العدوى البكتيرية
كانت مدينة ساوثهامبتون تعيش معاناة. فقد أدَّى قصف ألمانيا للمدينة في الثالث والعشرين من نوفمبر إلى تدمير مئات المباني، وتسبب في مقتل ٧٧ شخصًا، بالإضافة إلى أكثر من ٣٠٠ إصابة أخرى. كاننت مراسي السفن والمصانع الموجودة في الميناء هدفًا رئيسًا لسلاح الجو الألماني (لوفتفافه)، ولا سيما مصنع إنتاج طائرات سوبرمارين سبيتفاير الحربية الواقع في إحدى ضواحي المدينة. وبعد أسبوع، كان العدو يرسل مجموعة أكبر من الطائرات الحربية لتدمير المدينة.
تطلبَّت المجزرة الأخيرة استدعاء رجال الشرطة من مدن وبلدات أخرى إلى ساوثهامبتون. وكان من بينهم ألبرت ألكسندر البالغ من العمر ٤٣ عامًا، وهو شرطي من أكسفورد. في الثلاثين من نوفمبر، شاهد ألكسندر ١٢٠ طائرة ألمانية تُلقِي ٨٠٠ قنبلة على المدينة على مدى ست ساعات. وكانت هذه أسوأ غارة قصف على ساوثهامبتون خلال الحرب. فقد لقي ١٣٧ شخصًا حتفهم. ودُمِّر أكثر من ألف منزل.
خلال الهجوم، وبينما كان ألكسندر يقوم بواجبه في حراسة موقعه في مركز الشرطة، أصابت قنبلة المبنى مباشرة.
نجا ألكسندر.
كان من بين الأشخاص الأوفر حظًّا. فكانت الإصابةُ الوحيدة التي نالته جرحًا صغيرًا بالقرب من زاوية فمه، نتيجة لقطعة من شظيَّة. وعلى عكس كثير من الأرواح البائسة الأخرى، قُدِر له العودة للعيش مع عائلته؛ كان لديه وزوجته إديث طفلان صغيران.
بعد القصف، أراد ألكسندر استئناف واجباته العادية. بدا الجرح على وجهه بسيطًا لا يستحق. كان قبيح الشكل، لكنه كان يأمل أن يلتئم ببساطة من تلقاء نفسه.
إلا إنه لم يلتئم. وبدأ الجرح المزعج يتقيَّح. وزاد الألم والاحمرار على نحو فاق قدرته على الاحتمال. وتفاقمت الحالة لتشمل أكثر من مجرد جلد وجهه؛ إذ انتشرت العدوى إلى أعلى، وامتدت إلى عينيه وصولًا إلى رأسه وفروة رأسه. حتى إنه بعد عدة أيام، اضطر إلى الاعتراف بأنه ليس لديه خيار، وأنه يجب أن يذهب إلى مختصين. ذهب ألكسندر بنفسه إلى مستشفى رادكليف، وهو المستشفى الرئيس في مسقط رأسه في أكسفورد.
بحلول يناير، أُصيب ألكسندر بعدة دمامل في رأسه ووجهه. شقَّ الأطباء أماكن الدمامل لتفريغ الصديد. وعندما عانى ألمًا في الكتف اليمنى، كشفت الأشعة السينية عن إصابة رأس عظمة العضد بالتهاب العظم والنقي؛ في إشارة إلى انتشار العدوى. وما زاد الطين بِلة أن ألكسندر أصبح يعاني ألمًا شديدًا وعدوى حادة في عينه اليسرى؛ لدرجة أنه فقد القدرة على الرؤية بهذه العين. بعد ذلك، تعرضت قرنية هذه العين للتلف والضعف لدرجة أنها انثقبت تلقائيًّا.
لم يكن لدى الأطباء خيار سوى استئصال عينه.
ساد شعور باليأس. فبحلول أوائل فبراير، كان وجه ألكسندر ورأسه بالكامل مغطى بالدمامل. وأصيب بالهزال والنحافة وبات يعاني من ألم دائم. وأصيبت رئتاه بالعدوى، مما هدَّد قدرته على إمداد دمه بالأكسجين. ولم يفده نقل الدم في شيء.
وبات الموت هو مصيره المحتوم.
كيف حدث هذا؟ أكلُّ ذلك من جرح صغير؟ حتى في زمن الحرب، مع سقوط القنابل في كل مكان وتحول المأساة إلى حدث مألوف للغاية، بدت هذه المحنة التي استمرت شهورًا طريقة قاسية للغاية للموت. ماذا سيحدث لعائلته؟ كيف ستتمكن زوجته من تربية الطفلين بمفردها؟
في منتصف فبراير، لاح بصيص أمل صغير على يد تشارلز فليتشر الطبيب المعالج لألكسندر. كانت محاولة يائسة وغير مُجرَّبة. كان فليتشر قد تلقى لتوه دواءً تجريبيًّا جديدًا من فريق من الباحثين في جامعة أكسفورد. وكان هناك احتمال أن يكون لهذا الدواء خصائص مضادة للبكتيريا.
هل كان ألكسندر مستعدًّا لتجربته؟
ما الخيار الذي كان متاحًا له؟
«الحُيَيْوِينات»
تسببت الأمراض المعدية التي تسببها البكتيريا في وفيات فاقت تلك التي حدثت نتيجة للنوبات القلبية أو السرطان أو أي مرض آخر منذ بداية التاريخ المسجل حتى منتصف القرن العشرين. فكان الموت جراء جرح بسيط، كالذي تعرض له ألبرت ألكسندر، شائعًا.
كان أول من تعرَّف على الكائنات الحية الدقيقة البكتيرية المسئولة عن هذه الوفيات المبكرة المأساوية رجلًا هولنديًّا يُدعَى أنطوني فان ليفينهوك، الذي اتخذ من الفحص المجهري هواية في أربعينيات القرن السابع عشر. كان تاجر أقمشة، وكان يستخدم النظارات المكبرة دائمًا لحساب كثافة خيوط القماش. وبسبب شغفه بالعدسات وخصائصها الانكسارية، تعلم كيفية تصنيع عدساته الخاصة واستخدمها لبناء مجهر. وسرعان ما رأى فان ليفينهوك أن حتى قطرة واحدة من الماء تعج بالأحياء المجهرية. وفحص بعناية الكائنات الحية الدقيقة التي استوطنت عينة مِن ماء المطر الراكد لأيام في برميل وأطلق عليها اسم «الحُيَيْوِينات» (الحيوانات الدقيقة). وبما أن هذه الحيوانات الدقيقة بدت أنها تتحرك، فقد افترض أنها كانت حية ووصفها بأنها «أصغر ألف مرة من عين قملة مكتملة النمو.» وبعد فحص عينةٍ من اللعاب، قال متعجبًا: «جميع الناس الذين يعيشون في هولندا المتحدة لا يبلغون معشار الكائنات الحية التي أحملها في فمي.»
قبل التوصُّل إلى فهمٍ أشمل للكائنات الحية المجهرية الممرضة التي ستظهر في القرن العشرين، كان هناك اعتقادان متنافسان يدَّعيان القدرة على تفسير انتشار المرض. كانا يُعرفان بالنظرية المؤيدة لفكرة العدوى والنظرية المناهضة لها. كان المؤيدون لفكرة العدوى يعتقدون أن المرض ينتقل عبر الاتصال بين الأشخاص عن طريق مصدر غير معروف للوباء، يُسمى أحيانًا «الرصاصة الخفية» أو «الحيوان الدقيق»، وأُطلِق عليه لاحقًا «الجراثيم». كان المؤيدون لفكرة العدوى يرون أن أفضل طريقة لمكافحة المرض هي فصل المصابين عن غير المصابين، ومن هنا جاء اعتمادهم على الحَجر الصحي الصارم للسكان المصابين، ووقف حركة التجارة مع المناطق الأجنبية التي كانت تُعتبر مصدرًا للوباء.
في المقابل، كان المناهضون لنظرية العدوى يعتقدون أن البيئة تتحمَّل مسئولية أكبر من الاتصال البشري. فأرجعوا المرض إلى عوامل بيئية مثل الوبالة أو «الهواء الفاسد» الذي ينبعث من المواد العضوية الفاسدة مثل الطعام الفاسد أو جثث الحيوانات النافقة. ووفقًا للمناهضين لنظرية العدوى، فإن أفضل طريقة لمكافحة وباء ما هي تنظيف الأحياء الفقيرة المكتظة بالسكان والقاذورات، والشوارع الغارقة في الصرف الصحي والتي تنبعث منها الروائح الكريهة من أجل تطهير الهواء كما ينبغي. ويرجع الفضل إلى مناهضي فكرة العدوى إلى حدٍّ كبير في قيام المدن ببناء أنظمة صرف صحي سليمة. ولا غرو في أنهم كانوا يعتقدون أن أفضل طريقة لحماية النفس خلال وباء ما هو الرحيل إلى الريف، أو ربما الانسحاب إلى مصحة، حيث الهواء نقي ونظيف بالتأكيد. كانت النظافة الشخصية الجيدة أيضًا ذات أهمية قصوى.
بدا أن هناك أدلة وافرة لدعم كلتا النظريتين، ولكن لا شيء منها كان حاسمًا في كل الحالات. أشار المؤيدون لنظرية العدوى إلى أمراض مثل الجدري، حيث كان الاتصال الشخصي بالتأكيد هو القناة الرئيسية لانتشار المرض. لكن ثمة حالات أخرى، مثل الحمى الصفراء والملاريا — وكلاهما ينقل بواسطة البعوض — لم تتناسب مع هذا النموذج. في غضون ذلك، بدت وجهة نظر مناهضي نظرية العدوى كافية لتفسير أسباب انتشار بعض الأمراض المتفشية في المناطق الفقيرة بصورة أكبر، لكنها لم تستطع تفسير الأوبئة الريفية. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك أمراض مثل الكوليرا فشلت في الانضمام إلى أيٍّ من المعسكرَين. فالكوليرا لم تنتشر عن طريق الاتصال البشري. ولم يكن السبب فيها الظروف المزرية فقط لأن الوباء انتشر عشوائيًّا دون تمييز بين الأغنياء والفقراء، والحضر والريف، كما انتشر في الشتاء، عندما كان «الهواء الفاسد» الناتج عن ظروف الرطوبة الخانقة في المدن يُعتبَر منخفضًا.
