الخاتمة

رواد الطب

من المفيد للإنسان كثيرًا أن يكون ممن يقدسون الأبطال بعض الشيء، وقصص حياة رواد الطب تحفز طموحاتنا وتثير تعاطفنا كثيرًا.

ويليام أوسلر، طبيب.

تاريخ الطب هو تخصص طيع حيوي يتغير، بحكم طبيعته، بالسرعة نفسها التي يتغير بها العلم المعاصر. وتلخيص تاريخ التقدم الطبي الطويل في أهم اكتشافاتنا يمنحنا فرصة لدراسة تلك العوامل التي ستؤدي في الأغلب إلى تطورات طبية مستقبلية في هذا القرن وما بعده. ما الذي يمكن فهمه من هذه الانتصارات العديدة؟ بإلقاء نظرة عامة، نجد الكثير من القواسم المشتركة بين هذه الفتوحات العلمية المتعددة والرواد الحالمين الذين قاموا بها.

لا عجب في أن كثيرًا من الابتكارات نتج عن سنوات من العمل الشاق لعلماء متفانين أظهروا عزمًا وتصميمًا مذهلين. فرحلة جون جيبون التي استمرت عقدين لاختراع الجهاز القلبي الرئوي، وسنوات الكدح الطويلة التي قضتها ماري كوري في عزل قدر ضئيل من الراديوم، وإتقان جورج بابانيكولاو لفن اختبار لطاخة عنق الرحم للخنازير الغينية الذي لم يكن شائعًا آنذاك، تعد جميعًا تجسيدًا للمثابرة والاجتهاد البشريين الجديرين بالإعجاب. لكنها في الوقت نفسه — على الأقل في مجال الاكتشافات الطبية — لا تنقل الصورة الكاملة. بل هي بعيدة عنها تمامًا؛ فكثير من أهم الاكتشافات، كما رأينا بالفعل، لم تحدث بهذه الطريقة.

كانت بعض الاكتشافات تجليات بالمعنى الحرفي للكلمة. فقد باغتت أفكار مفاجئة وغير متوقعة عقول أبطال مثل فريدريك بانتنج وفيلهلم رونتجن، غيرت العالم، كصواعق برق غير متوقعة تضرب السماء دون سابق إنذار. إن الطبيعة العشوائية المفاجئة للحظات الإلهام هذه لا تملك سوى تقزيم إنجازات الغالبية العظمى من العلماء ممن يكرسون حياتهم لحل المشكلات في مجالاتهم لكنهم لن يقتربوا قط من محاكاة إنجازات الرواد الذين لم يكونوا حتى خبراء في التخصصات التي غيروها. فريدريك بانتنج، على سبيل المثال، لم يكن متخصصًا في الغدد الصماء. ولم يكن حتى طبيبًا باطنيًّا. فهل من عجب في أن خبيرًا عالميًّا مثل جون ماكلاود سخر من بانتنج في مكتبه في أول لقاء لهما؟ بالمثل، حين تمخضت لحظة الإلهام التي مرت برونتجن عن اختراع تخصص جديد كليًّا، وهو علم الأشعة؛ لم يكن طبيبًا بل كان فيزيائيًّا. هذا جزء من غموض الاكتشاف الطبي. فكثير من الابتكارات المهمة غير مخطط لها، وغير متوقعة، ولا يصنعها أفراد يعملون بجد على أبحاث ذات صلة بالمشكلة. أحيانًا يتعثر الباحث الذي يبحث عن شيء مختلف تمامًا في ملاحظة تغير العالم. وهذا السيناريو يمثل فئة أخرى من الاكتشاف، فئة لا تفشل أبدًا في إثارة الدهشة وسلب الألباب. وهناك كلمة واحدة تصفها على أفضل وجه.

الصدفة.

