إبراهيم رمزي والمعتمد بن عباد
غلب إذن الاتجاه التاريخي أو الأسطوري على رواد التأليف المسرحي في عالمنا العربي الحديث، ولكنه من الواضح أن الأديب لا يستطيع أن يكتفي بتقسيم بعض أحداث التاريخ إلى فصول، والاستعاضة بالحوار عن الرواية والسرد، ليؤلف مسرحية بالمعنى الفني، بل لا بد له من أن يعيد تشكيل مادته الأولية والتأليف بين عناصرها، بحيث تكون وحدة متماسكة غير مفككة، لها بداية وقمة ونهاية، وبحيث تتفاعل تلك الأحداث بعضها مع بعض، وتنمو وتتطور لتُحدث في النهاية أثرًا نفسيًّا معينًا في غير تناقض ولا تضارب ولا تفكك، وفي حرص على أن تبدو المسرحية مرآة، أو على الأصح مجهرًا لقطاع محدد من الحياة الحاضرة أو الماضية، وأن يكون للأدب هدف من اختيار هذا القطاع المحدد، بحيث يتخذه وسيلة للتعبير عن مشكلة تشغل مجتمعه أو تشغل الإنسانية كلها، وهو في معالجته لموضوع تاريخي لا بد أن يختار ويبرز من الأحداث ما يُلائم هدفه، وأن يترك في الظلال ما لا يفيده من تلك الأحداث؛ فكل فن اختيار، وهو بذلك يختلف عن علم التاريخ الذي لا بد له من الاستقصاء والجمع حتى بين المتناقضات، التي توجد فعلًا في كل حياة، بل ولا بد للأديب أن يستعين بخياله في الإضافة إلى التاريخ بما لا يتنافى مع المعقول والممكن، وبما لا يتضارب مع حقائق التاريخ الكبرى، حتى لا يتخذ الخيال وسيلة لتزوير التاريخ.
هذا ولعلنا نستطيع أن نجد إيضاحًا لكثير من هذه الحقائق الفنية في مسرحية نثرية، لعلها من أقدم المسرحيات النثرية التي نعرفها، وهي مسرحية «المعتمد بن عبَّاد» التي كتبها إبراهيم رمزي في صدر شبابه سنة ١٧٩٢، فقد عمد إبراهيم رمزي عندئذٍ، وقبل أن تكتمل خبرته بفن المسرح والتأليف المسرحي وأصول الأدب المسرحي عامة؛ إلى كُتب التاريخ العربي، وبخاصة إلى كتاب «نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب» تأليف المقري، ليلم بتاريخ المعتمد بن عبَّاد ومأساة العرب في الأندلس، وأخذ من هذا التاريخ عدة أحداث كبرى، جمعها كلها في مسرحيته دون أن ينحِّي عنها ما لا يفيده، ودون أن يعرف كيف يبني مسرحيته ويجنبها الخلل والتفكك، فتراه يجمع فيها بين ثلاثة أحداث رئيسية؛ الحدث الأول: ما كان بين المعتمد ووزيره الشاعر أبي بكر بن عمار من ثقة ومحبة ثم جفوة، انتهت بأن قُتل الوزير بأمر من الخليفة. والحادثة الثانية: هي غزو الأذفونش (ألفونس السادس) لإشبيلية واتفاق ملوك الطوائف بالأندلس على الاستنجاد بالمرابطين في شمال إفريقيا، وحضور الملك يوسف بن تاشفين فعلًا على رأس جيش ليرد المعتدي عن ديار المسلمين، ثم عودته إلى شمال إفريقيا بنفسٍ تفتحت للطمع في جنة الأندلس، وقد ترك فيها لهذا الغرض جزءًا من جيشه، وبالفعل قام هذا الجيش بالحدث الثالث الكبير، الذي انتهى بتقويض مُلْك العرب في الأندلس، عندما حارب المعتمد وأسره، وساقه إلى سجن إغمات في شمال إفريقيا؛ حيث قضى نحبه، ولم يلبث الإفرنج بعد ذلك أن طردوا المرابطين أيضًا من الأندلس العزيزة، كما هو معلوم في التاريخ.