ساعد العمل البحثي الممتاز للجراح البريطاني جون سنو في إثبات أن الكوليرا كانت في الواقع مرضًا ينتقل في معظم الأحوال عبر الماء. ففي أثناء انتشار أحد الأوبئة عام ١٨٥٤ في لندن، حدَّد سنو مواقع سكن المرضى المصابين بالكوليرا على خريطة. ولاحظ أن معظم المرضى يسحبون الماء باستخدام مضخة في ناصية شارعَي برود وكمبريدج في منطقة سوهو. وبذل جهدًا شاقًّا للبحث عن أكبر عدد ممكن من العائلات ومقابلتهم، وكلما تعمَّق في التحقيق والبحث، صارت افتراضاته الأولية أكثر حسمًا. حتى الحالات التي لم تبدُ في البداية مرتبطة بهذه المضخة بالذات، اتضح في النهاية أنها كذلك؛ على سبيل المثال، كانت هناك امرأة مريضة تبلغ من العمر ٥٩ عامًا تعيش بعيدًا عن المضخة ولم يتضح وجود أي صلة للمرأة بها، إلى أن أخبر ابنها سنو أن والدته كانت تزوره كثيرًا وتشرب منها بكثرة لأنها تفضِّل مذاق الماء من تلك المضخة بالذات. افترض سنو أن الكوليرا تنتشر عبر الماء الملوث، وليس عن طريق الاتصال الشخصي أو الوبالة. في هذه الحالة، سمح نظام الصرف الصحي المتهالك للمدينة بتسرب النفايات من بالوعة قديمة إلى مصدر إمداد المياه. فأقنع سنو المسئولين بإزالة مقبض المضخة، الأمر الذي ترتب عليه انحسار الوباء بسرعة.
استُخدم عمل سنو فيما بعد لدعم «نظرية الجراثيم» التي جاء بها المؤيدون لنظرية العدوى. ولكن حتى بعد عقود، لم يقتنع الجميع. كانت فلورانس نايتنجيل واحدة من أشد المعارضين لنظرية العدوى الذين اعتبروا الجراثيم محض هُراء. وكرست حياتها المهنية لتحسين الظروف المعيشية والنظافة والصرف الصحي. كذلك عبَّر كيميائي من ولاية بافاريا يُدعى ماكس فون بيتنكوفر، وهو من أشهر المناهضين لنظرية العدوى، بشكلٍ درامي عن قناعته بأن الكوليرا ليست معدية عن طريق شرب مرق محمَّل بالكوليرا أمام شهود عام ١٨٩٢. والمدهش أن فون بيتنكوفر لم يعانِ إلا من أعراض خفيفة ولم يُصَب بالكوليرا، ما جعل الأمر يبدو كأنه إثبات لصحة نظريته. وقد كانت تصرفات أهل التخصص مثل فون بيتنكوفر سببًا جزئيًّا في عدم اعتماد نظرية جرثومية المرض على نطاقٍ واسعٍ حتى مطلع القرن العشرين. وحتى مؤيدو نظرية العدوى في منتصف القرن التاسع عشر، مثل جون سنو اضطروا إلى الاعتراف بأنهم على الرغم من اعتقادهم بأن شيئًا ما في الماء الملوث كان مسئولًا عن التسبُّب في أمراضٍ مثل الكوليرا، فلم يتمكَّنوا من فهم أو تحديد ماهية هذا الشيء.
منقذ النبيذ الفرنسي والحرير
في عام ١٨٥٦، كان لويس باستور أستاذًا للكيمياء يبلغ من العمر ٣٣ عامًا في مدينة ليل، وهي مدينة صناعية في شمال فرنسا. قصده والد أحد طلابه، يعمل صانعًا للخمور، في مشكلة. كان الصانع يستخدم بنجر السكر المتخمر لصنع الكحول. وعلى الرغم من أن معظم إنتاجه من النبيذ كان مثاليًّا ونقيًّا وذا مذاقٍ رائع، كانت هناك دائمًا بعض البراميل التي يتعفن فيها النبيذ ولا يمكن بيعه. وصارت هذه المشكلة شائعة على نحوٍ متزايدٍ بين صناع النبيذ في فرنسا، ما أسفر عن عواقب اقتصادية سلبية. لماذا كان هذا يحدث؟ كان الصانع يأمل أن يتمكَّن باستور من مساعدته في العثور على الحلول.
حتى ذلك الوقت، كان باستور يركز بصورة أساسية على موضوعٍ يتناسب مع اهتمامات عالم كيميائي، ألا وهو: علم البلورات. لم يغُصْ قَطُّ في العلوم الحياتية، ولكنه وافق على فحص براميل النبيذ الخاصة بالصانع. كان بعض النبيذ قد تعفن بلا شك. وعندما نظر باستور إلى عينات من النبيذ الجيد والفاسد تحت المجهر، رأى فارقًا كبيرًا بينهما. فقد رأى في النبيذ السليم والنقي خلايا خميرة دائرية صغيرة، أما في عينات النبيذ الحامض فكانت خلايا الخميرة تغمرها بقع صغيرة سوداء قضيبية الشكل. لم يكن يعرف ماهية هذه البقع، ولكن بسبب عدم وجودها في النبيذ الجيد استنتج أنها كانت السبب في تعفن النبيذ الفاسد. كانت هذه الكائنات الحية الدقيقة تغلب على خلايا الخميرة ونتيجة لذلك، كان النبيذ يتخمر إلى حمض اللاكتيك الحامض المذاق بدلًا من أن يتخمر إلى كحول. أخبر باستور صانع النبيذ بضرورة فحص كل برميل من النبيذ، والتخلص من أي عينات ملوثة، وعدم خلطها أبدًا مع محتويات براميل أخرى حتى لا تتلوث الكمية بأكملها. اعتمد مزارعو كرم النبيذ في جميع أنحاء فرنسا طريقة باستور، ويعتقد البعض أنها أنقذت فعليًّا صناعة النبيذ من الدمار.
أصبح باستور أكثر اهتمامًا بتلك الأحياء الدقيقة الغامضة. فعلم أنها تسبب تحمض الحليب أيضًا، إلا إنه تمكَّن من قتلها عن طريق تسخينها. وأصبحت هذه العملية تُعرَف باسم «البسترة»، واعتُمدت بوصفها طريقة لحفظ الحليب والأطعمة والمشروبات الأخرى.
في ستينيات القرن التاسع عشر، توصَّل باستور إلى اكتشافات رائدة أخرى. ففي سبيل تفنيد نظرية «التولد الذاتي» التي تفيد بأن الميكروبات تنشأ عفويًّا من الهواء وليست نسلًا لميكروبات أبوية، صمَّم باستور تجربة باستخدام قارورة طويلة العنق، وأثبت أن الميكروبات لا تستعمر الماء المغلي المعرَّض لهواء معقم. كما ساعد تجارة دود القز في فرنسا من خلال تحديد الميكروبات التي كانت تُمرض دود القز وتهدد بتدمير الصناعة.
لهذه الجهود، حظي باستور بامتنان وإعجاب كثير من الفرنسيين. كان يمضي قُدمًا نحو تنصيب نفسه ليكون الشخصية الرائدة في مجال علم الأحياء الدقيقة الحديث. ولكن في عام ١٨٧٦، وصلت أخبار مدهشة إلى فرنسا حول اكتشافات طبيب ألماني أصغر بكثير لم يسمع أحد به من قبل.
الألماني المجهول
كان روبرت كوخ آخر نموذج لطبيب قد يتوقع المرء أن يكون عالم جراثيم رائدًا. فعلاوة على أنه كان يصغر باستور بواحد وعشرين عامًا، لم يكن أستاذًا في جامعة مرموقة أو مؤلفًا لعشرات الأبحاث المنشورة. بل كان مجرد طبيب ريفي في قرية تُدعى فولشتاين، تقع الآن في غرب بولندا. لكنه سرعان ما أثبت أنه واحدٌ من أعظم رواد الطب وخصمٌ لباستور.
قضى كوخ معظم وقته يعتني بآلام المزارعين وأوجاعهم في غرفة فحص داخل منزله. وبعد أن أهدته زوجته مجهرًا في عيد ميلاده، حوَّل جزءًا من غرفة الفحص إلى مختبر بدائي، وبدأ في اكتشاف الأشياء.
في عام ١٨٧٣، تفشَّى مرض الجمرة الخبيثة بين الماشية في أنحاء فولشتاين. كان هذا المرض الشديد العدوى يصرع الحيوانات أرضًا دون سابق إنذار، وكان يُهلك قطعان الأغنام والأبقار دائمًا. فالبقرة التي كانت تبدو سليمة في يوم تبدأ حركتها في التباطؤ في اليوم التالي، وتتصرف بخمول. وكانت ترفض الأكل. وبعد فترة وجيزة من ذلك، قد تنهار وتسقط أرضًا، فتبدو دابة مريضة مشوهة يتدفق الدم من فمها ومنخرَيها. وسرعان ما يُعثر عليها ميتة على الأرض وهي مستلقية على ظهرها وساقاها مرفوعتان إلى الأعلى في الهواء. لم يكن لدى المزارعين أي فكرة عن سبب هذا الوباء، وألقوا باللوم على الأرواح الشريرة، أو الإفراط في التعليف، أو التسمم. وكان الأسوأ أن البشر أيضًا كان يمكن أن يصابوا بالمرض ويموتوا أيضًا.
