داء السكري
في عام ١٩١٨، في يوم من أيام الخريف في مدينة نيويورك، استمتعت فتاة في الحادية عشرة من العمر تُدعى إليزابيث هيوز بتناول الكعك والآيس كريم في حفل عيد ميلاد صديقتها. استغرب والداها، تشارلز وأنطوانيت، من أن إليزابيث بدت في غاية العطش بعد الحفل. كانت تشرب الماء باستمرار وبدت غير قادرة على إرواء عطشها. وفي الأيام التالية، لاحظا أيضًا أن شهيتها باتت مفتوحة للغاية وأصبحت تتناول الطعام على نحو أكثر من المعتاد، لكنها في الوقت نفسه بدت مُتعَبة، حتى إنها بدت خاملة في بعض الأحيان. كان هذا أمرًا غير عادي بالنسبة إلى إليزابيث، التي كانت مُفعَمة بالحيوية والمرح وروح المغامرة بطبيعتها. كان والداها في حيرة من أمرهما. ما الذي تسبَّب في هذا التغيير؟
في ذلك الشتاء، أصيبت إليزابيث بالإنفلونزا. وفزع تشارلز وأنطوانيت لذلك. فقد كانت الإنفلونزا الإسبانية تقتل الشباب والكبار، والأغنياء والفقراء دون تمييز. ولم تكن أي أسرة بمأمن من الإصابة. كانا يصليان من أجل شفاء إليزابيث، ولحسن الحظ تحسَّنت حالتها. بدا منطقيًّا لبعض الوقت أن تكون أعراض إليزابيث ناتجة عن الإنفلونزا. فقد كانت تتمتع بصحة جيدة جدًّا دائمًا على كل حال.
لكن بحلول ربيع عام ١٩١٩، لم يستطع أحد أن ينكر أن الأعراض المستمرة والمزعجة التي ظهرت على إليزابيث تدل على شيء أكثر خطورة. فإلى جانب العطش الدائم والتبول المتكرر، أصبح فقدان وزنها مثيرًا للقلق. فقد انخفض وزن إليزابيث التي كان طولها أربع أقدام و١١ بوصة من ٧٥ رطلًا إلى ٦٥، على الرغم من أنها كانت تأكل بشراهة. اصطحب الزوجان ابنتهما إليزابيث لزيارة الطبيب، الذي اشتبه في أنها تعاني من داء السكري. وجاءت تحاليل الدم والبول لتؤكد التشخيص.
كان ذلك بمنزلة حكم بالإعدام.
ما لبث تشارلز وأنطوانيت أن عَلِما أنَّ الأطباء لا يعرفون السبب في عدم قدرة أطفال مثل إليزابيث على التمثيل الغذائي للطعام بشكلٍ صحيح. بل علما أن الطعام، الذي يُعَد من ضروريات الحياة بطبيعة الحال، من شأنه أن يقتل ابنتهما حرفيًّا. فكلما أكلت أكثر، مرضت أكثر. لم يكن هناك شفاء، أو دواء. كان الطفل العادي يعيش لمدة ١١ شهرًا بعد التشخيص.
كان الخيار الوحيد أمامهما لإطالة عُمر إليزابيث هو تجويعها فعليًّا. عادة ما يتناول الطفل في عمر إليزابيث ٢٠٠٠ سعرة حرارية في اليوم. أما إذا أرادا لها العيش لأطول فترة ممكنة، فسيتعين عليهما تقليل السعرات التي تتناولها إلى ٧٥٠ سعرة حرارية في معظم الأيام، و٣٠٠ سعرة حرارية في بعض الأيام، ويجب أن تصوم تمامًا يومًا واحدًا في الأسبوع. لا بد من قياس كمية الطعام القليلة التي تأكلها وتوزيعها بعناية. سينحصر غذاؤها في البروتينات والدهون. لا نشويات؛ إذ لن تتمكن أبدًا من تناول الخبز أو الحلوى مرة أخرى. كان ملخص علاج إليزابيث بالتجويع يبدو كالتالي: بيضة واحدة للإفطار، ونصف برتقالة في منتصف الصباح؛ خمس حبات من الزيتون والقليل من كرنب البروكسل للغداء؛ وبيضة وملعقتان من السبانخ، ونصف مكعب صغير من الزبد للعشاء.
بالالتزام بمثل هذه الحِمية الغذائية، قد تضيف إليزابيث عامًا أو اثنين على الأكثر إلى حياتها. أو ربما تموت جوعًا قبل ذلك بكثير، شأنها في ذلك شأن كثير من الأطفال.
لِمَ نزعجهم؟ هكذا تساءل بعض آباء الأطفال المصابين بالسكري. قد تكون قسوة نظام التجويع الغذائي، التي تعني مشاهدة أطفالهم الأحباب يهزلون، ويعانون من ألم الجوع المستمر والمعذِّب، أصعب من أن تُحتمَل. وعدَّ البعض أن التسرية عن أطفالهم بإعطائهم وجبة غذائية ضخمة، لتكون بالنسبة لهم بمنزلة عشاء أخير يضم أطعمتهم المفضلة، وتركهم يأكلون حتى الموت حرفيًّا أمرًا أكثر إنسانية. أليس من الأرحم أن تنتهي الأمور بسرعة، عندما يكون الموت حتميًّا على أي حال؟
ولكن في المقابل، تمسَّك البعض الآخر بالأمل والصلاة أملًا في وصول علاج ما في الوقت المناسب لإنقاذ أحبابهم. اتخذ والدَا إليزابيث قرارًا صعبًا ووافقا على تسليمها إلى رعاية الدكتور فريدريك ألين، الذي كان واحدًا من أبرز مختصي داء السكري، وكان يعزل مرضاه في مصحة تُسمَّى «معهد العلاج الفيزيائي البدني»، الذي تأسس أولًا في مانهاتن ثم انتقل إلى منشأة أكبر في موريستاون، بولاية نيوجيرسي. كان المرضى في المعهد يوضعون تحت الملاحظة الدقيقة. وكان الطهاة والممرضات المدربون يُعدِّون كل ما يتناوله الطفل من طعام ويسجلونه بدقة. وكان معدل التبول ومقدار التمارين يُتَتبَّعان بدقة. كان الهدف من العلاج هو تحديد الحد الأدنى من الغذاء المطلوب لكل طفل كي يبقى على قيد الحياة. اضطر الدكتور ألين والممرضات إلى تغليظ قلوبهم والتعامل بجفاء وبلادة مع استجداءات الأطفال للطعام. كانوا يُذَكِّرون أنفسهم بأنه لولا الجوع، لكان كل هؤلاء الأطفال في عداد الموتى بالفعل.
أقامت إليزابيث في المعهد على فترات متقطعة منذ عام ١٩١٩ حتى عام ١٩٢٢. وبحلول عام ١٩٢١، انخفض وزنها إلى ٥٢ رطلًا. وخارت قواها بشدة، وأصبحت هزيلة كما بدأ شعرها يتساقط. ولكنها ظلت مطيعة ومبتهجة على نحوٍ مدهش. وانبهر الأطباء والممرضات كثيرًا بقدرتها على السيطرة على نفسها والالتزام بحميتها الغذائية، وأصبحوا مولعين بها كثيرًا. حاولت أن تلهي نفسها عن الجوع المستمر من خلال شغل وقتها باستمرار، وتضمنت أنشطتها التمشية وكتابة القصص القصيرة والرسائل والقراءة.
تمثل إنجاز هيوز الأبرز في تنظيم مؤتمر واشنطن البحري خلال عامي ١٩٢١ و١٩٢٢، الذي انتهى بتوقيع معاهدة لنزع الأسلحة بين الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان. وقد نُسِب إلى هيوز إنجاز دبلوماسي رائع بإقناع هذه الدول بالموافقة على الحد من إنتاج السفن الحربية والالتزام بالنسبة ٥:٥:٣ على الترتيب من إجمالي حمولات السفن الحربية، مما حال دون نشوب سباق تسلح جديد في أعقاب الحرب العظمى.
ولكن، وعلى الرغم من كل إنجازاته، وكونه واحدًا من أكثر رجال عصره نفوذًا وشهرة، وقف هيوز عاجزًا عن مساعدة ابنته الصغرى إليزابيث، التي كان مظهرها، الذي صار كهيكل عظمي، يعتصر قلبه. كانت على حافة الموت، ولم يكن بيده شيء يمكنه القيام به سوى الصلاة من أجل حدوث معجزة.
«التبوُّل الخبيث»
للبشر ثلاثة مصادر للطاقة: الدهون والبروتين والكربوهيدرات. يكسِّر الجسم الكربوهيدرات ويحوِّلها إلى جلوكوز، الذي تستخدمه خلايانا بسهولة لتوفير الوقود اللازم للحركة والتنفس والتفكير والقيام بكل ما نحتاجه للعيش. الإنسولين هرمون يُنظِّم التمثيل الغذائي للجلوكوز. والهرمون هو مادة كيميائية تنتجها غدة توجد في جزء من الجسم ثُم تنتقل إلى جزءٍ آخر من الجسم لتحقيق غرضها. يُصنَّع الإنسولين ويُفرَز بواسطة مجموعات من الخلايا في البنكرياس تُسمى «جُزيرات لانجرهانز». في كل خلية من خلايا الجسم، يعمل الإنسولين حارسًا يسمح بدخول الجلوكوز إلى الخلية حتى يمكن استخدامه. يعزز الإنسولين أيضًا نمو العضلات ويتيح تخزين الجلوكوز في صورة الجليكوجين، الأشبه بجلوكوز مختزن يمكن استدعاؤه عند انخفاض مستويات الجلوكوز العادية.
