مقدمة
نتطلع إلى كشف أسرار الطبيعة التي حيَّرت الفلاسفة عبر العصور، والتعرُّف على مصدر الأسباب الكامنة وراء حدوث الأمراض، والربط بين مصادر المعرفة الواسعة التي قد تساعدنا في علاج الأمراض والوقاية منها.
بحلول نهاية هذا القرن، سنكون قد وجدنا علاجًا للسرطان. وسنستخدم الخلايا الجذعية لإعادة إنماء الأنسجة العصبية وإصلاح الأحبال الشوكية المتضررة. ستُتيح لنا معرفتُنا بالتكوين الجيني لكل فرد تشخيص كثير من الأمراض وعلاجها استباقيًّا قبل ظهورها. سيتجاوز متوسط العمر التسعين عامًا، وسيصبح بلوغ المائة أمرًا شائعًا.
أغلبنا، إن لم يكن جميعنا، يَعتقِد أنَّ تحقيق هذه الأهداف الطموحة ليس أمرًا محتملًا فحسب، بل ممكنًا ومرجَّحًا. ما يشفع لنا غرورنا هو أننا جُبِلنا على الإيمان بقدرة البشر اللامحدودة تقريبًا. فكِّر في كل الإنجازات الرائعة التي حالفَنا الحظُّ بمعاصرتها، مثل الزيادة غير العادية والمتسارعة في المعرفة العلمية التي تضاءلت أمامها إنجازات القرون السابقة المتواضعة. لنتناول حياة شخص واحد فقط، وهو جدي الأكبر الذي وُلِد في عام ١٨٩٣ وتُوفِّي في عام ١٩٧٧. في شبابه، ظلت الخيول وسيلة أساسية للنقل. لم تكن الطائرة قد اختُرعت بعد. ولم يَستخدِم أحد في عائلته هاتفًا أو يرَ مصباحًا كهربائيًّا. ولكن بحلول وقت وفاته، كان الإنسان قد هبط على القمر. ومنذ ذلك الحين، أخذ عالمنا يتطور بطرق لا تُحصَى، مُستفِيدًا مِن التطوُّرات المتنوعة مثل الإنترنت وفك تشفير الجينوم البشري. لقد شهدنا أيضًا قفزة كبيرة في المعرفة الطبية وطرق العلاج التي كان سيستعصي على أجدادنا تصورها.
في مطلع القرن العشرين، كان مئات الآلاف يموتون سنويًّا بسبب الأمراض المعدية، مثل الجدري والسل والكوليرا. كانت نظرية جرثومية المرض قد بدأت لتوِّها في اكتساب قبول واسع النطاق على حساب النظريات الشائعة في القرن التاسع عشر التي ألقت باللوم على «الهواء الفاسد» أو «الوبالة». وكان الأطباء الشرعيون يعتقدون أن العلاجات الضارة مثل ماء الراديوم يمكن أن تعالج عددًا كبيرًا من الأمراض، وفي ذلك التهاب المفاصل والعجز الجنسي والأنيميا. واستخدم البعض الزئبق لعلاج الزُّهري. بالإضافة إلى تعدد الممارسات الطبية الاحتيالية. كان متوسط العمر المتوقع عالميًّا ٣٣ عامًا فقط (في مقابل ٤٧ في البلدان المتقدمة).
بعد ذلك، حدثت عدة تغيُّرات. فأصبح التعليم الطبي خاضعًا لمعايير موحدة. وكان للتحسينات في الإجراءات الصحية وإدخال اللقاحات والمضادات الحيوية والتقدم في الجراحة والتخدير آثار جوهرية مفيدة. بالنسبة لطبيب يعيش في أواخر القرن التاسع عشر، تُعَد فكرة أن الإنسان قد يُروِّض يومًا ما الأمراضَ المُعدية المميتة، وإمكانية الاعتماد على الجهاز المناعي للمريض لعلاج السرطان وإجراء جراحات القلب البشري فكرة مستحيلة الحدوث، تمامًا كفكرة الهبوط على القمر. إذا كان من الممكن أن يتضاعف متوسط العمر المتوقع؛ إذ بلغ متوسط العمر المتوقع العالمي اليوم ٧٣٫٤ عامًا (٧٧٫٨ في الولايات المتحدة)، فهل من المستبعد تصوُّر مستقبل يعيش فيه الأشخاص العاديون حتى مائة عام؟ أو حتى ١١٠؟
يذهب المؤرخ والفيلسوف يوفال نوا هاراري، مؤلف كتابَي «الإنسان العاقل» و«الإنسان الإله» الأكثر مبيعًا على مستوى العالم، إلى أبعد من ذلك؛ إذ يتخيل يومًا قد يتمكن فيه البشر من هزيمة الموت نتيجة للمرض هزيمة تامة. بالإشارة إلى التقدم في الهندسة الوراثية والطب التجديدي وتكنولوجيا النانو، يشير هاراري إلى أن بعض المستقبليين يتوقعون تحقيق نوعٍ مِن «الخلود» البشري بحلول عام ٢١٠٠ أو ٢٢٠٠، حيث نكون حينئذٍ قد انتصرنا على الأمراض وتمكنا من تجديد الخلايا المتقدمة في العمر أو تحسينها أو زراعتها. تَرى هذه النظرة إلى المستقبل أنه لا توجد حدود لقدرة العلم على إطالة العمر وتأجيل الموت الناتج عن أسباب فسيولوجية؛ ففي مثل هذا العالم، قد يحدث الموت فقط بسبب الحروب والحوادث والقتل.
