبيبتي والبركة في الباقيين.
نهض من على كرسيه وخطا نحو الباب المغلق وهو يردد لنفسه: قادر يا حبيبتي أن يجمعنا يوم اللقاء، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات، يوم يقوم الناس لرب العالمين. هو القادر على كل شيء.
٣
دخل في شبه عتمة مطبقة لا يرى الإنسان فيها حتى الأشباح والظلال، ولولا بصيصٌ من الضوء المتسلل من أعلى النافذة التي أحكمت عليها الستارة القطيفة الداكنة لَاحْتاج لوقتٍ أطول قبل أن يتبين معالم السرير والكتلة السوداء المكومة عليه. تحسَّس بيده الحافةَ المعدنية ورمش بجفونه كثيرًا حتى استطاع أن يجد ركنًا ضيقًا يتسع له. خُيل إليه بعد قليل أن وجه شقيقته قنديل يضيء وسط الظلام، وأنه يرى عينيها الصافيتين الواسعتين تشعَّان بنفس الذكاء القديم والتصميم المخيف والعزم الصارم. أطرق برأسه وأخرج المسبحة من جيبه، وشرع يقرأ ياسين وبعض قصار السور التي اعتاد قراءتها كلما أَمَّ المصلين في الجامع أو كلما حز به أمرٌ أو خطبٌ شديد، وغاب مع التلاوة لحظاتٍ ثم أغمض عينيه وتراءت له شقيقته في شبابها كأنها حاضرة واضحة أمامه. سبحانك ربي القادر على كل شيء. كيف تقع الشجرة العالية وكيف يبرك الجمل الشديد؟ هي نفسها عالية التي طالما شددتها من خصلات شعرها الأسود الطويل كذيل حصان عربي أصيل، وطالما طلبت منها أن ترحم نفسها من الحمل الثقيل من صبحية ربنا إلى ما بعد العشاء بزمن طويل؛ حمل العجين والخبيز والطبخ والكنس والغسيل والنفخ في نار الفرن على الفطير في الصباح والحلل الكبيرة في الغداء وطواجن السمك والأرز المعمر والعصيدة وأم علي في المساء. الجمل نفسه يقع من طوله يا عالية، حتى الثور في الساقية لا بد أن يستريح، وتضحكين وتقولين: إذا استراح الجمل والثور فالساقية لا تستريح. وأقول لكِ دائمًا وأنا طالب تكلل رأسي العمامة الصغيرة ويغرق جسدي الهزيل في القفطان والجبة الفضفاضة، ثم وأنا المعلم والواعظ والحاصل على العالمية: كنتِ دائمًا نزيهةً وتحبين الضحك والملابس والعطور وتسريحة الغدائر الطويلة حتى ظهرك، تَذَكَّري نفسك يا عالية. وتردين وأنت تضحكين من قلبك الفوار كبئرٍ صافٍ غويطٍ: والرجل والأولاد والبنات يا عبد الهادي؟ غدًا يكون لك بيت وعيال وموال طويل، غدًا يحيينا ربك وربي ونتقابل وتشرح لي الأحوال. وكم تقابلنا يا حبيبتي بعد أن ثقل الحمل على ظهري الضعيف، وكم حسدتكِ وضحكت معكِ ولم أتوقف عن القر على الشجرة العفية العالية والجمل القوي العنيد، وها أنتِ أمامي الآن لا تحسين بي ولا تلتفتين. تنظرين في الفراغ كأنكِ لا تعرفين أخاكِ ولا تريدين أن تريه. سبحانك يا مغيِّر الأحوال، يا من تطَّلع على الأفئدة وتعلم ما تكنُّ الأرحام وعندك علم الساعة يا علَّام الغيوب يا رحمن يا رحيم.
