الشاميون وفن المسرح المعاصر
في الوقت الذي نشأ فيه فن المسرح العربي الحديث؛ أي في أواسط القرن الماضي، لم تكن هناك دولة اسمها سوريا وأخرى اسمها لبنان، بل كان القطران يُطلق عليهما معًا اسم «الشام» داخل الإمبراطورية العثمانية؛ ولذلك كان ما يحدث في إحدى مدن الشام لا يلبث أن يُعرف ويُحتذى في مدينة أخرى، ومن ثَم لم يكد يظهر فن المسرح في بيروت، حتى انتقل إلى دمشق قبل أن يحمله إخواننا الشاميون إلى مصر، ويساهموا في انتشاره بها.
وظهور فن المسرح في العالم العربي الحديث، يمكن تحديد تاريخه وظروفه على نحو حاسم محدَّد بفضل كتابٍ طبعته المطبعة العمومية في بيروت سنة ١٨٦٩ باسم «أرزة لبنان»، وقد قام بنشره نقولا نقاش وضمَّنه حديثًا عن المسرح وعن تاريخ حياة أخيه مارون نقاش رائد هذا الفن في البلاد العربية، وعن كيفية تشخيص الروايات ثم المسرحيات الثلاثة، التي كان أخوه مارون قد ألَّفها ولحَّنها، وأخرجها في بيروت ابتداءً من سنة ١٨٤٨، وهي رواية «البخيل» من خمسة فصول، وهي رواية مضحكة كلها ملَّحنة ومؤلَّفة، لا مترجمة أو مقتبسة كما يتوهم البعض، بحكم تشابه عنوانها مع عنوان مسرحية «البخيل» الشهيرة لموليير شاعر فرنسا الكلاسيكي المعروف، والثانية رواية مضحكة أيضًا ذات ثلاثة فصول باسم رواية «أبي الحسن المُغفل» أو رواية «هارون الرشيد»، والثالثة رواية مضحكة كذلك ذات ثلاثة فصول باسم رواية «السليط الحسود»، وقد نبَّهَنا الناشر إلى أنه عندما يَنُصُّ على أن الرواية كلها مُلحَّنة، يكون معنى ذلك أنها قد كُتبت كلها شعرًا، ووُضعت لها كلها ألحان، أي إنها من نوع الأوبرا، وأما إذا نَصَّ على أنها مُلحَّنة فقط، فمعنى ذلك أنها لم تُكتب شعرًا ولم تُلحَّن جميع أجزائها، وأن بعض أجزاء حوارها قد كُتب نثرًا، وقد ذيَّل الناشر كل مسرحية بنوع الألحان التي لُحن بها كل جزء من المسرحية وَفق ترقيم مسلسل؛ فهذا الجزء من نغمة صبا، وذاك من نغمة بياتي، وثالث من نغمة حجاز أو عراق وهكذا …
والواقع أن نشأة المسرح في عالمنا العربي الحديث قد حددها هذا الكتاب تحديدًا حاسمًا، حتى ليُعتبر وثيقة هامة في تاريخ أدبنا الحديث، ومنه نعرف أن فن المسرح لم ينشأ في عالمنا العربي الحديث نتيجةً لتطوير أي فن قديم في بلادنا، أو فن شعبي كخيال الظل والقراقوز، وإنما جلبه إلينا مارون نقاش الذي وُلد في مدينة صيدا سنة ١٨١٧ وتربى في بيروت التي انتقل إليها أبوه سنة ١٨٢٥، وتُوفي مارون عزبًا في مدينة طرسوس سنة ١٨٥٥ وله من العمر ثمان وثلاثون