بفضل الإنسولين، تتمكن أجسامنا عادة من الحفاظ على مستوى الجلوكوز الصيامي في دمائنا في نطاق مثالي يتراوح بين ٧٠ و١٠٠ مليجرام/ديسيلتر. إذا كان مستوى الإنسولين في الجسم غير كافٍ، لا تتمكن الخلايا من استخدام الجلوكوز ويبقى في الدم، مما يؤدي إلى ارتفاع مستوى السكر في الدم. وإذا زاد مستوى الجلوكوز عن ١٨٠ مليجرامًا/ديسيلتر، فإنه يفوق قدرة الكُلى على استخلاصه من مجرى الدم ويبدأ الجلوكوز الزائد في الظهور في البول.
مرضى السكري إما أنهم لا يستطيعون تصنيع إنسولين كافٍ (السكري من النوع الأول) وإما أن أنسجتهم لا يمكنها استخدام الإنسولين بكامل تأثيره (السكري من النوع الثاني). وتشمل الأعراض التقليدية لهذا المرض الأيضي ما يلي:
-
(١)
كثرة التبول والعطش: يعمل الجلوكوز الذي يهرب في البول على جذب مزيد من السوائل من الدم من خلال التناضح، مما يزيد العطش بدوره.
-
(٢)
الجوع والتعب: يحدث هذان العرَضان لعدم قدرة الجسم على الحصول على الطاقة من الجلوكوز.
-
(٣)
فقدان الوزن: بدون إنسولين يساعد في بناء العضلات تضمر عضلات الشخص. وبدون طاقة من الجلوكوز، يعمل الجسم على تكسير الدهون للحصول على طاقة (وإن كان لا بد من الإشارة إلى أن السمنة تُعَد عاملَ خطورة رئيسًا من عوامل الإصابة بالسكري من النوع الثاني).
-
(٤)
العدوى المهبلية: يعمل ارتفاع الجلوكوز في الدم على رفع نسبة السكر في العرق والإفرازات الأخرى، مما يخلق ظروفًا مثالية لنمو الخميرة والبكتيريا.
-
(٥)
الرؤية الضبابية: يمكن أن يسبب اضطراب مستويات الجلوكوز انتفاخ عدسة العين.
البنكرياس
تأمل البنكرياس. ليس عضوًا جذَّابًا. ومع أول فرصة تتاح لطالب الطب لحمل البنكرياس بين يديه، سواءً في محاضرات علم الأمراض، أو لمريض حيٍّ أثناء عملية جراحية، قد يندفع نحو وصفه بكلمة واحدة: لزج. ولا يوجد شيء طريف في تشبيه هذا العضو بشخصية «جابا ذا هت». فله اللون نفسه. والقوام نفسه. وكهذا المخلوق العملاق الشبيه بالبزاق في سلسلة «حرب النجوم»، يحتوي البنكرياس على رأس وذيل.
يقع البنكرياس في الجزء العلوي الأيسر من البطن، خلف المعدة وأمام الكُلْية اليسرى. رأسه محشور بإحكام داخل جزء منحنٍ من الاثني عشر (الجزء الأول من الأمعاء الدقيقة) كأنه قبضة يد تضغط بقوة على راحة يدك الأخرى. والبنكرياس عضو «مخفي»؛ فهو مدفون في أعماق تجويف البطن لدرجة أن فحصه سريريًّا باللمس يكاد يكون مستحيلًا، كما أن الأمراض المرتبطة به غالبًا لا تصبح واضحة إلا عندما تكون في مرحلة متقدمة جدًّا، على سبيل المثال، عندما يصبح ورم ما كبيرًا إلى حدِّ أنه يبدأ في الضغط على الأعضاء المجاورة.
للبنكرياس وظيفتان عامتان. أولًا: يُطلق الإنزيمات الهاضمة التي تنتجها الخلايا العنيبية «الخارجية الإفراز». تتدفق هذه الإنزيمات الهاضمة (التي يُطلَق عليها التربسين والكيموتربسين والليباز والأميليز) عبر القناة البنكرياسية الرئيسية وتُودَع في الاثني عشر. يتألف نحو ٨٥ في المائة من البنكرياس من الخلايا العنيبية التي تنتج من لترين إلى لترين ونصف من الإنزيمات يوميًّا. يُخصص جزء أصغر بكثير من البنكرياس لوظيفته الثانية، وهي: إفراز الهرمونات، مثل الإنسولين والجلوكاجون والسوماتوستاتين، التي تُنتَج داخل خلاياه الصماء التي يُطلق عليها جُزيرات لانجرهانز. سُميت هذه التجمعات الخلوية الفريدة على اسم طالب الدكتوراه الألماني بول لانجرهانز الذي اكتشفها في عام ١٨٦٩. وقد رأى أن هذه الخلايا مختلفة عن الخلايا العنيبية الوفيرة، لكنه لم يتيقن من وظيفتها.
غير أن الأطباء في القرن التاسع عشر بدءُوا يشتبهون في أن البنكرياس كان جزءًا لا يتجزأ من الفسيولوجية المرضية لداء السكري، ويرجع جزء من السبب في ذلك إلى أن المرضى الذين تُوُفُّوا على أثر المرض كانوا يُظهِرون أحيانًا تلفًا في العضو عند التشريح، كما أن الأفراد الذين تعرضوا لإصابة في البنكرياس أصيبوا بالمرض. وتأكَّد هذا الرابط في عام ١٨٨٩، عندما استأصل الطبيبان الألمانيان أوسكار مينكوفسكي وجوزيف فون ميرينج بنكرياس كلب وأفادا بأن الكلب أصيب بأعراض السكري إلى جانب ارتفاع الجلوكوز في الدم والبول. وعند إعادة زرع جزء صغير من البنكرياس في جسم كلب منزوع البنكرياس، حدث العكس.
مع بداية القرن العشرين، كان العلماء قد أدركوا أن البنكرياس يؤثر على التمثيل الغذائي للجلوكوز، لكنهم لم يفهموا كيفية ذلك. ووضع كثير منهم نظريات مفادها أن البنكرياس — وتحديدًا جزيرات لانجرهانز — يُفرز شيئًا بالتأكيد، ربما هرمونًا يَبقى في مجرى الدم وينظم مستويات السكر فيه (وصف بأنه «إفراز داخلي» أو «إفراز من خلايا صماء»)، ولكن كيف يمكن تحديده واستخلاصه؟
لماذا لا نفرم جزءًا من البنكرياس ونحقن به الحيوانات أو المرضى، ونرى ماذا سيحدث؟ كان العلماء يعتقدون أن الهرمون الغامض سيكون حتمًا في مكان ما في هذا المزيج.
جرب البعض ذلك بالفعل، ولكن معظم المحاولات لعلاج مرضى السكري بمستخلصات الأنسجة البنكرياسية فشلت أو ثبت أنها غير قاطعة. وساهمت الآثار الجانبية السلبية بالذات، كالعدوى في موضع الحقن أو ردات الفعل التحسسية الشديدة، في إحباط الباحثين. وقد أرجع كثير من الأطباء عجزهم عن استخلاص الهرمون الذي تنتجه جزر لانجرهانز إلى وجود الإنزيمات الهاضمة القوية للبنكرياس (التي وصفت بأنها «إفرازات خارجية»)، التي كانوا يعتقدون أنها تدمر الإفرازات الداخلية الأكثر حساسية حتمًا، أيًّا كانت.
ليت هناك طريقة لاستخلاص الإفراز الداخلي بمفرده.
الإفراز «الداخلي»
في أحد الأيام، كُلِّف بانتنج بإلقاء محاضرة عن أيض الكربوهيدرات لصف من طلاب الفسيولوجيا. لم يكن لديه اهتمام خاص بالكربوهيدرات أو الفسيولوجيا أو طب الغدد الصماء في العموم؛ لذا قرأ عنها. وفي ليل الثلاثين من أكتوبر ١٩٢٠، تصفح مجلة جراحية وعثر على مقال بعنوان «العلاقة بين جُزيرات لانجرهانز والسكري مع إشارة خاصة إلى حالات تكوُّن الحصوات البنكرياسية». كان المؤلف اختصاصيًّا في علم الأمراض أمريكي الجنسية أجرى تشريحًا لمريض كان لديه حصوة بنكرياسية سدَّت القناة البنكرياسية ومنعت تدفُّق الإنزيمات الهاضمة. ضمرت خلايا البنكرياس العنيبية المنتجة للإنزيمات الهاضمة لدى المريض. ولكن الخلايا الجزيرية نجت.