ومن الواضح أن عمل إبراهيم رمزي في تأليف هذه المسرحية، لم يعد جمع المعلومات التاريخية وسردها في حوار دون أن يضيف من عنده شيئًا، ودون أن يحذف شيئًا، فجاءت مسرحيته مفككة لا تنهض من الناحية الفنية ولا يمكن أن تمثل قطاعًا من الحياة، محددًا إطاري الزمان والمكان المعقولين؛ فبعض مشاهد المسرحية تجري في الأندلس، وتليها مباشرة مشاهد أخرى تجري في شمال إفريقيا، دون أن ندري كيف تم هذا الانتقال السريع وفي أي وقت، بل ولم يستطع المؤلف أن يتصور تفسيرًا واضحًا لتلك المأساة العاتية، ولا عبرة ولا هدفًا من تأليفها، وكأنه قد كتب فصولًا من التاريخ متتابعة جافة هيكلية في صورة حوار درامي.
ومن المؤكد أنه من الأفضل لنا عندئذٍ أن نقرأ عن تاريخ تلك المأساة، وأن نتأثر بما نقرأ أكثر مما نتأثر بمسرحية إبراهيم رمزي، وذلك عندما نرجع إلى ما كتبه مؤرخونا المعاصرون مثل الأستاذ محمد عبد الله عنان في كتابيه «نهاية الأندلس» و«تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين»، أو إلى كتاب الأمير شكيب أرسلان «الحُلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية»، وعلى العكس من ذلك نرى الشاعر عزيز أباظة يُسرف في اتخاذ الماضي وسيلة لمعالجة الحاضر عندما ألف مسرحية «غروب الأندلس»، وعرض فيها حلقة أخرى من حلقات تلك المأساة، وأفصح عن هدفه الحاضر في المقدمة التي كتبها لمسرحيته، على نحوٍ ما أوضحنا في كتابنا عن مسرحيات عزيز أباظة.
وأما عن مأساة المعتمد بن عبَّاد بالذات، فقد عاد إليها عدد من أدبائنا بعد ذلك، فكتب الشاعر علي الجارم قصة نثرية جيدة عن هذه الحلقة من المأساة، نشرها في سلسلة «اقرأ» باسم «شاعر ملك»، وحلَّل فيها أسباب انهيار ذلك الملك الشامخ، كما عاد شاعرنا الكبير أحمد شوقي إلى نفس الموضوع وألف فيه المسرحية النثرية الوحيدة التي ألَّفها، وهي مسرحية «أميرة الأندلس» التي لا ندري لماذا آثر شوقي أن يكتبها نثرًا، وذلك بالرغم من أن حوادثها تدور حول شاعر ملك، هو المعتمد بن عبَّاد آخر ملوك الطوائف في إشبيلية، بل وبالرغم من تضمين شوقي لمسرحيته مقطوعة من شعر هذا الملك، ونحن لا ندري لماذا عدل شوقي في المسرحية عن الشعر الذي كان خليقًا أن يواتي موضوعها، وذلك في الوقت الذي نراه يكتب بالشعر جميع مسرحياته الأخرى، بما فيها الملهاة الوحيدة التي كتبها في أخريات حياته، وهي «الست هدى» التي استمد موضوعها من الحياة المصرية المعاصرة في حي الحنفي بالسيدة زينب، وكان النثر — بل ربما النثر العامي — أكثر مواتاة لها، ولكنه شيطان الشعراء الذي لا يخضع لمنطق، ولا يتقيد بأوضاع.
لقد كتب شوقي «أميرة الأندلس» نثرًا، ولكن لحسن الحظ تخلص في هذا النثر — إلى حد بعيد — من تلك الصنعة المضنية العقيمة التي نجدها في كتابه «مروج الذهب» بنوع خاص؛ فنثره في المسرحية مرسل في الغالب الأعم، وهو لا يلجأ إلى الصنعة والسجع والمحسنات إلا في المقطوعات الطويلة من الحوار؛ حيث ظن أن الحليات اللفظية قد تقي من الملل، الذي قد يتسرب إلى نفوس المشاهدين أو القراء، على نحوٍ ما كان يستعين بملكة الشعر على المقطوعات الطويلة في مسرحياته الشعرية.