ظلت عيناها مسمَّرتين على الحائط ووجهها الناصع ساكنًا كالجرة المصقولة، وراحت يداها الصغيرتان تنزلقان على رقبتها ثم تنزلقان على حجرها وتشتبكان من جديد، وعندما بدا له أنها حركت وجهها نحوه ورَنَت إليه أقبل نحوها ومد يده بالمسبحة لعلها تتلقفها منه وتستأنف تسبيحها الذي لم يتوقف عشرات السنين، لكن سرعان ما أبعدت عينيها وثبتتهما على الحائط كأنها تنتظر أن تنشق حجارته عن وجه مجهول، وتشجع فمرَّ بيده على رأسها وجبينها وأخذ يتلو ما تيسر من ياسين. بقيَتْ جامدةً كالصخرة لا تطرف لها عينٌ ولا تند عن رقبتها أو يديها حركةٌ واحدة. عزَّ عليه ألَّا تعرفه ولا تغيبه بين أحضانها وتسأل عنه كما كانت تفعل دائمًا، وتناهَتْ إليه أصوات مرحة عالية ودبيب أقدام قوية تدخل الصالة وقبلات ونداءات وضحكات فقام يائسًا من مجلسه، وقبل أن يصل إلى الباب خُيل إليه أنه يسمع أنينًا خافتًا ولكنه مبحوح وواضح كرنين النحاس في أذنيه: تعال يا ولدي، يا ولدي تعال. التفت إلى الوجه الطفليِّ العجوز واستغفر الله من ذنوبه وذنوب المسلمين، ثم أغلق الباب وراءه في حرصٍ وسكونٍ وهو يتمتم: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
٤
كانوا قد دخلوا بالزيطة والزمبليطة يسبقهم عواء البوق المدوي للمرسيدس الجديدة التي وقفت كالعروس المجلوة أمام البيت الصغير. هلَّلوا صائحين حين خرج من الباب وأقبلوا عليه مرحِّبين: خالي عبد الهادي، والله سلامات يا حاج.
عانقه المقاول حازم وهو يردِّد: طيبون، طيبون.
وانحنى الطبيب حمادة على يده فلثمها بخشوع: البركة حلَّت علينا يا حاج (ثم وهو يلتفت إلى الضيف الذي جاء معهما) بركة أهل زمان، خلاص عطلت علينا يا خال.
ابتسم الخال وهو يُلملم قفطانه ويجلس إلى الفطور والشاي الذي تركه على المائدة: أنتم الخير والبركة يا بني، ادعوا لنا بحسن الختام.
هتفت الأرملة وهي تضحك وتُمسك بذراع شقيقها الطبيب: دعواتك أنت يا حاج هي الدواء والعلاج الشافي بإذن الله.
من ساعة وهو عندها حتى برد الشاي ولم يلمس لقمة من الفَطور.
كركر حازم بالضحك وأشار لأخيه: عدية ياسين أفضل من كل أدويتكم يا حمادة، معكِ حق يا فاطمة، ماذا قال الدكتور؟
ولما هزَّت الأرملة كتفيها وأشارت بكفيها اللتين وضعتهما على فمها إلى أن الحال على ما هو عليه تقدَّم حازم من الباب وتبعه حمادة على استحياء وخطواتهما المترددة تنطق بأنهما يُريدان أن يطلَّا على العجوز لأداء واجبٍ لا بد منه، وارَب حازم الباب وغابَت رأسه قليلًا قبل أن يلتفت لشقيقه قائلًا: شخيرها عالٍ. هل تفحصها يا حمادة؟
زام الطبيب وهو يدخل رأسه ويتأكَّد من أن الكتلة السوداء غارقةٌ في سوادها ونومها الأزلي: ممكن طبعًا، لكن …
شدَّتْهما الأرملة من ذراعيهما وارتفع صوتها قليلًا وهي ترمق شقيقها الأصغر بنظرة غاضبة: وتتعبها وتتعب نفسك من غير داعٍ، قلت لكم الحالة على ما هي عليه وممكن تستمر لشهورٍ أو حتى سنين، الدكتور نفسه كلمني أكثر من مرة، تعالوا اشربوا الشاي وسيبوا خالكم يأكل له لقمة.
صاح الحاج عبد الهادي وهو يرفع كوب الشاي إلى فمه ويبلل فيه لقمة صغيرة: الوقت ضيق يا بنتي، لا بد أن أرجع البلد قبل صلاة العصر.