أثار هذا المقال لدى بانتنج تجليًّا أبقاه مستيقظًا طوال الليل. كان الرأي السائد يذهب إلى أن عجز العلماء عن استخلاص الإفراز الداخلي الغامض يعود إلى التأثير الضار للإنزيمات الهاضمة التي تنتجها خلايا البنكرياس العنيبية. لكن بانتنج فكر: ماذا لو كانت هناك طريقة لتكرار ما حدث للمريض الذي تحدث عنه المقال؟ ماذا لو استطاع إيقاف إفراز الإنزيمات الهاضمة؟ حينها سيفرز البنكرياس الإفراز الداخلي وحده، وبذلك يمكن لبانتنج استخلاصه.
لكن كيف يمكنه تكرار تأثير حصوة القناة البنكرياسية؟
كان بانتنج جرَّاحًا. فاستطاع سدَّ القناة البنكرياسية عن طريق لف الخيوط حولها وربطها. وفي تلك الليلة، كتب بانتنج رسالة إلى نفسه في دفتر ملاحظات:
«السكري:
اربط القنوات البنكرياسية لكلب. أبقِ الكلابَ حية إلى أن تتحلل الخلايا العنيبية وتتبقى الخلايا الجزيرية.
حاول استخلاص الإفراز الداخلي لهذه الخلايا لعلاج البول السكري.»
لو أن بانتنج ربط القناة البنكرياسية التي توصل الإنزيمات الهاضمة إلى الاثني عشر وأغلقها، لتسبب ذلك في ضمور الخلايا العنيبية على مدى المدة التالية التي تراوحت بين سبعة وعشرة أسابيع. وإذا نجح بعد ذلك في عزل الإفراز الداخلي لخلايا الجزيرات، يمكنه حقن كلب أصيب بالسكري بعد استئصال البنكرياس منه، ومعرفة ما إذا كان الإفراز الداخلي يعالج السكري.
في مايو ١٩٢١، تخلى بانتنج عن عيادته الطبية وانتقل إلى تورونتو لبدء البحث. وبعدما ساعده ماكلاود في تنظيم أموره، غادر ماكلاود لقضاء عطلة الصيف في اسكتلندا. أصبح تشارلز بِست، وهو طالب يدرس الطب يبلغ من العمر ٢١ عامًا، مساعدًا لبانتنج. قضى بانتنج وبِست الصيف يجريان عمليات على الكلاب. فاستأصلا البنكرياس من مجموعة من الكلاب، وهو ما أدى إلى إصابتها بالسكري. وفي مجموعة أخرى، ربطا القنوات البنكرياسية، وانتظرا نحو سبعة أسابيع حتى تتحلل الخلايا العنيبية التي تنتج الإنزيمات الهاضمة، ثم جمعا البنكرياسات، على أمل ألا تحتوي إلا على الإفرازات الداخلية وأن تكون خالية من الإفرازات الخارجية.
على الفور، ظهر أمامهما لغز وهو الطريقة المثلى لتحضير المستخلص البنكرياسي. فقررا تقطيع البنكرياس إلى شرائح، وتجميده جزئيًّا في محلول رينجر المبرَّد (وهو عبارة عن مزيج من الأملاح في الماء)، وطحنا هذا الخليط بواسطة هاوُن ومِدقَّة، مع تصفية البقايا. وكان المنتج سائلًا مائلًا إلى اللون الوردي.
في الثلاثين من يوليو لعام ١٩٢١، في تمام الساعة العاشرة صباحًا، حقن بانتنج وبِست أربعة مليمترات مِن مُستخلَصهما في وريد كلب أبيض كانت نسبة السكر في دمه ٠٫٢٠٪ (علمًا أن النطاق الطبيعي يتراوح بين ٠٫٠٨ و٠٫١٣٪ في الكلاب). وفي الساعة الحادية عشرة صباحًا، انخفض سكر الدم لدى الكلب بصورة كبيرة؛ إذ وصل إلى ٠٫١٢٪، وهو تأثير قوي. تحسنت الحالة السريرية للكلب أيضًا؛ فقد كان الكلب في السابق خاملًا، والآن صار يَقِف ويتحرَّك، ويهز ذيله، حتى إنه عاد يُظهِر مشاعر الود للقائمين على الدراسة. بعد يومين، أعطيا مستخلصهما لكلب استُؤصل بنكرياسه ودخل في غيبوبة. والمذهل أن الكلب قد استفاق خلال ساعة واستطاع «الوقوف والمشي». تحققت نتائج إيجابية أيضًا مع كلب ثالث. وبالإضافة إلى أن هذه الكلاب أصبحت أقوى وأنشط، لاحظ بانتنج وبِست أن جروح هذه الحيوانات بدأت تُشفَى بصورة أسرع أيضًا.
ولكن ظلت هناك تحديات عديدة. فكانت جراحة ربط القناة البنكرياسية صعبة وكانت أحيانًا تؤدي إلى وفاة الكلاب بسبب فقدان الدم أو التخدير الزائد. وعانت كلاب أخرى من عدوى شديدة أو ردات فعل تحسُّسية للمستخلص. كما تسبب إعطاء جرعة زائدة مِن المستخلص في انخفاض سكر الدم لدى الكلاب، وهو ما كان يؤدي أحيانًا إلى الغيبوبة والوفاة. استعان الباحثان الشابان بكثير من الكلاب حتى اضطُرَّا إلى الخروج إلى شوارع تورونتو لشراء الكلاب بمبلغ يتراوح بين دولار وثلاثة دولارات لكلٍّ منها. علاوة على ذلك، كان الانتظار حتى تحلل البنكرياس المربوط يستغرق سبعة أسابيع أو أكثر، وكان يبدو أن المستخلص دومًا غير كافٍ لإجراء التجربة.
ولكن كان العالمان المبتدئان يعرفان أنهما بصدد الوصول إلى شيء. وفي رسالة أرسلها بانتنج إلى ماكلاود في التاسع من أغسطس عام ١٩٢١، كتب يقول: «لا أعرف من أين أبدأ.» وأفاد بأن مستخلصهما، الذي اختار هو وبِست أن يُسمِّياه «إيسلتين»، قد خفَّض سكر الدم وحسَّن الأعراض السريرية للكلاب على نحو مثير في بعض الأحيان. كتب ماكلاود ردًّا ونوَّه بضرورة بذل كثير من الجهد لضمان «عدم وجود أي احتمالية للخطأ». واستطرد موضحًا: «غالبًا ما يكون من السهل جدًّا في العلم أن يقنع الإنسان نفسه بشأن نقطة ما، ولكن من الصعب جدًّا بناء معقل حصين من الأدلة التي لا يستطيع الآخرون تقويضها. لنفترض الآن، على سبيل المثال، أنني أردت أن أكون واحدًا من هؤلاء النقاد، عندئذٍ سأقول إن نتائج تجربتك على الكلب رقم ٤٠٨ لم تكن مقنعة تمامًا لأن …»
ومضى يقترح عليه تجارب جديدة يتعين على بانتنج وبِست القيام بها، بعضها كان الثنائي قد أكمله بالفعل قبل وصول رسالة ماكلاود إليهما في أوائل سبتمبر. فقاما بتجربة ضابطة عن طريق استئصال البنكرياس من كلبين، تلقى أحدهما المستخلص دون الآخر. في غضون يومين، أصبح الكلب الذي لم يتلقَّ العلاج كسولًا وكان بالكاد يستطيع المشي. ونفق بعد يومين. في المقابل، انخفضت نسبة سكر الدم لدى الكلب الذي عولج بالمستخلص بصورة ملحوظة وظل في «حالة ممتازة»، وأخذ يجري في أنحاء الغرفة «في مرح». أصبح هذا الكلب، الذي حمل الرقم ٩٢، والكلاب الأخرى التي كانت تظل على قيد الحياة عند استخدام المستخلص، عزيزة على بانتنج. لكن كانت هناك دائمًا كمية محدودة من المستخلص، وبعد نفادها، نفق الكلب رقم ٩٢ بعد ثلاثة أسابيع من استئصال البنكرياس. وقد كتب بانتنج عن ذلك لاحقًا قائلًا: «لقد رأيت مرضَى يموتون ولم أذرف دمعة واحدة. لكن عندما مات ذلك الكلب، أردت أن أكون وحدي؛ لأن الدموع ستسقط رغمًا عني مهما حاولت منعها. كنت أشعر بالخزي لذا أخفيت وجهي عن بِست.»
بعد عودة ماكلاود من اسكتلندا في أواخر سبتمبر، التقى ببانتنج. كان هذا اللقاء يُنذِر بعلاقة صعبة بين الاثنين. فقد طلب بانتنج — الذي كان يعمل طوال الصيف مِن دون أجر وكان يعيش نمط حياة بسيطًا ومتقشفًا يعتمد على مدخراته — من ماكلاود راتبًا وصبيًّا للعناية بالكلاب، وغرفة مخصصة لبانتنج وبِست لممارسة عملهما فيها، وإصلاحات لأرضية غرفة العمليات، التي كانت متداعية بصورة كبيرة. ورفض ماكلاود هذه المطالب، ما أثار إحباط بانتنج. ولمَّح ضمنًا إلى أن بحث بانتنج وبِست ليس أهم من المشروعات الأخرى التي يتولى الإشراف عليها، وأن إعطاءهم موارد أكثر سينتقص من موارد أبحاث أخرى. كان هذا الرد مهينًا للغاية لبانتنج، الذي شعر أنه قدَّم تضحيات هائلة من أجل مباشرة المشروع. كتب بانتنج فيما بعد عن هذا الاجتماع يقول:
أخبرته أنه إذا لم تعتبر جامعة تورونتو أن النتائج التي حصلنا عليها بالأهمية الكافية التي تستحق معها توفير المتطلبات المذكورة أعلاه، سأُضطَرُّ إلى الذهاب إلى مكان يُقدِّر أهميتها. وكان رده: «بالنسبة إليك، أنا أُمثِّل جامعة تورونتو.» أخبَرني أن هذا البحث «ليس أهم من أي بحث آخر في القسم.» فقلت له: إنني تخليت عن كل ما أملك في الحياة للقيام بهذا البحث، وإنني سأقوم به، وإذا لم يوفر مطالبي، فسأذهب إلى مكان آخر يوفرها. فقال لي: «من الأفضل أن تذهب.»