إن الاكتشافات التي تحدث بالصدفة أفضل حكايات تروى قبل النوم؛ لأن الابتكارات المدوية تكون أحيانًا وليدة الحظ الخالص. كان لا بد من وقوع عدة أحداث تبدو عشوائية لكي يلاحظ ألكسندر فليمنج نمطًا غريبًا من المناطق الخالية من البكتيريا حول بقع العفن في طبق بتري الخاص به. ولو لم ينسَ مساعد لويس باستور تلقيح الدجاج بميكروبات طازجة تسبب الكوليرا للدجاج، لما أنتج هو وباستور عن طريق الخطأ كائنًا موهنًا اكتشفا لاحقًا أنه يمكن أن يمنح الجسم المناعة دون أن يمرضه. ولو لم يكن سيدني فاربر قد سرع بشكل مأساوي وفاة الأطفال المصابين بسرطان الدم عن طريق علاجهم عن جهالة بالفولات، لما أدرك أن العلاج بمضادات الفولات قد يساعدهم. ولو لم تقع كارثة غاز الخردل في باري، لما ركز الأطباء على الخردل النيتروجيني باعتباره أول عامل فعَّال من عوامل العلاج الكيميائي للسرطان.

إن مثل هذه القصص تعد نوادر رائعة تملؤنا بالدهشة والرهبة. ولكن إذا كنا مدفوعين بالبيانات مثل العلماء، فيجب أن نعترف أن المصادفات والأخطاء السعيدة التي تفضي إلى اكتشاف رائع غالبًا ما تعطى اعتبارًا أكبر مما تستحق في تاريخ الاكتشافات. ومن ثَم، لا يمكن الاعتماد عليهما بالتأكيد لتحقيق تطورات في المستقبل؛ لأن طبيعة هذه المصادفات والأخطاء لا تتيح لنا التنبؤ بإمكانية أن يصب الحظ السعيد مرة أخرى في صالح الإنسانية، ومتى يمكن أن يحدث ذلك.

بدلًا من ذلك، هناك قاسم مشترك أكبر لعب الدور الرئيسي في التوصل إلى مزيد من الاكتشافات أكثر من أي شيء آخر. وهذا الدور هو دور المتمردين المغردين خارج السرب في مجال الطب. إنهم أشخاص يملكون من الخيال والإبداع ما يؤهلهم للتفكير خارج الصندوق. فعقولهم مستعدة لتقبل أن البحث والاستقصاء قد يقدمان إجابات على أسئلة لم يفكروا فيها هم أو أي شخص آخر قبل ذلك. وينظرون إلى المشكلات من منظور جديد، ولديهم الشجاعة لاتباع قناعاتهم حتى عندما يكون ذلك مخالفًا للتقاليد والأعراف. هم، باختصار، عباقرة.

من السمات الرائعة التي يتميز بها النوع البشري أنه يوجد بيننا من يتمتعون بالقدرة على التوصل إلى اكتشافات فكرية مدهشة، ولديهم الشجاعة لتحمل مخاطر مذهلة، والقدرة على تحمل السخرية والنبذ بسبب معتقداتهم. وهذه الصفات الفريدة تعطي الأمل لأولئك الذين يخشون إمكانية أن يُستبدَل البشر يومًا ما وتحل محلهم الروبوتات المتقدمة أو الذكاء الاصطناعي. فبالرغم من كل عيوبنا وإخفاقاتنا، فإن قدرتنا على تصور أفكار جديدة، وأحيانًا خوض مجازفات غير عقلانية، هو ما يجعل الاستغناء عنا مستحيلًا. لقد تحدى فيرنر فورسمان الأوامر وخاطر بحياته، وحارب صديقًا له حرفيًّا في مخطط غير معقول لعمل قسطرة لقلبه. ولقح إدوارد جينر صبيًّا بالجدري البقري القاتل على سبيل الاختبار، في تصرف غاية في الجرأة والغطرسة والخطورة. وأصاب ويليام كولي المرضى عمدًا ببكتيريا قاتلة. وانتهى مسعى إجناز سيميلفايس نحو الحقيقة والعلم بموته.

إن المتمردين الثائرين أمثال سيميلفايس ليسوا مجانين. ولكنهم يؤمنون إيمانًا راسخًا بمفهوم أو ممارسة أو فكرة لدرجة أنهم يكرسون أنفسهم بالكامل، بعناد يصل للهوس، لتدعيمها ومشاركتها مع الآخرين. قد يرى المراقب الخارجي هذا ويسميه عزمًا أو إصرارًا. والمتمرد على استعداد للاستفادة من الصدفة لأنه، كما قال لويس باستور ذات مرة في عبارته المشهورة: «الصدفة تفضل العقل المتأهب». السؤال الأهم الذي يمكن أن نسأله لأنفسنا اليوم هو، من أين سيأتي المتمردون التالون في مجال الطب وكيف يمكننا دعم تطورهم؟