شرع كوخ في دراسة هذا الوباء. وباستخدام المجهر، فحص دم الحيوانات المريضة ورأى قضبانًا داكنة. فأخذ يراقبها وهي تنمو وتنقسم. كانت هناك أيضًا كرات صغيرة غريبة يمكن أن تتحوَّل إلى قضبان ويرتبط بعضها ببعض. اكتشف كوخ أنه يمكنه نقل المرض إلى الأرانب والفئران عن طريق حقنها بدم من بقرة مريضة. وفي غضون يوم، أصيبت هذه الحيوانات بأعراض مشابهة لأعراض الجمرة الخبيثة ونفقت.
من السهل تخيل لهفة كوخ والتوتر الذي شعر به حين تلقى هذه الدعوة. وتجلى ذلك في قراره بمغادرة فولشتاين بالقطار في الواحدة صباحًا بعد منتصف الليل، لضمان وصوله في الوقت المحدد إلى الجامعة في بريسلاو. أحضر كوخ معه وفرة من الأدوات العلمية، يشمل ذلك المجاهر والشرائح وعينات من السائل الزجاجي، والكواشف الكيميائية والأرانب والضفادع والفئران، التي كان بعضها مصابًا بالجمرة الخبيثة. وعلى مدى ثلاثة أيام، أجرى تجارب توضيحية متعددة بتواضعٍ واحترامٍ للأساتذة والطلاب المجتمعين، مبينًا بطريقة منهجية كيف عزل البكتيريا العصوية ونقلها من حيوان إلى آخر.
كان الأساتذة في الجامعة مذهولين.
يتذكر كون: «خلال الساعة الأولى، أدركت أنه أستاذٌ لا يُضاهى في البحث العلمي.» وأعلن أستاذ آخر معروف يُدعى جوليوس كونهايم: «أعتبر هذا أعظم اكتشاف في مجال علم البكتيريا.» بدا من المستحيل أن يكون هذا الطبيب الريفي المجهول قد فك ألغاز الجمرة الخبيثة وهو عالم هاوٍ في مجال الأحياء الدقيقة، يعمل في عزلة دون أي معدات متطورة أو حتى مكتبة طبية تحت تصرفه.
كتب كوخ في يومياته: «استُقبِلت تجاربي استقبالًا جيدًا.» وذات مساء، تمكَّن من فعل أكثر مما فعله أي شخص آخر لإثبات أن نظرية الجراثيم كانت صحيحة. فحتى ذلك الحين، على الرغم من أن تجارب باستور أسهمت كثيرًا في تقدُّم نظرية الجراثيم، كان لا يزال هناك كثير من المشككين. فاعتقد كثيرون أن الميكروبات ناتج ثانوي للعدوى، وليست السبب فيها. وكان آخرون على استعدادٍ لقبول فكرة أن الميكروبات مسئولة عن بعض الأمراض المعدية، ولكن ليس كلها. والآن، ولأول مرة، عُزِل ميكروب، وثبت بشكلٍ قاطعٍ أنه سببٌ لمرض مهم.
أثار اكتشاف كوخ تهافتًا شديدًا بين صفوف الباحثين الذين يسعون لاكتشاف مسببات المرض المسئولة عن كثير من الأمراض الأشد فتكًا في العالم. وهكذا شهدت فترة أواخر القرن التاسع عشر انتعاشة؛ إذ كان من الممكن أن تتصدر أخبار الاكتشافات الجديدة لصائدي الميكروبات المقدامين العناوين في أي لحظة. لا شك في أن هؤلاء العلماء المبتكرين كانوا مدفوعين بالرغبة في مساعدة البشرية، لكنهم كانوا أيضًا مدفوعين برغبة في تحقيق مجدٍ شخصي. لقد كان عصرًا من العجائب التكنولوجية؛ إذ شهد الربع الأخير من القرن التاسع عشر ظهور اختراعات رائعة، مثل الهاتف، والفونوجراف، والمصباح الكهربائي، والراديو، ومحرك الاحتراق الداخلي. وأصبح المخترعون أمثال توماس إديسون وألكسندر جراهام بيل أثرياء، بالإضافة إلى ما اكتسبوه من شهرة. فقد كانت التكنولوجيا والعلوم شعارَي العصر.
في أوروبا، كان الدافع إلى الاكتشاف أيضًا يطغى عليه دافع قوي آخر، ألا وهو: القومية. ففي عصر كان فيه النجاح الاستعماري في أفريقيا وآسيا يعتمد، في جزء كبير منه، على التقدم في طب المناطق الحارة، كان العلماء يُعامَلون باعتبارهم شخصيات وطنية، وكانت كل أمة تشجع أبطالها وتساندهم.
في غضون ذلك، بعد انتهاء الحرب الفرنسية البروسية المدمرة رغم قصرها (١٨٧٠-١٨٧١)، تصاعد التنافس المستمر بين فرنسا وألمانيا، ليلامس كل جوانب الحياة العامة تقريبًا، ويتضمن ذلك مجال علم الأحياء الدقيقة الناشئ. وسرعان ما نشبت مواجهة بين اثنين من أعظم الباحثين في مجال الطب في أوروبا، وهما باستور وكوخ، كخصمَين على ساحة المعركة العلمية.
كان كلا الرجلين يتمتع بحسٍّ وطني قوي. كان كوخ قد عمل بفخرٍ جرَّاحًا ميدانيًّا خلال الحرب التي حسمتها ألمانيا. وبعد استسلام فرنسا، أعاد باستور الدرجة الفخرية التي مُنحت له من جامعة بون، وكتب إلى أحد طلابه يقول: «كل أعمالي حتى يوم وفاتي ستحمل شعار: الكراهية لبروسيا. الانتقام. الانتقام.»
الغريمان
كانت هذه مفاجأة.
وبدلًا من التخلص من الدجاجة والمزرعة غير الفعالة، خطر لباستور فكرة. حقن الدجاجة نفسها بميكروبات وُضِعت في المزرعة حديثًا، وهو محلول كان دائمًا يقتل الدجاج في غضون يومين. ولدهشته، لم تنفق الدجاجة. ما المميز في هذه الدجاجة؟ هل كان شيئًا قاما به، أم كان هناك عامل مؤثر آخر غير معروف؟
فسَّر باستور الأمر نظريًّا بأن الميكروبات الممرضة عندما تتقدم في العمر، وتتعرض للأكسجين في البيئة المحيطة بمرور الوقت، تفقد قدرتها على إحداث المرض. لكن كيف منحت العينة القديمة الحماية للدجاجة من الميكروبات المميتة المزروعة حديثًا؟ لم يكن باستور متأكدًا. ومن دون فهم كامل للسبب، اكتشف طريقة جديدة لتلقيح الحيوانات، وذلك باستخدام ميكروب ضعيف أو «مخفف» لن يسبِّب مرضًا شديدًا، لكن يمكنه تحفيز الجهاز المناعي لإنتاج أجسام مضادة واقية.
انتقل باستور مباشرة من هذا الإنجاز الجديد إلى إنجاز آخر يفوقه أهمية. فحوَّل انتباهه إلى المرض الذي فسَّر كوخ أسبابه ونال عن ذلك شهرة كبيرة في عام ١٨٧٦، ألا وهو: الجمرة الخبيثة. على أمل التفوق على كوخ من خلال إعداد لقاحٍ للجمرة الخبيثة بنفس طريقة التخفيف التي أثبتت فاعليتها مع كوليرا الدواجن، عزل باستور ميكروب الجمرة الخبيثة وأضعفه باستخدام ثنائي كرومات البوتاسيوم والحرارة. وفي الخامس من مايو ١٨٨١، بدأ اختبارًا عامًّا في قرية بويي لو فور، التي تقع على بُعد ثلاثين ميلًا جنوب شرق باريس. حضر هذا الحدث الذي حظي بدعاية مكثَّفة مئات المتفرجين والعديد من مراسلي الصحف. حقن باستور أربعة وعشرين خروفًا وست بقرات وماعزًا واحدًا بلقاح الجمرة الخبيثة الذي أعدَّه. وضِعت مجموعة ضابطة تتألف من عدد الحيوانات نفسه تقريبًا تحت الملاحظة. وبعد أسبوعين، عاد باستور لإعطاء الحيوانات الملقَّحة جرعة إضافية أقوى بعض الشيء من اللقاح، وبعد ذلك بأسبوعين، حقن جميع الحيوانات البالغ عددها ٥٠ ونيفًا بالجمرة الخبيثة المميتة.
خضعت الحيوانات للمراقبة من كثب. في غضون يومين، نفق كل خروف وماعز غير ملقَّح في المجموعة الضابطة. في حين بقيت جميع الحيوانات الملقَّحة سليمة. كانت تجربة باستور انتصارًا عظيمًا. وبثَّ الصحفيون أخبار هذا الإنجاز حول العالم. وفي عام ١٨٨٢، لُقِّح ٨٥ ألف حيوان في فرنسا، وهو ما أدى إلى تقليل الوفيات بسبب الجمرة الخبيثة من ٩٫٠١ في المائة إلى ٠٫٦٥ في المائة.
ارتقت سمعة باستور إلى مستويات جديدة. ومع هذا الإنجاز الفذ، بدا أنه قد استعاد مكانته كأبرز علماء العالم.
لكن بعد ذلك بأقل من عام، ردَّ روبرت كوخ باكتشافٍ جديدٍ مدهش.
منذ ظهوره الذي بدا غير متوقع في أثناء عرضه التقديمي الافتتاحي المدهش في جامعة بريسلاو في عام ١٨٧٦، أجرى كوخ كثيرًا من التحسينات المنهجية في مجال علم الجراثيم، شمل ذلك استخدام الشرائح الزجاجية وأغطيتها، وفحص الميكروبات الحية باستخدام تقنية «القطرة المعلقة»، وزراعة البكتيريا على وسائط صلبة بدلًا من زراعتها في أجسام الحيوانات الحية فقط، وتطوير التصوير المجهري. وفي عام ١٨٨٠، قبل منصبًا بحثيًّا في برلين في مكتب الصحة الإمبراطوري. وبعد أن تسلَّح بفريقٍ من الباحثين المساعدين، قرر أن يوجِّه نظره المتربص بالميكروبات نحو السل، القاتل الأول في القرن التاسع عشر.
