أبطال المنصورة
«أبطال المنصورة» مسرحية تاريخية كمسرحية «المعتمد بن عبَّاد» سواء بسواء، ولكن أي فارق فني بين المسرحيتين! فإذا كانت مسرحية «المعتمد بن عبَّاد» قد جاءت مفككة؛ لأنها تقيدت بمجرى التاريخ وأحداثه تقيُّدًا حرفيًّا حتى أوشكت أن تصبح فصلًا من فصول التاريخ لا عملًا أدبيًّا فنيًّا ذا أصول واضحة مرعية، فإن مسرحية «أبطال المنصورة» على العكس من ذلك أثبتت أن المؤلف قد ألمَّ بأصول صناعته، وعرف كيف يختار من أحداث التاريخ ما يلائم فنه ويخدم هدفه، كما عرف أنه لا ضير عليه في أن يضيف إلى التاريخ ما لا يتنافى مع منطق الحياة، وفي الوقت نفسه يعينه على أن يخلق الحركة الدرامية، وأن يستخدم عنصر التشويق والمفاجأة، ويوفر الصراع الداخلي والخارجي فيها على نحو بالغ المهارة والتوفيق، حتى ليخيل إلينا أن هذه المسرحية من أروع ما كُتب في هذا الفن في أدبنا العربي المعاصر، بل لعلها تسمو إلى مستوى الأدب الفني العالمي الرفيع، كل ذلك في أسلوب درامي مركَّز نابض بالحركة ومُولِّد لها، وبعيد كل البعد عن أسلوب الخطابة أو أسلوب الجدل اللذين لا يتفقان قط مع الأسلوب المسرحي.
وموضوع المسرحية كما هو واضح من عنوانها هو قطاع من الحرب الصليبية التي جرت في مصر، وانتهت بانتصار أمراء المماليك محسن وأقطاي وبيبرس على الحملة الفرنسية، التي نزلت في دمياط بقيادة لويس التاسع، المعروف باسم القديس لويس وانتهت بمعركة المنصورة التي قَتَل فيها بيبرس الكونت دارتوا أخا الملك لويس، ثم أسر الملك لويس نفسه وسجنه في البيت المعروف ببيت القاضي لقمان في المنصورة، ثم إطلاق سراحه في النهاية مقابل فدية كبيرة، وتعهد بألَّا يعود إلى مثل هذه الحرب ثانية، وهذه كلها أحداث يمكن أن يرويها مؤرخ أو يقصها قصاص،وبذلك ولكنها لكي تصلح موضوعًا لمسرحية ناجحة كان لا بد أن تُطعَّم بعدد من العناصر الخيالية، التي لا تتعارض كما قلنا مع منطق الأحداث ومنطق الحياة الإنسانية بوجه عام، بل تدخل في يسر داخل نطاق الممكنات، وهذا هو ما فعله إبراهيم رمزي ودلنا عليه؛ إذ وضع علامات مميزة على الشخصيات غير التاريخية في مسرحيته، وهي شخصية «هبة الله» الذي تصوره طبيبًا فرنسي الأصل، رُبي في مصر، ودخل قصر الملك الصالح أيوب كطبيب خاص له ولزوجته شجرة الدر، واستخدمه المؤلف كعنصر درامي هام في تحريك الأحداث، وإعداد المفاجآت وإثارة التشويق؛ فهبة الله يلعب في المسرحية دور الدسيسة على المسلمين، حتى ينفضح أمره ويقتله بيبرس في نهاية المسرحية، بل ويجعله المؤلف يدخل في منافسة خطيرة مع بيبرس في حب «صفية» أخت شجرة الدر.
وتصور إبراهيم رمزي شخصيتين أخريين استخدمهما كوسيلة لإظهار أن المسلمين لم ينهزموا، ولم تسقط دمياط إلا بالدس والخديعة، وهاتان الشخصيتان هما الشيخ برنار الذي صوَّره شيخًا هرمًا يمتلك عزبة بناحية فارسكور، وشخصية مريم وهي أصلًا عائشة التي أنجبها أقطاي من إحدى الجواري، ثم تخلى عنها وعن أمها، فنقلها هبة الله إلى عزبة الشيخ برنار الذي استخدمها كدسيسة على أتابك؛ أي قائد جيش المسلمين في دمياط الأمير فخر الدين؛ إذ أرسلها إليه الشيخ برنار لتخبره كذبًا أن الفرنسيين قد وصلوا إلى فارسكور، وأنهم سيأخذونه من الخلف ويعزلونه عن مصادر تموينه وإمداداته، مما اضطره إلى الانسحاب من دمياط وتركها تسقط غنيمة باردة بين يدي لويس وجيشه.