وكان شوقي عندما كتب «أميرة الأندلس» أكثر خبرة بفن التأليف المسرحي بلا ريب من إبراهيم رمزي، عندما كتب مسرحية «المعتمد بن عباد» في سنة ١٨٩٢؛ ولذلك نرى شوقي لا يكتفي بالوقائع التاريخية المحزنة الخاصة بانقراض حكم الطوائف في إشبيلية، بل يُزاوج بينها وبين قصة خيالية نسجها حول حب بثينة بنت المعتمد للفتى العربي «حسون»، وانتهائها بالزواج في سجن أغمات بشمال إفريقيا؛ حيث استقر المقام بالمعتمد بن عبَّاد بعد أن قضى ابن تاشفين ملك المرابطين بإفريقيا على مُلْكه.
وقد احترم شوقي حقائق التاريخ في مسرحيته بوجه عام، على نحوٍ ما احترمها الأستاذ علي الجارم في كتابه «شاعر ملك»، وإبراهيم رمزي في مسرحيته المعتمد بن عبَّاد، وإن لم يُحلل في مسرحيته أسباب انهيار ذلك الملك الشامخ، على نحوٍ ما فعل الأستاذ الجارم.
ولكن شوقي إذا كان قد أضاف إلى الوقائع التاريخية واقعة تخيلها، هي حب بثينة ﻟ «حسون» فإنه لم ينجح لسوء الحظ في ربطها ربطًا وثيقًا بالكارثة الأصلية، حتى بدت قصة مفتعلة يلوح أن شوقي قد اصطنعها؛ لظنه أن مسرحية ناجحة لا يصح أن تخلو من قصة غرام، ثم لرغبته فيما يبدو في تخفيف وقع الكارثة الأندلسية، التي طالما حزن لها وتغنَّى بها في شعره، وبخاصة بعد أن عاش في الأندلس، وجاس خلالها وتعرَّف على معالمها وآثارها الإسلامية الرائعة أثناء نفيه بإسبانيا خلال الحرب العالمية الأولى.
نحن نلاحظ أن شوقي قد وقع فيما وقع فيه إبراهيم رمزي، من حيث عدم الحرص على إطاري الزمان والمكان على نحوٍ ما يرى المذهب الكلاسيكي، ولكننا مع ذلك قد نستطيع أن نتجاوز عن هذا العيب الفني باعتبار أن الأصول الكلاسيكية قد خرج عليها التأليف المسرحي منذ أن ثار الرومانسيون على تلك الأصول، وتحدَّوها وقالوا إن المسرحية لا تعكس قطاعًا محددًا من الحياة أو تحاكيه، بل قد تكون تجميعًا للحياة وخلقًا لها، حتى ولو كانت العناصر المجمَّعة متناثرة في الزمان والمكان، ولكننا لا نستطيع أن نغفل أو نتجاوز عن عجز شوقي عن ربط موضوعه الخيالي بالمأساة التاريخية، كما لا نستطيع أن نغفل إضعافه للأثر النفسي الذي كان من الممكن أن تحدثه تلك المأساة الإسلامية المحزنة، وبخاصة إذا كان هذا الإضعاف قد تم بحيلة مسرحية غريبة، تكاد تكون مضحكة، وهي حرص «حسون» و«بثينة» على التسلل إلى سجن المعتمد في إغمات لعقد قرانهما بداخله، وبذلك تنقلب تلك المأساة عند نهايتها إلى ملهاة مصطنعة، إن لم تكن مهزلة.