تدبر كثيرون في هذا التساؤل. وكان إرنست تشين، أحد مكتشفي البنسلين، واحدًا من الأشخاص المؤهلين بدرجة استثنائية لطرح هذا التساؤل. أكد تشين أن المبتكرين المستقبليين سيكونون على الأرجح شخصيات غريبة الأطوار وثائرين وإصلاحيين. ليس بالضرورة أن يكونوا من الطلاب المتفوقين، أو المحبوبين، وحثنا على الانتباه جيدًا لاكتشاف هذه العقول غير التقليدية. وذكر في خطاب له ألقاه في عام ١٩٦٦: «عندما تظهر هذه العقول، تكون مهمتنا هي التعرف عليهم ومنحهم الفرص لتطوير مواهبهم. وهذه ليست مهمة سهلة؛ لأن هؤلاء الأشخاص هم على الأرجح أشخاص منعزلون لديهم نزعة فردانية قوية، ولا يمتثلون للقواعد، ولا يتكيفون جيدًا مع أي مؤسسة نظامية.»

أكد تشين أيضًا أن الفتوحات العلمية نادرًا ما تتمخض عن المبادرات المؤسسية المنظمة ونادرًا ما تتحقق عن طريق إنفاق الأموال على مشكلة ما. وقد كان ذلك من الانتقادات الموجهة للنهج المتبع خلال الحرب على السرطان والسنوات التي سبقتها، عندما وضِعت أموال حكومية طائلة في استراتيجية شاملة عشوائية تهدف لإجراء دراسات مضنية على عينات لا حصر لها من التربة والنباتات والحيوانات. وقد بذل كثير من هذه الجهود التي بلا طائل قبل أن يسهم فهمنا لأساسيات السرطان الجزيئية والجهاز المناعي في تمكين البحث من أن يصبح أكثر استهدافًا للمشكلة. كان تشين يرى أن العائد الذي سيجنيه البشر من الاستثمار سيكون أعلى إذا تعلمنا كيف نحدد الشخصيات المتفردة المجازفة، ونمنحها الحرية للتساؤل والاستقصاء والإبداع. ومع ذلك، لا ينبغي استغلال وجهة النظر هذه للحط من أهمية تمويل العلوم. فسيظل ذلك ضروريًّا دائمًا. فحتى المنهج المتبع في الحرب على السرطان نتج عنه بعض العلاجات الناجعة. ولكن أذكى الأموال ستنفق في سبيل العثور على العقول الألمعية ورعايتها.

لا ريب في أنه من الصعب التنبؤ بالعلماء الشباب الذين سيحوزون جوائز نوبل مستقبلًا، ولكن لا يمكن إنكار الفائدة التي ستصب في صالح البشرية من تعظيم عدد الأطباء والعلماء المنخرطين في البحث ومكافحة المرض. ومن هذا المنطلق، يتضح أن لدينا مجالًا كبيرًا للتحسين. لقد أصبحت ظاهرة رائجة أن يدعو السياسيون وصناع السياسات لتحسين تعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، لكن بالنظر إلى أعلى مستويات البحث العلمي، حيث من المرجح أن تتحقق أعظم الاكتشافات، نكتشف ظروفًا تعوق كثيرًا من العلماء الشباب عن الاستمرار في مجالاتهم.

على سبيل المثال، كانت الحكومة الأمريكية تنفق بسخاء على جهود البحث العلمي خلال مبادرة الحرب على السرطان، لكن التمويل تضاءل نسبيًّا بعد ذلك. فأصبح حصول الباحثين الآن على تمويل لأبحاثهم من المعاهد الوطنية للصحة أصعب من أي وقت مضى. في عام ٢٠٠٠، تمت الموافقة على ٣٠ في المائة أو أكثر قليلًا من طلبات الحصول على المنح المقدمة من المعاهد الوطنية للصحة. انخفضت هذه النسبة تدريجيًّا، وفي عام ٢٠٢٠ انخفضت إلى نحو ٢٠ في المائة. وهذا يعني أن مشروعًا واحدًا فقط من كل خمسة مشروعات يقترحها العلماء يمضي قدمًا. ونتيجة لذلك، يقضي الباحثون المزيد والمزيد من وقتهم في كتابة طلبات الحصول على المنح البحثية بدلًا من إجراء البحث الفعلي، كما أن المنافسة الشديدة على التمويل تعني زيادة احتمال عزوف العلماء عن المجازفة وطرح أفكار بحثية جديدة. فالمشروعات التي تلتزم بشدة باتجاهات البحث التقليدية تكون أوفر حظًّا في تلقي التمويل من الاقتراحات غير التقليدية. يبدو أيضًا أن النظام يفضل العلماء المعروفين أو ذوي الخبرة على الشباب الصاعدين، وقد يكون متحيزًا ضد الباحثين من النساء والأقليات.