المستقبل دائمًا غير مؤكد، لكن من الواضح أننا نعيش في خضم مسار متصل وبارز مِن التقدُّم التكنولوجي. إنها رحلة يشكل فيها ماضينا القريب نظرتنا لمستقبل قد يكون بلا حدود له. ولكن على الرغم مِن مَيلنا نحو التفاؤل، فإن دراسة دقيقة للتاريخ تكشف عن هذا الدرس العظيم الأهمية: التقدم ليس حتميًّا، كما أنه ليس بالأمر الذي يمكن إيقافه.
في عام ١٩٦١، كان والدي مراهقًا يشاهد ألان شيبارد، أول أمريكي ينطلق إلى الفضاء في رحلة استمرت ١٥ دقيقة و٢٨ ثانية فقط. بعد ثماني سنوات فقط، كان نيل أرمسترونج وباز ألدرين يمشيان على سطح القمر. لو سألت والدي في عام ١٩٦٩ عن رأيه فيما ينتظر مجال استكشاف الفضاء في المستقبل، فقد يكون التقدم العلمي السريع بشكلٍ مدهش قد دفعه وكثيرين غيره إلى التنبؤ بحماس برحلات فضائية مأهولة إلى المريخ في غضون بضعة عقود أخرى، ربما بحلول عام ٢٠٠٠ على أقصى تقدير.
إن ما نفترضه أو نتوقع حدوثه لن يتحقق دائمًا. فما يبدو مضمونًا أو حتى دائمًا ليس كذلك. لا شيءَ مؤكد. لقد امتدَّ تاريخ الإمبراطورية الرومانية الغربية لخمسة قرون اكتنفها تقدُّم تكنولوجي ملحوظ في أوروبا، لكنها تخلفت عن التاريخ العالمي وتبعتها عصور الظلام التي امتدت لعدد أكبر من القرون اتَّسمَت بالتراجع والجهل.
والتقدم الطبي المستمر ليس مضمونًا، شأنه في ذلك شأن أي جانب من جوانب التاريخ الإنساني. فأعظم إنجازاتنا الطبية — الاكتشافات التي أنقذت ملايين الأرواح وخففت معاناة لا توصف — لم تكن مقدرة مسبقًا ولا حتمية. بل على العكس. في أغلب الأحيان، كانت هذه التطورات الحاسمة تعتمد على شخص واحد فقط أو عدد قليل من الأفراد، وهم في النهاية أشخاص مُعرَّضون للخطأ دفعتهم المثابرة والمهارة وأحيانًا الحظ العابر، إلى المجازفة أو الإدلاء بملاحظات مهمة لم يكن أحد راغبًا أو قادرًا على الإدلاء بها من قبل. وقد تعرض هؤلاء الأطباء والعلماء كثيرًا للسخرية والنبذ من أقرانهم، لا سيما إذا كانت أفكارهم المجددة تهدد النُّخب الطبية في عصرهم. لقد واتتهم الجرأة لمواجهة مشكلات اعتبرها الآخرون غير قابلة للحل، وبحثوا عن إجابات لأسئلة لم يفكر أحد آخر في التاريخ في طرحها.
ولكن لم يكن أيٌّ من هؤلاء المبتكِرين شهيدًا أو قِديسًا. فقد كانت براعتهم غالبًا مشوبة بالغيرة والتفاهة والغطرسة التي تفُوق الحد. وتوضح قصصهم الرائعة أن التقدُّم الطبي لا يتبع مسارًا خطيًّا. فهو يتقدم على نحو متقطع، وأحيانًا يتراجع إلى الوراء. ويكشف التدقيق في التاريخ الطبي أن أهم الاكتشافات — تلك التي ثبت أنها أهم من أي قنبلة ذرية أو حرب عالمية — قد تمخَّضَت عن لحظات عابرة تخللتها مخاطرةٌ تحبس الأنفاسَ أو ملاحظات عادية أو أخطاء وقعت بالصدفة.