وأما الشخصية الخيالية الرابعة التي تصورها إبراهيم رمزي، فشخصية ثانوية من الكمبارس هي شخصية «مسعود» عبد بيبرس، ولعله قد قصد عن ذلك إلى إظهار المكانة التي كان بيبرس المملوك أصلًا قد وصل إليها؛ إذ أصبح له هو الآخر عبيد ومماليك يرمز لها مسعود هذا.
وفيما عدا هذه الشخصيات الأربعة جاءت كل الشخصيات الأخرى شخصيات تاريخية معروفة، تشعرنا المسرحية بأن إبراهيم رمزي قد درس تاريخها دراسة عميقة مفصلة، حتى نفذ إلى كافة أبعادها الظاهرة والخفية، مما مكَّنه من أن يصورها أصدق تصوير وأعمقه غورًا: فهذا بيبرس الأمير الشهم الصريح الذي يتفانى في الذود عن وطنه ودينه، وقد زاده المؤلف حماسة وإقدامًا بأن جعله يهيم حبًّا بصفية، أخت شجرة الدر، التي وقعت أول الأمر أسيرة في دمياط، ولكن القديس دفعته تقواه واستقامته، بل وشهامته إلى أن يُرسلها إلى أختها مع أخيه الكونت دارتوا، ولكن هذا الأخ الماجن راقته الفتاة فأراد أن يستبقيها لنفسه، وأودعها شبه أسيرة في عزبة الشيخ برنار، وبذلك ذلكولكنهخلق المؤلف مجالًا قويًّا للصراع على هذه الفتاة بين بيبرس حبيبها ودارتوا، مما أدخل في المسرحية عنصر الغرام الدرامي الذي ظل نبيلًا حتى النهاية، وهذا هو الأمير فخر الدين أتابك الجيش الذي انخدع في دمياط، فلم تأخذه العزة بالإثم ولم يكابر؛ لأنه خالص النية لا يستهدف غير إنقاذ وطنه مصر، ثم دينه الذي كان يعتز به أولئك المماليك ويتمسكون به أعنف التمسك؛ ولذلك نراه يتنازل راضيًا عن القيادة للبطل بيبرس، ثم ها هو الملك الشاب المستهتر طوران شاه بن الصالح أيوب، الذي دبرت له المُلك في سرية وتكتم زوجة أبيه شجرة الدر باتفاق مع أمراء المماليك، فاستقدمته من حصن كيفا حيث كان أبوه قد استبعده لطيشه واستهتاره، وولَّته العرش، حتى إذا تم للأمراء النصر على الفرنسيين نراه يستأسد ويدَّعي أن المُلك حق إلهي له، ويأخذ في الإساءة إلى شجرة الدر، ويتطلع إلى انتزاع صفية من حبيبها البطل بيبرس، بل ويدبر للفتك بجميع الأمراء، ولكن الأمراء يعلمون بتدبيره ويدخلون عليه القصر، ويكون بينه وبينهم حوار ممتع، نحس فيه بحركات نفسه وتحولاتها السريعة الجبانة، وبخاصة عندما يغلظ له البطل بيبرس في القول ويظهره على تفاهته وتلقيه المُلك من بين أيديهم، وبفضل سواعدهم المظفرة، بل ويلقنه درسًا في أصول السياسة وطرق التعامل مع الأمراء ومع شجرة الدر، ثم أعدائه أنفسهم، وبخاصة مع الملك الأسير لويس الذي استقدمه إليه الأمراء؛ ليُبرم معه اتفاق الإفراج عنه مقابل الجزية والعهد، وإن كنا نحس أن هذه الدروس قد أثمرت بسرعة، نخشى أن تكون غير ممكنة أو غير معقولة، عندما نرى هذا الأحمق المخمور المغرور يخاطب الملك لويس بقول بالغ الحصافة، مثل قوله: «إنك آذنتنا بالفراق فلا تذكر ما أسأنا به إليك، إنك إن تُغلب في بلادنا ففرنسا باقية، أما نحن فإن نُقهر هنا ضاعت بلادنا، فإن نكن قد أرهقناك في أسرك فالعذر واضح.»