ثمة عقبة أخرى، ربما تكون أكبر، تقف في وجه الاكتشافات المستقبلية، وهي استنزاف طاقة العلماء في الأوساط الأكاديمية؛ إذ يصاب كثير من حملة الدكتوراه بالإحباط وخيبة الأمل بسبب نظام التقدم التقليدي الذي يبدو أنه يحقر من شأنهم في كل منعطف. في كل كلية من كليات أمريكا، يشجع الطلاب المتفوقون في العلوم على السعي للحصول على الدكتوراه. ويقضون سنوات يعملون من أجل الحصول على درجاتهم العلمية، ويشرف كثير منهم على العقد الرابع من عمرهم بحلول الوقت الذي يحصلون فيه على درجاتهم العلمية. ومع الأسف، سرعان ما يعي هؤلاء الخريجون الجدد أن عددًا كبيرًا جدًّا منهم يتنافسون على عدد قليل جدًّا من المناصب الجامعية الدائمة. ففي مجال الطب الحيوي، يُقدَّر أن أقل من واحد من بين كل ستة خريجين حاصلين على الدكتوراه سينجح في الحصول على مثل هذا المنصب. وهذا يعني أن أكثر من ٨٠ في المائة لن يحصلوا أبدًا على الوظيفة التي تدربوا من أجلها وهي مباشرة بحوثهم الأصلية وقيادة فريق من الباحثين الأصغر سنًّا. لكن ما يحدث هو أن كثيرًا من العلماء الذين يعملون «باحثين ما بعد الدكتوراه»، وهو مصطلح يشير إلى العلماء الناشئين الذين يعملون لدى أساتذة جامعيين دائمين بينما ينتظرون تأمين منصب دائم قد لا يتحقق أبدًا، يجدون أنفسهم يقضون سنوات طويلة في مهب الريح.

إن باحثي ما بعد الدكتوراه بالأساس هم هؤلاء العمالة الرخيصة التي تلقت تعليمًا متميزًا للغاية وتعمل بتوجيه من تلك القلة من الأساتذة المبجلين الذين يعتلون قمة الهرم البحثي، والذين يزيدون المشكلة تعقيدًا إذا أصبحوا مترددين بشأن التقاعد. وقد أظهرت دراسة عام ٢٠١٨ استعرضت بيانات حوالي ١٤ ألف باحث ما بعد الدكتوراه أن متوسط الراتب السنوي كان ٤٧٤٨٤ دولارًا، مما يشير إلى أن نصف الباحثين كانوا يحصلون على أقل من هذا، وبعضهم ربما يحصلون على رواتب سنوية منخفضة تصل إلى ٢٣٦٦٠ دولارًا. وثبت أن مستويات الدخل هذه غير مقبولة بالنسبة لكثير من الأشخاص في الثلاثينيات والأربعينيات من العمر، تلك المرحلة التي يُحتمَل أن ينجبوا فيها أطفالًا ويؤسسوا عائلاتهم الخاصة. أضف إلى الأجر المنخفض الأمان الوظيفي الهزيل وعدم وجود ضمان للتقدم؛ ومن ثَم لا عجب في أن يترك العديد من ألمع العلماء الشباب الأوساط الأكاديمية للبحث عن وظائف في الصناعة أو في وول ستريت تدفع رواتب أعلى بخمس أو عشر مرات.