سنة، ويصفه أخوه نقولا بقوله إنه كان «مربوع القامة، أسمر اللون، أسود الشعر والعيون، وكان منذ صغره متعلقًا بالعلوم، محبًّا للخلوة»، ثم يروي طرفًا من حياته فيقول إنه بعد أن أتقن القراءة والكتابة العربية، تعلَّم النحو والصرف وتعمَّق في هذا العلم، وأتقن أيضًا علم المنطق والعروض والمعاني والبيان والبديع، وفي سن الثانية عشرة تعلَّق بنظم الشعر حتى فاق أقرانه؛ إذ إن شعره كان طبيعيًّا سهلًا، مع خلوه من التعقيد والركاكة، وأتقن أيضًا علم الأرقام، ومسك الدفاتر على الأصول الإفرنجية، وتعلَّم أيضًا القوانين التجارية وبرع فيها جدًّا، وكان حَسَن الخط وديع الأخلاق متواضعًا، وتعلم أيضًا اللغة التركية والإيطالية والفرنسية وأتقنها. وكان مع عذوبة صوته وإتقانه فن الموسيقى لا يميل إلى الهزل والأغاني ومعاشرتهما، وكانت سيرته وخصاله محمودة بكامل أوصافها، وقد عمل في صدر حياته رئيسًا للكُتَّاب بجمرك بيروت، ثم ترك الوظيفة ليعمل بالتجارة حتى آخر حياته. وكان محبًّا للسفر والسياحة، وسافر إلى حلب والشام وباقي الأقطار والمدن الشامية. وفي سنة ١٨٤٦ سافر إلى الإسكندرية ومصر، ومن هناك ساح في بلاد إيطاليا واكتشف من أطوار الأوروبيين الخصال الحميدة، ولما اطلع على مراسحهم المعروفة بالتياترات أعجبته هذه المراسح للغاية؛ لما تضمنته من النصائح والإرشادات إلى العامة؛ فبرجوعه إلى بيروت علَّم بعض الشبان أصحابه، وفي أوائل سنة ١٨٤٨ قدَّم في بيته إلى أصحابه رواية موسيقية معروفة برواية «البخيل» ودعا إليها كامل قناصل البلدة وأكابرها، فأعجب هذا الفن أهالي بلادنا حتى شاع ذكر هذه الرواية بكل البلاد العربية. وفي أواخر سنة ١٨٥٠ قدَّم في بيته أيضًا الرواية المعروفة برواية «أبي الحسن المُغفل» أو «هارون الرشيد» ودعا إليها دولة والي الإيالة، ثم أنشأ في بيروت المرسح الشهير الملاصق لداره خارج باب السراي بموجب فرمان عالي، وقدَّم به رواية «السليط الحسود». وفي سنة ١٨٥٤ سافر إلى طرسوس لأجل التجارة، واستقام بها ثمانية أشهر فقط، ثم مرض بحمى شديدة، وتُوفي سنة ١٨٥٥ ونُقل جثمانه في سنة ١٨٥٦ ليُدفن بمقابر المارون في بيروت.
إنها تنقسم إلى مرتبتين كلتيهما تقرُّ فيها العين، وإحداهما «بروزا» وهي لفظة إيطالية تعني النثر، وتنقسم إلى كوميديا ثم إلى دراما تراجيديا، ويبرزونها بسيطة بغير أشعار وغير ملحنة على الآلات والأوتار، وثانيهما تُسمَّى عندهم أوبرا، وهي تنقسم إلى عبوسة ومحزنة ومزهرة، وهي التي في فلك الموسيقى مقمرة.