قالت الأرملة وهي تقرب منه طبق الفول وطبق الجبن القريش وتستدير مسرعةً إلى المطبخ: بلا عصر بلا مغرب، أنت معنا اليوم، هات الشاي لأدفئه على النار.
ضحك حازم وهو يتجه نحو الصالون للجلوس مع ضيفه: نحن أيضًا وقتنا ضيق ووراءنا أشغال، حتى الدكتور …
قال الطبيب مؤمنًا على كلامه: أي والله يا خال، لا بد أن أرجع للمستشفى قبل العصر، عندي حالات منتظرة، والمستشفى …
ارتفعت ضحكة حازم مؤكدًا كل كلمة: المستشفى الجديد، المستشفى الاستثماري يا خال، حتى ابن أختك الطبيب المستشيخ أصبح من رجال الأعمال.
رد حمادة كأنه يبرئ نفسه أمام الخال: وهل يتنافى هذا مع التقوى والدين؟ قل له يا خال، قل له إن الحسنة بعشرة أمثالها، واستثمار يختلف عن استثمار.
أسرع الخال بالتصديق على كلام حمادة الذي يعرفه من صغره قبل أن يحتج حازم المتهور أو يغلط في الكلام: ربنا يوفقكم يا أولاد، ما دام عملك لوجه الله ومرضاة الله، للذين أحسنوا الحسنى وزيادة.
جلجل حازم ضاحكًا وكأنه يشهد الضيف والخال والجميع: والحسنة بالدولار والدينار والريال يا عم الحاج، ابن أختك ناصح وبحره غويط.
قال حمادة متأففًا ومغلقًا الباب الذي تأتي منه الريح: المهم كله بالحلال ولوجه الله، ربنا هو العالم يا حاج.
تمتم الحاج وهو يتطلع لوجه حازم: ونعم بالله، إن لم تكن تراه، فإنه يراك، هل تذكرون يا أولاد؟
وجاءت فاطمة بصينية الشاي التي يتصاعد الدخان من الأكواب المصفوفة عليها ونظرت لحازم نظرة لها مغزاها وقالت: تفضلوا الشاي أولًا حتى أجهز لقمة لأجل خاطر سعادة البيه.
صاح الضيف بصوت مرح: حلفت بالله لا تتعبي نفسك، وراءنا أشغال ومستعجلين.
وامتدت الأيدي لأكواب الشاي الذي يغري كما هو معروف بالسمر والثرثرة التي تطوف في كل وادٍ ولا ترجع إلا بخفي حنين.
٥
هدأ الجو قليلًا ولم يعد يسمع سوى رنين المعالق في الأكواب وصوت الشفاه التي تتجرع الشراب الدافئ المعطر بالنعناع، وانصرف الشيخ لطعامه الذي أقبل عليه بشهية فضحت نهمه الشديد وانكفاءه عليه كالمحروم على الرغم من تكراره لاسم الجلالة مع كل لقمة يزدردها من الفول والبيض المقلي بالزبدة، وانشغل عن الجميع الذين انشغلوا عنه أيضًا بالحديث المعاد في السياسة وفساد الأحوال والإصلاح الذي بدا في الأفق كأنه الطرق على أبواب المحال، رمى الضيف نسخة الأهرام من يده وهو يزفر في غضب: شفتم المذبحة في قانا، والعالم نائم على أذنيه.
قال حمادة: ونحن نغط في أحلام السلام السعيد.
زفر الضيف مرة أخرى محاولًا أن يوقف حمم السخط الكظيم: والله لم أنم لحظة واحدة، منظر الجثث والأطراف المتناثرة والرءوس المقطوعة والوجوه المحترقة، رعب، رعب حقيقي. زأر الخال من بعيد وهو يكرع الشاي بصوت مسموع: لا حول ولا قوة إلا بالله، أشراط الساعة يا ولدي، وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ.
وارتفع صوت حمادة وهو ينحني لتناول الجريدة ويمر بعينيه على الصور المخيفة: لم تكفهم صبرا وشاتيلا، وقبلها دير ياسين وكفر قاسم وعشرات وعشرات.
احتج الضيف معاتبًا: هكذا نحن يا عرب، نبكي دائمًا على الأطلال، أليس كذلك يا حاج؟ لولا ضعفنا ما تجرَّءُوا أبدًا.
