مرض القلب
كان ريتشارد في شبابه يُدخِّن ثلاثَ علب من السجائر يوميًّا في ظل عمله في وظيفة مُرهِقة. وفي ليلة من ليالي صيف ١٩٧٨، ولم يكن قد تجاوز السابعة والثلاثين من عمره، استيقظ ريتشارد وهو يشعر بوخز في إصبعَين من أصابع يده اليسرى. قرَّر التوجُّه إلى قسم الطوارئ حيث فَقَد وعيه بعد وصوله بقليل. وعندما استفاق، أخبره الطبيب أنه أصيب بنوبة قلبية.
كانت هذه صدمة بالنسبة إليه. فطالما اعتَبَر ريتشارد نفسَه رياضيًّا وفي صحةٍ جيدةٍ جدًّا. أمره الطبيب بملازمة الفراش والراحة، وظل في المستشفى أحد عشر يومًا.
واصل ريتشارد حياته وهو يعمل في مجال كان يحبه، لكن يبدو أنه كان يزداد إرهاقًا مع كل موسم. ومع ذلك، استمرَّ في تحقيق النجاح والازدهار فيه برغم الضغوط، وكانت عقليته تعكس عقلية شاب في مقتبل العمر؛ فقد كان يَرى نفسَه لا يُقهَر وأصغر بكثير مِن أن يُعانِي مِن مُشكلة خطيرة أو مرض مِن شأنه أن يقيد أنشطته أو عمله أو حياته. بدأ ينظر إلى النوبة القلبية التي أُصِيب بها باعتبارها مشكلة حَدثَت وانتهى أمرُها؛ مشكلة تَمَكن من حلها من خلال النظام الغذائي والرياضة.
بعد ست سنوات، شعر ريتشارد بألم خفيف في صدره وحلقه. ذهب إلى المستشفى للفحص؛ كان تخطيط كهربية القلب طبيعيًّا، ولكن أظهرت تحاليل إنزيمات القلب أنه أُصِيب بنوبةٍ قلبية ثانية خفيفة. وبعد أربع سنوات، استيقظ مبكرًا في صباح أحد الأيام على ألم في الصدر. كانت هذه نوبة قلبية أخرى. وأظهرت القسطرة وجود جلطة في الشريان التاجي الأيمن، وأظهر مخطط صدى القلب أنه فقد ٣٠ في المائة من وظائف القلب الطبيعية.
عندئذٍ، أدرك ريتشارد أنه يعاني مِن مرض خطير جدًّا يمكن أن يَقتله يومًا ما، ربما أقرب مما كان يتصور. لم يكن قد تجاوز ٤٧ عامًا، وكان لديه زوجة وابنتان رائعتان، ولم يستطِع تخيُّل أنه لن يكون موجودًا لرعايتهن. لم يرغب ريتشارد أيضًا في إبطاء مسيرته المهنية، وأبغَضَ العيش في خوفٍ دائم من أزمة قلبية أخرى. لذا، وافق ريتشارد عندما اقترح طبيبه أن يخضع لجراحة المجازة التاجية الرباعية (أي تحويل مسار أربعة أوعية دموية) لتحسين قدرته على أداء التمارين الرياضية على أمل أن يؤدي ذلك إلى إطالة عمره. ولحسن الحظ، سارت الجراحة على ما يُرام وخرج ريتشارد من المستشفى بعد سبعة أيام من العملية.
بعد فترة وجيزة من ذلك، بدأت حالة ريتشارد الطبية تجذب الكثير مِن الاهتمام مِن قِبَل أشخاص خارج عائلته المباشرة وحتى مِن الصحافة. وكان ذلك لأنَّ الرئيس جورج إتش دبليو بوش قد رشحه لمنصب جديد، وهو وزير الدفاع للولايات المتحدة.
•••
شغل ريتشارد «ديك» تشيني سابقًا منصب كبير موظفي البيت الأبيض في عهد جيرالد فورد، وكان في الرابعة والثلاثين من عمره. أصيب بأول أزمة قلبية خلال أول سباق يخوضه في انتخابات الكونجرس في وايومنج، وفاز به. في جلسة مصادقة مجلس الشيوخ على تعيينه وزيرًا للدفاع في عام ١٩٨٩، أدلى الدكتور ألان روس، طبيب القلب المعالج له، بشهادة تفيد ﺑ «عدم وجود أي قيود وظيفية تحد من قدرات تشيني على الإطلاق، كما أن التوقعات المتعلقة بمصيره لا تختلف كثيرًا عن الرجال في نفس الفئة العمرية وليس لديهم تاريخ مرضي سابق مع أمراض القلب … لا أرى أي سبب طبي يمنعه من أداء واجبات وظيفته على أكمل وجه في أعلى المناصب العامة وأكثرها حساسية.»
غير أن رحلة ديك تشيني الطبية كانت لا تزال في بدايتها، وكان مُقدَّرًا له أن تكون قصته قصة رجل حالفه الحظ واستفاد مِن كل تطوُّر جوهري شهده طب القلب في النصف الأخير من القرن الماضي، تلك التطورات التي بدت أحيانًا كأنَّها ظهرت في المشهد في الوقت المناسب تمامًا لإنقاذ قلبه المتضرر.
بعد خضوع تشيني لجراحة مجازة الشريان التاجي، شغل منصب وزير الدفاع ومنصب الرئيس التنفيذي لشركة «هاليبرتون»، كما اختير نائبًا للمرشَّح الرئاسي جورج دبليو بوش. وفي الثاني والعشرين من نوفمبر عام ٢٠٠٠، في خضم المعركة القانونية التي أعقبت الانتخابات لتحديد الفائز في الانتخابات التي خاضها بوش وجور، عانى تشيني مرة أخرى مِن ألمٍ في الصَّدر ليلًا، وكانت هذه رابع أزمة قلبية تُلِم به. كشفت القسطرة عن ضِيقٍ جديدٍ حادٍّ في أحد فروع الشريان الأمامي النازل المتفرع من الشريان التاجي الأيسر، ويُسمَّى الشريان التاجي القطري. كان هذا يسبب إقفارًا شديدًا، أي عدم كفاية إمدادات الدم إلى القلب. ولمعالجة ذلك، أجرى طبيب القلب المعالج لتشيني رأبًا للأوعية الدموية باستخدام قسطرة لتركيب دعامة واستعادة تدفق الدم الطبيعي.
في التاسع من ديسمبر عام ٢٠٠٩، بعد انتهاء مدته الأخيرة كنائب للرئيس، وعودته إلى الحياة المدنية العادية في وايومنج، كان تشيني يقود سيارتَه للخروج من المرأب حين فَقَد الوعي. اصطدمت سيارته بصخرة كبيرة في الحديقة الأمامية. فهرع عملاء الخدمة السرية إلى السيارة وطرقوا على النوافذ؛ لأن أبواب السيارة أغلقت تلقائيًّا. استعاد تشيني الوعي، دون أن يدري بما حدث، لكنه كان مصابًا بكدمة في الجبهة من جراء الاصطدام بمقود السيارة.
في المستشفى، كشفت البيانات من جهاز وقف الرجفان ومقوم نَظْم القلب المزروع داخل جسم تشيني أنه دخل في نوبة من الرجفان البطيني التلقائي؛ إذ بلغ معدل نبضات القلب ٢٢٢ نبضة في الدقيقة في الساعة الثالثة وإحدى عشرة دقيقة مساءً. عند اكتشاف الجهاز لهذا الاضطراب، استعد لإعطائه صدمة كهربية وأطلق ٣٤٫٥ جول من الطاقة إلى قلبه لاستعادة نظم القلب الطبيعي. استمرت النوبة ١٦ ثانية. وأنقذ الجهاز حياة تشيني.
لكن بحلول هذه اللحظة، كان قلب تشيني قد تضرر بشدة، حتى إنه بدأ يعاني من أعراض تقليدية لقصور القلب في المرحلة الأخيرة. وأدى عجز قلبه عن ضخ ما يكفي من الدم نحو جميع أجزاء جسمه إلى ضِيق في التنفس بسبب تراكم السوائل في رئتيه. وعانى من الإعياء وتورم القدمين. فلم يستطِع صعود الدرج أو السير عبر الممر المؤدي إلى مدخل المنزل لاستلام الصحيفة الصباحية. كان يشعر بالإرهاق الشديد، حتى إنه كان بالكاد يستطيع النهوض من الفراش. وبسبب استخدامه لمضادات التخثر لمنع تكوين الجلطات في قلبه وساقيه، كان عرضة لنزيف الأنف الشديد. وفي بعض الأحيان، كان هذا النزيف يسوء لدرجة كانت تستدعي نقله إلى المستشفى لإجراء نقل دم. في الوقت نفسه، بدأ الكبد والكليتان التعرض لقصور بسبب نقص التروية الدموية.
لقد كان ديك تشيني يُحتضَر.
صارت البطارية العنصر الأهم في عالم تشيني. كانت حياته تعتمد عليها، وكان يذهب إلى كل مكان مصطحبًا حقيبة يد أو حقيبة سفر بعجلات مليئة بالبطاريات الإضافية والمكونات الاحتياطية. أو كان يحاول فعل ذلك. ففي إحدى المرات، أثناء القيام ببعض المهام في المدينة، أخذت بطاريته تصدر صفيرًا في إشارة إلى أن الطاقة المتبقية لا تكفي إلا لعشر دقائق. وفزع تشيني حين أدرك أنه نسي بطاريته الاحتياطية في المنزل، الذي يبعد عنه حوالي عشرين دقيقة. فاتصل على الفور بابنته ماري، التي تصادف أن كانت في زيارة لمنزله في ذلك الوقت، وأخبرها أن تأخذ البطارية وتلتقي به في نقطة في منتصف الطريق بينهما. ووصلت البطارية في الوقت المناسب.
لم يحظَ ديك تشيني بأي اعتبار خاص حين كان مدرجًا في قائمة انتظار زراعة القلب. فقد أمضى ٢٠ شهرًا في انتظار قلب جديد (ما يقرب من ضِعف متوسط المدة الزمنية للانتظار)، وخلال هذه الفترة، كان اسمه يتقدَّم تدريجيًّا في قائمة لا تعتمد على مكانه في طابور الحالات فحسب، ولكن أيضًا على نوع فصيلة الدم، وحجم الجسم، ودرجة الحاجة للتدخل الطبي؛ إذ كانت الحالات المرضية الأشد خطورة تنتقل إلى أعلى القائمة.
في ٢٣ مارس ٢٠١٢، تلقى تشيني مكالمة ليلية لإبلاغه بأن هناك قلبًا متاحًا. أجريت العملية بنجاح في مستشفى إينوفا فيرفاكس في فيرجينيا، الأمر الذي منح تشيني فرصة جديدة ليحيا عدة سنوات أخرى مع عائلته. كانت رحلة علاجه الفريدة قد امتدت منذ أول نوبة قلبية أصيب بها عام ١٩٧٨، حين كان العلاج الأساسي له هو التزام الراحة في السرير، واستمرت لتشهد تطوُّر العديد من الإجراءات الطبية التي استفاد منها، وفي ذلك القسطرة القلبية ورأب الأوعية الدموية وجراحة مجازة الشريان التاجي وزراعة القلب. ففي غضون ٣٠ عامًا ونيف فقط، شهدت العلاجات المتاحة لضحايا النوبات القلبية تحسُّنًا كبيرًا. جاءت هذه التطورات مدفوعة بالعمل الشجاع الذي قام به الأطباء والجراحون المغردون خارج السرب، ممن كانوا يطمحون إلى حل لغز القاتل الأول في العالم: أمراض القلب.
خصم صامت وغامض
في بداية القرن الماضي، لم يكن الموت المفاجئ لأشخاص في منتصف العمر أمرًا غير مألوف. فكانوا يبدون بخير في لحظة، ثم ينهارون فجأة ويموتون خلال بضع دقائق. لم يكن الأطباء يستوعبون ما يحدث داخل هؤلاء الأفراد التعساء الحظ. وخمن الممارسون الحاذقون أن المشكلة تكمن بطريقة ما في فشل القلب — لا سيما أن الضحايا غالبًا ما كانوا يعانون من ألم شديد في الصدر ويجدون صعوبة في التنفس خلال سكرة لحظاتهم الأخيرة — وكان تخمينهم صحيحًا، ولكن الأطباء كانوا عاجزين عن شرح الفسيولوجية المرضية لهذه الحالة.
لآلاف السنين، كانت آليات عمل القلب نفسِه محاطة بالغموض أيضًا. لم يكن الوصول إلى هذا العضو ممكنًا؛ إذ كان مخفيًا داخل مركز الصدر، يحاوطه جدار من الضلوع، ومن المستحيل فحصه أثناء حياة الفرد. في الواقع، لم يكن كشف أسرار القلب شاغلًا مُلِحًّا للممارسين في القرون الماضية. فقد كانت الأمراض المعدية أشد فتكًا بكثير، كما أن العمر لم يكن يمتدُّ بمعظم الناس بما يكفي للإصابة بأمراض القلب؛ ففي الولايات المتحدة، كان متوسط العمر المتوقع في عام ١٩٠٠ هو ٤٧ عامًا فقط. ولكن بحلول عام ١٩٣٠، زاد متوسط العمر المتوقع للأمريكيين إلى ٦٠ عامًا، وأصبحت أمراض القلب السبب الرئيس للوفاة. واليوم، تُعَد أمراض القلب مسئولة عن نحو ٢٥ في المائة من إجمالي الوفيات في الولايات المتحدة، بما يعادل نحو ٦٥٩٠٠٠ حالة وفاة في السنة، وهو ما يزيد على أعداد الوفيات الناتجة عن جميع أنواع السرطان مجتمعة.