عزم بانتنج على الرحيل، في الوقت الذي بدا فيه أن ماكلاود يتراجع، ثم لان جانبه. وفي النهاية أذعن لكل مطالب بانتنج.
بعد هذا اللقاء، أفضى بانتنج بما في نفسه من غضب وإحباط إلى بِست، الذي تذكر أن بانتنج «بدأ يزبد أثناء الحديث.» بمرور الوقت، تطور استياء بانتنج من ماكلاود، الذي شعر أنه لم يكن داعمًا بما فيه الكفاية منذ البداية، إلى عداء صريح. وظل ماكلاود غافلًا لعدة أشهر عن شدة غضب بانتنج. كان في رأيه أن بانتنج وبِست باحثان هاويان بلا خبرة حقيقية في علم الفسيولوجيا أو البحث. في الواقع، كان هو من يقدم التضحية لدعم اثنين لم تثبت جدارتهما بعد. وظل غياب التفاهم المتبادل بين الطرفين يعكر صفو فريق الكشف، مما ترتب عليه تداعيات حادة في الأشهر التالية.
استؤنفت التجارب، وطلب ماكلاود من بانتنج وبِست تقديم عملهما البحثي في اجتماع «نادي الدوريات الفسيولوجية» التابع للجامعة في الرابع عشر من نوفمبر عام ١٩٢١. تُعقَد مثل هذه الاجتماعات في جميع كليات الطب في كل مكان. وتُعتَبر اجتماعات غير رسمية ويحضرها الأطباء والطلاب من داخل المؤسسة عمومًا، وليس الجمهور العام. كان هذا المكان المثالي لبانتنج وبِست لتقديم عملهما لأول مرة؛ إذ لم يكن لأحد منهما خبرة سابقة تُذكر في تقديم البحوث العلمية.
لم يكن بانتنج يحب التحدُّث أمام جمهور. فكان عادة ما يشعر بالتوتر الشديد وكان يميل للتمتمة. ومع ذلك، أعد بانتنج عرضه التقديمي بعناية لنادي الدوريات. وطلب من ماكلاود أن يقدمه للجمهور، وخطط لأن يعرض بِست الملصقات التي تعرض بياناتهم بينما كان بانتنج يتحدث.
لكن ما أثار استياء بانتنج أن ماكلاود ألقى خطابًا تمهيديًّا مطولًا لخص فيه تقريبًا كل شيء كان بانتنج يخطط لقوله. ونتيجة لذلك، انتاب بانتنج — الذي كان قلقًا ويشعر بعدم الارتياح بالفعل — ارتباك شديد، وجاء أداؤه في عرض البحث سيئًا.
استشاط بانتنج غضبًا لما شعر به من إهانة وصب هذا الغضب على ماكلاود. أزعجه أن ماكلاود قد أعطى انطباعًا بأنه من يتولى زمام البحث. وسرق الأضواء من بانتنج بشرح المشروع بأكمله بنفسه خلال المقدمة. علاوة على ذلك، استخدم ماكلاود ضمير المتكلم «نحن» عند وصف العمل، ما أثار استياء بانتنج وأذكى غضبه. وقد كتب بانتنج لاحقًا بأسف أنه بعد انتهاء العرض «كان الطلاب يتحدثون عن العمل المدهش للبروفيسور ماكلاود.» كان من المفترض أن يكون ماكلاود مرشدًا لهما؛ فهو خبير ذو شهرة عالمية ولا بد أن يساعدهما، ولكن بانتنج كان يرى أن أي دعم قدَّمه ماكلاود كان يُقدَّم على مضض، كما أنه كان غائبًا تمامًا خلال فترة الاكتشاف الرئيسة. وبدا واضحًا لبانتنج آنذاك أن ماكلاود، مع حصولهما على نتائج مُبشِّرة، كان حريصًا على ركوب الموجة ونسب لنفسه الفضل في النتائج التي حصلا عليها.
لم يُفضِ بانتنج بمشاعره تلك إلى ماكلاود الذي ظل غافلًا. وبعد مدة طويلة، كتب ماكلاود: «لو علمت موقف بانتنج هذا آنذاك، لانتبهت إلى طباعه الغريبة وشكوكه غير المبررة تمامًا بأنني أحاول نَسَب الفضل في النتائج التي حصل عليها لنفسي.»
في غضون ذلك، أصبح الجانب الأكثر إشكالية وتقييدًا لمعدل التجارب التي يُجرونها متمثلًا في ضرورة الانتظار سبعة أسابيع بعد ربط القناة البنكرياسية كي تضمر الخلايا العنيبية، قبل جمع البنكرياسات للحصول على مُستخلَص قابل للاستخدام. في منتصف نوفمبر، فكر بانتنج في طريقة ممكنة لتسريع إنتاجهما للمستخلص. كان قد قرأ أن الحيوانات حديثة الولادة أو الأجنة منها لديها نسبة أكبر من الخلايا الجزيرية مقارنة بالخلايا العنيبية المنتجة للإنزيمات الهاضمة. وقد كان هذا منطقيًّا، لا سيما في الأجنة؛ لأن هذه الحيوانات لم تتناول بعد أي طعام خارجي؛ ومن ثَم لن تحتاج أبدًا إلى إنتاج الإنزيمات الهاضمة. واستنتج بانتنج أن هذه البنكرياسات قد تحتوي على الإفراز الداخلي خاليًّا من الإفراز الخارجي. وكان يعلم أن كثيرًا من المزارعين يقومون بإخصاب ماشيتهم قبيل الذبح مباشرة لأن الحمل يزيد وزنها ويجعلها أفضل من حيث التغذية؛ لذا كانت هناك وفرة من أجنة العجول متاحة في المذابح. ذهب هو وبِست إلى مذبح محلي واستخرجَا البنكرياس من تسعة أجنة للعجول. وأعدوا منها مستخلصهم البنكرياسي، ومن دواعي سرورهما أنهما قد وجدا هذا المستخلص فعَّالًا؛ إذ نجح في خفض سكر الدم لدى الكلاب التي استؤصل البنكرياس منها. ولم يعودا مُضطَرَّين إلى إجراء عمليات ربط القناة المعقدة، ولا الانتظار سبعة أسابيع حتى ضمور بنكرياسات الكلاب قبل جمعها. ما كان عليهما سوى الذهاب إلى المذبح، حيث يمكنهما الحصول على كل بنكرياسات الأجنة التي يحتاجان إليها.
في أواخر نوفمبر، كتب بانتنج وبِست أول ورقة بحثية لهما تتناول نتائجهما بالتفصيل. كان عنوانها «الإفراز الداخلي للبنكرياس»، ونُشرت في عدد فبراير من دورية «جورنال أوف لابوراتوري آند كلينيكال ميديسين»، وهي دورية أمريكية مرموقة. سأل بانتنج ماكلاود عما إذا كان يرغب في أن يكون مؤلفًا مشاركًا في الورقة البحثية، لكن ماكلاود رفض. وقد كتب ماكلاود عن ذلك في وقت لاحق قائلًا: «سألني بانتنج عما إذا كنت أرغب في أن يظهر اسمي مع اسمه واسم بِست، وكان ردي أنني شكرتهما وأوضحت أنني لا أستطيع القيام بذلك لأن ذلك عملهما و«لم أرغب في أن يُنسَب لي الفضل في شيء لم أفعله».»
في مطلع ديسمبر، توصَّل بانتنج وبِست إلى اكتشافٍ آخرَ مهم عندما قررا استخدام الكحول، بدلًا من المحلول الملحي، كوسيلة لتركيز وتنقية المستخلص. وقد أسفرت هذه الطريقة الجديدة — التي اقترحها ماكلاود في البداية — عن مستخلص أكثر فاعلية قلل من سكر الدم لدى الكلاب على نحو أكثر انتظامًا. ثم تساءَلا، إذا كان المكوِّن النَّشِط الغامض قابلًا للذوبان في الكحول، فربما يمكنهما استخدام هذه الطريقة للحصول على الإفراز الداخلي مِن بنكرياس كامل، وليس مِن بنكرياس متحلل أو بنكرياس جنيني. وفي المرة التالية التي استأصلا فيها البنكرياس مِن كلب لإصابته بالسكري، بدلًا مِن التخلص مِن العضو، استخدماه في إعداد مستخلص باستخدام طريقة الكحول الجديدة وحقَنَا المستخلص مرة أخرى في نفس الكلب. انخفض سكر الدم لدى الكلب. ونجح الأمر. وأظهر هذا أن فرضية بانتنج الأصلية — أن الإفراز الداخلي لا يمكن استخلاصه إلا في غياب الإنزيمات الهاضمة التي تنتجها الخلايا العنيبية — لم تكن صحيحة. وباستخدام تقنيات التنقية الصحيحة، أمكن استخلاص الإفراز الداخلي من البنكرياس الكامل، وهو اكتشاف حيوي أدَّى في النهاية إلى تسريع وتسهيل إنتاج المكوِّن النشط أكثر من أي وقت مضى.