ونعود من هذه الدراسة المقارنة لمسرحية المعتمد بن عبَّاد إلى مؤلفها إبراهيم رمزي، أحد رواد المسرح النثري في أدبنا العربي المعاصر، فنقول: إنه إذا كان قد عجز عن أن يُحسن استخدام التاريخ في تأليف مسرحيته التاريخية الأولى؛ لعدم إلمامه بأصول هذا الفن وبالأدب التمثيلي العالمي، فإنه قد استطاع أن يستكمل هذا النقص في ثقافته بفضل فترة الدراسة التي قضاها بعد ذلك بإنجلترا؛ حيث درس الأدب التمثيلي، واختلف إلى مسارح إنجلترا، وأتقن اللغة الإنجليزية، وعاصر ازدهار مسرحيات الكاتبين العالميين هنريك إبسن النرويجي، وبرناردشو الإيرلندي، اللذين كانت مسارح إنجلترا تحفل بمسرحياتهما في تلك الفترة، وكان إبراهيم رمزي شغوفًا بحضور تلك المسرحيات ودراستها والتأمل في تأليفها، حتى نراه لا يكاد يعود إلى مصر في سنة ١٩٠٧ حتى يأخذ في ترجمة الكثير من المسرحيات مثل: قيصر وكيلوباترا – تيمورلنك – ريشيليو – سجين الباستيل – يزارو – شمسون ودليلة – الملك لير – ترويض النمرة – عدو الشعب، وكل ذلك فضلًا عن معرفته واستفادته من اللغتين الفرنسية والتركية.
ولم يقتصر إبراهيم رمزي على الترجمة، بل أخذ يؤلف المسرحيات التي كان يدخلها الناقد الكبير محمد تيمور فيما يُسميه بالمسرح الفني، وقد أشاد محمد تيمور خاصة بمسرحيتين لإبراهيم رمزي، وهما المسرحيتان التاريخيتان «الحاكم بأمر الله» و«أبطال المنصورة» والأرجح أنه ألَّفهما وهو لا يزال مُشبعًا بروح الأدب التمثيلي العالمي، الذي عهده أثناء دراسته في إنجلترا، بيد أن الوسط المسرحي المحلي لم يلبث أن أخذ في الضغط عليه ليخرج من المسرح الفني إلى المسرح التجاري، الذي لا هدف له غير استهواء الجمهور وجذبه بكافة السبل، دون حرص على قيمة أدبية أو فنية أو هدف رفيع، حتى رأينا محمد تيمور يقدمه إلى محكمة التمثيل على نحوٍ ما نطالع في كتابه «حياتنا التمثيلية»، ويوجه إليه الاتهام بلسان أدمون روستان وكيل النائب العام في تلك المحكمة، وقد تضمن هذا الاتهام عدة بنود، منها سرعته في التأليف، بحيث لو سأله جميع مديري المسارح أن يقدم لهم روايات متعددة في يوم واحد، لما تأخر عن ذلك لحظة واحدة على نحوٍ ما فعل عند تأليفه مسرحيات «البدوية» و«الهواري» و«حنجل بوبو» وغيرها من المسرحيات التي ألَّفها في سرعة خاطفة. كما وجَّه إليه الاتهام تهمة عودته إلى نوع الشيخ سلامة حجازي في رواية «الهواري»، مما يعتبره وكيل النائب العام تدهورًا كبيرًا لا يرضاه لمؤلف «الحاكم بأمر الله» و«أبطال المنصورة» وإن يكن الاتهام قد اعترف له برشاقة الأسلوب واختيار الألفاظ التي تتمشى مع روح المسرحية، بحيث لا يُقارن به في هذا الباب غير الشاعر الكبير خليل مطران، بل ربما كان أسلوب رمزي أكثر موسيقية من أسلوب مطران، وهي فضيلة يحسده عليها كل كاتب، كما اعترف له بأنه شاعر فحل أيضًا، ولكنه اعتنى بالأسلوب أكثر من المعاني، ولم يشتغل بالشعر في رواياته، وكان الأجدر به أن يفعل ذلك.
ونحن لا نقر الاتهام على كل هذه التهم، ولكننا مع ذلك نحرص على أن نستفيد من هذه المحاكمة التي أجراها معاصرو إبراهيم رمزي، لنتوقف قليلًا عند إحدى مسرحياته التي أدخلوها في المسرح الفني، ولتكن مسرحية «أبطال المنصورة» لننظر في تطور أسلوب تأليفه ومدى ما وصل إليه إبراهيم رمزي من قدرة على استخدام التاريخ في تأليف المسرحية الفنية الناجحة، التي يمكن أن نعتبرها جزءًا باقيًا من تراثنا الأدبي المعاصر.