كان السل مرضًا غامضًا غالبًا ما يسبِّب أعراضًا أولية خفيفة، مثل السعال أو الحمى منخفضة الدرجة، لكن يمكن بعد ذلك أن يكمن في الجسم أشهرًا أو حتى سنوات قبل أن يعاود الظهور في صورة مرضٍ خطير. عند حدوث مثل هذه الانتكاسات، كانت حدتها واضحة لا لبس فيها. فكان يمكن أن يصبح سعال المريض عنيفًا، ويفرز بلغمًا ملطخًا بالدم؛ إذ يصبح النسيج الرئوي المصاب ملتهبًا ونخريًّا ومغطى بالندوب. يتبع التعب الشديد والخمول المصحوبان بالحمى والتعرق الليلي، بألمٍ في العظام في المرحلة المتأخرة والدمامل المليئة بالصديد. كان شحوب المريض وهزاله المتزايد يعطي انطباعًا بأن الجسم يُستهلَك بواسطة قوة شريرة تنبعث من الداخل، وهي صفات أوحت بتسميتَين شائعتين للمرض هما: «الاستهلاك» و«الموت الأبيض». ونظرًا إلى مساره الإكلينيكي المتغير والطويل الأمد، كان كثير من الأطباء يعتقدون أن السل ليس معديًا، بل قد يكون مرضًا وراثيًّا أو ينشأ بصورة تلقائية. ويُقدَّر أن السل تسبَّب فيما لا يقل عن ربع الوفيات في جميع أنحاء العالم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
من خلال جهوده لعزل «المتفطرة السُّلية» وإثبات أنها السبب الأوحد للمرض، ابتكر كوخ ومساعده فريدريش لوِفلر طريقة دراسة قابلة للتكرار أصبحت تعرف باسم «فرضيات كوخ»، وطوَّراها فيما بعد. لتبين أن كائنًا دقيقًا ما مسئولٌ عن أحد الأمراض المعدية بصورة قاطعة، يجب:
-
(١)
توضيح أن الكائن الحي الدقيق موجود في كل حالة من حالات المرض.
-
(٢)
عزل الكائن الحي الدقيق من المضيف وإنماؤه في مزرعة خارج الجسم.
-
(٣)
حقن حيوان سليم بالكائن الحي الدقيق المزروع وإظهار أن هذا الكائن الدقيق يسبب المرض.
-
(٤)
إعادة عزل الكائن الحي الدقيق من الحيوان الملقَّح لتأكيد أنه مطابق للكائن الحي الدقيق الأصلي المسبِّب للمرض.
استوفى كوخ كل هذه الشروط باستخدام «المتفطرة السُّلية»؛ فقد عزلها، وأنماها في مزرعة، وحقن بها أرانب وخنازير غينية لتسبب المرض، ثم عزلها مرة أخرى من هذه الحيوانات.
في محاضرة اعتُبرت «الأهم في التاريخ الطبي»، عرض كوخ النتائج التي حصل عليها في اجتماع للجمعية الفسيولوجية في برلين في الرابع والعشرين من مارس ١٨٨٢. وضع كوخ مجهرًا وأكثر من مائتي أداة، ما بين عينات مجهرية وأنابيب اختبار ودوارق وأطباق زراعة، على طاولة كبيرة للجمهور المحتشد للاطلاع عليها. كان عنوان الخطاب ببساطة «عن السل». كانت هناك حالة شديدة من الترقب؛ فقد كان السل القاتل الأسوأ في ذلك العصر، وكان الجميع يتوقون إلى معرفة ما إذا كان كوخ سيكرر هذه النوعية من الاكتشافات المذهلة التي توصل إليها بشأن الجمرة الخبيثة.
قال كوخ: «إذا كان عدد الضحايا مقياسًا لأهمية مرض ما، فإن مرتبة جميع الأمراض، حتى الأمراض المعدية الأكثر ترويعًا، مثل الطاعون أو الكوليرا، ستتخلف عن السل كثيرًا. فالإحصاءات تبين أن سُبع البشر في العالم كله يموتون بسبب السل، وأن السل يودي بثلث البشر وغالبًا أكثر، إذا وضعنا في اعتبارنا الفئات المنتجة من متوسطي العمر.»
مضى كوخ ليشير إلى أنه لم يُحدَّد سبب السل بعد. كان كثيرون يعتقدون أنه كائن دقيق، ولكن كثيرين آخرين لم يروا ذلك. ووصف جهوده لتركيب صبغة تكشف الستار عن الجاني، ثم وصف ما رآه تحت المجهر: «التباين اللوني بين الأنسجة البنية والعصيات السُّلية الزرقاء مذهل إلى درجة أنه حتى البكتيريا المستخلَصة يمكن رؤيتها بوضوحٍ وتحديدها.» وصف كوخ فرضياته وشرح كيف تحقق من كل منها باستخدام «المتفطرة السلية». فقد أثبت أن الكائن الحي الدقيق موجود في كل حالة من حالات المرض، وأثبت أنه مسئول عن المرض المفجع الغامض الذي أربك الأطباء قرونًا.
كان الجمهور في حالة صدمة. فبعد كلمات كوخ الأخيرة، حلَّ صمتٌ مطبق مشوب بالرهبة والدهشة. لقد شهد الحضور خطابًا مدويًا حافلًا بالتجليات. لقد تحدد سبب أكثر الأمراض فتكًا في العالم. وأرسيت دعائم طريقة لدراسة مزيدٍ من الأمراض والكائنات الحية الدقيقة التي تسببها. وعن ذلك كتب بول إيرليش فيما بعد: «كان جميع الحاضرين متأثرين بشدة، وظلت تلك الليلة أعظم تجربة لي في العلم.»
حرب علنية
عندما أعيدت طباعة ترجمة مقال كوخ في فرنسا، غضب الجمهور الفرنسي. كان من الصعب تصديق أن كاتب المقال هو نفسه الطبيب الريفي المتواضع الذي كتب بتواضعٍ شديدٍ إلى فرديناند كون قبل خمس سنوات فقط. ربما منحه عمله البحثي المتزامن، والرائد دون أدنى شك، على «المتفطرة السُّلية» إحساسًا جديدًا بالثقة والغطرسة.
خلص باستور، على مضضٍ إلى حدٍّ ما، إلى أنه لا يملك خيارًا آخر سوى الرد على هجوم كوخ. فقد أصبح الشرف الفرنسي، فضلًا عن شرفه شخصيًّا، على المحك. وفي فبراير ١٨٨٢، أرسل مساعدًا موثوقًا ومتمكنًا، وهو لويس تويلييه، إلى برلين لإثبات فاعلية لقاح الجمرة الخبيثة للعلماء الألمان. كان العرض التوضيحي العملي على الحيوان ناجحًا، لكن كوخ ظل رافضًا الاعتراف علنًا بإنجاز باستور.
وقع الصدام التالي في سبتمبر ١٨٨٢، في المؤتمر الدولي للصحة والديموجرافيا في جنيف، بسويسرا، الذي حضره كوخ وباستور. ألقى باستور خطابًا، وكان كوخ جالسًا في الصف الأمامي، دافع فيه عن جهده البحثي المتعلق بكوليرا الدجاج والجمرة الخبيثة. وقال بصورة مباشرة: «ومع ذلك، مهما كانت الحقيقة المثبتة واضحة جلية، فإنها لا تحظى بالقبول بسهولة طوال الوقت. لقد واجهت معارضين متعنتين، سواء في فرنسا أو في الخارج … الدكتور كوخ، الذي لا يجد شيئًا لافتًا في هذه التجربة، يرغب في معرفة ما إذا كان الدجاج الذي تعرَّض لدرجات حرارة منخفضة وأصيب بالمرض يمكن أن يصاب به في الظروف الطبيعية … إن المؤلف لا يعتقد أنني قمت بالعملية على النحو الذي أقررته.»
ما أثار دهشة الحشد أن كوخ المستشيط غضبًا قفز في أثناء إلقاء باستور لخطابه وحاول تعطيل كلمة غريمه. وعندما حانت الفرصة لكوخ لاعتلاء المنصة، قال:
عندما رأيت في برنامج المؤتمر أن السيد باستور سيتحدث اليوم … حضرت الاجتماع وكلي شغف، أملًا في معرفة شيء جديد حول هذا الموضوع المثير للاهتمام. عليَّ الاعتراف بأنني شعرت بخيبة أمل؛ إذ لم يأتِ الخطاب الذي ألقاه السيد باستور للتوِّ بجديدٍ. لا أعتقد أنه سيكون من المفيد الرد هنا على الهجمات التي شنَّها السيد باستور ضدي … سأحتفظ بردي لصفحات الدوريات الطبية.
ولا عجب في أن رد كوخ، الذي كان مرتقبًا بشدة، قد صب الزيت على النار في نزاعٍ بات محرجًا بصورة متزايدة لكلا الرجلين، على الرغم من أن أيًّا منهما لم يدرك ذلك. فبعد ثلاثة أشهر من المؤتمر، نشر كوخ كتيبًا بعنوان «حول لقاح الجمرة الخبيثة: رد على خطاب أُلقي في جنيف من قِبَل السيد باستور». كان يعتقد أن إضعاف الميكروب ليس ممكنًا، وكرر ثانية أن باستور لم يقدم أي معلومات جديدة. كان الأسوأ من رسالة كوخ نبرته المهينة والقاسية، التي بدت متعمَّدة لإهانة باستور، وبالتبعية إهانة فرنسا. فقد كتب على سبيل المثال:
كنت متلهفًا على سماع النتائج العلمية القيِّمة من عمل باستور في إضعاف بكتيريا الجمرة الخبيثة العصوية … لكن المؤتمر لم يسمع شيئًا من هذا … لم يسمع سوى حقيقة بلا قيمة مفادها أن آلاف الحيوانات فد تلقت اللقاح … لم يكن الجدل الذي قدَّمه باستور يتضمن دحضًا حقيقيًّا، بل كان عبارة عن مسائل عامة. كانت موجَّهة في الغالب ضدي شخصيًّا، وقُدِّمت بنبرة انفعالية … يجب رفض طريقة باستور باعتبارها معيبة … وفي النهاية، باستور نفسه ليس طبيبًا، ولا يمكن أن نتوقع منه أن يقدم أحكامًا سليمة حول العمليات الباثولوجية المَرضية وأعراض الأمراض …
وصلت رسالة الكتيب إلى عشرة آلاف كلمة من التهكم غير المبرَّر والتشويه والتفاخر.