وبالرغم من أن الهدف الأساسي للمسرحية قد كان إظهار بطولة المسلمين وسماحتهم في الحروب الصليبية، وانتصارهم بفضل شجاعتهم دون التجاء إلى الخديعة والغش كما كان الإفرنج يفعلون خلال الحروب الصليبية العاتية، إلا أن إبراهيم رمزي قد كان في تأليفه لهذه المسرحية من اللباقة والعمق وصدق النظرة، بحيث لم يغفل جوانب الضعف البشري المشروع في نفوس أبطاله، وفي مقدمتهم البطل المغوار بيبرس، عندما نراه يكشف لنا رغم بطولته الخارقة عن ضعفه البشري، وحاجته إلى العطف والحنان كغيره من الرجال، على نحوٍ ما نحس في الحوار الإنساني النافذ الذي يجري بينه وبين شجرة الدر عن حبيبته صفية، التي كان الدسيسة هبة الله قد أخفاها عنه:
وواضح من هذا الحوار وأمثاله، أن إبراهيم رمزي لم يُعنَ في مسرحياته الفصيحة بالأسلوب أكثر من عنايته بالمعاني، كما زعم محمد تيمور؛ فأسلوبه مركز غزير المعاني نابض بالحركة النفسية والحركة الدرامية رغم متانته اللغوية وقوة سبكه، وإذا كان يتأنق في اختيار ألفاظه فإننا لا نظن هذه الأناقة عيبًا، بل نحسبها ميزة للمؤلف تدل على تملكه للغة الفصحى كأداة للتعبير، كما تدل على أنه كان يملك روحًا شعرية لم تظهر فيما نظم من قصائد فحسب، بل ظهرت أيضًا في نثره وفي تضاعيف حواره دون أن تنال شيئًا من طبيعة هذا الحوار الدرامية، ولا تزال اللغة الفصحى المتينة السبك حتى اليوم خير أداة للتعبير في المسرحيات التاريخية بنوع خاص، بل إننا لا نكاد نحس بأي تصنُّع أو جري وراء المحسنات البديعية في فقرات الحوار، التي خرجت من قلم إبراهيم رمزي مسجوعة في هذه المسرحية أحيانًا، مثل قوله على لسان شجرة الدر مخاطبة أمراء المماليك الأبطال: «إن الدولة برجالها، طلح السلطان أم صلح، ولئن كنتم على غير ما عرفت لكنت اليوم أتلمسكم، فلا أجدكم إلا بين جَدَث أو مأسرة، فإذا عيني حاسرة وإذا شفتي كاسفة، أما الآن فالعين من بِشرها دامعة والسن من فرحها مشرقة.»
والمسرحية بعد ذلك ذات هدف اجتماعي قومي، ولا غرابة في ذلك؛ فقد كان التأليف للمسرح قد أخذ عندئذٍ؛ أي حوالي سنة ١٩١٥ يخرج عن مجرد الرغبة في الترويح والتسلية إلى تحقيق أهداف إنسانية أو اجتماعية قومية، حتى لنرى مؤلفًا مسرحيًّا كبيرًا من معاصري إبراهيم رمزي، وهو فرح أنطون، يقول في صدد حديثه له عن المسرحيات التاريخية: «لا بأس من ورود التاريخ في الروايات، ولكن يجب أن يكون وروده عرضًا، والعمدة تكون على ما في الرواية من الأفكار والمبادئ الاجتماعية التي هي غرض الرواية الحقيقي؛ لأن الروايات الخطيرة الهامة في هذا العصر إنما هي روايات اجتماعية.»
ورواية «أبطال المنصورة» تهدف كما قلنا إلى إظهار بطولة المسلمين وسماحتهم وتسامحهم خلال الحروب الصليبية، ودس الإفرنج ومكرهم وخداعهم من جهة أخرى، وإن يكن إبراهيم رمزي قد حرص في أمانة على أن يُظهر رغم ذلك ما في بعض الشخصيات الصليبية من عفة واستقامة، بل ونبل، مثلما فعل في تصويره لشخصية الملك لويس التاسع الذي يُطلق عليه الفرنسيون اسم القديس لويس، عندما نقارن في الرواية تصرفاته بتصرفات أخيه المستهتر الماجن الكونت دارتوا، وإلى جوار هاتين الشخصيتين المتعارضتين تراه يصور شخصية ثالثة، ليست في نبل لويس ولا في استهتار ومجون الكونت دارتوا، ولكنها مع ذلك شخصية مستقيمة عالقة متزنة جادة، هي شخصية أخيهما الثالث الكونت دي بواتييه.