هذا الكتاب يدور حول تلك اللحظات. إنه يتحدث عن هؤلاء الأشخاص؛ هؤلاء الأبطال، الذين لم ينعموا بالشهرة، وكانت اكتشافاتهم معالم بارزة ترشدنا خلال سَعيِنا الدائم نحو شفاء المرضى وتخفيف المعاناة وتأخير الموت. مِن المستحيل تقليل أثر هذه اللحظات الفريدة؛ لأنها تتعلق بأمراض من شأنها أن تصيبنا جميعًا وتقتلنا. ومن هذا المنطلق، يُنظَّم هذا الكتابُ — الذي يتناول أعظم إنجازات الطب البشري الحديث — وفقًا للأمراض، أكثرَ الأمراض شيوعًا في العالم، وأكثر الأمراض القاتلة أهمية.
مرض القلب؛ الذي يُعتبَر أشرس الأمراض في العالم، يتربَّع في صدارة أي قائمة لأهم الأمراض التي يجب أن يفهمها الناس العاديون.
مرض السكري؛ ذلك الوباء المرتبط بتلك المفارقة المأساوية التي تحدث أول مرة في التاريخ البشري، المتمثلة في موت الناس بسبب تناول كثير من الطعام لا القليل منه.
الأمراض المعدية؛ ذلك العدو الذي لا يكل الذي احتفلنا بالعديد من النجاحات التي حققناها ضده، لكنه ما زال يُمثِّل تهديدًا لا مثيل له للصحة العالمية.
السرطان؛ عدوُّنا المقيت الذي لم تسلم منه عائلة وراح يغزو الشباب وكبار السن على حد سواء.
الصدمات؛ تلك الحالة الواسعة الانتشار من الوهن التي ستستمر بكل تأكيد حتى بعد هزيمة جميع الأمراض الأخرى في نهاية المطاف.
وأخيرًا، ظلت «صعوبات» الولادة واحدة من الأسباب الرئيسة التي أودَت بحياةِ الأطفال والأمهات إلى أن اكتشف الأطباءُ الأسرارَ التي كان من شأنها أن تأخُذَ بيدِ مُمارَسة التوليد أخيرًا إلى عصرٍ جديدٍ من تحسين الصحة وتحقيق نتائج أفضل.
هذا ليس تاريخًا شاملًا للطب. بل حكاية عن الجرأة والشجاعة البشريَّين اللتين لا يمكن أن تفشلا في أن تترُك لدى الشخص انطباعًا مدهشًا بأنه لولا شخصٌ ما أو اكتشافٌ حدَثَ مصادفة، أو خطأً، في بعض الأحيان، لاختلفت الحياة بالنسبة إلينا جميعًا جذريًّا اليوم.
في خِضَمِّ رحلتنا، سنتناول الفسيولوجيا المرضية للأمراض التي تمَس حياتنا جميعًا، وحياة أحبائنا. إن فهم هذه الأمراض لا يجب، ولا يمكن أن يكون حِكرًا على خريجي كليات الطب فحسب. فكما يشجع أي والد ابنه أو ابنته على فهم آلية عمل السيارة أو أساسيات الإنترنت، لا بد أن نعرف جميعًا كيف تؤثر أمراضنا الأكثر شيوعًا علينا. إن فهم الجسم البشري وما يمكن أن يختل فيه ليس مجرد تمرين فكري؛ بل معرفة عملية من شأنها أن تساعدنا جميعًا على التعرُّف على الأعراض الخطيرة للمَرَض وعيش حياة أكثر صحة وفهم حالتنا الصحية فهمًا أفضل عندما نكون نحن مَن يجلس أمام الطبيب. سيكون كل واحد منَّا ذلك الشخص يومًا ما، وعلى الأرجح، لن تكون الأخبار سارة.
غير أننا أصبحنا الآن في موضع يمكننا من خلاله، أكثر من أي وقت مضى، أن نستخلص من الطبيعة أسرارها، وأن نستعين بهذه المعرفة لمكافحة الأمراض بطرقٍ استعصى على أسلافنا تصوُّرها. في هذه الرحلة، سننظر أيضًا إلى المستقبل ونأمل أن نحث الشباب على الاضطلاع بمسئولية الاكتشاف حتى ينجح الجيل القادم في تحقيق إنجازات من شأنها تغيير توقعاتنا بالنسبة إلى الصحة وطول العمر. معظم الأشخاص الذين يُولَدون اليوم سيستمتعون بأعمارٍ تَمتدُّ إلى القرن الثاني والعشرين. ونأمل أن ينظروا إلى الوراء نظرة دهشة لحجم ما أُنجِزَ خلال الفترة بين العصر الحاضر وذلك الحين. نتمنى أن تصبح الآفات التي تقتلنا وتربكنا اليوم مجرد حواشٍ في كتب التاريخ والعلوم في المستقبل، وأن يستمر إرث التقدُّم لدينا دون انقطاع.
هذا ما نطمح إليه.