فريق من الخصوم
حتى ذلك الوقت، كان الفريق يعلم أن اكتشافاته قد تُؤدِّي إلى علاجات مفيدة للمرضى من البشر على نحو أسرع بكثير فاق أحلام الجميع في السابق. لكن لتحقيق ذلك، كان عليهما تحسين نقاء المكون النشط المستخلص أكثر. حتى ذلك الحين، كان لا بد من توفير كميات كبيرة من المستخلص— حقن من ٥ إلى ١٠ مليلترات أو أكثر في العادة — للوصول إلى انخفاضات كبيرة في سكر الدم. وظلت فاعلية كل جرعة متغيرة. ففي بعض الأحيان، كانت كمية صغيرة من المستخلص تخفض سكر الدم بصورة كبيرة. لكن في أوقات أخرى، كان الحصول على النتيجة المَرجوَّة يتطلب حقن جرعات كبيرة متتالية.
في منتصف ديسمبر، دعا الفريق خبيرًا في الكيمياء الحيوية يدعى جيمس برترام كوليب للانضمام إليهما. كان كوليب أستاذًا شابًّا من جامعة ألبرتا، حصل على زمالة السفر من مؤسسة روكفلر لتمويل فترة من العمل البحثي في جامعة تورونتو. وكان يتمتع بخبرة سابقة في العمل على عزل المركبات البيولوجية وكيمياء الدم؛ لذا كان مناسبًا لمساعدة الفريق في تنقية المكوِّن النَّشِط.
عمل كوليب على مدار الساعة، وجرَّب طرقًا مختلفة لتنقية الإفراز الداخلي. واستطاع تغيير تركيز الكحول، وتغيير درجة الحرارة التي تُنفَّذ الخطوات المختلفة عندها، وتغيير معدل التبخُّر باستخدام المراوح، واستخدام المرشحات لإزالة الدهون والشوائب الأخرى بقوة، وتسخين المنتج أو تبريده بسرعة، أو التلاعب بعدد مِن العوامل الأخرى، كل ذلك في محاولةٍ لإنتاج أنقى وأقوى مستخلص ممكن. وفي أواخر ديسمبر، أجرى تجربة مهمة حيث ضحَّى بأحد الكلاب التي استؤصل بنكرياسها ثم عولجت بالمستخلص وأزال كبد الكلب. اختبر الكبد وكان من دواعي سروره أن وجد أنه يحتوي على درجة عالية من الجليكوجين. وبما أن الإفراز الداخلي هو الوحيد الذي يمكنه حث الكبد على تخزين الجلوكوز في صورة جليكوجين، فقد قدَّم هذا دليلًا إضافيًّا آخر على أن المستخلص كان بديلًا ناجحًا للإفراز الداخلي الطبيعي للجسم. استقرَّ كوليب على استراتيجية تنطوي على إذابة المستخلص في تركيزات أعلى وأعلى من الكحول. عندما ظل المكون النشط قابلًا للذوبان في الكحول، كانت الدهون والشوائب الأخرى تترسب في صورة مواد صلبة بعد تعرضها للطرد المركزي. وبهذه الطريقة، تمكن من إزالة المزيد من الملوثات أكثر من أي وقت مضى وتركيز المنتج النهائي بصورة أكثر فاعلية. ومع قرب حلول عام ١٩٢٢، كان قاب قوسين أو أدنى من تحقيق النجاح إلى حدٍّ مذهل.
ولكن لسوء الحظ، بدأت العلاقات بين أعضاء الفريق تتدهور بالتزامُن مع تسارع وتيرة التقدم العلمي الذي حققوه. ففي الثلاثين من ديسمبر لعام ١٩٢١، سافر بانتنج وبِست وماكلاود إلى نيو هافن، بولاية كونيتيكت، لعرض أبحاثهم في مؤتمر الجمعية الفسيولوجية الأمريكية، وهو مؤتمر علمي كبير. حضر المؤتمر نخبة من الشخصيات المهمة في مجال أبحاث السكري، كان من بينهم فريدريك ألين، من معهد العلاج الطبيعي بنيوجيرسي، وإليوت جوسلين، وهو طبيب من بوسطن ألَّف كتابًا دراسيًّا مهمًّا عن السكري. كان المؤتمر بمنزلة الدوري الكبير، وكان بانتنج في غاية التوتر. وللأسف، كان أداؤه في هذا التجمع الكبير أسوأ مما كان عليه في نادي الدوريات في تورونتو في الشهر السابق. فأمام تجمع كبير ومهيب، تمتم بانتنج ولم يتمكن كثير مِن الحضور من سماعه. وهكذا فشل في تقديم وجهة نظر مقنعة لعزل الإفراز الداخلي للبنكرياس. وقد سرد ذكرياته لاحقًا عن هذه الواقعة بكلماته قائلًا: «عندما استُدعيت لتقديم عملنا، أصبحت شبه شليل. لم أتمكن من التذكر أو التفكير. لم أتحدث أبدًا إلى جمهور من هذا النوع من قَبل. انتابتني رهبة شديدة. ولم أقدِّم العمل جيدًا.»
عندما انتهى بانتنج، بدأ الخبراء الحاضرون في صفوف الجمهور في طرح الأسئلة والمخاوف بشأن الادعاءات التي قدَّمها الباحثون. وجد ماكلاود نفسه في موقف صعب للغاية وهو يشاهد تلميذه يتخبط. كانت أبحاث بانتنج منبثقة مِن مُختبر ماكلاود؛ ومِن ثَم كانت تنعكس على سمعة ماكلاود. ونظرًا لكونه العالم الأكثر خبرة في هذا المشروع، لم يكن لديه خيارٌ سوى خوض النقاش ومحاولة إنقاذ العرض التقديمي لبانتنج، وهو ما نجح في القيام به إلى حدٍّ كبير.
ولكن بدلًا مِن أن يشعر بانتنج بالامتنان، انتابته مشاعر الغضب والحسد تجاه ماكلاود لفصاحته الشديدة، في حين أخفق هو إخفاقًا ذريعًا. وحمَّل بانتنج ماكلاود مسئولية اختطاف المناقشة واستخدام «نحن» و«عملنا» بحرية في حديثه. وتحول شعور بانتنج بعدم الأمان وغضبه المستعر من حماس ماكلاود الفاتر تجاه البحث في البداية إلى جنون ارتياب مكتمل الأركان دفعه إلى التفكير في أن ماكلاود كان يحاول أن ينسب لنفسه الفضل في بحثٍ لم يُشارِك فيه تقريبًا. وفي مذكرات لم تُنشَر، كتبها بانتنج بخط اليد في عام ١٩٤٠، وصف حالته النفسية أثناء ركوب القطار الليلي عائدًا إلى تورونتو: «لم يغمض لي جفن في القطار تلك الليلة، حتى إنني لم أذهب إلى سريري بل بقيت جالسًا في العربة التي يُسمح فيها بالتدخين وأنا أتهم ماكلاود بأنه محتال وأنعت نفسي بالأحمق … كنت أعرف حقيقة ماكلاود: متحدث وكاتب. وباستثناء قلمه ولسانه، لم يكن ليصبح حتى باحثًا في مختبر؛ لأنه لا يملك أفكارًا مبتكرة، وليس لديه المهارة لإجراء تجربة بيديه.»
بدأ جنون الارتياب لدى بانتنج في الانتشار ليتخطى ماكلاود وحده. فأصبح يغار من نجاح كوليب في عزل شكل أنقى من الإفراز الداخلي وأدرك أن التاريخ هو مَن سيذكر الشخص الذي استُخدِم مستخلص البنكرياس الخاص به لأول مرة لعلاج مريض بشري بنجاح. كانت مهمة كوليب تتمثل في تنقية المكون النشط؛ لذا كان من الطبيعي أن تُستخدَم تركيبته أولًا؛ لكن بانتنج أراد في ذلك الوقت أن يكون مستخلصه هو الأول. فطلب بانتنج مِن ماكلاود مساعدته في إقناع المستشفى بالسماح له باستخدام المستخلص الذي أنتجه هو وبِست على أول مريض بشري. وافق ماكلاود على ذلك، بما قد يخالف قناعاته؛ إذ كان منتج كوليب بالتأكيد أنقى مِن منتج بانتنج، وربما جاء قراره هذا لتهدئة بانتنج وأسلوبه الذي يزداد إلحاحًا، وتم الحصول على الإذن من المستشفى.