جمجم الحاج ثم قطع كلامه فجأة: وأعدوا لهم …
قال حمادة موجهًا كلامه للضيف كأنه ينبهه من غفلته: قل لولا ضعف مصر ما تجرءوا، نحن الآن أضعف من أي وقتٍ مضى.
قال الضيف متلفتًا للوجوه التي حوله كمن يدافع عن قضيةٍ لا يثق تمامًا في قوتها: إنهم يفعلون كل شيء لتخريب مصر، وعندما يضرب القلب فالأطراف كما تعلم يا دكتور.
ولم يستطع حمادة أن يخفي امتعاضه فقال متأففًا: الكلام سهل يا عزت بيه، جزء من غرورنا القديم وإعجابنا الزائف بأنفسنا.
حاول عزت بيه أن يتدخل: لكن يا دكتور، الحقائق تقول …
أشاح حمادة بيده ثائرًا وقاطعًا في محاولة لإنهاء الحديث: الحقائق لا تقول سوى شيءٍ واحد: نحن المسئولون أولًا وأخيرًا، من المسئول عن الفساد الذي انتشر كالوباء ولم يسلم منه حتى الماء والهواء؟ إسرائيل أم أمريكا أم أوروبا أم الجن والشياطين أم لعنة الفراعنة؟ من المذنب؟
قال حازم وهو يرفع يديه ويضعهما أمام وجهه كأنه يتقي شرًّا قادمًا نحوه: الفساد، كله إلا الفساد، والرشوة أصبحت ضريبة محددة، حق معلوم، ماركة مصرية مسجلة، أعوذ بالله، أعوذ بالله، الناس أصبحوا بلا ضمير.
رمقه شقيقه بنظرة انطلقت من عينيه كسهم حادٍّ وهو يقول بسخرية: الناس؟
استمر حازم وكأنه لم يسمع ولم ير: تصوروا ابن الكلب يطلب كم؟
ولما لم يسأله أحد عن ابن الكلب ولا عن الكم المطلوب قال وهو ينظر للضيف ليشهده على صدقه: عشرين باكو بالتمام.
هتف الخال الذي كان قد استقبل القبلة بالقرب منهم ولم يرفع يديه للشهادة قبل أداء ركعتي الضحى: لعن الله الراشي والمرتشي …
واستطرد حازم بعد أن سمع تكبير خاله فقال: صب السقف متوقف على الدفع، وإلا فالهدم طبقًا للقانون، والقانون لا يملأ عينه إلا تراب الفلوس.
ضحك عزت فازداد حماس حازم: لولا عزت بيه واسطة الخير لوضعني الكبير في كرشه وخرب بيتي.
فكر حمادة وهو يسند رأسه على كفه ويهزه قليلًا: وكم وضعت أنت في كرشك يا أخي العزيز؟
وضحك عزت بيه وهو يربت على كتفه: أستغفر الله، أستغفر الله، أفضالك سابقة يا حازم بيه.
وفتح حازم فمه ولكنه وجد أن المقام لا يسمح بأي مقال، وخاصة عندما نبهه عزت بك إلى الساعة وأن وقت التحرك قد أزف.
تأهبوا جميعًا للقيام بعد أن فرغوا من شرب الشاي والكلام، وفكر الحاج نفسه بعد أداء الصلاة أنه يمكن أن يلحق وقته ويتوكل على الله، ولكن صوتًا كزمجرة حيوان غاضب أو حشرجة طاحونة خربة وصل إلى أسماعهم قادمًا من الطرقة. تحول الطنين الخشن إلى صيحات مكتومة متلاحقة، طلقات غضب مدوية تبحث عبثًا عن لفظ تدخل فيه وتنطق به. لم يطل عجبهم كثيرًا؛ إذ وجدوا العجوز تشق طريقها بصعوبةٍ كشجرة ليلية ضخمة متلفعة بملاءة السواد والحداد.
أما ابنتها التي كانت تسير بجوارها كالديدبان الحارس وتشدها من كتفها وذراعيها فكانت تحاول أن تكتم صرخاتها المولولة: ارجعي يا وليه، اعقلي يا مجنونة، الحقوني يا أولاد، نفسك معنا يا خال.