ثم يذكر أنه قد فضَّل أن يؤلِّف من النوع الثاني؛ أي نوع الأوبرا رغم صعوبته، ويبرِّر اختياره بسببين: أولهما أنه النوع الذي تميل إليه نفسه وينجذب له فؤاده، وهذا الميل كفيل بأن يحقق الإتقان لا أن يتغلب على الصعوبات فحسب، وثانيهما أنه يحس أن مواطنيه لا بد أن يفضِّلوا مثله هذا النوع الشعري الملحن الذي يُتغنى به، وبالفعل كانت الروايات الثلاثة التي قدمها مارون نقاش — كما ذكرنا من قبل — إما من نوع الأوبرا أو من نوع الأوبريت، وبذلك حدد مارون الصورة التي اتخذها فن المسرح في العالم العربي الحديث، وظل يسير عليها في الغالب الأعم عشرات السنين في كل من لبنان وسوريا ومصر، ونعني بها صورة المسرح الغنائي، ولكن هل باستطاعتنا رغم كل هذه الحقائق أن نزعم أن مارون نقاش قد أنشأ الأدب التمثيلي في لغتنا العربية على نحوٍ ما أنشأ فن المسرح؟ وهل اعتُبرت روايته التي نُشرت جزءًا من تراثنا الأدبي، أو أضافت إلى ذلك التراث فنًّا جديدًا؟ أظن أنه من البيِّن أننا لا نستطيع هذا الزعم؛ ففن المسرح بالرغم من ظهوره في العالم العربي منذ سنة ١٨٤٨ لم يستطع أن يخلق أدبًا تمثيليًّا، على نحوٍ ما نشاهده في الآداب الغربية، إلا ابتداءً من الربع الثاني من هذا القرن، وأما ثلاثة أرباع القرن الأولى من حياة هذا الفن في عالمنا العربي، فإننا لا نكاد نتبين خلالها نصوصًا أدبية استطاعت أن تدخل في نطاق تراثنا الأدبي الدائم الحياة، والذي تتابعت الأجيال على قراءته أو دراسته أو مشاهدته، واتخاذه وسيلة للتثقيف وصقل الملكات، وذلك لعدة أسباب، منها أن المسرح ظل فترة طويلة جدًّا يُنظر إليه في العالم العربي كفن دخيل على حياتنا وتقاليدنا، بل كبدعة غربية ضمن غيرها من البدع التي كان جمهورنا ينفر منها، وبخاصة المحافظون منهم، ويحاربونها وكأنه يستوي لديهم مع البدع الغربية الأخرى كالرقص المختلط وشرب الخمر ولعب الميسر، وزاد النفور منه احتياجه إلى عدد من الممثلات اللاتي يظهرن أمام الجمهور، حتى ليحدثنا التاريخ أن دور النساء كان يلعبه الرجال أو الغلمان أحيانًا كثيرة، في كل من لبنان وسوريا ومصر.
ثم إننا لا نستطيع أن نُقر نقولا نقاش فيما زعمه من أن أخاه مارون رائد فن المسرح العربي الحديث، قد كان يتقن اللغة العربية الفصحى والشعر العربي وعلومهما المختلفة، بل إن نقولا نفسه ليعترف في مكان آخر من كتاب «أرزة لبنان» بأن أخاه مارون لم يكن يحرص على صحة اللغة قدر حرصه على الوصول إلى هدفه المسرحي، ونحن بعد كل ذلك لا نستطيع أن نغفل ما هو واضح في حياتنا الأدبية العامة حتى اليوم، من أننا لا نُدخل في تراثنا الأدبي الذي تتثقف به أجيالنا المتابعة من نصوص، إلا ما استقامت صياغته اللغوية وفقًا لقواعد الفصحى، وها هي بين أيدينا روايات مارون نقاش الثلاث نعود إليها فنجدها مكتوبة في لغة خليط من الفصحى واللغة التركية أحيانًا، واللهجتين العاميتين المصرية والشامية، مما يصيبها بالركاكة والتفكك والأخطاء النحوية، وإن أسبغ عليها واقعية اللون المحلي في كثير من الأحيان، وعلى لسان عدد من الشخصيات المختلفة البيئة ودرجة الثقافة.
ولعل في هذه الصفحة التي نختارها من مسرحية «البخيل» دليلًا واضحًا على ما نقول:
(يلتفت نحو الباب والجوقة يلتفتون أيضًا.)
•••
ففي هذه الصفحة التي تجمع بين الشعر والنثر والزجل تستوي الفنون الثلاثة، في ركاكة التعبير والخلط بين الفصحى والعامية، بل والفرنسية (الفرانكو آراب) مثل لفظة «شانتيز» أي «المغني» ولفظة «بيبي» فضلًا عن الخلط في الأوزان والقوافي.