كان المريض الأول الذي تلقى رسميًّا مستخلص بانتنج البنكرياسي صبيًّا في الرابعة عشرة من عمره يدعى ليونارد تومسون. نظرًا لاتِّباع ليونارد العلاج الغذائي الذي وضعه فريدريك ألين المُعتمِد على التجويع، كان نحيفًا ضامرًا لا يتجاوز وزنه خمسة وستين رطلًا. كان خاملًا وشاحبًا إكلينيكيًّا، وكان شعره يتساقط ورائحة نفسه تشبه رائحة الأسيتون. كان يرقد في السرير طوال اليوم تقريبًا، وكان أشبه بضحايا المجاعات أو معسكرات الاعتقال؛ إذ كان مجرد كتلة من الجلد والعظم، مع بطن منتفخ. أعد بانتنج وبِست مستخلصهما مِن بنكرياس بقري كامل باستخدام التقنية نفسها التي استخدماها في ديسمبر لإنتاج المستخلص الذي نجح مع الكلاب. وكان سائلًا بُنيًّا لزِجًا. في الحادي عشر من يناير من عام ١٩٢٢، حُقِن ٧٫٥ مليلترات في كل من ردفي ليونارد تومسون على يد طبيب مقيم يُدعَى إد جيفري. لقد اختاروا كمية تعادل نصف الجرعة التي يُتوَقَّع أن تخفض السكر في الدم بنجاح لدى كلب مساوٍ للطفل في الوزن. عندما جاءت نتائج تحليل سكر الدم، علم بانتنج وبِست أن العلاج لم يُحدِث سوى تأثير طفيف فقط. فقد انخفض سكر الدم من ٤٤٠ مليجرامًا/ديسيلتر إلى ٣٢٤ مليجرامًا/ديسيلتر. وكان السكر ما زال موجودًا في بول المريض. لم يُلاحَظ أي تحسن إكلينيكي، وللأسف تكوَّن خراج في موضع إحدى الحقن.
لا شك في أن كوليب قد رأى سلوك بانتنج مزعجًا للغاية. فقد بدا أن بانتنج قد تسرَّع في علاج مريض بمنتج دون المستوى بدافع المصلحة الشخصية. في الوقت نفسه، واصل كوليب العمل ليلًا ونهارًا. وبعد بضعة أيام فقط في منتصف يناير، في منتصف الليل، نجح كوليب في إنتاج ما اعتبره مستخلصًا شبه نقي لأول مرة. وعن هذه اللحظة، كتب لاحقًا: «شعرت حينها وأنا وحدي هناك في الطابق العلوي من مبنى علم الأمراض بأكبر قدر من الإثارة عايشته في حياتي.» وفي هذه اللحظة، أصبح جيمس كوليب أول شخص في التاريخ يرى ما قرَّر الفريق في النهاية أن يسميه «إنسولين» في شكله الفيزيائي.
كان هذا انتصارًا، لكنه سرعان ما تعكر بمشاجرة لا تُنسَى بين كوليب وبانتنج. فيما يلي وصف بانتنج لما حدث:
وقعت الطامة الأسوأ في مساء أحد الأيام قرب نهاية يناير. قَل تواصل كوليب أكثر فأكثر، وأخيرًا بعد غياب نحو أسبوع جاء إلى غرفتنا الصغيرة في حوالي الساعة الخامسة والنصف مساءً. دخل من الباب وقال: «حسنًا يا رفاق، لقد حصلت عليه.» استدرت وقلت: «رائع، تهانينا. كيف فعلت ذلك؟» أجاب كوليب: «لقد قررت ألا أخبرك.» كان وجهه شاحبًا كقطعة من الورق. بدا كأنه سيذهب. فأمسكته من معطفه من الأمام بيد واحدة ورفعته عن الأرض تقريبًا وأجلسته بالقوة على الكرسي. لا أتذكر كل ما قيل ولكن أتذكر أنني قلت له إنه من حسن الحظ أنه أصغر حجمًا بكثير وإلا «لانهلت عليك باللكمات والضربات.» أخبرنا أنه ناقش هذا الأمر مع ماكلاود وأن ماكلاود قد اتفق معه على ألا يخبر أحدًا عن طريقة تنقية المستخلص.
لم يكتب كوليب عن هذه الواقعة مطلقًا، لكن بِست الذي كان حاضرًا، كتب فيما بعد يقول: «صرح لي كوليب بأنه سيغادر مجموعتنا وأنه ينوي تسجيل براءة اختراع باسمه عن تحسينه مستخلص البنكرياس الخاص بنا … كان بانتنج غاضبًا للغاية وكان مِن حظ كوليب أنه لم يتعرَّض لأذًى كبير … أتذكر أنني كنت أمنع بانتنج عنه بكل ما أوتيت من قوة.»
وصلت العلاقات بين فريق الاكتشاف إلى الحضيض. ففي ٢٣ يناير، تلقى المريض ليونارد تومسون مستخلص كوليب. وكان أكثر فاعلية بكثير من علاج بانتنج الذي طبقه قبل ١٢ يومًا. فقد انخفض سكر الدم لدى تومسون من ٥٢٠ مليجرامًا/ديسيلتر إلى ١٢٠ مليجرامًا/ديسيلتر. ولم يكن هناك أي جلوكوز تقريبًا في بوله. وشعر بتحسن كبير، مع زيادة في القوة والطاقة.
مع معالجة مزيد من المرضى، أصبح واضحًا أن الفريق قد صنع معجزة طبية. حضر عالم يُدعَى جورج كلويز، كان يقود قسم البحث والتطوير في شركة «إيلي ليلي وشركاه» في إنديانابوليس بولاية إنديانا، العرض الذي قدَّمه الفريق في ديسمبر في نيو هافن وأدرك ما يمكن أن يعنيه الإنسولين لمرضى السكري في العالم. وبالإصرار الشديد، نجح كلويز في النهاية في إقناع فريق الاكتشاف وجامعة تورونتو بمنح شركة «إيلي ليلي» حقوق تصنيع وبيع الإنسولين. وقد أثبتت هذه الخطوة أنها خطوة حاسمة؛ لأن سكان تورونتو سرعان ما واجهوا صعوبة في إنتاج الإنسولين الفعال على نحوٍ مستمر بكميات كبيرة، وهو أمر كانت شركة إيلي وليلي أكثر جاهزية للقيام به باستخدام المعدات الصناعية الكبيرة في منشأتهم الكبيرة الكائنة في إنديانابوليس. وسرعان ما كانت شركة «إيلي ليلي وشركاه» تطلب توصيل كميات ضخمة من البنكرياسات من المذابح عبر جميع أنحاء وسط غرب الولايات المتحدة إلى مصنعهم في إنديانا.
انهالت على بانتنج، الذي أنشأ عيادة للسكري في تورونتو، الرسائل والبرقيات من أطباء ومرضى يائسين. ونظرًا لأن مخزون الإنسولين كان في البداية قليلًا جدًّا، اضطُرَّ إلى صد الغالبية العظمى ممن كانوا يسعون للحصول على مساعدته. غير أن لا شيء استطاع إيقاف أخبار الدواء المعجزة من الانتشار بسرعة حول العالم. فقد استطاع الإنسولين أن يُعيد صبية وفتيات أعياهم الضعف والهزال إلى الحياة، مما أتاح لهم استعادة خمسين أو مائة رطل، وتناول الأطعمة التي حُرِموا منها سابقًا، والضحك واللعب مثل الأطفال الأصحاء.
«الأمر ببساطة أروع من أن تصفه الكلمات»
في الثالث من يوليو عام ١٩٢٢، كتبت أنطوانيت هيوز، زوجة وزير الخارجية الأمريكي تشارلز إيفانز هيوز، رسالة إلى بانتنج بشأن ابنتها إليزابيث. في ذلك الوقت، كان طول إليزابيث هيوز يبلغ خمسَ أقدام ولكنها كانت تزن أقل من خمسين رطلًا وهي بكامل ثيابها. فقد خُفِّض نظامها الغذائي إلى أقل من ٣٠٠ سعرة حرارية في اليوم.
سألت أنطوانيت عما إذا كان بانتنج على استعداد لفحص إليزابيث إذا أحضرتها إلى تورونتو. كتبت تقول: «تعاني ابنتي من السكري منذ ثلاث سنوات ونيف. كانت حالتها خطيرة ولا تزال كذلك، وعلى الرغم من أن حالتها تُعامَل بمهارة وبأقصى درجات العناية، فإن قوة تحملها لا تزال منخفضة جدًّا، وقواها مستنزَفة وهزيلة على نحوٍ مثير للشفقة.» وأشارت إلى قوة الإرادة والتصميم غير العاديين اللذين تتمتع بهما إليزابيث: «إنها مريضة مثالية لم تخرق نظامها الغذائي ولو مرة واحدة خلال هذه السنوات الثلاث. حتى عندما كانت حالتها تتدهور، لم يكن ذلك بسبب خطأ ارتكبته، ونحن نشعر أن قوة شخصيتها، التي تعتبرها ممرضتها غير عادية، تصب في مصلحتها كثيرًا بالطبع.»