مقارنة
ويجرُّنا هذا التحليل إلى ضرورة المقارنة بين مسرحية «أبطال المنصورة»، التي ألَّفها إبراهيم رمزي في سنة ١٩١٥، ومسرحية «السلطان صلاح الدين ومملكة أورشليم»، التي ألفها الأديب المعاصر له فرح أنطون في سنة ١٩١٤. يُخيل إلينا أن إبراهيم رمزي قد تأثر إلى حدٍ ما بمسرحية زميله؛ فإبراهيم رمزي يلجأ كزميله إلى الخيال في تصوير شخصيات غير تاريخية، ليستخدمها في توفير عناصر الصراع والمفاجأة في مسرحيته، بل ولخدمة هدفه أيضًا في إظهار التعارض بين شجاعة المسلمين واستقامتهم، ومكر الإفرنج ودسهم، وإذا كان إبراهيم رمزي قد تصور في مسرحيته شخصيات الشيخ برنار ولقبه هبة الله، فضلًا عن مريم ومسعود، فإن فرح أنطون قد تصور في مسرحيته شخصيات ماريا وبرنت وبلوندل، وكما جعل رمزي الفتاة صفية والصراع على حبها محورًا لمسرحيته، كذلك فعل فرح أنطون من قبل، فجعل الفتاة ماريا محورًا لمسرحيته، فماريا يحبها برنت الراهب المتنكر المدسوس، كما يحبها بلوندل، بل ويحبها شخص ثالث ثانوي هو إياز، على نحوٍ ما أحب هبة الله أيضًا صفية كشخص ثالث ثانوي إلى جوار بيبرس والكونت دارتوا، والمسرحية فوق كل ذلك تهدف إلى نفس ما تهدف إليه مسرحية «أبطال المنصورة» من المعارضة كما قلنا بين بطولة المسلمين الصريحة وحِيَل الإفرنج الماكرة الخبيثة.
وبالرغم من كل هذا التشابه الذي يوحي بأن اللاحق؛ أي إبراهيم رمزي ربما يكون قد تأثر بالسابق؛ أي فرح أنطون وحاكاه، إلا أننا نفضل بلا ريب من ناحية النجاح الفني وقرب الأحداث المتخيلة من ممكنات الحياة والتاريخ، مسرحية «أبطال المنصورة» على مسرحية «السلطان صلاح الدين ومملكة أورشليم»، ويزيد هذا التفضيل رجحانًا متانة أسلوب إبراهيم رمزي وغزارة تركيزه، وإن يكن المعاصرون، وبخاصة الناقد الواعي المثقف محمد تيمور، قد كانوا فيما يبدو يفضلون الأسلوب الأكثر يسرًا وبساطة، مثل أسلوب فرح أنطون، ولا غرابة في ذلك في عصر كان ولا يزال يرى الجمهور يقبل على المسرحيات سهلة الأسلوب، بل وعلى المسرحيات العامية الأسلوب، وعلى أية حال فإننا لا نستطيع كما قلنا أن نقر محمد تيمور على ما زعمه، من أن رمزي قد احتفل بالأسلوب اللغوي أكثر من احتفاله بغزارة المعنى في مثل هذه المسرحية، وإنما الراجح أن العصر كله كان في ظمأ ولهفة إلى المعاني، وتبرم ببقايا الحذلقة أو التصنع اللغوي، بدليل ما تطالعه في الكثير من مقالات نقاد ذلك العصر وأدبائه، مثل قول فرح أنطون: «فالأفكار الأفكار، المعاني المعاني، هذا هو الغرض الحقيقي من الكتابة؛ لأن الألفاظ ليست سوى لباس أو قشور للمعاني.» أو قوله: «وما الكُتَّاب العظماء الذين أقاموا بني عصرهم وأقعدوهم بما كانوا ينشرونه بينهم سوى نفوس أدق شعورًا من باقي النفوس، كانوا يجمعون العواطف التي تختلج في صدور بني عصرهم، بوجه مبهم غامض ويبسطونها واضحة جلية، يتناولها القريب والبعيد؛ لأنهم كانوا أشد شعورًا بها، فتأملوا في هذه الوظيفة التي هي وظيفة الكُتَّاب الحقيقية، وقابلوها بوظيفتهم متى كان عملهم مقصورًا على طلب الألفاظ الغريبة من قواميس اللغة، واقتناص التعابير البدوية والأساليب القديمة التي لم يبقَ منها ما يسوِّغ استعمالها في عصر كهذا العصر، ولا ريب عندنا أن هذا بمثابة ردم معادن المعاني في نفوس الكُتَّاب، وجعل أذهانهم عبارة عن مخازن للألفاظ فقط، وبذلك يُقضى على الكاتب العربي أن تبقى كتابته بلا تأثير في قرائه مهما أبدع وأجاد في تنسيق التعابير والألفاظ، عبارة عن جماد لا يؤثر في النفس؛ إذ إن النفس لا يؤثر فيها إلا فيض المعاني الخارج من نبعها العذب.»