يُعدُّ القلب مضخة فعالة حدَّ الإدهاش، تدفع ٦٠٠٠ لتر من الدم إلى جميع أنحاء الجسم كل يوم. وبقيامه بذلك، فإنه يؤدي الوظيفة الأساسية المتمثلة في توصيل الأكسجين والمغذيات إلى جميع أنسجة الجسم. في الظروف العادية، يدخل الدم غير المؤكسج، العائد عبر الجهاز الوريدي إلى القلب المكون من أربع حجرات، إلى الأذين الأيمن ويمر عبر الصمام الثلاثي الشرفات إلى البطين الأيمن. ومن هناك، يخرج الدم مؤقتًا من القلب عبر الشريان الرئوي الذي يتفرع إلى فرعين ويُرسل فرعًا إلى كل رئة. يتفرع هذان الفرعان مرة أخرى إلى شبكات معقدة من أوعية دموية متضائلة في الحجم؛ إذ تتدرَّج مِن شرايين ثُم إلى شُرَيِّينات ثُم إلى شُعَيرات دموية رقيقة جدًّا حتى إنها تُحتِّم على كريات الدم الحمراء الفردية المرور من خلالها في صف أحادي؛ الواحدة تلو الأخرى. تحيط جدران هذه الشعيرات الدموية بالحويصلات الهوائية في الرئتين وتندمج معها، وهذه الحويصلات هي عناقيد دقيقة أشبه بعناقيد العنب توجد في نهايات الشجرة القصبية. يمر الهواء المستنشَق في الملايين من الحويصلات الهوائية بعملية تبادُل للغازات خلال كل نفَس من أنفاس الحياة، حيث يرتبط الأكسجين ببروتين الهيموجلوبين الموجود داخل كل كُرَيَّة دم حمراء، وفي الوقت نفسه يُفرغ حمولته من غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يُطرد خلال عملية الزفير.
يزداد سُمك الشعيرات الدموية وتلتحم بالأوعية الدموية الأخرى، كعدد مهول من روافد نهر عظيم، لتصب في نهاية الأمر في الأوردة الرئوية الكبيرة التي تعيد الدم المؤكسج حديثًا إلى الأذين الأيسر في القلب. من الأذين الأيسر، يمر الدم عبر الصمام الميترالي إلى البطين الأيسر، وهو تجويف أكبر حجمًا له جدران عضلية مناسبة تمامًا لدفع الدم لأعلى إلى الشريان الأبهر الذي يوزع الدم المؤكسج لأبعد أجزاء الجسم وأطرافه.
قد يكون من الأدق أن نصف هذه المضخة الرائعة بأنها عضلة موثوقة للغاية، تعمل بواسطة بطارية دائمة قادرة على الاستمرار طوال العمر. هذه البطارية هي العقدة الجيبية الأذينية، وهي مجموعة مترابطة صغيرة من الخلايا المتخصصة في جدار الأذين الأيمن، تُولِّد تلقائيًّا نبضات كهربائية لتعمل منظِّمًا لضربات القلب. يمكن للخلايا القلبية التي تستجيب لمتطلبات العقدة الجيبية الأذينية العمل بصورة طبيعية بمعدل يتراوح بين ٦٠ و١٠٠ انقباض في الدقيقة وأكثر بكثير حسب الحاجة. والسمة الرئيسة المميزة لهذه الخلايا هي وجود عدد كبير من الميتوكوندريا، المعروفة لدى كل طالب في المرحلة الثانوية بأنها «محطة الطاقة في الخلية». هذا التركيز العالي للميتوكوندريا والقدرة الفائقة على الانقباض لهما ثمن، يتمثل في حدوث اعتماد شديد على «الأيض الهوائي»، أو الأيض الذي يعتمد على الأكسجين.
المتمرد
في عام ١٩١٢، قدَّم اختصاصي أمراضٍ باطِنة في شيكاغو يُدعَى جيمس هيريك ورقة بحثية جديدة حملت فكرة جديدة خلال الاجتماع السنوي لرابطة الأطباء الأمريكيين. اقترح هيريك أن الموت القلبي المفاجئ يحدث عندما تسد خثرة، أو جلطة دموية، أحد الشرايين التاجية وتمنع الدم الغني بالأكسجين من الوصول إلى عضلة القلب، وهو ما يؤدي إلى موت الأنسجة. وقد استاء هيريك من أن عرضه التقديمي لم يلقَ سوى النزر اليسير من التفاعل من جانب الجمهور.
وقد كتب لاحقًا يقول إن فكرته «بدت عديمة القيمة». فلم يعترف أحد بأنها كانت النظرية الرائدة (والصحيحة) على الرغم من أنها كانت كذلك بالفعل. ولم يبدأ أقرانه في الالتفات إليها قبل عام ١٩١٨، عندما أعاد هيريك تقديم فكرته مصحوبة بنتائج من تجارب أُجريت على الشرايين التاجية للكلاب. وأُطلِق على الحالة المحيرة التي من شأنها أن تُسقط الشباب رجالًا ونساء في مقتبل حياتهم، احتشاء عضلة القلب. ولأول مرة، بدأ الأطباء في فهم أهمية الشرايين التاجية ودورها في مرض القلب الإقفاري. ولكن بأي وسيلة يمكن دراسة هذه الأوعية الدقيقة الدائمة الحركة وفهمها؟
في عام ١٩٢٩، وضع طبيبٌ ألمانيٌّ شابٌّ تحت التدريب يبلغ من العمر ٢٤ عامًا يُدعَى فيرنر فورسمان نظرية تشير إلى إمكانية إدخال قسطرة إلى القلب عبر وريد في الذراع. ورأى أنه حال نجاح هذا الإجراء، فقد يكون طريقة فعالة لحقن الأذين الأيمن بالأدوية مباشرة. عندما اقترح هذه الفكرة الثورية على رئيس قسمه، الدكتور ريتشارد شنايدر، كان الرد الفوري لشنايدر: «لا يمكنني بأي حال السماح لك بإجراء مثل هذه التجربة على مريض.»
كانت فكرة إدخال جسم غريب مثل القسطرة إلى القلب عمدًا فكرة مجنونة؛ إذ كان الرأي السائد أن القيام بذلك من شأنه أن يسبب اضطرابات في ضربات القلب أو انصمامًا هوائيًّا يمكن أن يقتل المريض.
غير أن ذلك لم يفتَّ في عزيمة فورسمان المندفع، فاقترح بعد ذلك قائلًا: «حسنًا، في هذه الحالة، ثمة طريقة أخرى لإثبات أنها ليست خطيرة. سأجربها على نفسي.»
صُدِم شنايدر، وأصرَّ على رفضه قائلًا: «رفضي نهائي ومطلق.» فمجرد اقتراح فكرة خطيرة وغير مسئولة كهذه أقنعه بأن الشاب المندفع الواقف أمامه يفتقر إلى المنطق والحس السليم.
تظاهر فورسمان بقبول رأي رئيسه، إلا إنه وضع خطة في السر. واعترف في سيرته الذاتية التي نشرها عام ١٩٧٢؛ إذ كتب يقول: «قررت تحدي حظر شنايدر والمضي قدمًا في إجراء التجربة على قلبي، في سرية وبسرعة.»
كان يحتاج أولًا إلى الحصول على قسطرة والأدوات المعقمة التي سيستخدمها لتنفيذ الإجراء، ولكنها كانت تُحفظ في منطقة تخزين مغلقة. كانت المسئولة عن المفاتيح ممرضة تُدعَى جيردا ديتزن. كيف يمكنه كسب تعاونها؟ قرر فورسمان، الطبيب المتدرب الوسيم والمتهور، أن أفضل خيار له هو إغراء الفتاة.
كتب فورسمان: «فوَّت بضعة أيام ثم بدأتُ أحوم حول الممرضة جيردا ديتزن كقط مغرم بالحلوى يحوم حول وعاء من الكريمة. كان من السهل العثور على شيء للثرثرة حوله، وكانت تدعوني في المقابل إلى مكتبها الصغير … وهكذا، تدريجيًّا، استملت مُريدتي الأساسية.» بعد بضعة أسابيع، أصبحت ديتزن مغرمة بفورسمان بشدة، لدرجة أنه قرر أن الوقت المناسب قد حان لتنفيذ خطته. يتذكر فورسمان: «في عصر اليوم التالي، كانت الفتاة الطيبة تجلس في مكتبها عندما دخلتُ في حبور وانشراح، وأنا أصفِّر في فرح.»
قال فورسمان: «ممرضة جيردا، أريد منك أن تعطيني مجموعة من الأدوات لعمل شق في الوريد تحت التخدير الموضعي، وقسطرة حالب.»
ارتابت الممرضة. وتساءلت: «لكن لا أحد في العنبر مُقرَّر له عمل شق في الوريد. أنت لا تخطط لتنفيذ تجربتك رغمًا عن أوامر المدير، أليس كذلك؟»
وهكذا اكتُشف أمر فورسمان، حتى قبل أن يبدأ. لكنه بدلًا من أن يستسلم، قرر المضي قدمًا.
قال فورسمان: «ممرضة جيردا، لستِ في حاجة لمعرفة ما سأفعله. لكن لو افترضنا أنني سأقوم بالتجربة، فستكون آمنة تمامًا.»
قالت الممرضة: «هل أنت متأكد تمامًا من عدم وجود خطورة؟»
أجاب فورسمان «بالتأكيد.»
فكرت ديتزن في هذا ونظرت إلى فورسمان بعناية. وقالت: «حسنًا، فلتُجرِها عليَّ. ها أنا أضع حياتي بين يديك.»
كان هذا التطور الذي اتخذته الأحداث مفاجئًا لفورسمان حتمًا. فقد وجد في ديتزن شريكة متعاونة ومخلصة، وعلى أتم استعداد للمخاطرة بكل شيء من أجله ومن أجل تقدُّم العلوم الطبية. وقبل فورسمان عرضها. فأخذته ديتزن إلى خزانة مغلقة وأخرجت مشرطًا، وأغطية معقمة، ومخدرًا، وقسطرة بولية طويلة ورفيعة مخصصة للاستخدام في المثانة. بعد ذلك، تمددت ديتزن بشجاعة، وربما بشكلٍ مبالغ فيه قليلًا، على طاولة العمليات، ووضعت حياتها تحت رحمة فورسمان. بدأ فورسمان العمل بسرعة، وربط ذراعيها وساقيها، وهو ما فسره بأنها احتياطات تحول دون سقوطها من فوق الطاولة.
لكن فورسمان لم يكن ينوي في الواقع استغلال الممرضة الشابة. كان كل شيء مسرحية، كانت ضرورية لأن الممرضة قد لا توافق على مساعدة فورسمان في إجراء التجربة على نفسه. فوفقًا لفورسمان:
دفعت صينية الأدوات خلف رأسها حتى لا تتمكن من رؤية ما كنت أفعله. وفي غمضة عين، خدرت مرفقي الأيسر … وشققت جلدي سريعًا، وأدخلت إبرة تمدد الأوعية الدموية ديشان تحت الوريد، وفتحته ودفعت القسطرة نحو قدم للداخل. لففت المساحة حول منطقة دخول القسطرة بشاش ووضعت فوقها ضمادة معقمة. ثم فككت يد الممرضة جيردا اليمنى وفككت الأشرطة حول ركبتيها.
هبت ديتزن واقفة في صدمة وهلع، وارتعبت حين شاهدت فورسمان يدفع القسطرة أكثر داخل ذراعه. فصرخت في وجه فورسمان، غاضبة من خداعه لها، لكن فورسمان بقي هادئًا وأمرها بمرافقته إلى جناح الأشعة السينية في الطابق تحت الأرضي من المستشفى. وهناك، صرخ صديق فورسمان وزميله الدكتور بيتر روميس في وجهه ليتوقف عما يبدو أنه سيكون خطأً قاتلًا بالتأكيد. حاول روميس الإمساك بطرف القسطرة لسحبها. يتذكر فورسمان هذه اللحظة بقوله: «اضطُررت أن أعطيه بضع ركلات في الساق لتهدئته.»
شُغِّل جهاز الأشعة السينية. ورأى فورسمان أن طرف القسطرة قد وصل إلى رأس عظم العضد. ثم دفع القسطرة إلى الداخل أكثر، تقريبًا إلى العلامة الواقعة على بُعد قدمين من بداية القسطرة، وأخبر فني الأشعة بالتقاط صورة. وأظهرت الأشعة السينية طرف القسطرة في الأذين الأيمن للقلب.
«لقد قتلناه!»
كان من شأن إنجاز فورسمان في النهاية تغيير الطب إلى الأبد، لكن الوصول إلى القلب وحده لم يقلل من آفة النوبات القلبية التي كانت ولا تزال السبب الرئيسي للوفاة في جميع أنحاء العالم. فقد كانت مكافحة هذا القاتل الصامت تتطلب تصوير الشرايين التاجية التي تغذي القلب والوصول إليها بطريقة ما. ولكن كيف؟ كان الرأي السائد أنَّ أيَّ قسطرة تدخل إلى أحد هذه الأوعية التاجية الدقيقة ستعيق تدفق الدم؛ ومن ثَم ستؤدي إلى حدوث احتشاء فوري لعضلة القلب. علاوة على ذلك، إذا حُقنت صبغة التباين في الشريان التاجي، فستملأ الوعاء بالكامل، وتمنع توصيل الأكسجين من خلال تدفق الدم الطبيعي، ومن المحتمل أيضًا أن تسبب الوفاة.