كشف استطلاع للرأي أجرته دورية «نيتشر» في عام ٢٠٢٠ أن ٥٥ في المائة من الباحثين في الطب الحيوي لديهم نظرة سلبية فيما يتعلق بفرص عملهم. هؤلاء هم المهنيون المتميزون المتفانون المدربون جيدًا، وكانوا ذات يوم الطلاب المتفوقين الذين كرسوا أكثر من عقد من حياتهم طلبًا للعلم. حتى الشخصيات المشهورة مثل إيمانويل شاربنتييه، التي فازت بجائزة نوبل في عام ٢٠٢٠ عن أبحاثها حول تقنية كريسبر كاس ٩، أمضت ٢٥ عامًا من حياتها المهنية تتنقل بين مختلف المناصب في تسع مؤسسات مختلفة قبل أن تستقر في منصب مديرة في معهد ماكس بلانك لبيولوجيا العدوى في برلين في عام ٢٠١٥. كذلك عملت كاتالين كاريكو، التي أدت أبحاثها عن الحمض النووي الريبوزي المرسال إلى اللقاحات الثورية التي تحمي الكثير منا اليوم، في الظل لسنوات مع قلة الدعم المقدم من المعاهد الوطنية للصحة أو جامعتها. وتشهد حقيقة أنها لم تتخلَّ عن عملها في وسط الطريق على عزمها، وقد سار كثيرون غيرها على الدرب نفسه.

نتيجة للصعاب التي يواجهها كثير من الباحثين الشباب طويلًا، يتعرضون للاحتراق الوظيفي ويلجئون إلى الاستقالة أو الانتقال إلى وظائف أخرى. ونتيجة لذلك، أصبح ما يقرب من نصف باحثي ما بعد الدكتوراه في أمريكا من الأجانب الوافدين من بلدان مثل الصين. فيبدو أن هؤلاء المهاجرين أكثر استعدادًا لقبول الأجور المتواضعة والآفاق الضئيلة التي لن يقبلها كثير من الأمريكيين. ولكن حتى هذا بدأ يتغير الآن. فمع لحاق بلدان مثل الصين بالولايات المتحدة في العلوم والتكنولوجيا، بل التفوق عليها في بعض المجالات الأخرى، أصبح عدد الأجانب المستعدين للقدوم في تضاؤل. بل يبقون في بلدانهم الأصلية التي تستفيد من مواهبهم.

لدى أمريكا تقليد بالٍ يتمثل في استيراد العلماء العظماء. كان الأساتذة الجامعيون الأوروبيون الذين فروا من النازيين جزءًا لا يتجزأ من مشروع مانهاتن. كما أدت الحرب الباردة إلى تخفيف قيود الهجرة للسماح بتدفق موجة من الأطباء والمهندسين والعلماء من آسيا في الستينيات والسبعينيات. ولكن في هذا القرن، سيكون من غير الحكمة الاعتماد على استيراد عباقرتنا من الخارج. من الأجدى تطوير المواهب المحلية ورعايتها. فلا يكفي فقط تشجيع الطلاب على أن يصبحوا علماء، بل يجب أيضًا أن نظهر التزامنا بنجاحهم من خلال دفع مقابل مادي مناسب لهم، وتمويل المزيد من مقترحاتهم، ومنحهم مسارات آمنة لوظائف يستمرون من خلالها في استخدام مواهبهم للقيام بالاكتشافات.

الصورة ليست بهذه القتامة. فمجتمعنا الرأسمالي يقيم مؤسسات هادفة للربح يمكن أن تكون قوًى فاعلة للابتكار. فقد طورت شركات مثل موديرنا وفايزر وبيونتيك وجونسون آند جونسون، وليس المختبرات الحكومية، لقاحات فعالة ضد كوفيد-١٩ أسرع مما كان متوقعًا في السابق. وتسير المنظومة على أفضل نحو عندما تتعاون الكيانات العامة والخاصة؛ على سبيل المثال، أدت المنح الفيدرالية الكبيرة المقدمة للشركات الخاصة المذكورة أعلاه إلى تسريع عملية تطوير لقاح كوفيد-١٩ بدرجة كبيرة. ستظل الحكومة دائمًا تلعب دورًا مهمًّا؛ لأن الشركات الخاصة لا تولي اهتمامًا كبيرًا لأبحاث الأمراض النادرة التي لن تكون علاجاتها مربحة أبدًا. يجب أن نعتمد أيضًا على البحث الممول من الحكومة لاستكشاف اتجاهات البحث العلمي الأساسي التي ليس لها تطبيقات واضحة في الوقت الراهن لكن ربما تكون ذات قيمة في المستقبل.