وهذا الاتجاه في فلسفة التعبير لا يخلو من وجاهة، كما أنه قد كان ضرورة تاريخية في عصر كان أدبنا العربي لا يزال في دور النقاهة من ذلك الانحطاط الذي كان قد تردَّى فيه، عندما خلا من كل عمق أو ابتكار في المعاني والأحاسيس، وأصبح قاصرًا على الحذلقة اللغوية أو المحسنات البديعية السقيمة التي تشبه الأرابيسكا أو الموزايكو، التي تداعب حاسة البصر، ولكنها لا تتضمن شيئًا ولا تعبِّر عن شيء ذي غناء، ولكننا أصبحنا اليوم نملك فلسفة أعمق في مشكلة التعبير، فنؤمن بأن ما نسميه أدبًا إنما يتميز عن غيره من الكتابات بأنه يثير فينا بفضل خصائص صياغته، إحساسات جمالية أو انفعالات عاطفية دائمة الحياة والتأثير على تعاقب الأجيال، ونحن اليوم لا نؤمن بنظرية الفصل بين اللفظ والمعنى، إلا إذا استطعنا أن نؤمن بإمكان الفصل بين الجسم والروح دون أن تفنى الحياة، أو إمكان الجزم بأيهما القاطع من شفرتي المقص، كما نؤمن بأن الخلق الأدبي والفني كثيرًا ما يتركز في عملية التعبير ذاتها، وبفضل هذه العملية، حتى لنؤمن بأن اللغة ليست كما زعم فرح أنطون مجرد أداة التعبير على نحوٍ ما يعتبر غيرها من الرموز، كالإشارات أو اصطلاحات علم الجبر الرياضي مثلًا، بل كثيرًا ما تكون اللغة كالرخام الذي ينحت فيه المثال تماثيله، أو كالظلال والألوان التي يرسم بها المصور صورته، وفي كل هذا ما يبرر إعجابنا بأسلوب التعبير المركز الشعري الخلاق، الذي نعتبره ميزة لإبراهيم رمزي على زميله فرح أنطون مثلًا.
الحاسة المسرحية
يُزاح الستار عن دار في قصر السلطان الصالح أيوب على النيل في الجانب القبلي من مدينة المنصورة، وهو بناء عربي الطراز والتقسيم: إيوان ورحبة، أما الإيوان فواقع في مؤخرة المرزح، والرحبة في مقدمته ويعلو عنها شبرًا تقريبًا، والإيوان نصف مثمن به ثلاثة أضلاع كاملة في مواجهة المشاهد، وهذه ذات شبابيك أي نوافذ فيها قضبان متعارضة، عليها من الداخل سجف (ذات فلقتين) من الديباج الثقيل؛ إذ الوقت شتاء (١٠ ديسمبر سنة ١٢٤٩)؛ أما الضلعان الجانبيان فكل منهما نصف ضلع المثمن أو يزيد قليلًا، وفي كل منهما باب قصير (أربع أذرع) مكفت بنقوش عربية من المعدن واحد إلى اليمين بالنسبة إلى المتفرج، وهو مؤدي إلى غرف السلطان وحرمه، وآخر مثله إلى اليسار هو مقطع كبار الدولة؛ أي الباب الخاص الذي يحضر منه وينصرف كبار أمناء السلطان وأمراء حرسه الخاص المعروفون برجال الحلقة، ومن هم في كرامة المنزلة مثلهم، ويفصل الإيوان عن الرحبة عُمُد من الرخام تعلوها بوائك موشحة بنقوش عربية ما بين البواكير (الأقواس)، والبوائك الثلاث؛ اثنتان منهما صغيرتان هما الجانبان، وواحدة كبيرة (وتعلو نصف ذراع عما يجاورها) بين هاتين.