•••
وأخذ إخواننا السوريون هذا الفن ونبغ فيه منهم بنوع خاص أحمد أبو خليل القباني، الذي قيل إنه التقط أصول هذا الفن منذ مشاهدته لمسرحيات مثلتها فرقة فرنسية في إحدى مدارس دمشق، كما قيل إنه تعلم تلك الأصول من اللبنانيين الذين شاهدهم يمثلون في بيروت أو في دمشق … وعلى أية حال فقد نشط القباني في تقديم هذا اللون من الفن للدمشقيين منذ سنة ١٨٧٨ حتى سنة ١٨٨٤، وهي السنة التي غادر فيها سوريا إلى مصر ليستمر فيها نشاطه المسرحي. وقد كان أحمد أبو خليل العمود الفقري لهذا الفن الذي زاوله؛ فهو يؤلف المسرحيات ويلحنها ويخرجها ويشترك في تمثيلها والغناء فيها، وقد ألف عدة مسرحيات، منها: «الأمير محمود نجل شاه العجم» و«ناكر الجميل» و«ملتقى الحليفتين» و«عنترة» و«الكوكبان» و«أسد الشرى» و«لوسيا وأنس الجليس» و«كسرى أنو شروان».
وقد أعد القباني لفنه مسرحًا فسيحًا في دمشق، استطاع أن يعرض من فوقه المشاهد الكبيرة، وبنى صالة متدرجة، وقد خطا القباني خطوة كبيرة بهذا الفن نحو الأمام بفضل إتقانه للموسيقى والغناء، دعامتي ذلك الفن عندئذٍ، فضلًا عن أنه كان يُحسن نظْم الأزجال والأشعار ويجيد ربط الحوادث في حبكة قصصية محكمة، وقد عمل على أن يقرِّب التأليف المسرحي من أدب اللغة الفصحى من جهة، وأن يقربه من الشعب من جهة أخرى، وذلك بأن يستمد موضوعاته من القصص الشعبية المنتشرة في طبقات الشعب، وبخاصة قصص ألف ليلة وليلة التي كان أفراد الشعب يستمعون إليها في المقاهي والندوات تُقص وتُنشد، بل وجارى تلك القصص الشعبية في الجمع بين النثر والشعر في كلٍّ واحد مسلسل متماسك، وإن احتفظ في نثره بالسجع التقليدي، ولكن في لغة واضحة الاستقامة على نحوٍ ما نحس في هذا المشهد القصير من مسرحية «محمود نجل شاه العجم».
وواضح من هذا الحوار صياغته الأدبية السليمة نسبيًّا، ومهارة القباني في الجمع بين الشعر والنثر جمعًا يقترب فيه نغم الشعر من نغم النثر اقترابًا قويًّا، حتى لا نكاد نحس بانتقال من أحدهما إلى الآخر …
وفي هذه المسرحية وغيرها من مسرحيات القباني، تحس بإدراك سليم لكثير من المقومات الأساسية لفن المسرح، مثل عنصر التشويق؛ فهذه المسرحية تعرض غرامًا مُبرَّحًا شقي به محمود ابن الشاه حتى أصابه الضنى، وفطن أبوه الشاه إلى ما به فأراده أن يخبره باسم تلك المحبوبة ليأتيه بها، وإذا بنا نتفاجأ بأن محمودًا إنما يحب صورة لا يعرف أين توجد صاحبتها، مما يعجز معه الشاه عن أن يأتي ابنه بمحبوبته، ولكن الابن لا ييأس ويأخذ في الضرب في بقاع الأرض لعله يعثر عليها، حتى إذا انتهى إلى بلاد الهند تسلل إلى حديقة مَلِكِها مسوقًا بإحساس قلبه، الذي أوهمه أنه قد يجدها في تلك الديار … وعثر عليه رجال الملك وظنوه جاسوسًا، وقادوه إلى الملك الذي همَّ بقتله، خصوصًا وأنه كان يستعد لمجابهة جيش شاه العجم، الذي جاءت الأنباء بأنه قادم لغزو الهند، ولكن محمودًا يعلن لملك الهند عن شخصيته كابن الشاه، ويخبره بأنه قادر على أن يقيه شر الحرب إذا ساعده ملك الهند في البحث عن صاحبة الصورة، ويستجيب له الملك، ويأمر بتعليق الصورة على باب حمَّام أُعد في المدينة للغرباء الوافدين من شتى أنحاء العالم، وعُلقت الصورة، فإذا برجلٍ مارٍّ لا يكاد يرى الصورة حتى يصيح: «آه! زهر الرياض.» وما إن يسمع رجال الملك هذه الصيحة من الرجل حتى يقتادوه إلى الملك وإلى محمود، الذي يعلم منه بعد حوار طريف أن «زهر الرياض» هي ابنة ملك الصين.