هناك أيضًا جانب مشرق آخر يتعين علينا النظر إليه. حتى القرن الماضي، كانت نصف البشرية تقريبًا مستبعدة من صفوف العلماء المكتشفين. في الواقع، كان يسمح للرجال فقط بأن يصبحوا أطباء وعلماء على مدى قرون. وقد كانت ريادة النساء أمثال ماري كوري وفرانسيس كيلسي ريادة مضاعفة لأنهن نجحن في عالم الرجال. وكان عام ٢٠١٩ هو المرة الأولى التي تشكل فيها النساء أكثر من نصف طلاب الطب في الولايات المتحدة. وسيشهد هذا القرن عشرات الاكتشافات المهمة على يد أجيال من العالمات اللاتي يتطلعن إلى ترك بصمتهن. وسيستمددن الإلهام من مبتكرات مثل كاريكو، وشاربنتييه، ودودنا. لقد كان على البشرية أن تضاعف أصولها في الحرب على المرض منذ زمن طويل. فحتى وقتنا هذا، كنا نحارب بيد واحدة والأخرى مقيدة خلف ظهورنا.

لم يكن التأخر في منح المرأة فرصة دخول مجال العلوم الخطأ الوحيد الذي ارتكبته البشرية. لقد رأينا كيف أن الاكتشافات الطبية غالبًا ما تكون عرضة لزلات البشرية وعيوبها. لقد أفسدت مشاعر الحسد والمصلحة الشخصية والهواجس العلاقات بين مكتشفي الإنسولين بانتنج وبيست وماكلاود وكوليب. وتحارب كل من كروفورد لونج وويليام مورتون وهوراس ويلز وتشارلز جاكسون لسنوات في محاولات يائسة للاستئثار بالفضل في اختراع التخدير. وواجه هوارد فلوري سيلًا عارمًا من المعلومات المضللة والتأييد الصحفي المفرط لألكسندر فليمنج بينما كان يأمل عبثًا في نيل التقدير الملائم لاكتشاف البنسلين. إلى أي مدًى كانت هذه العقول الموهوبة ستصبح أكثر إنتاجية لو كانت قد تفرغت تمامًا للعلوم، بدلًا من السعي لخطف الأضواء بعضهم من بعض أو الاستئثار بالفضل؟

في الوقت نفسه، يجب الاعتراف بأنه ليس من الضروري أن تؤثر كل رذيلة بالسلب على العلوم. فالتنافس، على سبيل المثال، من شأنه أن يحفز المتنافسين على التفوق. كانت هناك خصومة بين جوناس سولك وألبرت سابين، ولكن لا شك أن المنافسة بينهما دفعت كلًّا منهما للتفاني من أجل تطوير لقاحات لشلل الأطفال في أسرع وقت ممكن. كما جاء رد لويس باستور على عدوانية روبرت كوخ بالتفوق على غريمه في الاكتشافات. فحتى بعد اكتشافه للميكروبات ولقاح الجمرة الخبيثة الذي رسخ مكانته في العالم العلمي، واصل باستور سعيه بإصرار، وارتقى إلى آفاق أعلى باكتشافات مثل لقاح داء الكلب.

ومع ذلك، فالمكاسب التي يمكن أن نجنيها من تعاون العلماء معًا تفوق ما يمكن أن نجنيه من التنافس في القرن الحادي والعشرين. وبما أن العولمة تجعل العالم أصغر على كل المستويات، تتزايد أهمية التعاون الدولي؛ لأن المخاطر الآن أعلى من أي وقت مضى. فقد صار بإمكان الأوبئة أن تنتقل عبْر المحيطات في يوم واحد؛ كل ما يتطلبه الأمر هو رحلة جوية واحدة. وقد أسهم التعاون بين العلماء الصينيين الذين شاركوا على الفور التسلسل الجيني لفيروس كوفيد ١٩ مع العالم في تطوير لقاح حمض نووي ريبوزي مرسال فعال في غضون ٤٢ يومًا فقط. بالمقابل، هددت أفعال العلماء الصينيين المارقين بقلب القواعد والمعايير الدولية المتعلقة بإنتاج البشر المعدلين وراثيًّا. لم يكن هناك وقت أكثر أهمية من الآن لعلماء العالم للعمل معًا والالتزام بقواعد أخلاقية أساسية قد تتجاوز حتى سياسات حكوماتهم الوطنية.