٦
وجه جمل غاضب يدمدم وينفخ من أوداجه ومنخريه هواء كالسعير، والأبصار شاخصة إليها وهي لا تنظر إلى أحد ولا ترى أحدًا. خطوة خطوة كطفل ضخم عجوز لا زال يتعلم المشي، وذراعاها ممدودتان إلى اليمين والشمال كأنها تحاذر من الوقوع في هوة سحيقة. ماذا تريد؟ إلى أين تتجه؟ وما الذي أثارها وجعلها تغادر مرقدها الكهفي؟
وقف الجميع ذاهلين. الفزع والحيرة والاندهاش واليأس والعجز ترسم ظلالها على ملامح وجوههم ونظراتهم الزائغة. أسرع الحاج عبد الهادي إليها بعد أن أتم صلاته وختم تلاوته وطوى السجادة الحريرية الناعمة. حاول أن يسندها على كتفيه فنترت يده بعنف لم يتوقعه. تبسم وقال للحاضرين: تفضلوا يا حضرات، توكلوا أنتم على الله. مريضة وربنا يشفي كل مريض. ثم وهو يدعو حمادة الذي نهض محاولًا التدخل بأي شيء: الوعي الباطن يا دكتور، ألا تسمونه كذلك؟ يفور ويمور ويخرج ما في البير، تفضلوا ولا تخافوا، هيا هيا، وصلنا للشباك، انظري الشمس طالعة والهوا الله عليه، يالله يا عالية، خطوة خطوة يا أختي، عدينا الصراط والحمد لله، تعالي نرجع في أمان الله، تمام يا حبيبتي. كله بأمره.
ظلوا ينظرون إلى الكابوس المتحرك أمامهم وهم لا يعون. صيحاتها المتلاحقة ونداؤها: تعال يا ولدي، تعال، تعال. لم يفهموه ولم يتذكروا أنهم سمعوه من قبل. ضمة يديها عندما اقتربت منهم. ماذا تعني وماذا تقول بغير كلام؟ كانت قد ضمت يديها وكورتهما كأنها تلملم كل ما قالوه وثرثروا فيه لتجمعه في قبضة يدها وتلقيه من النافذة المفتوحة كأنما ترميه على أكوام القمامة المتراصة في الخرابة العفنة المقززة أمام البيت الصغير. حتى كلام الخال لا يفهمون معناه. كيف تنادي على ولدها وولداها أمام عينيها ولم تنظر إلى واحد منهما نظرة واحدة توحي بأنها عرفته. هل كانت تستمع دون أن يشعروا لما يقولون؟ هل يتصور أن تفهم شيئًا بعد كل ما جرى؟ وهل غفل الديدبان عن حراسته ولم تفطن لوقوفها على رأس الطرقة أمام الباب؟
قال الحاج عبد الهادي وهو يكرر محاولته معها فتنفض يده وذراعه بقوة، بينما يدفعها في حرص إلى باب حجرتها المكنونة في الظلام والنسيان: شدة وتزول يا حضرات، ربنا يشفيها ويشفي كل مريض، تفضلوا، تفضلوا.
لم يتفضل الحضور لأنهم نظروا إلى ساعاتهم في وقت واحد وأدركوا أن الوقت سرقهم. أخذ حازم ضيفه من يده وراح يسر إليه كلامًا لا يسمعه غيرهما والضيف يهز رأسه ويشد على يده ليعفيه من الاعتذار، ونهض حمادة إلى التليفون وأدار القرص واستغرق في حديثٍ دامَ عدة دقائق قبل أن يرفع صوته ويقول: كلمت الدكتور عوض، هو زميلي ودفعتي فلا تقلقوا، تفاهمنا على العلاج وربما يحضر إليها اليوم أو غدًا بعد المغرب حسب ظروفه، الحالة معروفة والعلاج مستمر والشفاء من الله، أستأذنكم فلا بد أن أرجع الآن.
هتف حازم: ونسيت الاتفاق؟
رفع حمادة حاجبيه: الاتفاق؟ (ثم خبط بيده على جبهته واستدرك) نعم نعم، سأوصلكم للمحافظة بطبيعة الحال.