جاء الرد القوي من باستور في رسالة بعنوان «رد على السيد كوخ، المستشار الخاص لحكومة برلين»، في عدد يناير ١٨٨٣ من دورية «ريفو ساينتيفيك». هاجم باستور كوخ لعدم استعداده للاعتراف بمقدار ما يدين به للإنجازات الفرنسية في العلوم. في هذا الصدد كتب باستور: «أنت لا تعترف بأنك مخطئ بشأن مبدأ توهين البكتيريا نفسه»، وأضاف: «تنسب إليَّ أخطاءً لم أرتكبها … تدينها وتثير كثيرًا من الضجة بانتصارك … أنت مخطئ يا سيدي، أنت تُعِد نفسك لتوقعٍ آخر فاشل ستضطر على أثره إلى تغيير رأيك.»
استمرت هذه الحرب الكلامية بين أعظم عالمَين في العالم، وبين دولتيهما بالتبعية، دون أي علامات على التراجع. وفي أغسطس عام ١٨٨٣، أدى تفشي الكوليرا في مدينة الإسكندرية في مصر، إلى خلق جبهة جديدة في الصراع. فقد أرسلت كلٌّ من ألمانيا وفرنسا بعثات علمية للمساعدة في التعامل مع المرض، وعلى أمل تحديد سببه. كان الفريق الألماني بقيادة كوخ نفسه، بينما كان الفريق الفرنسي، المسمى «بعثة باستور»، تحت قيادة لويس تولييه، المساعد الموثوق لباستور. في سبتمبر، أصيب تولييه البالغ من العمر سبعة وعشرين عامًا بالكوليرا ومات. كانت وفاته تذكيرًا قاتمًا بالمخاطر التي خاضها جميع الباحثين. حضر الفريق الألماني جنازة تولييه بكل احترام. وكان كوخ حاملًا للنعش.
في النهاية، فاز كوخ والألمان بهذه الجولة. فبعد وفاة تولييه، تخلى الفريق الفرنسي عن العمل وعاد إلى الوطن. لم يتمكَّن كوخ من تحديد الميكروب المسبِّب للمرض بصورة قاطعة في مصر، لكنه سافر بعد ذلك إلى كلكتا الهندية، المصدر المفترَض للوباء، غير عابئ بالمخاطر. وهناك، نجح كوخ في عزل بكتيريا عصوية تتخذ شكل فاصلة، عُرفَت فيما بعد باسم «ضمة الكوليرا»، من رجل يبلغ من العمر اثنين وعشرين عامًا تُوفي بعد عشر ساعات فقط من أول ظهور للأعراض. وهكذا اكتشف سبب الكوليرا.
في مايو عام ١٨٨٤، عاد كوخ إلى بلده ليُستقبَل استقبال الأبطال. فقد اعتُبر ذلك الباحث الطبي الذي كشف أسرار الجمرة الخبيثة والسل والكوليرا كنزًا قوميًّا. ولكن مرة أخرى، لم يطُل اعتلاء كوخ للعرش كثيرًا. ففي عام ١٨٨٥، انتشرت أخبار عن انتصار، يكاد لا يُصدَّق من فرنسا، انتشار النار في الهشيم حول العالم.
وسيصبح هذا أعظم إنجازات لويس باستور.
النصر والكارثة
كان باستور قد وجه انتباهه إلى داء الكلب، وهو مرض شنيع ينتقل عن طريق عضة حيوان مصاب. وخلال مدة تتراوح بين أسبوعين وثمانية أسابيع من تعرُّض الشخص للعض، تظهر الأعراض، يشمل ذلك العطش الشديد والشلل وضيق الحلق الشديد الذي يجعل البلع مستحيلًا، ويتسبب في اختناق معظم الضحايا حتى الموت.
حاول باستور أولًا عزل الكائن الحي المسبِّب للمرض عن طريق البحث عنه في لعاب الكلب، ولكنه لم يجد شيئًا. لم يكن يعرف أن داء الكلب يسببه فيروس لم يستطع رؤيته باستخدام مجهره. عندما أدرك أن داء الكلب هو مرض يسبِّب التشنجات والشلل والجنون، استنتج أن الميكروب الممرِض قد يكون قابعًا في الحبل الشوكي والدماغ. فقام بفرم النخاع الشوكي لأرانب مصابة بالمرض وحقن به كلبًا سليمًا. وسرعان ما أصيب الكلب بداء الكلب ونفق.
بعد أن تمكَّن من التأكد من أن هذا النسيج يحتوي على الميكروب الخبيث، سعى إلى إضعافه عن طريق تركه يجف في قارورة معقمة، وهي طريقة ابتكرها إميل رو. أجرى باستور التجربة لتحديد المدة اللازمة لإضعاف عينة داء الكلب بحيث تكف عن إمراض حيوان سليم. ووجد أن ذلك قد استغرق أسبوعين. ثم صمَّم تجربة دقيقة متأنية حقن خلالها كلبًا سليمًا بعيناتٍ متدرجة من حيث الخطورة: فحقنه أولًا بنسيجٍ عصبي عديم الأذى جُفف لمدة ١٤ يومًا من كلب مصاب بداء الكلب؛ ثم في اليوم التالي، حقنه بنسيجٍ مجففٍ لمدة ١٣ يومًا؛ وفي اليوم الذي يليه، بنسيج مجفف لمدة ١٢ يومًا، وهكذا دواليك، حتى وصل أخيرًا إلى حقن الكلب بنسيج طازج وخبيث لم يُضعَف على الإطلاق.
نجا الكلب.
وكرر التجربة عدة مرات على كلاب أخرى بنجاح. وهكذا أعد باستور لقاحًا لحماية الحيوانات من داء الكلب.
في السادس من يوليو عام ١٨٨٥، أحضِر صبي يبلغ من العمر تسع سنوات يُدعى جوزيف مايستر إلى باستور في باريس من قرية مجاورة. كانت ذراعا جوزيف وساقاه في حالة تهتك كامل بسبب كلب مسعور عضه ١٤ مرة. بدا الموت بسبب داء الكلب مؤكدًا، لكن طبيب الصبي كان قد سمع أن باستور قد ابتكر طريقة لحماية الحيوانات من داء الكلب. فهل ستكون فعالة مع الإنسان؟
وافق باستور على المحاولة، أملًا منه في أن تعطي فترة الحضانة الطويلة لفيروس داء الكلب لقاحه الوقت لكي يمنح الجسم المناعة قبل أن يتجذَّر المرض ويقتل الصبي. وبما أنه لم يكن هو نفسه طبيبًا، أشرف على طبيبٍ حقنَ مايستر بنسيجٍ من حبلٍ شوكي متدرج الخطورة من أرنب مصاب بداء الكلب يوميًّا لمدة عشرة أيام.
راقب باستور الصبي بقلقٍ بحثًا عن أي علامة على داء الكلب.
لم تظهر أي علامة قَطُّ. وتعافى الصبي تدريجيًّا على مدى أربعة أشهر. كانت طريقة التطعيم التي ابتكرها باستور علاجًا فعَّالًا لداء الكلب لدى البشر. وبعد ثلاثة أشهر، أنقذ باستور صبيًّا آخر عضَّه كلب مصاب بداء الكلب. وفي عام ١٨٨٦، سافر ١٩ روسيًّا إلى باريس للعلاج بعد أن تعرضوا لهجومٍ من ذئاب مصابة بداء الكلب. وعلى الرغم من الفترة الزمنية الطويلة بين الإصابة والعلاج، تمكَّن باستور من إنقاذهم جميعًا باستثناء ثلاثة. وبحلول أكتوبر ١٨٨٦، عولج ٢٥٠٠ شخص بلقاح داء الكلب الذي ابتكره باستور. ومرة أخرى، أثبت باستور أنه جدير بأعظم التكريمات في المجتمع، تلقاها بوفرة من خلال كثير من الجوائز والدرجات الفخرية، والميداليات، وغيرها من آيات العرفان والامتنان من جميع أنحاء العالم.
ربما شعر روبرت كوخ بضغطٍ أكبر من أي وقت مضى ليرد لغريمه الضربة بضربة؛ إذ أعلن في عام ١٨٩٠ عن اكتشاف مذهل جديد، وهو علاج للسل. وأشار بشكلٍ غامضٍ إلى علاجه باسم «اللمف»، وصرح أنه يبدو أنه يعالج المرض لدى الخنازير الغينية. بدلًا من قتل الميكروبات مباشرة، كان يعتقد أن اللمف يهاجم الأنسجة المصابة نفسها، مما يجعلها نخرية. وكان من المفترض أن هذا من شأنه تدمير الموئل البكتيري، مما يفسر آلية العلاج. انتشرت أخبار علاج كوخ على الفور في جميع أنحاء العالم واستقبلتها الجماهير بفرحة عارمة. وتوافد المرضى المصابون بالسل إلى برلين على أمل تلقي العلاج. وجاء الآلاف من الأطباء لمعرفة المزيد عن الدواء. وأطلق كوخ عليه رسميًّا اسم «توبركولين»، لكنه ظل يفرض سرية غريبة حول ماهية العلاج أو كيفية إعداده.