نحن الآن على أعتاب تحقيق تطورات في الرعاية الصحية ستتفوق حتى على الإنجازات المدهشة التي تحققت خلال القرنين الماضيين. نحن نستهدف عالمًا يتيح فيه الطب التجديدي لضحايا إصابات الحبل الشوكي المشي مرة أخرى، ويستغل فيه الذكاء الاصطناعي لتقديم تشخيص سريع ودقيق لعدد لا يحصى من الحالات، ويوفر فيه العلاج الجيني علاجات للأمراض الوراثية ويقلل خطر الإصابة بأمراض القلب، وتعالج فيه اللقاحات السرطان وتمنعه، وتستخدم فيه الخلايا الجذعية لزراعة الأعضاء التي يُتَبرَّع بها. بعد مائة عام من الآن، سنحقق نتائج أفضل في إبطاء الشيخوخة وتأجيل الموت. فقد اكتُشف «جين ميثوسيلا» (شكل من أشكال الجين المشفر البروتين الناقل لإسترات الكوليسترول CETP) الذي يشيع أكثر لدى المعمرين ووجِد أنه يرفع البروتين الدهني العالي الكثافة (الكوليسترول النافع). قد تؤدي دراسة هذا الجين في النهاية إلى ابتكار أدوية علاجية تحاكي أفعاله. يهتم الباحثون في مجال مكافحة الشيخوخة أيضًا بالتيلوميرات، وهي أغطية من الحمض النووي المتكرر تقع في نهايات الكروموسومات وتحمي الكروموسومات من التلف. تصبح التيلوميرات أقصر مع كل انقسام خلوي؛ لذا فإن طولها يعمل بمنزلة مؤقت لحياة الخلية، سيصل إلى نقطة الصفر في النهاية، مما يشير إلى موت الخلية. من خلال تمديد التيلوميرات أو الحفاظ عليها، ربما من خلال تعزيز نشاط إنزيم الإصلاح الطبيعي المسمى «تيلوميريز»، يأمل العلماء في اكتشاف طرق لإطالة حياة الخلايا؛ ومن ثَم إطالة العمر البشري.

ستتجاوز الإمكانيات خيالنا. فكما كان من المستحيل على لويس باستور التفكير في عمليات نقل الوجه، أو الجراحة داخل الرحم، أو تقنية كريسبر، قد تتجاوز اختراعات المستقبل قدرتنا الحالية على الفهم. يجب علينا الآن، أكثر من أي وقت مضى، أن نشجع الطلاب على تكريس أنفسهم للعلوم. في الوقت نفسه، ستصبح الإنسانية أكثر أهمية؛ ومثلما يحتم التقدم العلمي إجماعًا عاجلًا حول التساؤلات الأخلاقية مثل تعديل الجينات في الخط الجرثومي، لا بد أن نحافظ على تلك الخصائص الفريدة التي تجعلنا بشرًا وندافع عنها. لا يمكننا الاندفاع بتهور نحو التقدم العلمي إذا كان ذلك سيجعلنا نفقد ولو جزءًا ضئيلًا من إنسانيتنا.

نجاح الجنس البشري ليس مضمونًا. فتاريخ العالم، كما نعرفه اليوم، يشكل لحظات قصيرة جدًّا في عمر كوكبنا. وقد اتخذ البشر بالفعل العديد من الخطوات للخلف، من سقوط الإمبراطوريات إلى الدمار الهائل الذي خلفته الحروب العالمية. وأصبح بإمكاننا الآن تدمير الأرض وتدمير أنفسنا. والمشكلات مثل التغير المناخي والسمنة تدفع كثيرين للاعتقاد بأننا في طريقنا للقيام بذلك بالفعل.

سيتعين على أعضاء الجيل القادم تحمل مسئولية الابتكار العلمي، مع العلم بأن التقدم الطبي ليس مضمونًا. فالأمر يتطلب التفاني، والمثابرة، وخيال المتمردين الجدد للمضي قدمًا نحو مجالات جديدة من الاكتشاف. لا بد أن يكون ميراثنا للأجيال القادمة هو هدية التعلم. أن نزودهم بالمعرفة حول الصحة والمرض والأخلاق. أن نشارك قصص أبطال الطب السابقين الذين غيروا حياتنا جميعًا. يجب أن يواجه أطفالنا وأحفادنا تحديات هذا القرن والقرن القادم للتوسع في التقدم المدهش الذي أحرزناه. ففي غمضة عين، سيكونون أطباءنا وجراحينا. ولا يمكن التنبؤ بمن منهم سيحقق الفتح العلمي الحاسم التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