في ٣٠ أكتوبر عام ١٩٥٨، أي بعد نحو ثلاثين عامًا من تجربة فورسمان الذاتية، كان الدكتور ماسون سونز، رئيس قسم أمراض قلب الأطفال الاستثنائي في مستشفى كليفلاند كلينك، يركِّب قسطرة لرجل يبلغ من العمر ستة وعشرين عامًا لديه تاريخ مرضي مع مرض الروماتيزم القلبي. لتصوير الشريان الأبهر الكائن فوق القلب مباشرة، عزم سونز على إدخال كمية كبيرة من صبغة التباين (٣٠ مليلترًا) بسرعة خلال بضع ثوانٍ معدودة باستخدام «حاقن يعمل بالطاقة» وهو حاقن آلي ميكانيكي. عندما استقر طرف القسطرة في المكان الذي يريده، أعطى سونز سريعًا أمر «التشغيل!» وحقن الصبغة. لكن الاندفاع الأولي للصبغة جعل طرف القسطرة يتأرجح بشكلٍ جنوني كطرف خرطوم الحريق، وما أثار رعب سونز أن صورة الفلوروسكوب قد أظهرت استقرار طرف القسطرة مباشرة داخل الشريان التاجي الأيمن.
«أخرجها!» هكذا صرخ سونز، لكنه كان متأخرًا. كانت الصبغة قد دخلت. كان من المؤكد أن حقن جرعة كبيرة من صبغة التباين السامة في شريان تاجي صغير سيكون قاتلًا، وبالفعل، أصبح الخط الموضح لتخطيط كهربائية القلب للمريض مسطحًا (وهي حالة تسمى «توقف الانقباض»)، في إشارة إلى توقف نبض القلب. بكى سونز قائلًا: «لقد قتلناه!» وفيما يلي روايته التي أدلى بها عن الواقعة في عام ١٩٨٢:
عند بدء الحقن، انتابني الرعب لدى رؤية الشريان التاجي الأيمن وقد أصبح معتمًا بشدة وأدركت أن طرف القسطرة كان في الواقع داخل فتحة الشريان التاجي الأيمن المهيمن … ركضت حول الطاولة بحثًا عن مشرط لفتح صدره من أجل إزالة الرجفان من خلال استخدام أقطاب مزيل الرجفان مباشرة … كان واضحًا أنه يعاني توقف انقباض القلب …
صرخ سونز في المريض في ذعر قائلًا: «اسعل!» على أمل أن يؤدي الضغط المتولد من الرئتين إلى الضغط على الشريان الأبهر ودفع صبغة التباين عبر الأوعية الدموية بصورة أسرع. كان ينوي فتح صدر الرجل بواسطة مشرط لوضع جهاز مزيل الرجفان وتوجيه صدمة للقلب لإعادته للحياة من جديد، ولم يكن ذلك ممكنًا آنذاك إلا عن طريق الاتصال المباشر بالقلب. ولكن قبل أن يبدأ في القطع، بدأ الخط الذي يوضح تخطيط كهربية القلب يتذبذب. ثم عاد النبض. وبعد ذلك بدأ الخط المتعرج يتسارع. يستعيد سونز ما حدث قائلًا: «بعد ثلاث أو أربع سعلات قوية، بدأ قلبه في النبض مجددًا.» وأخيرًا عاد القلب إلى النظم الطبيعي.
عاش المريض. لكن هذا لا يمنع أن سونز قد ارتكب خطأً فادحًا. لقد كاد يقتل شابًّا، وهي حقيقة من شأنها أن تبث في معظم الأطباء روح الخزي النابعة من مراجعة النفس. غير أن ردة فعل سونز جاءت عكس ذلك تمامًا.
فقد أدرك أنه تمكن لأول مرة في التاريخ من تسليط الضوء على إمكانية بقاء المرضى على قيد الحياة بعد حقن صبغة التصوير الإشعاعي في شرايينهم التاجية، وهي الأوعية التي لم تكن تخضع للتصوير الإشعاعي أبدًا أثناء حياة الفرد. بالطبع، لم يكن سونز يرغب في إعادة هذه التجربة المرعبة، لكنه استنتج، وكان استنتاجه صحيحًا، أن حقن محاليل أقل تركيزًا، بكميات أقل، من صبغة التباين سيكون أكثر أمانًا إلى حد كبير. وفي وقت لاحق من ذلك اليوم حين عاد إلى مكتبه، أعلن سونز لموظفيه: «لقد أحدثنا لتوِّنا ثورة في مجال أمراض القلب!» ردت سكرتيرته إلين كلايتون ببهجة: «مرة أخرى؟»
لم يتوقف سونز عند هذا الحد. فقد ساعدت أبحاثه الرائدة التالية في تصوير الأوعية التاجية في وضع مخطط تصويري للشرايين التاجية وأتاحت التصوير المباشر للويحات التصلبية العصيدية الموجودة بداخلها، والتي تؤدي إلى النوبات القلبية، وهو ما يعتبر علامة بارزة أساسية في سعينا للقضاء على أمراض القلب.
تقنية دوتر
في وقت إنجاز سونز، كانت علاجات النوبات القلبية غير موجودة تقريبًا. في سبتمبر ١٩٥٥، أثناء قضاء الرئيس دوايت أيزنهاور عطلته في كولورادو، بدأ يشعر بضيق في صدره أثناء مباراة جولف، وأرجع ذلك العرض إلى عسر الهضم. ذهب إلى النوم مبكرًا، لكن في الساعة الثانية والنصف صباحًا، استيقظ على ألم شديد في الصدر. استُدعِي طبيبه، الذي أعطاه المورفين لتخفيف الألم. لم يفعل الطبيب أكثر من الجلوس بجانب السرير ومراقبة الحالة على مدى تسع ساعات. فلم يُجرِ تخطيطًا لكهربية القلب، لتأكيد إصابة الرئيس بأزمة قلبية، قبل الساعة الواحدة ظهرًا، أي بعد يوم كامل تقريبًا من ظهور الأعراض الأولية. قضى أيزنهاور الأسابيع الستة التالية في المستشفى ملازمًا الفراش. وعانى في النهاية من سبع نوبات قلبية في حياته. وقضت عليه النوبة الأخيرة في عام ١٩٦٩، في الوقت الذي كانت فيه ابتكارات كبرى في مجال رعاية القلب على وشك الظهور.
نحن نعلم الآن أن الحدث الرئيس المسبب للنوبة القلبية لا يتمثَّل ببساطة في ضيق الشريان التاجي، أو في جلطة تتكون في مكان آخر في الجسم وتستقر لسوء الحظ في أحد الشرايين التاجية. فالأمر كله يبدأ بتراكم اللويحات العصيدية على جدران الشرايين. تتكوَّن هذه اللويحات عندما تتضرر البطانة التي تبطن الجزء الداخلي من الشريان، وغالبًا ما يكون ذلك نتاج سنوات من ارتفاع ضغط الدم أو التدخين أو ارتفاع نسبة الكوليسترول. وعلى عكس ما قد يُعتقَد، لا تُعَد اللويحات الكبرى هي الأخطر. فالانسداد المفاجئ للشريان التاجي لا يحدث نتيجة نمو مطرد للويحة، مقلِّصة بذلك فتحة الشريان ببطء. بل يُعَد «تمزق اللويحة» الحدث الرئيس الذي يسبب النوبات القلبية، والذي يظهر على شكل نزيف أو تآكل أو تقرُّح أو تشقُّق في اللويحة. تصبح محتويات اللويحة الممزقة النخرية مكشوفة لمجرى الدم، وتجذب على الفور عوامل تشكيل الجلطات القوية والمواد الكيميائية مثل الصفائح الدموية والثرومبوكسان والسيروتونين. لا يستغرق الأمر إلا بضعَ دقائق حتى تتجمع هذه المكونات وتشكل خثرة تسد الشريان تمامًا. وبمجرد حدوث ذلك، يمكن أن يبدأ موت خلايا عضلة القلب في غضون ٦٠ ثانية. يبدأ جدارُ القلب، الذي يتغذى طبيعيًّا من الشريان المسدود، في الموت كاملًا، ويعتمد مدى الضرر عادة على مدة استمرار الإقفار أو نقص التروية. يؤدي اختلال وظائف القلب أيضًا إلى عدم انتظام ضربات القلب كما في حالة الرجفان البطيني الذي يمكن أن يؤدي إلى الموت المفاجئ.
في عام ١٩٦٣، كان تشارلز دوتر، اختصاصي الأشعة البارز بجامعة أوريجون، يدفع قسطرة داخل الشريان الحرقفي الأيمن لساق مريض عندما فتح عن طريق الخطأ انسدادًا جزئيًّا في الشريان ببساطة عن طريق دفع القسطرة عبره. وسرعان ما أدرك تداعيات هذا الاكتشاف المفاجئ. بعد ذلك طور هو وزميله في التدريب، الدكتور ملفين جودكينز، سلسلة من القسطرات الأكثر صلابة، بأقطار تزداد تدريجيًّا. كانت الخطة تقتضي إدخال أصغر قسطرة أولًا عبر انسداد شرياني، ثم واحدة أكبر من شأنها توسيع الوعاء الدموي أكثر، والمتابعة باستخدام القسطرات الأكبر حجمًا حتى يزول الانسداد تمامًا ويتمكن الدم من التدفق بحرية مرة أخرى. بعد اختبار طريقتهما على الجثث، طبقا تقنيتهما لأول مرة على مريضة تدعى لورا شو في السادس عشر من يناير ١٩٦٤. كانت شو تبلغ من العمر ٨٢ عامًا ومصابة بالسكري، وأدى ضعف الدورة الدموية لديها إلى تقرحات غانغرينية لا تندمل في أصابع القدم، وكانت مؤلمة للغاية حتى في وضع الراحة. أوصى الأطباء ببتر أصابع قدمها، لكنها رفضت. وأرسلت في النهاية إلى دوتر، الذي رأى أن لديها ضِيقًا جزئيًّا معزولًا في الشريان الفخذي السطحي، وهي الحالة المثالية لاختبار قسطراته. سارت العملية على نحوٍ جيد، وبدأت قدم شو تصبح أكثر دفئًا وأقل شحوبًا على نحو شبه فوري. وسرعان ما تحسَّن شعورها بالألم، وفي غضون أسابيع قليلة، شُفِي التقرُّح.
بموهبة مثيرة أشبه بموهبة رجال الاستعراض وبنفورٍ مِن كل ما هو تقليدي، استمتع دوتر بعرض مهاراته في تركيب القسطرة. وفي أحد المؤتمرات، أثناء إلقاء محاضرة عن تركيب القسطرة في القلب، إذا به يعلن فجأة: «لقد كنت أقف هنا وأتحدث إليكم لنحو عشرين دقيقة، وطوال هذا الوقت كنت أضع قسطرة في قلبي.» ثم شمر دوتر كمه وأظهر للجمهور مكان إدخال القسطرة في ذراعه. «الآن سأريكم كيف تبدو القراءة الطبيعية للقلب»، هكذا قال مُستطرِدًا وهو يوصِّل نفسه بجهاز الأوسيلوسكوب ويبدأ في نقل القسطرة إلى غرف مختلفة من قلبه ليظهر كيف تغيرت أشكال الموجات على الشاشة ولماذا تغيرت.
أثارت شخصية دوتر الجريئة وإجراؤه الناجح غضب زملائه الجراحين، الذين كرهوا فقدان المرضى الذين يستخدمون التقنية الجديدة، التي أصبحت معروفة باسم «تقنية دوتر». غير أنهم ظلوا في حاجة إلى مساعدة دوتر في التصوير بالأشعة لتخطيط عمليات مجازة الأوعية الدموية الخاصة بهم. وقد كتب أحد الجراحين إلى دوتر ما يلي بخصوص انسداد الشريان الفخذي للمريض: «صوِّره لكن لا تحاول إصلاحه!» لم يَردَع هذا التحذيرُ دوتر عن التخلص من الانسداد الذي يعانيه المريض على أي حال. لم يفشل دوتر أبدًا في الاستمتاع برواية هذه القصة، وبعد عام من الإجراء، تسلق قمة جبل هود البالغ ارتفاعها ١١٢٥٠ قدمًا مع ذلك المريض، مصطحبًا معه مُصوِّرًا صوَّر فيلمًا سينمائيًّا مقاس ١٦ مليمترًا لتوثيق اللحظة.
لقد طور تشارلز دوتر طريقة جديدة مبتكرة لعلاج مرض خطير. لكن ما لم يدركه هو أن عمله كان مجرد مقدمة ستُمهِّد الطريق للتطور الطبي الأهم في القرن العشرين.
بالون بسيط
في أواخر ستينيات القرن العشرين، حضر الطبيب أندرياس جرونتزيج، من ألمانيا الشرقية، محاضرة حول تقنيات تشارلز دوتر. لم يكن كل الحاضرين منبهرين. كان أحد عيوب طريقة دوتر أن وخز الانسداد بالقسطرة بقوة يتسبب في إزاحة الجلطات العصيدية وإرسالها لمكان أبعد عبر مجرى الدم لتُسبب الإقفار الحاد، الأمر الذي خلق مشكلة أسوأ كانت تتطلب أحيانًا جراحة عاجلة. ولكن طريقة دوتر أوعزت لجرونتزيج بفكرة جديدة. بدلًا من استخدام مجموعة من القساطر المتسلسلة ذات الأقطار المتزايدة لتخترق اللويحات العصيدية بقوة، لماذا لا نحاول فتح شريان عن طريق نفخ بالون بسيط داخله؟ فقد يُحسِّن هذا من التقنية بصورة كبيرة.