مع تراكم الأدلة على عدم فاعلية التوبركولين، انسحب كوخ في خزي. واعتقد كثيرون أنه تعرَّض لضغوطٍ من أجل الإعلان المبكر عن العلاج المحتمل من جانب وزراء الحكومة الذين كانوا يتوقون إلى التباهي بانتصارٍ علمي ألماني آخر. وظن البعض الآخر أن عدم شفافيته ناجمة عن مؤامرة للتربُّح من العلاج. وهكذا أصبح كوخ، الطبيب الريفي المتواضع في السابق، تجسيدًا لأسطورة إيكاروس في مجال الطب. وعلى الرغم من أنه لم يسترد سمعته بالكامل، فقد مُنح جائزة نوبل في عام ١٩٠٥ عن أبحاثه حول السل. وقد عاش أطول من باستور، الذي تُوفي عام ١٨٩٥، بينما تُوفي كوخ إثر أزمة قلبية عام ١٩١٠، عن عمر ناهز السادسة والستين.
الرصاصات السحرية
فعل كوخ وباستور أكثر مما فعله أي شخص آخر للتعرف على الميكروبات المسبِّبة للأمراض، وإثبات صحة نظرية جرثومية المرض. لكن فشل علاج التوبركولين الذي قدَّمه كوخ أبرز حقيقة لا يمكن تغييرها، وهي: إن تحديد أسباب الأمراض المعدية قصة، أما علاجها وشفاؤها فتلك قصة أخرى تمامًا. وإذا كان كوخ، نابغة ألمانيا، لم يفلح في مكافحة العدوى، فما فرصة العلماء الآخرين في تحقيق ذلك؟
في عام ١٩٠٢، انطلق إيرليش، بدافعٍ من خبرته بالأصباغ الكيميائية، في مسعًى بحثي جديد. كان يرى أحيانًا أن البكتيريا التي تتشرَّب الصبغة لا تُلوَّن فحسب؛ بل كانت تموت أيضًا. وأدرك أن هذا يمكن أن يكون أداة رائعة. إذا استطاع إيرليش العثور على صبغة تقتل ميكروبًا ممرِضًا، فقد يثبت أنها علاج فعال. ولكن كيف يمكن العثور على الصبغة المناسبة؟ كان هناك آلاف الأصباغ وعشرات من مسبِّبات الأمراض المعدية المعروفة. سيكون الأمر كالبحث عن إبرة في كومة قش. ومع ذلك، بدأ إيرليش البحث. وأطلق على هذا الهدف المنشود «الرصاصة السحرية»، ولم يتوقف عن البحث على مدى سبع سنوات. فاختبر هو ومساعدوه مئات الأصباغ على نحوٍ منهجي، وكانوا يعدِّلون في تركيبها باستمرارٍ عن طريق إضافة أو إزالة مواد كيميائية مختلفة. وظل سنوات دون أن يُحقق أي تقدم.
من العفن
مثَّل سالفارسان منعطفًا طبيًّا مهمًّا بوصفه أول سلاح هجومي صنعه الإنسان لمكافحة الأمراض المعدية. لكن سرعان ما أفل نجمه بفضل الأدوية التي ظهرت بعده، وهي المضادات الحيوية التي ستُحدِث ثورة في مجال الرعاية الصحية وتنقذ مئات الملايين من الأرواح في القرن العشرين. ليست مبالغة أن نصِف اختراع المضادات الحيوية بأنه أعظم إنجاز طبي في التاريخ البشري؛ لأنه منذ الأزل، حتى أربعينيات القرن العشرين، مات عدد من البشر من الأمراض المعدية يفوق الأعداد التي ماتت لأي سبب آخر. وقد تغيَّر هذا بفضل اكتشاف غير محتمل، وقائم بشكلٍ كبيرٍ على سلسلة من ضربات الحظ والأخطاء التي تبدو مستحيلة، إلى درجة أن أي روائي يروي القصة قد يتعرض لنقدٍ مبرر بسبب خياله المفرط. حتى لو لم يكن الأشخاص الذين توصلوا إلى كثير من الاكتشافات الطبية التي ورد ذكرها في هذا الكتاب موجودين من الأساس، فسيظل هناك شخصٌ آخر قام بهذه الاكتشافات في نهاية المطاف. لكن هذا لا ينطبق على البنسلين. فرغم أنه من المؤكد أن مضادات الميكروبات كانت ستُكتشَف لا محالة، فإن اكتشاف البنسلين البالغ الأهمية كان من الممكن أن يضيع إلى الأبد لولا لحظة تجلٍّ عابرة تمثَّلت في ملاحظة غير عادية لعالمٍ بريطاني في مجال الأحياء الدقيقة اتسم بالخجل والتردد، لاحظ شيئًا غريبًا حول عفن صغير لوَّث تجربته الأخيرة بصورة أثارت ضيقه.
ومع ذلك، فالقصة ليست بهذه البساطة. وذلك لأن الاكتشاف لا يُعد شيئًا من دون الاعتراف بما اكتُشف.
في عام ١٩٢١، كان ألكسندر فليمنج عالم أحياء دقيقة في الأربعينيات من عمره في قسم التلقيح في مستشفى سانت ماري في لندن. كان منطويًا ومتحفظًا بطبيعته. قال أحد أصدقائه ذات مرة: «لم يكن متحدثًا لبقًا، وكان في بعض الأحيان يقطع لحظات الصمت المربك بتعليقاتٍ محرجة … كان الحديث معه كلعب التنس مع رجلٍ يضع الكرة في جيبه كلما ضربتها في اتجاهه.» لكن الشيء الذي كان فليمنج متفوقًا فيه هو زراعة البكتيريا ودراستها.
في أحد أيام شهر نوفمبر من عام ١٩٢١، جاء فليمنج إلى العمل وهو مصاب بالبرد. فقرر وضع قطرة من مخاطه الأنفي على طبق أجار مغذٍ (مستنبت)، بدافع الفضول لمعرفة ما إذا كان هناك شيء قد ينمو منه. بعد أسبوعين، رأى الطبق مستعمَرًا بالبكتيريا، لم تنشأ من المخاط نفسه، ولكنها نمت في الطبق من الهواء. وكان المثير في الأمر وجود هالة واضحة حول قطرة المخاط؛ أي منطقة دائرية ثُبط عندها نمو البكتيريا. أتاح له مزيدٌ من الدراسة اكتشاف أن المخاط، بالإضافة إلى الدموع والبلغم والبلازما وحتى حليب الثدي، يحتوي على إنزيم يساعد على حماية الجسم من البكتيريا. وقد أطلق على هذا الإنزيم اسم «الليزوزيم». وعلى الرغم من أن فليمنج لم يجد قَطُّ أن الليزوزيم يعيق أي بكتيريا تسبب مرضًا لدى الإنسان، فقد اعتبره مثيرًا للاهتمام، وخصص وقتًا كبيرًا لدراسته.
بعد سبع سنوات؛ أي في عام ١٩٢٨، بدأ فليمنج في دراسة المكورة العنقودية الذهبية. زرع هذه البكتيريا على العديد من أطباق البتري في مساحة معمله الضيقة، التي كانت فوضوية وغير منظمة إلى حدٍّ كبير. ولتسجيل ملاحظات حول النمو، كان يرفع الغطاء عن أطباق البتري بانتظامٍ لفحص مستعمرات البكتيريا المتوسعة. في يوليو، ذهب فليمنج في إجازة لمدة خمسة أسابيع إلى اسكتلندا. وقبل مغادرته، كدَّس أطباق البتري الخاصة به، التي عادة ما كانت تتراوح بين أربعين وخمسين، على نهاية طاولة لتوفير مساحة لأحد مساعدي المعمل كان سيستخدم المساحة في غيابه.
عاد فليمنج من الإجازة في الثالث من سبتمبر ١٩٢٨. ستنشأ العديد من الخرافات حول ما حدث بعد ذلك. لكن ما نعرفه بالتأكيد أن فليمنج أعاد فحص أطباقه، ولاحظ على أحدها وجود عفن ينمو بالقرب من حافة الطبق. كان أخضر داكنًا ملمسه كاللباد، وقطره نحو ٢٠ مليمترًا. في المنطقة المحيطة مباشرة بالعفن كانت هناك منطقة من البكتيريا الميتة المتحللة. وعلى مسافة أبعد قليلًا، بدت مستعمرات البكتيريا غير منتظمة ومقزَّمة. على الجانب المقابل للطبق، بدت البكتيريا العنقودية الذهبية سليمة وطبيعية المظهر.
قيل إن فليمنج قال: «هذا غريب.»
أظهر الطبق لزميله ميرلين برايس، الذي علَّق قائلًا: «هكذا اكتشفت الليزوزيم.»
تفيد رواية أخرى للقصة بأن فليمنج فحص جميع أطباق بتري القديمة لديه، واعتبرها عادية، ووضعها في حوض لتُغسَل. كان الطبق الذي اكتشف فيه البنسلين على بُعد بضع بوصات من غسول الليسول المطهر، على وشك أن يُنظَّف ويُطهَّر، عندما مرَّ ميرلين برايس عن طريق الصدفة. اختار فليمنج بعض الأطباق عشوائيًّا ليُريها لبرايس، وعند إعادة رفع الغطاء عن الطبق الذي صنع التاريخ، نظر عن قرب أكثر وقال: «هذا غريب.»
بغض النظر عن الملابسات الدقيقة للحظة الاكتشاف، ثمة عامل بيئي تصادفي اعتُبر أنه لعب دورًا بالتأكيد، وهو الطقس في لندن. في ظل الظروف الطبيعية، من غير المحتمل تمامًا، إن لم يكن مستحيلًا، أن تهبط عينة عفن شاردة على حقل من الأجار المليء بالمكورات العنقودية وتتجذر، بل تزدهر أيضًا. فالمكورات العنقودية قادرة بسهولة على سحق العفن الناشئ وتدميره. والطريقة الوحيدة التي كان من الممكن أن يترسخ العفن بها هي أن يهبط على وسط مغذٍّ خالٍ من الكائنات الحية الدقيقة المنافسة، وأتيح له الوقت كي ينمو دون عائق. فكيف حدث هذا؟ كان فليمنج قد زرع هذا الطبق بالفعل بالمكورات العنقودية الذهبية.