والمكان جميعه مفروش بأنفس البسط الطبرستانية (الفارسية) إذ الوقت شتاء كما نبهنا، ونرى على أبوابه جميعًا سجفًا غير مسدلة، بل مزاحة إلى الجانبين ما عدا باب حرم السلطان، وفي الإيوان مقاعد ووسائد فاخرة وُضعت دُوَين النوافذ، يعلو عليها في الصدر مقعد كبير يكون للسلطان عادة عند اجتماعه برجال ديوانه، ولكن الدار قد اتَّخذت تلك الليلة للنوبة؛ أي حراسة السلطان وخدمته المستعجلة؛ لأنه مريض يئس الأطباء من شفائه؛ ولأن الفرنجة الفرنسيس وكانت معهم فرقة إنجليزية تحت إمرة لو نجزور، وهو لورد سالسبوري، تحت إمرة الملك لويس التاسع المعروف في كتب التاريخ العربية باسم ري ديفرانس أو رواد فرنس، قد عادوا لحرب مصر لامتلاكها توطئة لاسترداد القدس وإبادة علَم الإسلام من الدنيا (إذ كان هذا مأمول أوروبا في القرون الوسطى ومناط مجدهم وفخرهم)، وقد نزلوا البلاد واحتلوا دمياط (التي أُخرجوا منها مدحورين أذلة قبل ذلك بثلاثين عامًا على سيوف السلطان الكامل، أبي السلطان الحالي، وباني مدينة المنصورة تخليدًا ليوم نصره) ويوشك جيشهم أن يزحف على المنصورة في طريقة إلى بابليون (مصر القديمة)، فالأمر يستوجب قرب أعيان الدولة مناوبة بجوار السلطان في كل وقت.
وإذا كانت العادة أن يتلهى أمراء النوبة في تلك الليالي بلعب الشطرنج وغيره، ويستعينوا على السهر بمذاكرة الشعر، وبرواية أحاديث الدول، وتلاوة القرآن الكريم، ومطالعة الحديث الشريف، فإن في المكان خزانة على شكل صندوق إذا أُقفل غطاؤه حسبته مقعدًا ذا جانبين، وإذا رُفع الغطاء وجدت نسخًا من أعيان الكتب المخطوطة في الشعر والتاريخ والقصص والفقه والتفسير وغير ذلك، وقد أتى بالخزانة في تلك الليلة من «دار الخاص» ووضعت دُوَين الباب الأيسر الأعلى في الإيوان بميل وانحراف.
وفي المكان في مقدمة المرزح دُوَين الباب الأيمن الأدنى ثلاث وسائد صغيرة ثمينة القيمة، اثنتان منها إلى الأمام، وواحدة إلى الوراء بينهما على قيد ذراع منهما، وقد وُضع بين الوسائد الثلاث دَسْت أو صندوق صغير وُضعت فوقه رقعة شطرنج، صُفَّت عليها قطع من العاج والأبنوس المكفت بالفضة، وفي الدَّسْت درج ظاهر للمتفرج قد أُخرج منه لتُلقى فيه القطع المدحورة ساعة اللعب أو تُحفظ فيه بعده.
أما الوسائد الثلاث فقد جلس على اليمين منها الكاتب سهيل، مولى شجرة الدر (امرأة السلطان) وكاتم سرها، وهو فتًى في الثلاثين من عمره لا لحية ولا شارب له؛ لأنه خصي، وقد لبس كلوتة (طاقية مضربة) ظاهرها أطلس رومي أصفر اللون، اعتم عليها على غير العادة بشاش من الحرير الإسكندري الأبيض، وعلى جسمه قباء بغلطاق (بلطو) من الحرير الأحمر الرومي مسجف بفرو السنجاب ومبطن بفرو ثمين، وقد تمنطق عليه ببند أبيض من الحرير، ويبدو من أسفل الفلطاق المذكور سراويل من الصوف الملطى (الجوخ)، وفي رجليه خُفَّان من الجلد الأسود البلغاري، يلبسهما بخفين آخرين من الجلد الرقيق (أشبه بالمز أو هو بعينه) والخُف الظاهر ذو رقبة عالية نوعًا ما، وتدخل فيها فتحة السراويل.