قال حازم وهو يضحك: يا بختك يا عم، وسأرجع على المغرب وأمر على الميكانيكي.
رد حمادة وهو يردد ضحكته: ذنبك على جنبك، حذرتك من الفولفو ولم تسمع الكلام (ثم إلى الضيف وهو يسلم عليهما) من صغره وهو متهور ولا يسمع الكلام.
أقبلت الأرملة مصفرة الوجه مخطوفة اللون ووقفت أمام شقيقها الطبيب، قالت له بصوتٍ خفيض: شفت الفضيحة؟ شفت العذاب؟
ربَّت على كتفها وهو يقول: قدها وقدود، المريض معذور وأنتِ ست العارفين، سأكون على اتصال بعوض فاطمئني، اليوم أو غدًا بعد المغرب سيكون هنا للكشف وتكرار الدواء.
ومد يده إلى جيبه فأخرج في السر مظروفًا وضعه في جيب سترتها الشتوية الطويلة، وجاء حازم فأدخل يده في نفس الجيب بخفة وهدوء، واتجه الثلاثة إلى الباب بعد أن عانقوها وشدَّدوا عليها أن تشد حيلها وهي تدعو لهم على عتبة الباب: حظي ومكتوبي والأمر لله، ينجيكم يا إخوتي ولا يحرمني من حنانكم، بالسلامة، بسلامة الله.
أسلم لكم عليه بإذن الله، طبعًا طبعًا، هو القادر على كل شيء.
٧
رجع من حجرتها بعد أن أغلق الباب وراءه بهدوء. كانت الأرملة أيضًا قد أغلقت الباب الخارجي وذهبت إلى النافذة لتودعهم وتدعو لهم بالسلامة، وعندما أدارت وجهها إليه طلب منها سجادة الصلاة ليلحق الظهر قبل أن يتوكل على الله. ناولته السجادة وهي تتطلَّع في وجهه وعينيه دون أن تقول شيئًا، وتطلع هو لحظة في عينيها وقرأ فيهما الاتهام الصامت. لا بد أنها قالت لنفسها: ما الفائدة من الكلام وقد رأى بنفسه كل شيء؟ ما الفائدة من الشكوى وهي لغير الله مذلة؟ ولا بد أيضًا أنه قال لنفسه: ما جدوى الكلام معها عن ماضٍ لم تشهده لا هي ولا أحد من إخوتها حماهم الله؟ هي تعرف بالطبع أن لها شقيقًا بكريًّا مات صغيرًا قبل ولادتها — إذ إنها هي الكبرى — لكنه وحده يعرف كل شيء وربما تحمل بعض المسئولية عما حدث اليوم من شقيقته أو ما قد يحدث منها في غيابه.
فرد السجادة أمامه ولبث لحظاتٍ يتأمل الخيوط الحريرية الدقيقة المختلفة الألوان التي نقشت فيها الكعبة وحولها أُمَم المطوفين كأمواج البحر، وحاول بدوره أن يرد أن أمواج الماضي البعيد التي بدأت تلطم شواطئ وعيه المضطرب لكي يتفرَّغ للصلاة، لكنه شعر أنها لن تكون صلاة خالصة لوجه الله وأنها ستلقى في وجهه كالخرقة القديمة إن لم يخلُ ذهنه من كلٍّ ما خلا الله.