كان فليمنج منبهرًا بالاكتشاف غير المتوقع الذي قام به، الذي كان مشابهًا جدًّا بشكلٍ غريب للطريقة التي اكتشف بها إنزيم الليزوزيم قبل ذلك بسنوات. تعلم كيفية زراعة العفن فوق سطح مرق مغذٍّ، وأدرك أن ما يقتل البكتيريا ليس العفن نفسه، بل سائل أصفر يفرزه العفن. من الممكن أن هذه القطرات السائلة القوية جدًّا كانت موجودة فوق العفن واستخلصها باستخدام قطارة، أو وجدها تتقطر في المرق المغذي الأساسي، الذي أصبح أيضًا مضادًّا للبكتيريا، وأطلق عليه اسم «مستخلص العفن». في طبق بتري، نثر فليمنج العديدَ من أنواع البكتيريا حتى وصل إلى مساحة غائرة تحتوي على مستخلص العفن، ورأى أنه ثبط كثيرًا من أنواع البكتيريا، وليس المكورة العنقودية الذهبية فحسب. حاول استخدام أنواع أخرى من العفن لمعرفة ما إذا كان في إمكانها كبح جماح البكتيريا، لكن لم يتمكَّن أي منها من ذلك. وقد قدَّم عرضًا تقديميًّا حول عفن البنسيليوم في اجتماع نادي الأبحاث الطبية الذي انعقد في الثالث عشر من فبراير عام ١٩٢٩، لكن لم يبدِ أحدٌ من الجمهور أي اهتمام، ولم تُطرح أي أسئلة.
تراجع اهتمام فليمنج بالعفن. كان يعتقد أنه قد يكون مفيدًا كوسيلة لمنع البكتيريا غير المرغوب فيها من تلويث مزارع الميكروبات الأخرى التي أراد أن يدرسها، أو كنوعٍ من «مبيدات الأعشاب» البكتيرية، لكنه لم يسعَ إلى استكشاف استخدامات أخرى له.
على الرغم من فشل فليمنج في تحري القدرة العلاجية لعفن البنيسيليوم، فإنه فعل شيئَين لا يقدَّران بثمن. أولًا: شارك بسخاءٍ عينات من بِنسيليوم نوتاتوم مع مختبرات أخرى وجدتها مفيدة أيضًا في منع البكتيريا غير المرغوب فيها من تلويث مزارعها اليومية. وأدى ذلك إلى استمرار العينة الأصلية للعفن، التي نُشرت في أماكن في أوروبا وأمريكا الشمالية. ثانيًا: كتب ورقة بحثية نُشرت في دورية «بريتيش جورنال أوف إكسبيريمنتال باثولوجي» بعنوان «حول التأثير المضاد للبكتيريا لمزارع البنسيليوم، مع إشارة خاصة إلى استخدامها في عزل فيروس الإنفلونزا من النوع بي». في هذه الورقة البحثية، صاغ مصطلح «البنسلين»، وعلى الرغم من أنه كان قد تخلى بالفعل عن محاولات استخدامه علاجيًّا، ذكر في قسم المناقشة، «يُفترض أنه قد يكون مطهرًا فعالًا لوضعه على المناطق المصابة بالميكروبات الحساسة للبنسلين أو حقنها به.» في ذلك الوقت، لا يبدو أن أحدًا من العاملين في مجال الطب قد انتبه له.
ومرت تسع سنوات قبل أن يحمل أحدهم الشعلة مرة أخرى.
«يبدو الأمر مبشرًا جدًّا …»
في عام ١٩٣٨، كان هوارد فلوري رئيسًا لكلية السير ويليام دان لعلم الأمراض في جامعة أكسفورد. سافر فلوري الأسترالي المولد إلى إنجلترا أول مرة في إطار منحة رودس بعد إتمام دراسته في كلية الطب. في أكسفورد، أبهر أساتذته واكتسب سمعة باعتباره باحثًا بارعًا. كان معروفًا بأسلوبه الساخر الجامد وروح الدعابة الجافة، والانتقاد المتكرر للآخرين بغرض مضايقتهم وإن كان دون إهانة، وببخله في الثناء، وكلها صفات وجدها معظم مرءوسيه في النهاية جذابة بمجرد أن عرفوا رئيسهم وعلموا مدى تواضعه. كان فلوري متأملًا ومتحفظًا، ولم يكن اجتماعيًّا بدرجة كبيرة. كان من الممكن أن تثير صراحته الفظة استياء الزملاء الحساسين، لكنه لم يكن يقدم اعتذارات. كان صريحًا وصادقًا وببساطة طموحًا.
بدأ تشين في الحصول على «مستخلص العفن» المضاد للبكتيريا الخاص به، لكنه سرعان ما اكتشف أن تحفيز العفن لإفراز كميات كبيرة من السائل أمر صعب. حاول تشين تغيير درجة الحرارة ومقدار الأس الهيدروجيني لمرق التخمير. كان يعمل على تبخير مستخلص العفن مرارًا وتكرارًا في محاولة لجعل المكون النشط مركزًا. وساعده في جهوده واحد من اختصاصيي الكيمياء الحيوية الشباب الموهوبين يُدعى نورمان هيتلي، الذي كان يعمل مساعدًا لتشين. كان هيتلي يتمتع ببراعة في القياسات «الكيميائية الدقيقة»، وقياس كميات صغيرة جدًّا من العناصر مثل الكربون أو النيتروجين، في العينات البيولوجية.
لسوء الحظ، كان هيتلي يشعر بالنفور من جراء العمل تحت إشراف تشين. فعلى الرغم من أن تشين كان يتمتع بروح الدعابة والمرح بطبيعته، فقد تدرَّب في الجامعات الألمانية حيث كانت بيئة العمل صارمة عادة، ويغلب عليها التنظيم الهرمي على نحوٍ صارم، فكان من المتوقع أن يكون المرءوسون مطيعين جدًّا وخاضعين لرؤسائهم. كان هيتلي يستاء من أوامر تشين الفظة وأسلوبه الغليظ، وسرعان ما وجد العمل مع تشين غير محتمَل. فكثيرًا ما كان الباحثان ينخرطان في جدالات، وأحيانًا مشادات كلامية، حول مسائل تافهة مثل لون البنسلين. ولم تمر فترة طويلة حتى قرر هيتلي الانتقال إلى منصب جديد في الدنمارك. واعتزم الرحيل عن تشين وأكسفورد في سبتمبر ١٩٣٩.
لكن، في هذه اللحظة الحاسمة، وفي الأول من سبتمبر ١٩٣٩، عبرت الفِرق الألمانية المدرعة إلى بولندا في طليعة هجوم ساحق دمَّر الجيش البولندي في غضون شهر ونيف. وبدأت الحرب العالمية الثانية في أوروبا، لتقلب حياة عدد لا يُحصى من المدنيين رأسًا على عقب، وفيهم هيتلي. كان السفر إلى أوروبا أمرًا غير مستحسن، مما اضطر هيتلي إلى التخلي عن خطته. ولم تكن لديه وظيفة، في البحث أو غيره.
نتيجة ذلك، دعا فلوري هيتلي للبقاء ومتابعة العمل على البنسلين، بصفته مساعدًا له وليس لتشين. ووافق هيتلي على هذا الترتيب بسهولة. وكانت تلك نتيجة غير مخطط لها أثبتت أهميتها البالغة فيما بعد للرحلة الشاقة التي كانوا مقبلين عليها، وهي رحلة ملحمية استمرت سنوات طويلة تخللها تعقيد مرعب إلى درجة جعلت عدم إدراك الباحثين الثلاثة لمدى صعوبة الرحلة منذ البداية ضربًا من الرحمة بحقٍّ.
تولى هيتلي مهمة إنماء عفن البنسلين عن طريق التخمير. وحقق تقدمًا فوريًّا. فقد توصَّل إلى أن العفن ينمو بأفضل ما يكون فوق طبقة ضحلة جدًّا من السائل لا يزيد عمقها على ١٫٥ سنتيمتر. نما العفن الأزرق المائل إلى الخضرة ليصير تراكيب شبيهة بالأوراق على السطح، وأسقط الأبواغ داخل السائل الموجود في الأسفل الذي يصبح في النهاية مصدرًا لمزيدٍ من العفن. لم يمضِ وقت طويل حتى جمع هيتلي كل الصواني وقدور الطبخ والأوعية وصحون الخبز التي تمكَّن من العثور عليها؛ أي حاوية مسطحة يمكنه استخدامها لإنماء العفن. وثبت أن أفضل أوعية هي نونيات السرير. وجرَّب إضافة مواد كيميائية وسكر وملح وخميرة وحتى اللحم إلى السائل في الأسفل لمعرفة ما إذا كانت هذه المواد يمكن أن تعزِّز نمو العفن.
بينما كان هيتلي يركز على إنتاج مزيدٍ من مستخلص العفن، عمل تشين على تنقيته. حاول تشين استخراج أنقى شكلٍ ممكنٍ من البنسلين من الغسول السائل الذي كان العفن يطفو عليه، وهو ما يعيد إلى أذهاننا سعي جيمس كوليب لتنقية الإنسولين. رشَّح المرق، وغيَّر أسه الهيدروجيني، وخلطه مع مذيبات مختلفة مثل الإيثر؛ وأتاح له هذا إزالة الملوثات غير القابلة للذوبان في الإيثر. استمر العمل خلال عام ١٩٣٩ وحتى عام ١٩٤٠. كان تشين يأمل في تحويل البنسلين إلى صورة صلبة مستقرة يمكن حفظها ونقلها بسهولة. وللقيام بذلك، جفَّف تشين عينات من البنسلين القابل للذوبان في الماء بالتجميد ثم استخلص الماء من خلال عملية التسامي في ضغط ودرجة حرارة منخفضَين. وقد كتب تشين فيما بعد فيما يتعلق بالناتج النهائي: «حصلت على … مسحوق بني جميل جدًّا.»