وسهيل هذا جالس يلاعب رجلًا أمامه، هو الأمير الكبير جمال الدين محسن الكاظمي، ناظر الخاص (وهي أرقى مراتب الدولة يومئذ وأسماها)، وهو رجل في الأربعين من عمره بادن شيئًا ما، قد ارتدى كما ارتدى سهيل مع اختلاف في اللون، إذ كانت كل ثيابه بيضاء، غير أنه قد توشح بخميلة تدلَّى منها سيف عربي مُرصَّع القراب بشيء قليل من الجوهر، وقبضته مكفتة بالذهب، وجلس على الوسادة الثالثة رجل يدل ارتفاع رأسه عن الآخرين، على أنه مديد القامة، وهذا هو الفارس أقطاي، وهو رجل دُوَين الأربعين، يبدو نحيف الجسم لطول قامته، له نظرات حادة مطمئنة تدل على الفروسية والاعتداد بالنفس، وهو أصفر شعر الشارب والرأس، وملابسه ملابس محسن، إلا أن كلوتته من الصوف الأحمر وعمامته مفرعة إلى العلا، وكانت مرتبته إذ ذاك نائب الأتابك؛ أي نائب القائد العام.
وإلى اليسار الأقصى بأدنى المرزح مقعد منخفض عليه وسادة ثمينة ومساند، جلس عليه الأمير بيبرس البندقداري قائد المماليك البحرية المرابطين حول القصر، وهو يطالع في كتاب أمامه قد فُتح على كرسي مجنح منبسط بديع النقش والتكفيت هو القرآن الكريم.
والأمير بيبرس هذا رجل فوق الثلاثين من العمر، رَبعة في الجسم بلا بدانة، أبيض الوجه مربعه، أزرق لون الحدقة له نظرة الأسد في وقار وكرم، وفي إحدى عينيه كسرة في مؤخرها تزيده في عين الناظر مهابة، وهو مرتدٍ قباء (بغلطاق) من الحرير السميك السنجابي اللون، عليه أزرار كبيرة من الذهب في سجفه، وهو متمنطق بحياصة عريضة من الذهب، عُلِّق على يسارها سيف عربي، أما كلوتته فهي من الحرير الأسود المضرب، وعمامته صغيرة مفرعة، وخفَّاه الخارجيان مثبت فيهما مهماز مكفت بالذهب مثل أقطاي.
وإذ يُزاح الستار يُرى رجل آتيًا من الباب الأيسر الأعلى — مقطع العضماء — ماشيًا الهوينى على إفريز الإيوان وراء الأعمدة، وفي يده رسالة يقرؤها ثم ينزل الرحبة، وإذ يرى الخزانة أمامه بقفلة الغطاء يجلس عليها ويستمر في القراءة، وهذا هو الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ أتابك الجند (القائد العام) ومدير الدولة في مرض السلطان، وملبسه في جملته مثل بيبرس إلا أنه أزرق اللون، وإذا نظر إليه الناظر وجده في الخمسين من عمره ينمُّ مجموعه على أنه نضو حروب ظفر منها بمجد وعظمة جديرة به، وبسالف محتده؛ إذ إنه سليل أمجاد وفرسان وقادة عظماء معروفين على مدى سبعة قرون، ولكنه في صمته وقلة انشراح نفسه وعدم انقطاع نظره عن الرسالة التي بيده يشعر بأن ضميره مثقل بهمٍّ كبير.
والمكان مضاء بثريات عظيمة متعددة القناديل، واحدة في الإيوان وثلاث في معاقد البوائك، إلا أنها صغيرة وأخرى كبيرة في وسط الرحبة، يُرى تحتها حامل مثمن الأضلاع مصنوع باللقم والمخاريط الخشبية التي تُصنع منها المشربيات عادة، وهو شبيه في جملته بكرسي العشاء في الأفراح عندنا.