قعد على القماش الناعم وأخرج المسبحة وراح يصب من البئر القديم محاولًا أن يفرغه مما فيه وفي أسرع وقتٍ ممكن. كان تيار الألم يسري في كل أعضائه ويعكر كل نقطة في دمه. هل يستطيع أن ينكر ذنبه القديم؟ هل يبرئه هذا أمام مَن يعلم السر وأخفى؟ يوم أن زار أخته — ولم يمرَّ على زفافها العام — وهو شيخ صغير يتلفَّع كالقزم المضحك في قفطان وجبة قصيرة فضفاضة ويضع على رأسه عمامة كورها له أبوه واعتنى بفرز الشراشيب الدقيقة التي تنزل منها كالأشعة البيضاء. كان محمود البكر ممددًا أمامها تعصف به الحمى التي أعجزت الطبيب، وأخته تمر بيدها على جبهته وجسده الصغير المنتفض وتحس أنها تغلي كالملسوعة، ودموعها تسقط كزخَّات المطر في يومٍ شتوي عابس بالسحب الثقيلة التي لا تكف عن الهطول، وها هو يتذكَّر ما قاله لها مما سمعه من أستاذ الحديث والتفسير: اطمئني يا أختي وسلمي أمرك لعلَّام الغيوب، الطفل الذي يموت صغيرًا يأخذ بيد أمه على الصراط. تقولين ما هو الصراط؟ ألَا تقرئين مع كل صلاةٍ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ؟ إنه جسر فوق النار؛ فوق جهنم والعياذ بالله، يمر عليه الجميع، لا بد أن يمروا عليه في طريقهم إلى النار أو إلى النعيم. يوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض. يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
آه يا عبد الهادي. كنت لا تتوقَّف عن الكلام وتلاوة ما حفظت من الآيات. تكرر ما قرأته وما سمعته من معلمك الذي ذهبت إليه لتسأله عن حال الأطفال يوم القيامة، يوم تزلزل الأرض زلزالها، ويصدر الناس أشتاتًا، المعلم قال لك وأنت قلت لأختك، تذكر يا عبد الهادي ماذا قلت؛ إن أولاد المؤمنين في جبل الجنة يكفلهم إبراهيم وسارة حتى يردوهم إلى آبائهم يوم القيامة. وأخذت تؤكد لها أن نبينا رأى إبراهيم عليه السلام في الجنة وحوله أولاد الناس، قالوا: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال: «وأولاد المشركين.» وتنظر أختك إليك وهي تبكي، وتختلج في عينيها أضواء اليقين وظلال الشك، ثم تبتسم كأن نفحةً من الجنة هبَّت عليها، ويرتعش جسدها وترتجف يداها وهي تمدها وتقول: تعال يا ولدي، تعال، تعال. وتستقبل موت الصغير بالسلام والتسليم، بل يخيل إليك أنها كانت تبتسم وتكاد تستحم في نور الأمل واليقين وهي تمد يديها إليه وتهتف به ونحن نخرج نعشه الصغير في طريقنا إلى الجبانة الصغيرة: تعال يا ولدي، تعال، تعال، لا تنسَ أمك يا حبيبي يوم الموقف العصيب، لا تنسَ أمك التائهة على الصراط. يشارك الرجال في حمل النعش ويلتفت إليها فيخيل إليه أنها تبكي وتبتسم في وقتٍ واحدٍ وتكاد تند عنها الزغرودة الطويلة المجلجلة التي عُرفت عنها.
آه يا عالية! كيف خرج هذا التاريخ القديم من بئرك القديم؟ كيف لم تنسه بعد أن تعطلت مراكز التفكير والإحساس والفهم والكلام؟
شعر أن ابنة أخته تنهنه باكية في ركنٍ بعيد. لم يجد من المناسب أن يدخل معها في حوار أو يكرر عليها القصة القديمة والكلام المعاد. قام وكبر بالشهادتين وخطف الركعات الأربع وهو يحاول أن يلقى اللهَ بقلبٍ سليم، وبعد أن سلَّم طوى السجادة ووضعها على مائدة الصالة واتجه ناحية الباب. قامت الأرملة متثاقلةً وهي تحاول إخفاء دموعها ونظرت إليه بعيونٍ محتقنةٍ من البكاء وهي تقول: لا تتأخَّر علينا يا حاج، توكل على الله مع ألف سلامة، إذا تكلمت بدرية وحسن فسلم عليهما كثير السلام. جمجم بكلماتٍ مختلطةٍ وهو يواصل ختم الصلاة وقبلها من خدها وهو يقول: شدي حيلك يا بنتي، جزاؤكِ عند الله كبير.
وقبل أن تغلق الباب وراءه خيل إليه أنه يسمع من وراء الباب الآخر صوتًا واهنًا يتسلَّل إلى أذنيه: تعال يا ولدي، تعال، تعال.