أصبح جرونتزيج مهووسًا بفكرة البالون داخل الأوعية الدموية. وعمل سنوات مع زوجته ميكايلا ومساعدته ماريا شلومبف على إجراء تجارب على طاولة المطبخ داخل شقته الصغيرة في زيورخ، لإيجاد طرق لتثبيت بالون على طرف قسطرة. وباستخدام الغراء والخيط واللاتكس والمطاط، جرَّب جرونتزيج كثيرًا من التقنيات لتصميم نموذج مبدئي صالح للاستخدام. ولجأ إلى مُصنِّعي أربطة الأحذية والأشرطة للحصول على أفكار، كما لجأ إلى الكيميائيِّين المتخصصين في المواد البلاستيكية. عند اختبار نماذجه الأولية على الجثث، كانت البالونات تنفجر غالبًا، وإذا لم تنفجر، لم تكن تتمكن من الضغط على المنطقة المصابة بالضيق، بل كانت تتمدد على جانبي الانسداد متخذة شكل ثقل (أو دمبل). كان بحاجة إلى ما أُطلق عليه «جزء قابل للتمدد على شكل قطعة نقانق»، ينتفخ بالتساوي على طوله الكامل وينتج قوة كافية لتقليص التصلب.
جرَّب جرونتزيج تقنيته على شرايين الكلاب القلبية أولًا، وأحرز نجاحًا. وفي عام ١٩٧٤، أجرى ما سيُطلق عليه فيما بعد اسم «رأب الوعاء بالبالون» على إنسان لأول مرة؛ إذ عالج بنجاح شريانًا فخذيًّا متضيقًا جدًّا في ساق رجل يبلغ من العمر ٦٧ عامًا كان يعاني من ألم شديد وموهن كلما مشى. راقب جرونتزيج البالون على شاشة العرض وهو يتمدد ببطء ليوسِّع شريان المريض، مع توسع فوري وواضح للقناة وزيادة في تدفق الدم بعد تفريغ البالون وإزالته. وأكدت الاختبارات بالموجات فوق الصوتية أن إمداد الدم إلى الجزء السفلي من الساق قد تحسَّن إلى حدٍّ كبير. ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى بدأ المريض يمشي في أروقة المستشفى بدون ألم.
في عام ١٩٧٦، سافر جرونتزيج لحضور الاجتماع السنوي لجمعية القلب الأمريكية في ميامي ومعه ملصق يعرض نجاح تجاربه على الكلاب. كان ينوي أيضًا وصف تجربته المبكرة في علاج التضيُّق في شرايين الساق البشرية. ولكن ما أثار استياءه أنه من بين آلاف الأطباء الذين حضروا ذاك الاجتماع الضخم، لم يتوقف سوى عدد قليل جدًّا لإلقاء نظرة على ملصقه أو الاستماع لعرضه التقديمي، وكان معظمهم لا يعتقدون أن هناك فرصة لنجاح تطبيق فكرة جرونتزيج في قلب الإنسان.
لكن رجلًا واحدًا كان يعتقد ذلك، وهو الدكتور ريتشارد مايلر، الذي دعا جرونتزيج إلى مستشفاه في سان فرانسيسكو لتجربة الإجراء في الشريان التاجي لمريض بشري. وفي مايو عام ١٩٧٧، أجرى جرونتزيج ومايلر أول عملية ناجحة لرأب وعاء تاجي بالبالون في العالم على مريض كان يخضع لجراحة المجازة التاجية. وفي وقت لاحق من ذلك العام، في زيورخ، عرض جرونتزيج إجراء رأب للأوعية التاجية «عن طريق الجلد» (من خلال الجلد وليس خلال جراحة قلب مفتوح) على رجل أعمال يبلغ من العمر ٣٨ عامًا يدعى أدولف باخمان، كان يعاني من ألم شديد في الصدر، أو ذبحة صدرية، مع أقل مجهود يبذله. كان العلاج المُوصَى به لهذه الحالة هو جراحة المجازة التاجية بما تتضمنه من مخاطر عديدة وفترة نقاهة طويلة. وعندما اقترح جرونتزيج إمكانية علاج باخمان بإجراء قسطرة أقل اجتياحًا بدلًا من ذلك، وافق باخمان.
في السادس عشر من سبتمبر عام ١٩٧٧، خدَّر جرونتزيج فخذ باخمان ووضع إبرة في الشريان الفخذي. ثم أدخل سلك توجيه معدنيًّا رفيعًا من خلال الإبرة، ووجهها إلى الأعلى داخل الشريان. بعد إزالة الإبرة، ركَّب قسطرة توجيه فوق السلك. وباستخدام دفقات متقطعة من صبغة التباين لرؤية التشريح على شاشة الفلوروسكوب، دفع القسطرة إلى الأعلى في اتجاه الشريان الأبهر للمريض وإلى داخل الشريان الأمامي النازل المتفرع من الشريان التاجي الأيسر. ثم مرَّر قسطرة البالون إلى الأعلى عبر مركز أنبوب القسطرة التوجيهية ودفع البالون داخل الشريان التاجي حتى وصل إلى نقطة التضيُّق.
في هذه اللحظة، لم يكن جرونتزيج والمتفرجون الكُثُر الذين تجمعوا حوله متأكدين مما إذا كانت إعاقة تدفق الدم في الشريان التاجي عن طريق نفخ بالون قد تتسبب في نوبة قلبية أو اضطراب قاتل في ضربات القلب. إلى متى يمكن أن يعيق جرونتزيج تدفق الدم في الشريان التاجي بأمان دون حدوث أضرار؟ هل كان من الأفضل نفخ البالون ببطء أو على نحو أسرع قليلًا؟
نفخ جرونتزيج البالون بلطف. وعن ذلك أفاد لاحقًا:
ما أدهشنا جميعًا عدم حدوث ارتفاع في المقطع إس تي [علامة تظهر عادة على جهاز تخطيط كهربية القلب للدلالة على حدوث أزمة قلبية]، أو رجفان بُطَيني، أو حتى انقباضات خارجة [ضربات قلب غير طبيعية] ولم يكن المريض يعاني أي ألم في الصدر … بعد أول عملية تفريغ للبالون، ارتفع الضغط في الجزء البعيد من الشريان التاجي بشكلٍ جيد. شجعتني الاستجابة الإيجابية على نفخ البالون مرة ثانية لتخفيف تدرج الضغط المتبقي. وفوجئ الجميع بسهولة الإجراء وبدأت أدرك أن أحلامي قد تحققت.
شهد جرونتزيج زيادة فورية في تدفق الدم عبر الشريان. لهث المتفرجون في الغرفة. فقد بدا الأمر معجزة. ففي غضون دقائق، فتح جرونتزيج شريانًا تاجيًّا مسدودًا باستخدام بالون بسيط وقسطرة، وهو ما جنَّب باخمان جراحة القلب المفتوح، وأنقذ حياته على الأرجح. واستمتع باخمان — الذي كان مستفيقًا ويتنفس من تلقاء نفسه طوال وقت تنفيذ الإجراء — براحة فورية مِن آلام الصدر.
عندما عاد جرونتزيج إلى الاجتماع السنوي للجمعية الأمريكية لأمراض القلب بعد عام من عرض ملصقه الذي قوبل بتجاهل كبير، ألقى محاضرة وأظهر صور الأوعية الدموية بالأشعة السينية قبل وبعد الإجراء لأول أربعة مرضَى خضعوا لعمليات رأب الأوعية التاجية. وما أثار دهشة جرونتزيج هو أنه في منتصف عرضه التقديمي، شهد موجة تصفيق تلقائية من الجمهور الكبير من أطباء القلب، سرعان ما تحولت إلى حفاوة وتهليل وقوفًا. كان جميع الحاضرين يعلمون أنهم شهدوا تاريخ الطب وهو يُصنع.
بحلول أوائل ثمانينيات القرن العشرين، كان كثير من الأطباء الرائدين في جميع أنحاء العالم قد اعتمدوا تقنية جرونتزيج علاجًا لمرض الشرايين التاجية. والآن، غالبًا ما يُنقَل المريض الذي يعاني من أزمة قلبية مباشرة من غرفة الطوارئ إلى مختبر القسطرة القلبية، حيث يُمكِن لطبيب القلب التدخلي أن يقوم بعملية رأب الوعاء بالبالون، أو الاستعانة بالطريقة الأكثر شيوعًا، وهي استخدام البالون لتركيب دعامة سلكية مصغرة والتي تكون أكثر نجاحًا في الحفاظ على الشريان مفتوحًا مدة طويلة. بعد الإجراء، يخضع المريض العادي للملاحظة بضعة أيام ثم يُرسَل إلى المنزل. وقد أنقذ اختراع رأب الأوعية بالبالون الذي قدمه جرونتزيج ملايين الأرواح حتى الآن.
ولكن على الرغم من هذا الانتصار، هناك كثير من المرضى يُعانون من حالة حادة من مرض القلب لدرجة أنه لا يمكن علاجهم بصورة فعَّالة باستخدام رأب الأوعية. قد يكون لدى هؤلاء الأفراد كثير من الأوعية التاجية شديدة الضيق، أو ربما تعرضوا لعدة نوبات قلبية ألحقت أضرارًا دائمة ووخيمة بعضلة القلب، لدرجة تؤدي إلى حدوث قصور القلب الاحتقاني. بالنسبة لهؤلاء المرضى الذين يعانون من أسوأ أشكال أمراض القلب، لا تزال الجراحة القلبية تقدم الأمل. ومن السهل أن نرى السبب في أن كثيرين يعدون تطوُّرَ جراحات القلب الحديثة القصةَ الأكثر إلهامًا من بين جميع القصص.
القلب المفتوح
بالنسبة إلى غير الجرَّاحين، بلغت الجراحة القلبية مستوى الإعجاز. فهي ذات طبيعة قاسية ودموية وجميلة. يعمل جرَّاحو القلب ببراعة، وحركاتُهم دقيقة ورشيقة، ولكن الجراحة تنطوي على جوانب عنيفة ومفاجئة: فيُستخدَم منشار قص آلي لتقسيم عظمة القص إلى نصفين من أجل الوصول إلى القلب. يوضع مشبك على شكل الحرف سي مصنوع من الفولاذ المقاوم للصدأ في الفجوة ويُدوَّر البرغي، تمامًا كما في ورشة النجارة، لإبعاد ذراعي المشبك كلٍّ منهما عن الآخر وعمل فتحة صغيرة مُربَّعة، أشبَه بنافذة على القلب.
قبل إجراء التدخل الجراحي على القلب، لا بد من إيقافه. ولتحقيق ذلك، يتم عمل قنوات تحويل في الوريدين الأجوفين العلوي والسفلي، وهما الوريدان الكبيران اللذان يعيدان الدم من الجسم إلى القلب. تحمل هذه القنوات الدم إلى جهاز القلب والرئة الصناعي الذي يمد الدم بالأكسجين، ثم يعيده إلى الشريان الأبهر. بمجرد اكتمال هذا التحويل لمسار تدفق الدم بعيدًا عن القلب والرئتين، يُصَبُّ دلوٌ مِن محلول ملحي مثلج في تجويف الصدر، ويُقطَّر محلول إيقاف القلب المؤقت الغني بالبوتاسيوم داخل الشرايين التاجية لإبطاء القلب وإيقاف نبضاته وتقليل متطلباته من الأكسجين والأيض.
مع توقف القلب، يمكن الشروع في العمل في الحال. تُعتبر عملية مجازة الشريان التاجي أكثر الجراحات القلبية شيوعًا. والهدف منها هو تجاوز الانسدادات في الشرايين التاجية عن طريق خياطة قنوات تحويل جديدة كي يتدفق الدم إلى الشرايين المُتضرِّرة التي تقع بعد نقطة الانسداد. يمكن أن يأتي هذا الإمداد الجديد للدم من شريان آخر، غالبًا أحد الشرايين الصدرية الداخلية التي تقع خلف عظام القص (عظام الصدر) مباشرة، أو عبر وريد مأخوذٍ من الساق يمكن استخدامه لنقل الدم من الشريان الأبهر إلى الشريان التاجي بعد نقطة الانسداد مباشرة.
وكما يمكنك أن تتخيل، ليس من السهل القيام بكل هذا. فباستخدام غرز رقيقة للغاية، وبمساعدة العدسات المكبرة المثبتة على نظاراتهم التي تعطي صورة مكبَّرة ثلاث مرات إلى أربع، يخيط الجراحون هذه الوصلات المحكمة غير المنفذة ببراعة. وتكون المخاطر كبيرة؛ فإذا لم يُلاحَظ وجود أي وصلة غير محكمة، يحدث نزيف داخلي بعد إغلاق الصدر، وهذا مجرد واحد من عشرات المضاعفات التي يمكن أن تحدث وتقتل المريض.
بعد الانتهاء من الجراحة، لا بد من إعادة تشغيل القلب. يُعَاد ملء القلب بالدم وتُستخدَم أقطاب كهربية معدنية صغيرة لإطلاق صدمة كهربائية تُحفِّز العقدة الجيبية الأذينية. فيبدأ القلب في النبض مرة أخرى. وتُخفَّض قوة الضخ من جهاز القلب والرئة ببطء إلى أن يتأكد الجرَّاح من أن القلب وحده سيفي باحتياجات الجسم من الدم. في النهاية، تُفصَل آلة القلب والرئة عن المريض ويُغلَق الصدر.
إن رؤية هذه الأحداث العجيبة تولِّد لدى المبتدئين حديثي العهد بهذا المجال شعورًا قويًّا بالدهشة والانبهار. فهي تُضفي شعورًا سيرياليًّا بأن ما نشهده أو نفعله قد لا يتماشى مع ما أراد الله أن نراه أو ننخرط فيه. لكن المثابرة والشجاعة البشرية جعلتا ذلك ممكنًا.