وهنا يبرز عنصر تشويق آخر، هو كيفية الوصول إلى الصين النائية للعثور على «زهر الرياض»، ويحل القباني هذه المشكلة بتطوع خادم الملك السحري «سحاب» لتذليل تلك الصعوبة، وفي لمحة بصر كان محمود في بلاد الصين، ولكنه لم يكد يصل إليها حتى برز عنصر تشويق آخر هو أن «زهر الرياض» قد استولى عليها شيطان، وهنا تبدأ الحلقة الأخيرة من القصة، وهي الحلقة التي يستطيع فيها محمود بمساعدة الساحر سحاب أن يُنقذ زهر الرياض من الشيطان وأن يستردها منه ليتزوجها.
ومن هذا الملخص السريع نتبين مدى استخدام القباني لعنصر التشويق في مسرحيته، وهو عنصر يجذب الجمهور جذبًا قويًّا، والقصة المأخوذة من ألف ليلة وليلة وإن تكن خيالية، إلا أن الشعب أولًا والقباني ثانيًا قد استطاعا أن يُطعِّماها ببعض العناصر النفسية والرمزية الجميلة؛ فمحمود لا يهيم في الأرض إلا بحثًا عن حقيقة، وهو يستند في إيمانه بهذه الحقيقة إلى شعور قلبه، الذي يحدِّثه بأنه لو لم تكن تلك الفتاة الجميلة موجودة لما أحبها، كما أنه لا يسير في الأرض اعتباطًا، بل يسير بوحي من قلبه معتقدًا أن قلبه دليله كما تقول الحكمة الشعبية، وبالفعل لا يزال يتابع وحي قلبه حتى يعثر على فتاته، وحتى يستخلصها من الشيطان نفسه، وفي كل هذا ما يماشي إلى أبعد الحدود فلسفتنا الشعبية الشرقية التي تستوحي القلب أكثر مما تستوحي منطق العقل، بل والتي تقول بأن للقلب منطقه الذي لا يدركه العقل.
وبالرغم من أن القباني قد اضطر أثناء عمله في دمشق أن يستخدم الغلمان في أدوار النساء، ولم يستخدم النساء والفتيات في مسرحه إلا بعد هجرته إلى مصر سنة ١٨٨٤، إلا أنه قد أدخل رقصة «السماح» على مسرحه الغنائي، وهي رقصة جماعية جميلة نشأت أصلًا في الأندلس بمصاحبة «التواشيح» وكان يرقصها جماعات من الرجال أو النساء أو هما معًا، ثم انتقلت إلى الشرق العربي … وتأصلت في سوريا بنوع خاص، وقد حملها معه القباني إلى مصر حيث صادفت نجاحًا كبيرًا، وإن تكن للأسف قد انقرضت أو كادت من مسرحنا بعد أن اضمحل المسرح الغنائي، واستقل فن التمثيل عن فنون الموسيقى والغناء والرقص دون أن ينشأ في جواره حتى اليوم في بلادنا فن الأوبرا أو الأوبريت على نحو يُعتد به، وذلك بينما نما واستفحل رقص البطن في الصالات والحانات.
ولم يرُق فن التمثيل لطوائف المحافظين في سوريا، فأخذوا يهاجمون القباني وفنه هجومًا عنيفًا، بل واستعْدوا عليه السلطات، حتى قيل إن أحد المشايخ، واسمه سعيد الغبراء، شد رحاله إلى الآستانة؛ حيث استطاع أن يصل بعد صلاة الجمعة إلى الخليفة عبد الحميد الثاني ويستعْديه باسم الدين والفضيلة على القباني، ونجح في سعيه، فأمر الخليفة واليه في الشام حمدي باشا بأن يمنع القباني من التمثيل وأن يُغلق مسرحه.
