جمهورنا وفنون المسرح
ومع ذلك فمن واجبنا قبل البدء في دراسة المسرح النثري أن ننظر في الأنواع المختلفة للمسرحيات وعلاقة جمهورنا بها؛ أي مدى إقباله أو إعراضه عنها؛ لأن هذا الجمهور قد كان العامل الفعَّال، ولا يزال في ازدهار أو عدم ازدهار أي فن من الفنون؛ لأنه هو الذي يستهلك هذه الفنون أو يتركها للبوار.
وإذا كنا قد لاحظنا أن جمهورنا العربي قد استجاب منذ البدء لفن المسرح الغنائي وظل يُطالب به، مما أخَّر ظهور الأدب المسرحي النثري في بلادنا العربية؛ فإننا نلاحظ أيضًا أن ظروف جمهورنا قد دفعت الأدباء وأصحاب المسارح إلى نوعين محددين من المسرحيات بمجرد أن أخذ المسرح — أي فن التمثيل — يستقل بذاته عن الغناء والموسيقى، وهذان النوعان هما: «الكوميديا» و«الميلودراما».
فقسوة الحياة التي كانت تدفع الجمهور إلى الإقبال على المسرح الغنائي التماسًا للطرب والترويح عن النفوس المضناة، هي التي دفعته إلى أن يستعيض بالضحك عن الغناء والطرب، عندما استقل عن التمثيل واكتفى بذاته حينًا، وبالإثارة العنيفة التي تشغل الإنسان عن نفسه وعن همومه المتصلة حينًا آخر، وهذان الإحساسان هما ما تثيرهما الكوميديا من جهة والميلودراما من جهة أخرى، أو هما الوظيفتان اللتان يؤديهما هذان الفنَّان، وفي هذه الحقيقة الكبرى الواضحة ما يُفسر ازدهار هذين الفنين في أعقاب ثورتنا الكبرى في سنة ١٩١٩؛ حيث رأينا مسرحي كشكش بك؛ أي «الريحاني» و«البربري الوحيد»؛ أي علي الكسار يزدهران في تلك الفترة، ثم يتبعهما في هذا الازدهار مسرح «رمسيس» أي مسرح يوسف وهبي، الذي نجح عندئذٍ نجاحًا كبيرًا بفضل غلبة طابع الميلودراما عليه، وهو ذلك الطابع الذي كان يؤدي الوظيفة النفسية التي أشرنا إليها.
ونحن نلاحظ أن فن الكوميديا لا تلائمه حتى اليوم غير اللغة العامية، التي لا تزال كما سبق القول تُخرج حتى اليوم كلَّ ما يُكتب بها عن تراثنا الأدبي؛ ولذلك كانت كل الكوميديات التي مُثلت عندئذٍ تقريبًا تُكتب بالعامية، بل ويزج فيها ألفاظ كثيرة من الفرنسية، ومن اللهجات السورية واللبنانية، وكان يُطلق على هذا الخليط «الفرانكو آراب».
وأما الميلودراما فإن أغلب المسرحيات التي كانت تُقدم من هذا النوع كانت مترجمة أو معربة، أو مقتبسة؛ وذلك لأن هذا النوع الذي تكثر فيه الأحداث والفواجع، إنما تخصص فيه عدد من أدباء الغرب الذين أوتوا نوعًا من الخيال، لا نظنه يتوفر لأدبائنا العرب إلا في القليل النادر، حتى ليخيل إلينا أن هذا النوع من التأليف مرتبط ببيئة طبيعية وبشرية معينة، كالبلاد الجبلية والبيئات الصناعية.