إن رحلة الإنسان إلى داخل القلب لهي واحدة من القصص الزاخرة بالإثارة والشجاعة. فقد بدت فكرةَ إخضاعِ عضوٍ لا يكفُّ عن النبض ويتوارى خلف القفص الصدري داخل تجويف الصدر، لعملية جراحية أمرًا غير ممكن لقرون. وقد ترك عمالقة الجراحة البارزون في القرن التاسع عشر أقوالًا مأثورة للأجيال القادمة في هذا الشأن. فقال الجراح النمساوي العظيم تيودور بيلروث عام ١٨٨٣: «الجراح الذي يحاول خياطة جرح في القلب يستحق أن يخسر تقدير زملائه واحترامهم.» وفي عام ١٨٩٦، صرَّح الجراح الإنجليزي ستيفن باجيت قائلًا: «من المحتمل أن تكون جراحة القلب قد بلغت الحدود التي حدَّدتها الطبيعة لجميع الجراحات؛ إذ لا يمكن لأي طريقة جديدة ولا أي اكتشاف جديد التغلب على الصعوبات الطبيعية التي ترافق جرح القلب.» بالتأكيد لم يكن أي جرَّاح عاقل ليقترح القيام بعملية جراحية لقلب ينبض. ولكن في بعض الأحيان، يتَّحِد القدر والصدفة معًا لتغيير مجرى التاريخ.
في سبتمبر من عام ١٨٩٦، تعرض رجل في الثانية والعشرين من عمره في فرانكفورت، بألمانيا، لطعنة في الصدر بعد أن فرَّ مِن مُشاجرة نشبت في إحدى الحانات. وعُثِر عليه فاقدًا الوعي في إحدى الحدائق، ونُقِل إلى أقرب مستشفى، حيث ذكر تقرير حالته: «كان شاحبًا شحوب المُحتضَر، وكان نبضه محسوسًا بالكاد مع وجود اضطرابات متكررة في نظم القلب وصعوبة في التنفس.» استكشف أحد الأطباء الجرح بواسطة مسبار معدني. توغَّل المسبار للداخل أكثر فأكثر، وفوجئ الجميع بأنه حين توقَّف، قفز الطرف الخارجي من المسبار إلى الأعلى والأسفل بالتزامن مع نبضات قلب المريض. كان من الواضح أن السكين قد اخترقت القلب. وكان الموت هو المصير المحتوم.
كان ذلك سيحدث لولا أن تصادف وجود جراح بارز يُدعَى لودفيج رين كان يعمل في هذا المستشفى تحديدًا. عندما فحص رين المريض الوَهِن، خطرت له فكرة؛ قفزة ذهنية لم يكن ليتوصَّل إليها أو ينفذها إلا قِلة من زملائه، إن توصل إليها أحدٌ من الأساس. بفضل معرفة رين الثاقبة بالتشريح، اعتقد أنه من الممكن ألا يكون هناك سوى ثقب صغير في القلب وأن الدم المتدفق من هذا الجرح يتجمع ببطء في الكيس التأموري الذي يحيط بالقلب بإحكام. ويطلق على هذه الحالة اليوم «الاندحاس التأموري» (أو القلبي).
بدلًا من التسليم بمصير المريض المحتوم، أخذ رين المريض إلى غرفة العمليات، حيث فتح الصدر ووجد الكيس التأموري مشدودًا ومتضخمًا ويضغط على القلب كما كان يتوقع. عندما ثقب الكيس بمشرطه، ارتفعت نافورة من الدم، ولكن بعد ذلك تقلص النزيف وأصبح نبض القلب أقوى؛ إذ لم يَعُد القلب مختنقًا بفعل الضغط الشديد الذي يسببه الاندحاس. بعد ذلك، وجد رين الجرح نفسه، وكان شقًّا بطول سنتيمتر ونصف في البطين الأيمن؛ ومع كل نبضة، كان الدم يتسرب منه. ضغط رين بإصبعه لوقف النزيف، وأصبح نبض القلب أقوى قليلًا. بعد ذلك، وبتنسيق كل حركة مع انبساط القلب (الارتخاء بين كل نبضة)، خاط ببراعة ثلاث غرز لإغلاق الجرح. ينقُل لنا رين في سرده اللاحق عن الحالة إحساسه بالدهشة والتعجب:
كان منظر القلب وهو ينبض في الكيس التأموري المفتوح غير عادي … أثناء الانقباض، كانت عضلة القلب صلبة كالحجر، والبطين الأيمن يختفي تحت عظمة القص. مررت الإبرة بسرعة في أثناء مرحلة الانبساط؛ إذ كانت هذه هي الفترة الوحيدة التي كان فيها البطين الأيمن مكشوفًا … وفي الانبساط اللاحق، عقدت الخيط.
ولأول مرة في التاريخ، يتمكَّن جراح من خياطة جرح غائر كامل السماكة في قلب ينبض. نجا المريض، حتى إن رين قدَّمه في اجتماع للجراحين بعد أسبوعين من إجراء الجراحة.
ومع ذلك، يمكننا اعتبار معجزة رين حالة فريدة من نوعها. فقد جاءت نتيجة للتلاقي المثالي للصدفة والمهارة، وهو أمر كان يستحيل تكراره أو التخطيط له؛ فمن المستحيل أن نجد مريضًا مصابًا بجرح صغير في قلبه (لم يؤدِّ إلى الموت الفوري) يُنقل إلى مستشفًى يَعمل به أحد أكثر الجراحين جرأة وخبرة في العالم. ومن ثَم، فلا غروَ في عدم تحقيق أي تقدم إضافي في جراحات القلب خلال الخمسين عامًا التالية. فقد ظل القلب في أذهان الجراحين عضوًا مُقدَّسًا لا يمكن المساس به.
وظل الوضع هكذا حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية.
«شكرًا على الفرصة»
في عام ١٩٤٤، كان دوايت هاركن، البالغ من العمر ٣٥ عامًا، وكان جرَّاحًا في الجيش الأمريكي تدرَّب في هارفارد، يعالج الجنود المصابين في المستشفى العسكري العام ١٦٠ بلندن. ونظرًا لأنه واجه كل أنواع الإصابات الرهيبة، وفي ذلك الشباب الذين شُطرت صدورهم بفعل الرصاص أو انفجارات القنابل، سرعان ما اعتاد هاركن عشوائية الحرب والطبيعة العشوائية لإصابات الضحايا. فلم يكن هناك جرحان متماثلان تمامًا. قدمت الحرب لهاركن مجموعة كبيرة من الحالات المُحيِّرة التي لم يكن من الممكن لأي قدر من التدريب من جانب الدولة أن يُهيِّئه لها. وكثيرًا ما كان يأتيه جندي مُحتضَر وقد استقر في جدار قلبه شظيَّة. كانت هذه القلوب لا تزال تنبض، وكانت هذه القطع المعدنية تعمل على سدِّ الشقوق التي أحدثتها، ولكن ليس بشكلٍ جيد، وكان موت هؤلاء الرجال من النزف الدموي أو العدوى أو السكتات الدماغية الناتجة عن الجلطات الدموية التي تتكون على الأسطح المعدنية غير المنتظمة ثم تنتقل إلى الدماغ، مجرد مسألة وقت. بعد ذلك، كان القساوسة يُحضَرون إلى جوار هؤلاء المرضى. وكان الأصدقاء يساعدون في كتابة رسائل إلى ذويهم. كان هؤلاء الرجال مشرفين على الموت لا محالة.
ما الذي كان يمكن لدوايت هاركن، أو أي جراح، أن يأمل في القيام به من أجل هؤلاء الجنود؟ لو أمسك بالقطعة المعدنية بمشبك وسحبها إلى الخارج، لأدى ذلك بالتأكيد إلى سيل من الدم لا يمكن السيطرة عليه، الأمر الذي كان سيجعل رؤية جرح القلب، فضلًا عن إصلاحه، شبه مستحيل. لم تكن هذه الجروح كالجرح المحكم الصغير الذي خاطه رين بنجاح؛ فلو فعل هاركن هذا، لعجل بموته. وعلى الرغم من أن هاركن كان جرَّاحًا ماهرًا، بل ربما كان جرَّاحًا عظيمًا، فلم يكن لديه سبب ليتوقع أن يديه سريعتان بما يكفي لخياطة قلب ينبض في الوقت المناسب لمنع النزف الدموي. في الغالب، سيكون لديه فقط بضع دقائق كي يُجري عملية في حفرة عميقة محاطة ببركة من الدم.
إلا إذا تمكن من التفكير في طريقة أفضل لخياطة القلب.
في السادس من يونيو عام ١٩٤٤، الذي وافق يوم عملية الإنزال في النورماندي (اليوم دي)، فحص هاركن رجلًا يعاني من جرح خطير في الصدر. كانت ضلوع المريض وعظام القص مهشمة. أخذه هاركن، الذي لم يكن يعرف ما إذا كان القلب قد تضرر أو إلى أي مدى تضرر، إلى غرفة العمليات. وهناك اكتشف شظية معدنية كبيرة مستقرة في البطين الأيمن، تعلو وتهبط مع كل نبضة قلب. بدا الوضع ميئوسًا منه، إلا إن هاركن ابتكر نهجًا جديدًا. فقد أزال الشظية المعدنية وأغلق الثقب فورًا بإصبعه لوقف النزيف. ثم مرر الخيوط واحدًا تلو الآخر لإغلاق الثقب بينما كان يزيل إصبعه تدريجيًّا. في رسالة يصف فيها الحدث الرائع لزوجته، تذكر هاركن: «جاءت لحظة الذعر الوحيدة حين اكتشفنا أن أحد الخيوط قد مر عبر القفاز الذي يغطي الإصبع الذي استخدمته لوقف سيلان الدم. كنت مخيطًا بجدار القلب! قطعنا القفاز وتحررت.»
كان هاركن قد زاد من فرصة نجاحه بحكمة وذكاء عن طريق استخدام «حوائل»، وهي لفائف صغيرة من القماش توضع بين الخيوط الجراحية الحريرية وجدار القلب لمنع الخيوط من قطع الأنسجة عند شدها. كما وفَّق توقيت شد العقد ليتزامن مع انبساط القلب حين يكون القلب في أقصى حالات استرخائه، بحيث لا تبذل انقباضات القلب اللاحقة ضغطًا إضافيًّا على الغرز الجراحية. ونجحت جراحة هاركن. ولأول مرة منذ زمن لودفيج رين، صُممت طريقة أكثر مرونة لإصلاح جرح في قلب نابض. وخلال الحرب، أزال هاركن بنجاح شظايا معدنية من قلوب أكثر من عشرة جنود.
كانت طريقة هاركن لسد الثقب بالأصابع بلا شك بدائية مقارنة بالجراحة الحديثة. لكنها كانت بداية. فقد تعلَّم لاحقًا كيفية لف الخيوط مسبقًا حول القطعة المعدنية بطريقة مشابهة لرباط السحب في الحقائب، بحيث يمكنه أن يغلق الثقب بشكل أسرع بعد سحب الشظية. بعد الحرب، أثبتت هذه الطريقة أنها الأساس للقفزة التالية، وهي أولى محاولات المجازفة بالدخول إلى القلب نفسه لعلاج أحد أكبر الأمراض القاتلة في ذلك الوقت، وهو ضيق الصمام الميترالي.
خلال النصف الأول من القرن العشرين، قبل انتشار استخدام البنسلين على نطاق واسع، كانت الحمى الروماتيزمية من الأمراض الشائعة خلال مرحلة الطفولة. وكان أحد أخطر مضاعفات الحمى الروماتيزمية هو ضيق الصمام الميترالي، وهو تضيُّق وتصلب يصيبان وريقتي الصمام الميترالي. وكان ينتج عن ذلك توقف هاتين الوريقتين المصابتين عن الفتح أو الإغلاق على النحو السليم. ونتج عن تضيُّق فتحة الصمام الميترالي اختناق عرقَل تفريغ الأذين الأيسر بالكامل قبل النبضة القلبية التالية، وهو ما أدى بدوره إلى تراكم الدم في الرئتين. بمرور الوقت، ومع امتلاء الرئتين بالدم أكثر فأكثر، أصبح المرضى غير قادرين على التنفس وكانوا يسعلون دمًا بلا توقف. كان ضيق الصمام الميترالي دائمًا بمنزلة حكم بالموت على ضحاياه، الذين كانوا في الغالب شبابًا وشابات في مقتبل العمر. كان الأمر مجرد مسألة وقت لا أكثر.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، عاد دوايت هاركن إلى بوسطن. كان عازمًا على ترك بصمته من خلال اختراع تقنيات جراحية جديدة، فركز على تطوير طريقة لعلاج ضيق الصمام الميترالي. تمثلت فكرته في استخدام طريقة الخياطة الصارَّة لتثبيت حلقة من الخيوط الجراحية سلفًا في الأذين الأيسر فوق الصمام الميترالي مباشرة. ثم عقب ذلك صنع شقًّا متعمدًا في وسط الحلقة وأدخل إصبعه فورًا في الثقب، بينما يُبقِي أحد المساعدين خيط الصرة مشدودًا لمنع فقدان الدم. بوضع سبابته داخل القلب، كان يفترض أنه يمكنه أن يدفعه حرفيًّا عبر فتحة الصمام الميترالي المصاب والمتضيَّق لتوسيعها، وفصل الوريقتين اللتين تصلبتا وتشابكتا معًا، على أمل استعادة وظيفة الصمام الطبيعية. كانت المخاطر ضخمة ومجهولة إلى حدٍّ كبير.