ولعله من الطريف أن نذكر أن المحافظين السوريين صاغوا ضد القباني عدة مقطوعات من الهجاء والتهديد، لقنوها لبعض الصبية:
ولم يستسلم القباني ولا رجع لمهنة القِبَانة، بل هجر سوريا ليواصل نشاطه المسرحي بمصر سنة ١٨٨٤ ومعه فرقته، ومن بينها إسكندر فرح الذي انفصل عنه بمصر بعد فترة من الزمن وأسَّس فرقة خاصة، وإذا كان يعقوب صنوع المعروف بأبي نظارة — وهو رجل يهودي الأصل وُلِد بمصر سنة ١٨٣٩ وأخلص لها، ودافع عن قضاياها الوطنية في الصحف داخل مصر وخارجها حتى تُوفي سنة ١٩١٢ — إذا كان هذا الرجل قد نقل فن المسرح إلى مصر عن أوروبا وقام فيه بنشاط كبير؛ حيث ترجم وعرَّب وألَّف الكثير من المسرحيات، إلا أنه مما لا شك فيه أن إخواننا الشاميين هم الذين قاموا بالمجهود الأكبر في نشر فن التمثيل بمصر؛ حيث وفد إليها من لبنان سليم النقاش ١٨٧٦-١٨٧٧، ثم خلَّفه في الإشراف على الفرقة زميله يوسف خياط ١٨٧٧–١٨٩٥، ثم فرقة سليمان القرداحي، ومن سوريا فرقة القباني من سنة ١٨٨٤–١٩٠٠، وفرقة إسكندر فرح ١٨٩١–١٩٠٩، وكان لهؤلاء السوريين بنوع خاص فضل في ظهور رائد فن الأوبرا والأوبريت المصري الشيخ سلامة حجازي، الذي أخذ هذا الفن عن القباني قبل أن يستقل بتكوين فرقته الخاصة التي ظلت تعمل من سنة ١٩٠٥–١٩١٤، ومن بعده موسيقانا النابغة سيد درويش، بينما ابتدأ الأستاذ جورج أبيض منذ سنة ١٩١٢ يقدم لجمهورنا المصري الفن المسرحي الخالص؛ أي المستقل عن الموسيقى والغناء وفقًا لأصول المسرح الغربي الحديث، ومن بعده الأستاذ نجيب الريحاني الذي نبغ في فن الكوميديا نبوغًا لا نزال نذكره جميعًا، وقد خلَّدت السينما ملامح فنه فيما خلَّف من أفلام.
وإخواننا الشاميون لم يقتصروا على أن يكونوا روادًا في إنشاء الفرق والمسارح، بل ساهموا في ترجمة وتعريب وتحضير الكثير من المسرحيات الغربية، قبل وأثناء وبعد مساهمة المصريين في تلك الحركة، كما ساهموا في تأليف المسرحيات العديدة، وكان عدد من رواد فن المسرح روادًا أيضًا في تأليف المسرحيات، على نحوٍ ما حدث في الغرب أيضًا؛ حيث رأينا عددًا من كبار الأدباء يجمعون بين التأليف والتمثيل منذ شاعر اليونان العملاق سوفوكليس حتى موليير وشكسبير. وإذا كانت المسرحيات التي ألَّفها أولئك الرواد لم تستطع أن تدخل، كما قلنا، في نطاق تراثنا الأدبي الحي، فإن ذلك إنما يرجع إلى أن هذا الفن قد كان لا يزال دخيلًا على حياتنا، وبعيدًا عن أن يتمتع بما كانت تتمتع به فنون أدبنا التقليدية من احترام، كل ذلك فضلًا عن مرحلة الظلام الطويلة التي كان العالم العربي لم يكد يخرج منها، وفي خلالها كانت اللغة الفصحى قد تقهقرت وتعددت وتباعدت لهجاتها، بل وأصبحت صعبة الفهم على عامة الجمهور مما كان يصعب معه أن تتَّخذَ أداة للتعبير الموجه إلى جمهور تشيع فيه الأمية.
وبالرغم من كل هذه الحقائق فإن إخواننا الشاميين لا يمكن أن ينسى لهم التاريخ، ولا أن ينسى لهم إخوانهم المصريون، فضل الريادة في ميدان هذا الفن الجديد، الذي كان يتطلب من أصحابه شجاعة بالغة يواجهون بها تلك العقلية الرجعية المتخلفة التي كانت سائدة عندئذٍ.