المسرح النثري ومصادره
لقد استمد المسرح النثري، كما استمد المسرح الشعري منذ معرفة العالم العربي لفن التمثيل موضوعاته في المسرحيات المؤلفة من التاريخ العام حينًا وتاريخ الشرق، أو على الأخص تاريخ العرب حينًا آخر، ومن الأساطير والقصص الشعبية حينًا ثالثًا، وذلك فيما عدا القليل من المسرحيات الاجتماعية التي كانت نادرة في أول الأمر، وتفسير ذلك سهل فالتاريخ والأساطير، والقصص الشعبية تُقدِّم للأديب هيكل المسرحية؛ أي الأحداث معدة مسلسلة كما وردت في التاريخ أو القصص الشعبية أو الأساطير، ومن الواضح أن تصور الأحداث وبناءها هو أهم عملية في التأليف المسرحي، وهي تحتاج إلى نوع خاص من الخيال الذي يستطيع تصور الأحداث الكبرى وبناء بعضها على بعض، وهو خيال زعم المستشرق الفرنسي رينان أنه لم يتوفر للشعوب السامية كلها بما فيها الشعب العربي، ولا محل هنا لأن نناقش بالتفصيل هذا الزعم لننقضه كله أو ننقض بعضه أو نسلم به، ولكننا نلاحظ على أية حال أن العرب قبل الإسلام قد كانت لهم أساطير وأوثان، ولكنهم مع ذلك لم يؤلفوا من تلك الأساطير والأوثان مسرحيات مثلًا، على نحوٍ ما ألف الشعب اليوناني القديم مسرحيات من أساطيرهم، والقصص الخاصة بآلهتهم الوثنية، في حين يشهد شعرهم الجاهلي بقدرة فائقة على الملاحظة والاستقراء، حتى لنراه يصف كل ما ضمته بيئتهم الصحراوية من جماد وحيوان ونبات في دقة وتفصيل بالغين.
هذا ومن الممكن أيضًا أن نُفسر غلبة الموضوعات التاريخية على تأليف المسرحيات بتأثر رواد التأليف المسرحي عندنا بالمذهب الكلاسيكي عند الغربيين، وهو مذهب اشترط لتأليف التراجيديا أن يُستمد موضوعها من التاريخ، ولما كان المذهب الكلاسيكي قد قام على بعث ومحاكاة الآداب اليونانية واللاتينية القديمة، فقد كان من الطبيعي أن يكون التاريخ الحقيقي أو الأسطوري الذي يستمدون منه موضوعاتهم، هو تاريخ اليونان والرومان، على نحوٍ ما نلاحظ في مسرحيات الكاتبين الفرنسيين اللذين تتركز فيهما كلاسيكية المسرح وهما: «راسين وكورني» اللذان اختارا موضوعات لمسرحياتهما من تاريخ اليونان والرومان وأساطيرهما، حتى اضطر الشاعر الكبير راسين أن يدافع عن نفسه، عندما ألف مسرحيات استمد موضوعها من حياة الأتراك المعاصرين له، وهي مسرحية «باجازيه» أو «بايزيد»، وقد برَّر كورني باسم الكلاسيكية تفضيل الموضوعات التاريخية في تأليف التراجيديا بقوله: إن الحوادث الروائية حتى التي تُعتبر في نظر العقل المجرد خارقة، لا يلبث أن يألفها العقل ويستسيغها عندما تُقدم إليه كحوادث تاريخية وقعت بالفعل، والظاهر أن هذه الحجة كانت عميقة متغلغلة في نفوس الكلاسيكيين الفرنسيين، وذلك بدليل أن راسين في دفاعه عن مسرحية «بايزيد» قد أقام حجته الأساسية في هذا الدفاع، على أن البعد المكاني بين فرنسا وتركيا خليق بأن يؤدي إلى نفس النتيجة التي يؤديها البعد الزمني، وهي جعْل الحوادث الروائية التي تُعتبر في نظر العقل المجرد خارقة، أمورًا يألفها العقل ويستسيغها.
وفي النهاية نستطيع أن نلمح في اختيار رواد التأليف المسرحي بالعربية لموضوعات تاريخية، رغبتهم في أن يبعثوا بواسطة الصورة الدرامية بعض أمجاد قومهم، أو أن يستخلصوا العِبرة من بعض مآسيهم القومية؛ فمن المؤكد مثلًا أن فرح أنطون قد قصد إلى تمجيد العرب عامة، وبطلهم صلاح الدين خاصة في مسرحية «صلاح الدين ومملكة أورشليم»، كما أن إبراهيم رمزي قد قصد إلى استخلاص العبرة وإثارة الهمة، بعرض مأساة العرب في الأندلس خلال أول مسرحية ألفها في سنة ١٨٩٢، وهي مسرحية «المعتمد بن عبَّاد»، كما نلاحظ أنهم يتجهون إلى الأساطير والقصص الشعبية أحيانًا، لنفس الأسباب التي كان يتضمنها اتجاه شعراء الإغريق القدماء إلى أساطيرهم الشعبية، وهي تقديم مسرحيات تتضمن قصصًا مألوفة معروفة من الجمهور، يرويها الرواة المتنقلون في الندوات والمقاهي، أو يطالعونها أمام الجماهير التي لا تعرف القراءة والكتابة، وقد بادر إلى هذا الاتجاه عن وعي وتعمَّد أحد هؤلاء الرواد، وهو أحمد أبو خليل القباني، الذي اختار موضوعات الكثير من مسرحياته من القصص الشعبية، وبخاصة من «ألف ليلة وليلة»، وإن لم يستطع كما استطاع شعراء اليونان القدماء من أمثال اسكيلوس وسفوكليس ويوربيدس، أن يصوغ من تلك الأساطير الشعبية أعمالًا فنية شامخة، أو أن يتخذها وعاء لمضمونٍ إنسانيٍّ يسمو بها إلى مراتب الغنى والخلود، بل ولم يستطع أن يُعمل فيها خياله وثقافة إنسانية واسعة، تضيف إلى تلك القصص والأساطير ما يهيئها للبناء المسرحي، وما يحملها على أن تنطق بقيم إنسانية عميقة باقية، على نحوٍ ما حاول بعض أدبائنا المعاصرين، عندما تناول ثلاثة منهم، مثلًا أسطورة شهرزاد، وحاولوا أن يفسروها تفسيرًا فلسفيًّا أو نفسيًّا جديدًا، على نحوٍ ما نلاحظ في مسرحية «شهرزاد» لتوفيق الحكيم، و«سر شهرزاد» لعلي باكثير و«شهريار» لعزيز أباظة.