ماذا لو تسببت إصبعه الموجودة داخل القلب في اضطراب إيقاع القلب والرجفان البطيني والموت؟ ماذا لو تدخل بقوة أكثر مما ينبغي وأتلف الوريقتين، أو مزقهما بلا قصد؟ قد يسبب ذلك المشكلة المضادة، وهي القصور الميترالي أو التاجي، حيث سينطلق الدم عائدًا من البطين إلى الأذين بدلًا من خروجه عبر الشريان الأبهر إلى بقية الجسم. كانت هناك طرق عديدة قد يُقتل بها المرضى. ولكنهم كانوا مشارفين على الموت لا محالة دون أي محاولة من جانبه.
كان هاركن مصممًا على النجاح. ولكن ما أثار إحباطه أن أول من أقدم على إجراء هذه العملية الجريئة كان في الواقع منافسه، وهو محارب قديم آخر في الحرب العالمية الثانية يدعى تشارلز بيلي، من فيلادلفيا. في نوفمبر ١٩٤٥، أجرى بيلي عملية جراحية لرجل يبلغ من العمر ٣٧ عامًا يُدعَى والتر ستوكتون. كان واضحًا لأي شخص أن ستوكتون على وشك الموت بسبب ضيق الصمام الميترالي. فكان بالكاد يستطيع المشي أو التنفس، وكثيرًا ما كان يسعل دمًا.
في غرفة العمليات، أحدث بيلي شقًّا في صدر ستوكتون، وأبعد الضلوع بعضها عن بعض، وصنع فتحة طولية في غشاء التأمور ليكشف القلب النابض. وضع حلقة من الخيوط الجراحية في الأذين الأيسر فوق الصمام الميترالي. ثم أحدث شقًّا صغيرًا في وسط الحلقة فاندفعت نافورة من الدم. أدخل بيلي إصبعه وحاول إحكام الخيط الجراحي الصارِّ حوله، لكن الخيط اخترق عضلة القلب ولم يعقد. وقد كتب بيلي فيما بعد في تقرير: «شُدَّت الخياطة الصارة لتضييقها فقُطعت … فحدث نزيف شديد تطلَّب استخدام مشبك كبير بسرعة … كان من المستحيل تثبيت الخياطة التنجيدية.» وبينما كان بيلي يعمل بإيقاع محموم، دون جدوى، شاهد دم المريض يتسرَّب حتى صُفِّي. وتوقَّف القلب عن النبض في غضون بضع دقائق. واختُتم التقرير بقوله: «مات المريض على طاولة العمليات بسبب النزيف، ولم يُجرِ أيَّ بَضْع أو رأب للصمام.»
لم يرتدع بيلي، وكان مصممًا على المحاولة مرة أخرى. فبعد سبعة شهور، جرب استخدام أداة جديدة صنعها على مريض آخر، وكانت مسبارًا معدنيًّا صغيرًا معقوفًا أطلق عليه اسم «مشرط القطع العكسي»، وكان يأمل أن تتمكن من شق وريقات الصمام الميترالي وفصلها بعضها عن بعض على نحوٍ أفضل من إصبعه الكليل. وعلى الرغم من أن المريضة نجت من العملية، فقد تُوفِّيت بعد يومين. وبسبب حالتَي الوفاة هاتين، ولإصرار بيلي على أن يُسمَح له بمواصلة جراحاته التجريبية، سُحبت من بيلي امتيازات عمله الجِراحي في مستشفى هانينمان في فيلادلفيا. وقال له الدكتور جورج جوكيلر، رئيس قسم القلب: «واجبي الأخلاقي يُحتم عليَّ ألا أسمح لك بإجراء مزيد من العمليات القاتلة.» ورد بيلي على ذلك بقوله: «وواجبي الأخلاقي يُحتِّم عليَّ أن أصل بهذه العملية إلى الصورة المثالية. لا شيء يمكن أن يكون أسوأ من تأثير ضيق الصمام الميترالي على المصابين به.»
كان بيلي عنيدًا ومتشبثًا برأيه. فأخذ تقنيته الجراحية إلى مستشفى ويلمنجتون ميموريال في ديلاوير، حيث أجرى عملية لمريض آخر في عام ١٩٤٨. نجح بيلي في فصل وُرِيقَتي الصمام التاجي الملتحمتين معًا، لكن هذه المرة لجأ إلى القوة الشديدة ودفع بقوة كبيرة أدت إلى إلحاق ضرر بالغ بالوريقات، لدرجة أنها فقدت قدرتها الطبيعية على منع التدفق العكسي من البطين إلى الأذين. وبهذا تحول مرض المريض من ضيق الصمام الميترالي إلى قصور تاجي، وتُوفِّي أيضًا في غضون أسبوع بعد الجراحة. في أعقاب ذلك، سحب مستشفى ويلمنجتون ميموريال الامتيازات الجراحية من بيلي. وأطلق عليه بعض الزملاء من وراء ظهره لقب «الجزار».
ولكن ظل بيلي يتمتع بامتيازات إجراء العمليات الجراحية في مستشفيَين آخرَين في فيلادلفيا، وهما المستشفى العام في فيلادلفيا ومستشفى الأسقفية، لكن مع انتشار الأخبار عن إخفاقاته، كان يخشى ألا يكون لديه سوى فرصة واحدة فقط لمحاولة استخدام طريقته قبل أن تمنعه هذه المؤسسات أيضًا. وفي سبيل زيادة فرصة نجاحه، قرر تحديد موعدَين لعمليتَين في اليوم نفسه؛ واحدة في الصباح في المستشفى العام في فيلادلفيا وأخرى بعد الظهر في مستشفى الأسقفية. بهذه الطريقة، حتى لو تُوفِّي المريض الأول، كان يعتقد أنه سيظل بإمكانه تجربة طريقته على الحالة الثانية قبل أن تنتشر الأخبار في المدينة ويوقفه أحد. أما إذا فشلت كلتا العمليتين، فمن المحتمل أن ينتهي مشواره، لا سيما مع تدمير سمعته وعدم وجود مستشفًى مستعد لقبوله.
تُوفِّي المريض الأول، في المستشفى العام في فيلادلفيا، على طاولة الجراحة. وفي أعقاب هذه الخيبة، وشعوره الحتمي بالتوتر وخطورة اللحظة، ذهب بيلي إلى مستشفى الأسقفية وبدأ عمليته على ربة منزل تبلغ من العمر ٢٤ عامًا تدعى كونستانس وارنر. أدت الحمى الروماتيزمية التي أصيبت بها وارنر في طفولتها إلى قصور شديد في القلب لدرجة أنها لم تعد قادرة على العناية بصغيرها.
استخدم بيلي هذه المرة أداة معدنية وإصبعه لفصل وريقتي الصمام برفق. بدت العملية تسير على ما يرام ما جعله يتنفس الصعداء. كانت غرز الجراحة ثابتة ولم يحدث أي نزيف شديد. نجت كونستانس وارنر من الجراحة. وتحسن تنفسها. وبحلول اليوم الرابع من العملية، كانت تمشي.
شعر بيلي بابتهاج ونشوة. فقد استعاد سمعته على الفور، وأصبح مُصمِّمًا على اغتنام اللحظة. فأعلن خبر نجاحه على زملائه؛ حتى إنه اصطحب وارنر في رحلة بالقطار لمسافة ألف ميل إلى شيكاغو بعد أسبوع واحد فقط من الجراحة لعرض حالتها أمام الجمهور في اجتماع الكلية الأمريكية لأطباء الصدر. عاشت وارنر حياة كاملة، وأنجبت أربعة أطفال، وتوفيت في سن الثانية والستين.
ورغم أن بيلي سيُذكر في التاريخ باعتباره أول من حقق هذا الإنجاز الفذ، فقد نجح دوايت هاركن أيضًا في إجراء عملية جراحية على الصمام الميترالي لمريض في بوسطن بعد ستة أيام من عملية وارنر. وكان هاركن قد حاول قبل ذلك إجراء العملية على ستة مرضى، وماتوا جميعًا. في هذه المرحلة، كانت نسبة النجاح العالمية لهذه الجراحة حالتين من كل ١٢ حالة. بعد وفاة أحد هؤلاء المرضى، عاد هاركن إلى المنزل محبطًا يائسًا. في ذلك المساء، سمع طرقًا على الباب. كان الطارق امرأة سلمته رسالة صغيرة من المريضة، وكانت صديقة لها، وقد وعدت بتسليمها إذا لم تنجُ صديقتها من الجراحة. جاء في الرسالة: «الطبيب العزيز هاركن: أشكرك على منحي الفرصة. لقد تركت جزءًا صغيرًا من ممتلكاتي لضمان عدم حدوث هذا مرة أخرى.»
كان دوايت هاركن وتشارلز بيلي رائدَين في جراحة القلب، إلا إنهما أخفقا أكثر مما نجحا. كان الإصرار والصمود أمام هذا العدد من الوفيات يتطلبان شجاعة فائقة. وقد كان كلاهما يتمتع بمخزون عميق من الثقة بالنفس والقدرة على التعافي بعد الخيبات المحبِطة. كانت تكلفة الابتكار كبيرة، لكن من خلال جهودهما، فُتِحت الأبواب أمام عالم جديد لجراحة القلب أخيرًا.
التنفس خارج الجسم
ظلت عمليات القلب حدثًا نادرًا؛ فقد كانت الحيلة الطبية التي لا يلجأ إليها الأطباء، بكل ما تنطوي عليه من مخاطر رهيبة، إلا إذا كان المريض يواجه موتًا مُحقَّقًا، إلى أن وجد الجراحون بطريقة ما وسيلة لإيقاف نبض القلب دون قتل المريض. فتمكن جراحون مثل هاركن أو بيلي من الحد من تدفُّق الدم إلى القلب مؤقتًا باستخدام مشبك، لكن القيام بذلك لم يُمهِلهما إلا نحو أربع دقائق فقط لإكمال العملية قبل بداية حدوث تلف دائم في الدماغ. تعلم الجرَّاحون فيما بعد الاستعانة بتخفيض حرارة الجسم لإطالة هذه المدة؛ فقد كان تبريد الجسم إلى ٧٠ درجة فهرنهايت أو أقل يقلل معدل الأيض في الجسم والحاجة إلى الأكسجين، وهي طريقة يمكن أن تُمدِّد زمنَ إجراء العملية إلى ١٢ دقيقة تقريبًا. فقد كانت أي عملية تستغرق وقتًا أطول من هذا مستحيلة. كان بوسع الأطباء إيقاف القلب وإعادة تشغيله، لكن إلى أن يجد شخصٌ طريقة لإمداد الجسم بالدم الغني بالأكسجين دون استخدام القلب، كان من شأن هذه القيود الزمنية أن تجعل مجال جراحة القلب الناشئ مقصورًا على أبسط المناورات فقط.
اتخذ جراح كندي يُدعَى ويليام موستارد، نهجًا جديدًا، وإن لم يكن مبتكرًا للغاية، لأكسجة الدم خارج الجسم. واستخدم رئة القردة لتجربته. في عام ١٩٥١، استأصل موستارد الرئتين من أربعة قردة، ووضع هذه الرئات في أوعية ممتلئة بالأكسجين عن طريق الضخ، وحول الدورة الدموية الوريدية لطفل مريض عبر أنابيب مطاطية إلى الرئتين، ثم أعاد الدم، الذي كان يأمل أن يؤكسَج، إلى المريض. جرب هذا الإجراء على ١٢ طفلًا، كانوا جميعًا يعانون من تشوُّهات قلبية تهدد حياتهم، على مدى ثلاث سنوات. تُوفِّي الاثنا عشر طفلًا جميعًا. إلا إن بعضهم ظلوا أحياءً بعد العمليات؛ حتى إن أحدهم ظل على قيد الحياة نحو أسبوعين، وهو ما يُثبِت أنه من الممكن على الأقل أكسجة دم المريض خارج الجسم.
جرَّب جراح آخر يُدعَى والت ليليهاي من جامعة مينيسوتا أيضًا الاستفادة من العمليات الطبيعية للجسم من خلال استكشاف فكرة «الدوران المتصالب بين كائنين» لدى الأطفال الذين يحتاجون إلى عمليات لتصحيح عيوب القلب الخِلقية. نشأت هذه الفكرة من معرفته بالدورة الدموية للجنين. فالجنين في الرحم لا يتنفس. بل يتقاطع دمه مع دم الأم عبر المشيمة ومن ثَم يؤكسج الدم عبر رئتي الأم. وبالطريقة نفسها، خلص ليليهاي إلى إمكانية ربط الدورة الدموية للطفل بالدورة الدموية للأم أو الأب. وبذلك سيتدفق دم الطفل عبر الدورة الدموية لأحد الوالدين، ويؤكسج بواسطة رئتي أحد الوالدين، ثم يعود إلى الطفل الذي أوقف الأطباء قلبه مؤقتًا للسماح بإجراء الجراحة.
جرَّب ليليهاي هذا الإجراء أولًا على الكلاب، وبدا ناجحًا. كان الأمر قد يستغرق ما يصل إلى ثلاثين دقيقة، وهذا يُعَد في عالم الجراحة وقتًا طويلًا لإغلاق عيب الحاجز البطيني للكلب (ثقب يقع بين البطين الأيمن والأيسر). وطوال مدة الجراحة، بقي الكلب على قيد الحياة من خلال ربط دورته الدموية بكلب آخر سليم. وفي مارس ١٩٥٤، كان ليليهاي مستعدًّا لتجربة الإجراء على الإنسان. كان هناك أطفال كثيرون في جميع أنحاء البلاد يموتون بسبب عيوب القلب الخِلقية، وكلٌّ يتوق إلى العلاج. غير أن الإجراء المبتكر لليليهاي أثار أيضًا مخاوف أخلاقية غير معهودة. فبالإضافة إلى المخاطر التي يتعرض لها المريض الذي يخضع للجراحة، سيعرض ليليهاي الوالد السليم للخطر. كانت هذه الجراحة نظريًّا يمكن أن تؤدي إلى وفيات بنسبة ٢٠٠ في المائة إذا مات الفردان.