على الرغم من أن الرد المبدئي لبانتنج على أنطوانيت جاء باعتذاره المعتاد والمهذَّب عن عدم قدرته على فحص مرضى جدد بسبب نقص الإنسولين، فقد وافق لاحقًا على رؤية إليزابيث في منتصف أغسطس. وتصف ملاحظات بانتنج السريرية التي ترجع إلى السادس عشر من أغسطس عام ١٩٢٢ إليزابيث على النحو التالي:
الوزن ٤٥ رطلًا. الطول خمس أقدام. المريضة نحيلة جدًّا، مع وَذَمة طفيفة في الكاحلين، الجلد جاف ومتقشر، الشعر متقصف وخفيف، البطن منتفخ، الكتفان متدليتان، ضمور شديد في العضلات، الأنسجة تحت الجلد منكمشة بالكامل تقريبًا. بالكاد تستطيع المشي بسبب الضعف.
بدأ بانتنج على الفور يعطي إليزابيث الإنسولين، مما سمح لها بزيادة طعامها. وبعد أسبوع واحد فقط من المداومة على الإنسولين، بلغ استهلاكها اليومي من السعرات الحرارية ١٢٢٠ سعرة حرارية. وبعد أسبوع، كانت تتبع نظامًا غذائيًّا طبيعيًّا يتراوح بين ٢٢٠٠ و٢٤٠٠ سعرة حرارية. سجلت إليزابيث في سجلها الغذائي تناولها أول شريحة من الخبز الأبيض منذ ثلاث سنوات ونصف. وبعد أربعة أيام، تذوقت الذرة لأول مرة منذ ثلاث سنوات، وبعد تسعة أيام، تناولت المعكرونة والجبنة، وبعد ستة أيام، تناولت العنب، ثم الموز والبرقوق.
في رسالة بتاريخ الرابع والعشرين من سبتمبر أرسلتها إليزابيث لوالدتها، التي غادرت في زيارة رسمية إلى البرازيل، كتبت إليزابيث: «لا أستطيع التعبير عن امتناني للفرصة التي أحظى بها، بأن أكون هنا للاستفادة من هذا الاكتشاف الرائع لأنه حقًّا معجزة … الدكتور بانتنج … يجلب كل هؤلاء الأطباء البارزين من جميع أنحاء العالم إلى تورونتو ليروا بأنفسهم آلية عمل هذا الاكتشاف الرائع، وأتمنى لو تمكنت من رؤية تعبيرات وجوههم عندما يقرءُون مخططاتي الحيوية؛ إنهم مذهولون للغاية من التقدُّم غير المسبوق في حالتي والتغيير الذي طرأ على مظهري.» وفي مطلع أكتوبر، كتبت في رسالة أخرى: «يا إلهي، الأمر ببساطة أروع من أن تصفه الكلمات وسترَين قريبًا كيف تغيَّرتُ وما أصبحت عليه … سيصاب الدكتور ألين بصدمة عصبية عنيفة حين يعلم بالعلاج الذي أتبعه الآن.»
عندما سافر فريدريك ألين إلى تورونتو لمقابلة بانتنج وحضور مؤتمر لأطباء السكري البارزين، أحضره بانتنج وعدد من الأطباء الآخرين لرؤية إليزابيث. كتبت إليزابيث عن لحظة رؤية الدكتور ألين إياها قائلة: «قال الدكتور ألين فاغرًا فاه: «يا للهول!» وهذا كل ما فعله. وأخذ يُردد مرارًا أنه لم يسبق له أن رأى مثل هذا التغيير الكبير في أي شخص من قبل، وعندما هَمَّ بالمغادرة ألقى دعابة قائلًا إنه سعيد لأنه تعرف عليَّ وإلا لما كان سيعرف هويتي.»
في غضون فترة قصيرة، كان الأطباء في جميع أنحاء أمريكا الشمالية يحتفلون بنتائج إعجازية مع مرضى مثل إليزابيث، أطفال كانوا على حافة الموت، والآن أُعيدوا إلى الحياة فجأة. وصف الدكتور إليوت جوسلين من بوسطن تجربته بتعبير مِن الكتاب المقدس، قائلًا: «بحلول عيد الميلاد عام ١٩٢٢، كنت قد شهدت كثيرًا من المرضى ممن بُعِثوا إلى الحياة وقد كانوا على حافة الموت لدرجة أنني أدركت أنني كنت أرى تجسيدًا لرؤيا حزقيال لوادي العظام الجافة.»
في وصفٍ لا يُنسَى، شارك بانتنج القصة التالية في ختام مذكراته غير المنشورة عام ١٩٤٠:
دخل رجل إلى المكتب مسندًا زوجته تحت ذراعه … أودع على الكرسي الوثير امرأة تزن ٧٦ رطلًا وتبدو أبشع مثال لزوجة رأيته في حياتي. كانت تهدر وتزمجر وتعطيه الأوامر. شعرت بالأسف عليه. وقد احتجزتها في المستشفى شفقة عليه أكثر منه مراعاة لها.
كانت واحدة من أكثر المرضى غير المتعاونين الذين تعاملت معهم … كانت تسرِق الحلوى أو أي نوع من الطعام تقع يدها عليه. كانت تطالب بقدوم زوجها المسكين إلى المستشفى منذ الصباح الباكر، وكان يتعيَّن عليه ألا يغادر كل ليلة حتى تنام، ومع ذلك كانت توبِّخه وتسبه وتعامله كأنه نكرة طوال اليوم … كانت عينة بشعة الشكل من البشر، بعينَين شبه مقفلتين بسبب الانتفاخ، وبشرةٍ باهتةٍ ومُصفَرَّة، وشعرٍ أحمرَ خفيفٍ للغاية لدرجة أنه أظهر فروة رأسها … وفوق كل ذلك كان لديها أسوأ طبع عرفته … ظلت في المستشفى بضعة أسابيع وتحسَّنت كثيرًا ثم أخذها زوجها إلى المنزل. صراحة كنت سعيدًا لأنني أراها لآخر مرة. ولأجله كنت لطيفًا …
بعد عام، كنت في مكتبي في وقت مبكر من الصباح عندما رن جرس الهاتف. جاءني صوت مرح ومبتهج يسألني عما إذا كنت سأظل موجودًا لمدة ١٠ دقائق. قلت إنني سأفعل. أُغلِقت السماعة. وواصلت مراسلاتي.
في غضون بضع دقائق، سمعت الباب الخارجي يُفتَح وبعد لحظة فُتِح باب مكتبي على مِصراعَيه لتندفع عبره واحدة من أجمل النساء اللاتي رأيتهن على الإطلاق. كانت غريبة. لم أرَها من قبل ومع ذلك طوقت عنقي بذراعيها وقبلتني قبل أن أتمكن من التحرك من حيث وقفت. من فوق رأسها الجميل رأيت وجه زوج المريضة الضاحك. فتراجعت إلى الخلف. وقف ثلاثتنا جنبًا إلى جنب. نظرت إليهما. ثم قال الزوج: «أردتك أن تراها الآن أيها الطبيب. ها هي الفتاة التي تزوجتها … قبل أن تصاب بالسكري …»
بعد أشهر، تلقيت مظروفًا صغيرًا يحمل الاسم وشريطًا ورديًّا. لقد أنجبت ابنة. وتساءلت عما إذا كانت الصغيرة لديها شعر أحمر، ودعوت ألا تصاب أبدًا بالسكري.
لم تخمد نيران كراهية بانتنج لماكلاود قَط. كان دائمًا يشعر بالاستياء من ماكلاود لعدم إظهاره اهتمامًا يُذكَر بالمشروع في البداية، وشعر أن ماكلاود لم يساهم فيه إلا بالقليل، واعتقد أن الأستاذ قد حصل على شرف لا يستحقه بمجرد نجاحهم. كان ماكلاود يَعُد بانتنج شخصًا مُفرِط الحساسية، ومريضًا بالشك إلى حدٍّ لا يطاق، ويستحيل إرضاؤه. واستمر النقاش والجدل حول مَن فَعل ماذا ومتى عقودًا، حتى إن الأمر وصل للجدل حول مَن يستحق أن يُنسَب إليه الفضل في اكتشاف الإنسولين نفسه. في الحقيقة، لقد قدَّم الباحثون الأربعة إسهامات مهمة في الاكتشاف. كان بانتنج صاحِبَ الفكرة الأصلية والدافع والشغف لبدء المشروع. وأجرى مع بِست التجارب المُبكرة الحاسمة التي قدمت الدليل على الفكرة. وسمحت خبرة كوليب للفريق بعزل الإنسولين وتنقيته بسرعة، مما أنقذ حياة المرضى بلا شك من خلال إتاحة الإنسولين بصورةٍ أسرع. بينما قدَّم ماكلاود الأفكار والتوجيه، وفي بعض الأحيان كان يمنع بانتنج وبِست من مباشرة خطوط بحث غير مجدية، وساعد في إثبات جدارة البحث للمجتمع العلمي.
غادر ماكلاود جامعة تورونتو في عام ١٩٢٨، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى العداء العلني الذي أظهره بانتنج تجاهه وجعل بيئة العمل غير مريحة للغاية. عاد ماكلاود إلى اسكتلندا، حيث أصبح أستاذًا في جامعة أبردين، التي كانت سعيدة باستقبال حائز على جائزة نوبل وانضمامه إلى صفوفها. وقد تُوفِّي ماكلاود في عام ١٩٣٥.