بعد كثير من النقاش والجدال، سمح مستشفى جامعة مينيسوتا لليليهاي بالمُضِي قُدُمًا في تجربته. وكان أول مريض له جريجوري جليدن، وهو طفل يبلغ من العمر ١٣ شهرًا كان يعاني من عيب في الحاجز البطيني؛ فمن خلال ثقب بين البطينين، كان قلب جريجوري يعيد توجيه الدم من البطين الأيسر إلى البطين الأيمن، الذي بدوره يضخ الدم مرة أخرى إلى الرئتين في دورة عبثية ومحكوم عليها بالفشل. نجا جريجوري من الجراحة — التي رُبِط من خلالها بالدورة الدموية لوالده — لكنه تُوفِّي بسبب الالتهاب الرئوي بعد ١١ يومًا. لم يثنِ ذلك من عزيمة ليليهاي؛ إذ سرعان ما جرب العملية على باميلا شميدت البالغة من العمر أربع سنوات. كانت باميلا في انتظار الموت بسبب عيب في الحاجز البطيني شأنها شأن جريجوري. في غرفة العمليات، استلقت باميلا ووالدها، جنبًا إلى جنب، مع ربط الدورة الدموية لباميلا بالدورة الدموية لوالدها. أوقف ليليهاي قلبها وفتحه وخاط الثقب بين البطينين. بعد ذلك، أغلق القلب، وأعاد تدفق الدم إليه وأعاد تشغيله بنبضة كهربية. كان قلب باميلا ينبض بقوة. لقد نجحت العملية.
ذاع صيت باميلا وليليهاي على الصعيد القومي. فنُشِر مقال عن باميلا وعائلتها في مجلة «كوزموبوليتان». وأطلقت ولاية مينيسوتا وجمعية القلب الأمريكية رسميًّا على باميلا لقب «ملكة القلوب». وتلقى ليليهاي فيضًا من الطلبات لإجراء مقابلات معه، كما تلقَّى كثيرًا من الإحالات لأطفال آخرين مشارفين على الموت بسبب عيوب القلب.
ولكن كان انتصار هذا الإجراء غير مكتمل. فقد أجرى ليليهاي عمليات ناجحة لعدد قليل من الأطفال بعد باميلا، ولكنه مُنِي لاحقًا بسلسلة مِن سبع حالات تُوفِّي منها ستة أطفال. وعانت والدة أحد هؤلاء الأطفال مِن جلطة دماغية مُدمِّرة نتيجة انصمام هوائي استقر في دماغها. وهكذا انهارت سمعة ليليهاي. صحيح أنه قد تقدم بخطوة إلى الأمام في سعيه نحو إجراء عملية الأكسجة خارج الجسم، إلا إن ما فعله لم يكن النقلة الحاسمة التي كان مِن شأنها أن تُحدِث ثورة حقيقية في جراحة القلب.
في الوقت نفسه، كان هناك جراح آخر يُدعَى جون جيبون يتأمل في مفهوم أكسجة الدم خارج الجسم منذ عام ١٩٣١، حين كان يعمل باحثًا زميلًا في جامعة بوسطن، وسيطرت على تفكيره حالة لفتاة شابة خضعت لجراحة المرارة الروتينية ولكنها أصيبت بألمٍ في الصدر وصعوبة في التنفس بعد ١٥ يومًا من الجراحة. كانت قد أصيبت بانصمام هوائي ناتج عن جلطة في شريانها الرئوي. في ذلك الوقت، كان العلاج الفعَّال الوحيد هو الجراحة بغرض إزالة الجلطة مباشرة؛ غير أن هذه الجراحة كانت في غاية الخطورة؛ حتى إنها لم تُجرَ بنجاح أبدًا في الولايات المتحدة، ولم تنجح سوى تسع مرات فقط على مستوى العالم حتى ذلك الحين. قرر رئيس جيبون، الدكتور إدوارد تشرشل، أنهم لن يلجئوا للجراحة إلا كملاذ أخير، حال انسداد الشريان الرئوي تمامًا وإشراف المريض على الموت. وفي سبيل الاستعداد لهذا، أحضروا المريضة إلى غرفة العمليات. وكُلِّف جيبون بالجلوس بجانبها ومراقبتها طول الليل والتحقق من علاماتها الحيوية كل ١٥ دقيقة.
في الساعة الثامنة صباحًا، فقدت المريضة الوعي. ثم توقَّفَت عن التنفُّس ولم يكن هناك نبض. وخلال ست دقائق ونصف، كان تشرشل قد فتح صدرها، وأزال الجلطة الكبيرة، وأغلق شق الشريان الرئوي بمشبك. ولكن حتى هذا لم يكن بالسرعة الكافية. فلم تستفق المريضة أبدًا، وماتت.
تأثر جيبون بشدة بهذه المأساة. وقال في معرض تذكُّره للواقعة لاحقًا:
خلال تلك الليلة الطويلة، وأنا أشاهد المريضة تصارع من أجل البقاء وأنا مكتوف اليدين، خطر لي بطبيعة الحال أنه إذا كان من الممكن إزالة بعض الدم الأزرق (غير المؤكسج) من الأوردة المنتفخة للمريضة باستمرار دون توقف، ووضع الأكسجين في ذلك الدم … ثم حقن شرايين المريضة بالدم الأحمر (المؤكسج) باستمرار دون توقف، لربما تمكنا من إنقاذ حياتها. فبذلك كنا سنؤدي … جزءًا من عمل قلب المريض ورئتيه خارج الجسم.
استحوذت هذه الفكرة على عقل جيبون تمامًا. وأمضى عقودًا في محاولة بناء آلة يمكنها أكسجة الدم. كانت التحديات عديدة. كان أولها أن خلايا الدم الحمراء ضعيفة جدًّا وعرضة للإصابة عند الحركة عبر أي نوع من الأنابيب أو الآلات. ثمة مشكلة أخرى وهي ميل الدم للتجلط عند مواجهة أي مادة غريبة، كالأسطح المعدنية داخل آلة. وبالطبع، كان لا بد من ابتكار الطريقة المثلى لنقل الأكسجين إلى الدم وإزالة ثاني أكسيد الكربون.
باستخدام مضخة وأنابيب وغلاف بلاستيكي ومصدر للأكسجين ومركب الهيبارين لمنع التخثر، شيَّد جيبون نموذجًا أوليًّا للجهاز لتجربته على القطط. وفقًا لهذا التصميم، كان الدم يُدوَّر داخل أسطوانة كبيرة دوارة مليئة بالأكسجين، باستخدام القوة الطاردة المركزية لتوزيع الدم في غشاء رقيق جدًّا لزيادة المساحة السطحية المتاحة لتبادل الغازات. باستخدام هذا الجهاز، تمكن جيبون من الحفاظ على حياة القطط خلال عملية مجازة قلبية رئوية كاملة لمدة تصل إلى ٢٥ دقيقة في عام ١٩٣٩. غير أن الجهاز لم يوفِّر الأكسجة الكافية بما يكفل استخدامه في الحيوانات الكبيرة أو البشر.
وحدثت طفرة عندما اكتشف راعيًا له، وهو توماس واطسون، الرئيس التنفيذي لشركة آي بي إم. علم واطسون بفكرة جيبون ورؤيته، ودعمه بالمال والمهندسين لتحسين نموذجه الأولي. وكانت النتيجة تصميمًا مبتكرًا وزِّع فيه الدم الوريدي من المريض في غشاء رقيق ووجِّه تدفُّقه إلى الأسفل عبر سلسلة مكونة من ثماني شاشات عمودية دقيقة الثقوب من الفولاذ المقاوم للصدأ (الستانلس ستيل)، وهي طريقة حسَّنت كلًّا من المساحة السطحية والاضطراب؛ إذ كان جيبون يعلم أن إدخال اضطراب خفيف يزيد مِن تبادُل الغازات. غُلِّف الجهاز بأكمله بغلاف بلاستيكي شفاف ممتلئ بالأكسجين.
في كلية طب جيفرسون في فيلادلفيا، في السادس من مايو لعام ١٩٥٣، أجرى جيبون أول جراحة ناجحة باستخدام ما أصبح بعد ذلك جهاز القلب والرئتين الحديث. كانت مريضته تُدعَى سيسيليا بافوليك، وهي طالبة جامعية في الثامنة عشرة من عمرها كانت تعاني من عيب في الحاجز الأذيني. كانت قد دخلت المستشفى ثلاثَ مرات خلال الستة الشهور السابقة بسبب قصور القلب، ولم تعُد قادرة على القيام بالأنشطة العادية دون ظهور الأعراض عليها. ومن خلال التحكم في الدورة الدموية لبافوليك خلال مجازة مدتها ٢٦ دقيقة باستخدام جهازه، تمكن جيبون مِن إيقاف قلبها وأخذ وقته في إصلاح الثقب بين الأذينين. وكُللت الجراحة بالنجاح.
ولكن لا بد من التنويه إلى أن الطريق الذي أدَّى إلى علاج جراحي ناجح لأمراض القلب والذبحة الصدرية كان مليئًا بالأفكار الفاشلة. فقد حاوَل أحد الأطباء تشريح الشريان الثديي الداخلي المجاور من خلف عظام القص وتمريره مباشرة إلى عضلة القلب. واعتقد آخر أن الاحتكاك بسطح القلب قد يُسبِّب زيادة في تدفُّق الدم إلى تلك المنطقة؛ لذا فتح الأكياس التأمورية للمرضى ودهن قلوبهم ببودرة التلك. وحاول آخر ضخ الأكسجين عبر الأوردة في محاولة لتروية عضلة القلب في الاتجاه العكسي لتدفق الدم. وباءت كل هذه الطرق بالفشل.
أما الجراح الذي يُنسب إليه الفضل عادة لبذله قصارى جهده لتحسين تقنيات جراحة عملية تطعيم مجازة الشريان التاجي، فهو الدكتور رينيه فافالورو، وهو جرَّاح أرجنتيني كان يعمل في مركز كليفلاند كلينيك في أواخر ستينيات القرن العشرين. فهو من قَدَّم فكرة استخدام أحد أوردة الساق باعتباره طُعمًا لنقل الدم من الشريان الأبهر إلى الشريان التاجي المصاب الذي يقع بعد نقطة الانسداد. وحظي مرضاه بشعور الراحة الفورية من الذبحة الصدرية، وأظهرت صور الأشعة السينية للأوعية الدموية بعد العملية أن تروية القلب قد استُعيدت بدرجة ملحوظة. واليوم، تُعَد جراحة المجازة الدعامة الرئيسية لجراح القلب، وتُستخدَم في حالة المرضى الذين يعانون من مرض الشريان التاجي الشديد أو مُتعدِّد الأوعية ولا يمكن علاجهم بنجاح باستخدام القسطرة.
الجائزة الكبرى
في الثالث من ديسمبر من عام ١٩٦٧، أجرى الجراح كريستيان برنارد أول عملية زرع قلب في التاريخ في مستشفى جروت شور في مدينة كيب تاون، بجنوب أفريقيا. لا يستطيع أحد أن ينكر أن هذا الحدث كان يمثل ذروة الإنجاز الجراحي حتى الآن. لكن قصة هذا الإنجاز الرائع تبدأ بالعمل الرائد للدكتور نورمان شمواي، وهو جراح من جامعة ستانفورد عمل لأكثر من عقد على تطوير الأفكار والتقنيات التي جعلت جراحة برنارد ممكنة.
بداية من خمسينيات القرن العشرين، واجه شمواي وزميله الدكتور ريتشارد لاور عدة مشكلات تتعلق بعملية زرع الأعضاء. وكان أحد الأسئلة التي سعيا للإجابة عليها هي ما إذا كان القلب يستطيع أن يستمر في العمل بعد إزالته تمامًا من الجسم؛ أي بعد قطع جميع الأعصاب المتصلة به. وللإجابة عن هذا السؤال، أجريا تجارب على الكلاب بإزالة قلوبها وإعادة زرع تلك القلوب في نفس الحيوانات. ونجت الكلاب.
كان هناك تحدٍّ صعبٌ آخر؛ وهو تحديد الطريقة المثلى والأكثر فاعلية لزرع قلب المتبرع في جسم المتلقي. يتصل القلب بالدورة الدموية عبر وريدين (الوريدان الأجوفان؛ العلوي والسفلي) يوصلان الدم إلى الأذين الأيمن، والشريان الرئوي الذي ينقل الدم من البطين الأيمن إلى الرئتين، وأربعة أوردة تعيد الدم مرة أخرى من الرئتين إلى الأذين الأيسر، والشريان الأبهر، الذي يتصل بالبطين الأيسر. وهكذا يكون هناك ثماني وصلات وعائية في المجمل، وهذا عدد كبير من وجهة نظر الجرَّاح عندما يرى أن كل وصلة جديدة لا بد أن تُخاط بدقة وبعناية بحيث تكون شديدة الإحكام لتمنع أي تسريب.
طوَّر شمواي طريقة أفضل. بدلًا من فصل القلب عن طريق قطع جميع الأوعية الأنبوبية المتصلة به، ماذا لو أبقى على معظم الأذينين في جسم المتلقي؛ أي الأجزاء من كل أذين التي تتلقى الوريدين في الأذين الأيمن، والأوردة الأربعة في الأذين الأيسر؟ يمكن خياطة هذه الأجزاء مِن الأذينين في جسم المتلقي ببساطة في فجوة مطابقةٍ لها في الحجم في قلب المتبرع. وهذا بدوره ألغى الحاجة إلى إعادة توصيل ستٍّ من أصل ثماني وصلات وعائية للقلب، مما قلَّل من مدة الجراحة وحدَّ من خطر الفشل.