حل تشارلز بِست محل ماكلاود في جامعة تورونتو أستاذًا للفسيولوجيا، وكان أطول أعضاء فريق المكتشفين عمرًا؛ إذ عاش حتى عام ١٩٧٨.
أما جيمس كوليب، فأصبح أستاذًا في جامعة ماكجيل وتَقَلد لاحقًا منصب عميد كلية الطب في جامعة ويسترن أونتاريو. وخلال مسيرته المهنية، أجرى أبحاثًا مهمة حول هرمون الغدة الجار درقية (الباراثورمون). وتُوفِّي في عام ١٩٦٥.
أصبح فريدريك بانتنج بطلًا قوميًّا وحظي بكثير من التكريمات. فمنحته حكومة أونتاريو والحكومة الفيدرالية مخصصات سنوية مدى الحياة بقيمة ١٠ آلاف دولار و٧٥٠٠ دولار على الترتيب. وأسَّست جامعة تورونتو قسم بانتنج وبِست للبحوث الطبية، وعكف بانتنج بقية عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين على أفكار بحثية مختلفة كان يأمل أن تؤدي إلى علاج للسرطان. وفي خلال فترة الاكتشاف، رفض عروضًا مُغرِية لنقل بحثه إلى الجامعات الأمريكية، بالإضافة إلى مبالغ ضخمة لتسجيل براءة اختراع لإنتاج الإنسولين بغرض الربح التجاري. وعلى الرغم مِن أنَّه كان شبه معدم، عدَّ بانتنج أن التربُّح من اكتشافه أمر مستقبح أخلاقيًّا؛ فكانت أسمى رغباته أن يُنتِج الإنسولين بتكلفةٍ منخفضة وأن يتوفَّر لجميع المرضى؛ أغنياء وفقراء.
والمفارقة أن العلاقة بين بانتنج وبِست قد تدهورت في السنوات اللاحقة. والمُدهِش أيضًا أن بانتنج بات يُكِن الإعجابَ والتقدير لكوليب الذي أصبح صديقه وخدم معه في المجلس الكندي الوطني للبحوث في أواخر الثلاثينيات. وفي عام ١٩٣٤، حصل بانتنج على لقب فارس من الحكومة الكندية. وقد تزوَّج ثم انفصل ثُم تزوَّج مرة أخرى. وخلال الحرب العالمية الثانية، شغل منصب رئيس وحدة البحوث الطبية في كندا. وفي العشرين من فبراير عام ١٩٤١، كان بانتنج أحد ركاب القاذفة هدسون التي غادرت جاندر، بنيوفاوندلاند، في طريقها إلى إنجلترا. تعرضت الطائرة لعطل في المحرك وتحطمت في البرية وسط الثلوج المتساقطة بكثافة بجانب بحيرة متجمدة. نجا بانتنج من الحادث ولكنه تُوفِّي بعد عشرين ساعة من جراء إصاباته. وكان في التاسعة والأربعين من عمره.
استمتعت إليزابيث هيوز بحياتها زوجة وأمًّا وجدة، ولكنها كانت دائمًا شديدة الكتمان بشأن مرضها بالسكري. وظلت تتكتم هذا الأمر لدرجة أن خطيبها لم يعرف أنها مصابة بالسكري حتى أخبرته بعد أسبوع من خطوبتهما. وتُوفِّيت بسبب أزمة قلبية في عام ١٩٨١ في عمر الرابعة والسبعين، بعد أن تلقت ٤٢ ألف حقنة من الإنسولين المنقذ خلال حياتها.
مكافحة أزمة صحية عامة
لماذا تقل فاعلية تأثير الإنسولين لدى مرضى السكري من النوع الثاني؟
تلعب الجينات دورًا في ذلك. على سبيل المثال، أظهرت دراسة مِن فنلندا أنَّ نسبة إصابة التوائم المتطابقة بالسكري تبلغ ٣٤ في المائة. ولكن يظل نمط الحياة هو العامل الأهم، وخاصة فيما يتعلق بالسمنة. فيعاني نحو ٨٠ إلى ٩٠ في المائة من مرضى السكري من النوع الثاني من زيادة الوزن أو السمنة. ليس مفهومًا تمامًا لماذا تقلل الخلايا الدهنية من تأثير الإنسولين على الجسم — وهي مشكلة يُطلق عليها مصطلح «مقاومة الإنسولين» — ولكن يُعتقد أن زيادة أيض الدهون يؤدي إلى تقليل مستقبلات الإنسولين على أسطح الخلايا. وبدون القدرة على استخدام الجلوكوز، يكسِّر الجسم الدهون للحصول على الطاقة، لكن هذا يؤدي إلى مزيد من المشكلات؛ لأن الأجسام الكيتونية الحمضية (الناتجة عن تكسير الدهون) تتراكم في مجرى الدم. وإذا لم يُكتَشف هذا الخلل في نظام التمثيل الغذائي بالجسم، يمكن أن يؤدي إلى الحُمَاض الكيتوني السكري والغيبوبة والموت.
لأول مرة في التاريخ، أصبح البشر الآن يموتون بسبب الإفراط في تناول الطعام بدلًا من الموت بسبب قلته، وأصبح وباء السِّمنة أزمة صحية عامة تتطور ببطء. يُصيب داء السكري في الوقت الحالي ٤٢٢ مليون شخص حول العالم، بينهم ٣٧٫٣ مليون أمريكي؛ ما يعادل نحو ١٠ في المائة من السكان. ويُعَد السبب الثامن للوفاة في الولايات المتحدة. ويعاني أكثر من ثلث البالغين الأمريكيين، أي ما يعادل نحو ٩٦ مليون، من «مُقدِّمات السكري»، حيث تكون مستويات الجلوكوز في الدم أعلى من المعدل الطبيعي لكنها لم ترتفع بعد بما يكفي لتصنَّف سكريًّا من النوع الثاني. ويُقدَّر أن ما يصل إلى ٧٠ في المائة من المرضى في مرحلة ما قبل السكري سيصابون في نهاية المطاف بالسكري.
يعمل العلماء وشركات الأجهزة الطبية جاهدين من أجل دمج مستشعرات أجهزة المراقبة المستمرة للجلوكوز مع مضخات الإنسولين من خلال تصميم على شكل حلقة مغلقة يمكنها اكتشاف مستويات السكر في الدم والاستجابة عن طريق توصيل الإنسولين تلقائيًّا إذا كان مستوى السكر في الدم مرتفعًا، والجلوكاجون الذي يرفع مستوى السكر في الدم إذا كان منخفضًا. تصنِّع شركات مثل «ميدترونيك» و«تاندم» بالفعل مضخات إنسولين تُوفِّق بين قراءات المستشعر وجرعات الإنسولين التي تُعدَّل تلقائيًّا إلى حدٍّ ما، لكن «البنكرياس الاصطناعي» الحقيقي الذي لا يتطلب أي مدخلات من المريض لا يزال بعيد المنال.
يقودنا كل هذا إلى الحاضر، وتطوُّر قد يغير قواعد اللعبة، ألا وهو: زرع الخلايا الجذعية، التي حُفزت لتصبح خلايا جُزيرية فعالة ومنتجة للإنسولين. لا تُعَد الزراعة بوصفها استراتيجية لعلاج السكري بالأمر الجديد. فقد كانت عمليات زرع البنكرياس تُجرَى منذ منتصف الستينيات. واليوم، يمكن أيضًا إجراء زراعة الخلايا الجُزيرية وحدها، ولكن هذه العلاجات لا تزال نادرة بسبب محدودية الأعضاء المتبرع بها. في نوفمبر ٢٠٢١، أُعلِن عن شفاء أول مريض سكري من النوع الأول تلقَّى خلايا جزيرية مُشتَّقة من الخلايا الجذعية في تجربة سريرية جديدة. كانت الخلايا الجزيرية الجديدة تعمل بكفاءة وتنظم مستويات السكر في الدم على نحو تام. كان هذا الإنجاز ثمرة بحث استمر عقدين من الزمن على يد علماء المختبرات لاكتشاف كيفية تحفيز الخلايا الجذعية لتصبح خلايا جزيرية. سيتطلب الأمر سنوات كي يتجلى هذا التقدم في صورة علاج لأعداد أكبر من المرضى، ولكن الأخبار، التي وردت في الصفحة الأولى من صحيفة «نيويورك تايمز»، بعثت الآمال في العثور على علاج حقيقي للسكري من النوع الأول في يوم من الأيام.
في الوقت الراهن، ما زالت المعركة لمواجهة السكري يخوضُها كثير من الأطباء والممرضين ومختصي التغذية ومديري المدارس والمدربين والمرشدين والآباء والأصدقاء. بالنسبة لمعظم مرضى السكري من النوع الثاني، ما زالت الجهود نحو فقدان الوزن والحد من السِّمنة أهدافًا أساسية. لقد أطال الإنسولين الإعجازي الأعمار، لكن إطالة عمر المريض أدت أيضًا إلى الكشف عن كثير من الأمراض المترتبة على السكري، وفي ذلك التهاب الشبكية والكلى والأعصاب الطرفية. وها نحن ذا بعد قرن من اكتشاف الإنسولين، لم يَعُد داء السكري حكمًا بالموت، لكنه لا يزال واحدًا من أخطر التحديات الصحية التي نواجهها.