كانت دراسة شمواي لكيفية التغلب على رفض الجهاز المناعي للمتلقي للعضو الممنوح، والذي يُطلق عليه «رفض العضو المزروع»، لا تقل أهمية عن ابتكاراته الجراحية. وقد أعانه اكتشاف الأدوية القوية المثبطة للمناعة مثل السيكلوسبورين في سعيه لتجاوز هذا العقبة. لكن كانت هناك مشكلة أخرى لم يتمكَّن شمواي من حلها، ألا وهي تعريف الموت.
نحن نعرِف اليوم أن الموت قد يحدُث في شكل موتِ الدماغ، الذي يتسم بفقدان وظائف الدماغ دون رجعة، ويمكن أن يحدث حتى عند الإبقاء على حياة المريض باستخدام جهاز التنفس الصناعي. لكن في الولايات المتحدة في منتصف ستينيات القرن العشرين، لم يكن موت الدماغ شكلًا مُعترَفًا به من أشكال الموت؛ إذ كان تعريف الموت يقتصر على التوقف الكامل لكلٍّ مِن نبضات القلب والتنفس. وكان هذا يعني أنه سيكون من المستحيل عمليًّا على شمواي، أو أي جراح قلب أمريكي آخر، العثور على قلب متبرع للزرع؛ نظرًا إلى أن هذا كان سيتطلب وجود مريض مستعد وجاهز للذهاب إلى غرفة العمليات في اللحظة التي يصبح فيها قلب المتبرع متاحًا، وهو ما يحدث مثلًا في أعقاب وفاة متبرع محتمل بصورة مفاجئة في حادث سيارة. وقد كان من المستحيل التنبؤ بموعد وقوع مثل هذا الحدث.
أثارت هذه المعضلة مناقشات أخلاقية مثيرة للجدل في كثير من المستشفيات عبر الولايات المتحدة … حتى اليوم الذي انتشرت فيه أخبار نجاح جراحة زرع القلب التي أجراها كريستيان برنارد في جنوب أفريقيا حول العالم. فبعد إنجاز برنارد، تبخَّر الجدل في أمريكا حول موت الدماغ بين عشية وضحاها.
على عكس نورمان شمواي الذي حظي بمكانة بارزة وتقدير كبير، لم يكن برنارد معروفًا فعليًّا؛ فهو مجرد جراح غير أكاديمي يعمل في مستشفًى في إحدى ضواحي كيب تاون. كان قد استخدم بنجاح تقنيات شمواي لإزالة قلب دينيس دارفال، وهي شابة أُعلِن موتها دماغيًّا بعد أن صدمتها سيارة وقتلتها أثناء عبورها الطريق. كان أول متلقٍ لزرع القلب في العالم هو لويس واشكانسكي، وهو رجل يبلغ من العمر ٥٧ عامًا، مصاب بالسكري ويعاني من قصور حادٍّ بالقلب إثر تعرضه لعدة نوبات قلبية.
في جنوب أفريقيا، كان المريض يُعتبَر في عداد الموتى عندما يعلن الطبيب موته. وكانت المعايير المتعلقة بتعريف الموت هناك أكثر تساهلًا من الولايات المتحدة، مما منح برنارد الحرية للاستعانة بمتبرع ميت دماغيًّا. نُقِل دارفال وواشكانسكي إلى غرفتَي عمليات متجاورتَين. فصل بارنارد جهاز التنفس الصناعي عن دارفال وانتظر حتى توقف قلبها عن النبض. وفي غضون دقائق، كان قد استخرج قلب دارفال ونقله إلى واشكانسكي.
في سيرته الذاتية، كتب برنارد يقول: «أدخلت يدي وأزلت قلب واشكانسكي من جسده ووضعته في حوض … وخلَّف ذلك فجوة بدت ضخمة. لم أرَ أبدًا صدرًا دون قلب.»
كان قلب واشكانسكي قد تمدد بشكلٍ كبير على مر السنين؛ إذ كان يتكيف ويكافح لتوفير تدفق الدم الكافي للجسم في حالته المرضية تلك. في المقابل، كان قلب دارفال أصغر بكثير، وبدا صغيرًا في تجويف صدر واشكانسكي. كان برنارد يأمل أن يكون القلب قويًّا بما يكفي لتلبية متطلبات الدورة الدموية لرجل ضخم مثل هذا.
بمجرد أن انتهى برنارد من زرع القلب، أعاد تشغيله بواسطة صدمة كهربية صغيرة وبدأ في الانقباض بصورة طبيعية، على الرغم من أن الانقباض لم يكن قويًّا بما يكفي لفصل المريض عن جهاز القلب والرئتين. بدا أن القلب الجديد لا يستطيع توفير ضغط دم كافٍ لتروية جسم واشكانسكي. فحاول برنارد تقليل قوة ضخ الدم من جهاز القلب والرئة مرة ثانية، ولكنه وجد مرة أخرى أن القلب المتبرَّع به لن يضخ بقوة كافية.
فقرر أن ينتظر مدة أطول قليلًا. ومرت الدقائق عصيبة.
فحص برنارد جميع خطوط الخياطة؛ فلم يجد أي تسريبات. هل كان القلب ينبض بقوة أكبر قليلًا الآن؟
نعم، بدا الأمر كذلك.
بل كان كذلك بالتأكيد.
في المرة الثالثة التي خفَّض فيها برنارد قوة الضخ من جهاز القلب والرئتين، ظل ضغط الدم عاليًا بما فيه الكفاية. فصاح قائلًا باللغة الأفريقانية بما معناه أن الأمر سينجح على ما يبدو!
نظر برنارد إلى فريقه على الجهة المقابلة من الطاولة. وتذكر لاحقًا: «اغرورقت الأعين من فوق الأقنعة بالدموع فرحًا ودهشة. في مسرح العملية، كان حاجز الصمت المشوب بالتوتر يُكسَر بتنهدات مختلطة وكلمات غامضة وحتى ضحكة صغيرة. لقد عادت إلينا جميعًا الثقة في أنفسنا، مثل القلب نفسه، مرة أخرى.» وقد استغرقت العملية في المجمل نحو خمس ساعات.
أثارت أنباء أول عملية زراعة قلب في العالم حماسة المواطنين حول العالم، واكتسب كريستيان برنارد شهرة عالمية. لكن لسوء الحظ، توفي لويس واشكانسكي بسبب الالتهاب الرئوي بعد ١٨ يومًا من الجراحة، إلا إن التشريح أكد أن القلب المزروع لم يُظهر أي علامات على القصور أو الرفض.
عاش المريض الثاني الذي زرع له برنارد قلبًا ١٩ شهرًا بعد الجراحة. وعاش المريض الثالث ٢٠ شهرًا. وعاش المريضان الخامس والسادس ١٣ عامًا و٢٣ عامًا على الترتيب. اكتسب برنارد مزيدًا من الشهرة لاحقًا بسبب نمط حياته الفاخر ومواعداته مع نجمات السينما؛ وقد تزوج ثلاث مرات. في غضون ذلك، واصل نورمان شمواي العمل لتحسين الرعاية اللاحقة للعملية الجراحية، التي ستتيح لمتلقي العضو المزروع فرصة عيش حياةٍ أفضل وأطول. وفي عام ١٩٨١، كان عضوًا أساسيًّا في الفريق الجِراحي الذي أجرى أول عملية زراعة قلب ورئة مشتركة في العالم.
المستقبل
تُعَد أكثر التكتيكات فاعلية في معركة مكافحة أمراض القلب اليوم هي الوقاية. فقد أدَّت حملات الإقلاع عن التدخين والتمارين الرياضية وإنقاص الوزن إلى تقليل وفيات مرض الشريان التاجي بشكلٍ كبير. لم يضاهِ فوائد عقارات الستاتين العالمية لخفض الكوليسترول سوى عدد محدود من الأدوية في تاريخ الطب. أما في الوقت الحاضر، فيمكن تصحيح أمراض القلب الخِلقية بالتدخل الجراحي في وقت مُبكر من العمر، حتى في الرحم. وترتفع معدلات النجاة للمرضى الذين يخضعون لكل نوع من عمليات القلب لأعلى مستوياتها على الإطلاق على مدى التاريخ.
ولكن على الرغم من التقدم الذي حققناه، ما زالت أمراض الشرايين التاجية هي القاتل الأول في العالم. ففي كل عام، يتعرض نحو ٨٠٥٠٠٠ أمريكي لأزمة قلبية؛ أي شخص كل أربعين ثانية تقريبًا. إذن، ما الأسلحة الأخرى التي يمكننا استخدامها في الحرب ضد هذا العدو الذي لا يرحم؟
قد تكون الخلايا الجذعية جزءًا مثيرًا من الإجابة. الخلايا الجذعية فريدة من نوعها؛ لأن لديها القدرة على التطوُّر إلى العديد من أنواع الخلايا المختلفة في الجسم. وقد طوَّر الأطباء طريقة لاستخراج الخلايا الجذعية من قلب المريض، ومضاعفتها في مزرعة، ثم حقنها مرة أخرى في القلب لدعم الأنسجة التالفة أو تعزيز وظائف الأنسجة السليمة. وقد أظهرت هذه الرحلة الاستكشافية في عالم الطب التجديدي بالفعل نتائج إيجابية من خلال تحسين وظائف القلب وتقليل حجم الندوب لدى المرضى الذين تعرَّضوا سابقًا لنوبات قلبية. استُخدِمت الخلايا الجذعية أيضًا لزرع سقالات (هياكل داعمة) قابلة للتحلل الحيوي ومطبوعة باستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد لبناء صمامات قلبية بشرية وأوعية دموية وظيفية. بالنسبة للبِنَى الأكثر تعقيدًا، يمكن لأعضاء الجثث اكتساب حياة جديدة باعتبارها سقالات في حد ذاتها. في عام ٢٠٠٨، نزع العلماء الخلايا من قلب جرذ باستخدام مجموعة متنوعة من المحاليل والمنظفات التي جردت القلب من جميع الخلايا الأصلية، دون مساس بالشبكة الخلوية الخارجية التي شكلت بنية العضو. ثم زرعوا هذا الإطار العضوي مع خلايا قلبية من جرذان حديثة الولادة وبعد ثمانية أيام، كوَّنت الخلايا قلبًا ينبض يمكنه توصيل النبضات الكهربائية وضخ الدم.
في عام ٢٠١٦، استُنسِخ هذا المفهوم لإنتاج نسيج قلبي وظيفي في قلب بشري كامل؛ حيث مُلِئ قلب منزوع الخلايا لجثة بخلايا جذعية، ثم ضُخَّت فيه المغذيات، وزُرِع في مفاعل حيوي يحاكي الظروف داخل الجسم مثل الإجهاد الناتج عن ارتفاع الضغط البطيني. وعند تحفيزه بالكهرباء، أظهرت العضلة القلبية الجديدة انقباضات. وهكذا فنحن نتقدم دائمًا نحو تحقيق الهدف المستقبلي لتصنيع قلوب بديلة، بحيث يأتي اليوم الذي لا يحتاج فيه مرضى الزرع مثل ديك تشيني إلى قضاء سنوات في انتظارٍ يائسٍ لمتبرعٍ بالقلب، أو الموتِ قبل أن يُتاح لهم واحد.
ليس كل تقدم تكنولوجي عالٍ يبعد عنا سنواتٍ أو عقودًا. فباستخدام نظام مبتكر لتحقيق الاستقرار أثناء العملية، أصبح بوسعنا الآن إجراء جراحات على قلب نابض، مما يقضي على المخاطر والتكاليف الإضافية التي نتكبدها من جرَّاء استخدام جهاز القلب والرئتين. يمكن لأطباء القلب التدخلي، الذين يواصلون تحسين وتطوير ما يمكن تحقيقه باستخدام القسطرات، الآن استخدام صمامات القلب الاصطناعية، بل إصلاح العيوب في الحواجز الأذينية والبطينية، مما يتيح للمزيد من المرضى تجنُّب الجراحة القلبية الاجتياحية. كان من سلبيات مزيل الرجفان المزروع في قلب تشيني الاعتماد على أسلاك وبطاريات ذات عمر افتراضي محدود (إذ يستخدم النوع الذي حصل عليه تشيني من جهاز مزيل الرجفان بطارية لا بد من إزالتها جراحيًّا واستبدالها كل ثلاث سنوات إلى ست). واليوم، يقوم الأطباء بزرع منظمات لاسلكية لضربات القلب مباشرة في القلب بواسطة قسطرة. تحتوي هذه الكبسولات الصغيرة على بطاريات تدوم بين ثمانية أعوام وثلاثة عشر. قد يكون البديل المستقبلي لهذه البطاريات استخدام مولد ترددات راديوي صغير يُزرع في جدار الصدر، يمكنه نقل الطاقة إلى منظم ضربات القلب بنفس الطريقة التي تشحن بها محطة لاسلكية هاتفًا ذكيًّا.
يظل القلب البشري عضلة فريدة وقوية تتمتع في حدِّ ذاتها بمصدر طاقة طويل الأجل ويُعتمَد عليه. بعد قرن رائع من الاكتشافات والابتكار، لم يَعُد القلبُ اللغزَ الذي كان عليه. ولا شك في أن البشرية ستنجح في إماطة اللثام عن المزيد من أسراره في العقود المقبلة؛ ولكن بغض النظر عن كم الأسرار التي ستُكتشَف، سيظل القلب يحتل موقعًا من السُّمو والغموض في النفس البشرية. وسيُنظر إليه دائمًا بإجلال.