بحلول مارس ١٩٤٠، كان لدى تشين بنسلين كافٍ لإجراء اختبارات أولية على الحيوانات. عمل الفريق على حقن الفئران بالبنسلين لمعرفة ما إذا كان سامًّا أم لا. ولم يكن كذلك. وعلموا أنه لا يدخل إلى مجرى الدم إذا أُخِذ عن طريق الفم. وعندما حُقِن عن طريق الوريد، تم التخلص منه بسرعة عن طريق البول، لكنه ظل محتفظًا بقدرٍ كبيرٍ من فاعليته؛ فقد كانت قطرات البول الموضوعة في طبق بتري قاتلة للبكتيريا. وأشار هذا إلى أن فاعلية البنسلين لا تتأثر نسبيًّا بالمرور عبر الجسم، ومن ثَم يمكن أن يكون قاتلًا منهجيًّا نشِطًا للبكتيريا، وهي سِمة في غاية الأهمية لأي دواء فعَّال. حتى عندما خُفِّف البنسلين إلى جزءٍ واحدٍ في المليون، ظل قاتلًا للبكتيريا. لم يكن الباحثون يعرفون كيف قتلَ البكتيريا، كانوا يعرفون فقط أنه قتلها. وتحت المجهر، بدا أن البكتيريا المختلطة بالبنسلين يزداد حجمها، ثم تصبح أطول قبل أن تنفجر. لقد توقفت عن التكاثر. وماتت.
في تجربة بسيطة لكنها ثورية، لقَّح فلوري ثمانية فئران بجرعات قاتلة من المكورات العقدية في الخامس والعشرين من مايو ١٩٤٠. ثم أعطى أربعة من هذه الفئران جرعات متفاوتة من البنسلين. بحلول اليوم التالي، نفقت جميع الفئران في المجموعة الضابطة، في حين كانت جميع الفئران التي عولجت على قيد الحياة وبصحة جيدة.
في اليوم التالي قال فلوري الذي عادة ما يكون متحفظًا: «يبدو الأمر مبشرًا جدًّا»، بينما كان تشين المتحمس بجواره يرقص فرحًا معلنًا أنها «معجزة». كرروا تجارب مماثلة عدة مرات أخرى، على ما يصل إلى ٧٥ فأرًا، باستخدام جرعات مختلفة. ووردت أخبار هذه التجارب في مجلة «لانسيت» في أغسطس ١٩٤٠، في مقال بعنوان «البنسلين علاجًا كيميائيًّا».
كان هذا إنجازًا عظيمًا، واكتشافًا بارزًا صُنِّف بين أعظم الإنجازات في تاريخ الطب.
إلا إنه لم يلتفت إليه أحد.
الشرطي
لم يتلقَّ فلوري أي تعليقات أو أسئلة أو طلبات لإعادة الطباعة من العلماء الآخرين بعد نشر مقال فريقه المهم، ما أثار حنقه. وبدا أن التقرير الذي كان يظنه سيحدث ثورة لم يكن له أي تأثير. بدا الأمر كأنه لا أحد من مواطني بلاده أعطى أي اهتمام له؛ ومع ذلك، ولكي نكون منصفين، سيتفهَّم فلوري فيما بعد السبب في أن المقالات الطبية لم تكن في مقدمة اهتمامات البريطانيين في ذلك الصيف.
فقد كانوا جميعًا، وفيهم هو، يتعرضون لهجوم.
احتدمت معركة بريطانيا في جنوب إنجلترا طوال الصيف. وخلال حملة قصف لندن، في سبتمبر، قصف سلاح الجو الألماني المدن البريطانية ليلًا. قضى العلماء، وفيهم أعضاء فريق البنسلين، جزءًا من أيامهم في حفر مأوًى من الغارات الجوية في الأراضي خلف كلية دان لعلم الأمراض. كانت الصحف تنشر قوائم الضحايا اليومية. ولم يكن أحد يعرف متى سيحين أجله، وانقلبت الحياة الطبيعية للجميع رأسًا على عقب.
علاوة على ذلك، عطلت الحرب الهدف التالي لفلوري، وهو العثور على شركة أدوية مستعدة لتطوير طرق لإنتاج البنسلين بكميات كبيرة. كان قد تواصل مع عدة شركات، ولكن لم تبدِ أي منها اهتمامًا. كانت جميعها غارقة في إنتاج الإمدادات المطلوبة على وجه السرعة لجهود الحرب، ويشمل ذلك اللقاحات ومضادات السموم وعقاقير السلفا. ومن خصص منهم وقتًا للاستماع إلى عرضه التقديمي خلصوا إلى أن زراعة ما يكفي من البنسلين لعلاج مريض بشري سيكون أمرًا صعبًا للغاية. ففي النهاية، استغرق فلوري سنوات لصنع ما يكفي لعلاج بضع عشرات من الفئران.
واجه فلوري وتشين وهيتلي على مضضٍ مشكلتَين مزعجتين بشدة، ولا مخرج لهما حسبما بدا. كانت المشكلة الأولى أنهم لن يتمكنوا أبدًا من زراعة ما يكفي من البنسلين لإجراء تجربة سريرية وحدهم. فقد كان إنتاج ما يكفي من البنسلين لعلاج مريض بشري واحد لمدة يوم واحد سيتطلب نحو أربعين جالونًا من مستخلص العفن. كانوا في حاجة إلى شريك تجاري لديه من الخبرة ومعدات التصنيع ما يؤهله للتعامل مع كميات ضخمة من مستخلص العفن الحساس السائل، ولكن لم تكن هناك شركة أدوية في بريطانيا مستعدة أو قادرة على مساعدتهم. كانوا في طريق مسدود.
علاوة على هذا، كانت هناك مشكلة ثانية أكثر إزعاجًا من الأولى. فقد بدا أنه من المرجح جدًّا أن تتعرض بريطانيا قريبًا لغزو من الجيش الألماني. فاتفق فلوري وتشين وهيتلي على أنه سيكون من غير المقبول أن يستفيد العدو من أعمالهم؛ لذا اتفقوا على أنه في حالة مجيء الألمان، سيدمرون جميع ملاحظاتهم المختبرية وبياناتهم ومعداتهم. غير أن فكرة فقدان عفن البنسلين الثمين، ربما إلى الأبد، كانت أفظع من أن يتصوروها؛ لذا فرك كلٌّ منهم جيوب معطفه والبطانات الداخلية لها بأبواغ البِنسيليوم، حيث ستُحفظ ما دامت جافة. بهذه الطريقة، إذا حدث ما لا يمكن تصوره، يمكن لكل رجل أن يقتنص فرصته ويهرب بالمادة الخام لمتابعة البحث في الخارج. وببعض الحظ، سينجح أحدهم.
تبدو المحنة العصيبة التي عاشها العلماء الثلاثة قاسية بكل المقاييس، لكن في ذلك الوقت، لم يكن هناك شيء طبيعي في عالمهم. كان فلوري وزوجته إيثيل قد اتخذا بالفعل الخطوة الاستثنائية بإرسال طفليهما باكيتا وتشارلز إلى أمريكا الشمالية بصحبة ١٢٣ طفلًا آخر للإقامة مع العائلات الكندية والعائلات التي تسكن إقليم نيو إنجلاند التي تطوعت لاستضافتهم. كان الأهالي يعتبرون مخاطر عبور الأطلسي عبر مياه ملغَّمة بالغواصات الألمانية، وسنوات من الانفصال عن العائلة، أفضل من احتمالية موت الأطفال في معركة يائسة لصد الغزاة الألمان، أو كابوس العيش تحت الحكم النازي. وفي كل يوم، كان فريق أكسفورد يواصل عمله بجد، ويراقب السماء بقلق، ويستمع إلى الراديو بشعور من التوجس.
حدث تطور محوري في الثاني عشر من فبراير ١٩٤١. فقد لجأ طبيب يُدعى تشارلز فليتشر إلى فلوري ليفتيه في أمر مريض يبلغ من العمر ٤٣ عامًا يُدعى ألبرت ألكسندر، وهو شرطي تعرَّض لجرح في وجهه بالقرب من زاوية فمه خلال غارة قصف في ساوثهامبتون. تحوَّلت هذه الإصابة التي بدت سطحية إلى عدوى بشعة على مدى عدة أشهر؛ إذ انتشرت في فروة رأسه وعينيه وذراعه. في تلك اللحظة، كان ألكسندر قد أصيب بالإنتان (تعفن الدم)؛ إذ غزت البكتيريا مجرى دمه، وأصيبت رئتاه بالعدوى، وكان جسده مغطى بالدمامل. كان ألكسندر في ألمٍ دائمٍ وعلى شفا الموت. ولم يكن لعقاقير السلفوناميد أي تأثير. وعلم الدكتور فليتشر أن فلوري لديه دواء تجريبي قد يساعد.
دون تردد، أعطى فلوري فليتشر عينة من البنسلين حقن بها ألكسندر بجرعة مقدارها ٢٠٠ مليجرام في البداية، تلتها ثلاث جرعات كل ساعة بمقدار ١٠٠ مليجرام. في غضون يوم، بدأ ألكسندر في إظهار «تحسُّن مذهل» وفقًا لتقرير حالة قدَّمه فلوري لاحقًا. كان هناك «توقف لإفرازات فروة الرأس وانحسار للتقيح في العين اليمنى والتهاب الملتحمة» شبه فوري. وشُفيت حمى ألكسندر. وشعر بتحسن كبير، حتى إنه استعاد شهيته. كان فلوري وتشين وهيتلي في قمة السعادة. فقد كان هذا دليلًا على أن البنسلين في وسعه إنقاذ أعداد لا تُحصى من الأرواح، العسكرية والمدنية على حد سواء. قال فلوري لفليتشر: «هذا نوع من الأشياء التي تحدث لك مرة واحدة في العمر.»
أخذ الشرطي ألكسندر يتحسن على مدى خمسة أيام. فشُفيت عدوى وجهه وفروة رأسه ومحجر عينه اليمنى تمامًا. وكان هذا جيدًا؛ لأن البنسلين لدى فلوري نفد. وبالفعل، بدأ ألكسندر يتلقَّى جرعات أقل تكرارًا بسبب تناقص الإمداد. وللحصول على المزيد، كان الفريق يجمع بول المريض يوميًّا وينقله إلى المختبر لاستخلاص البنسلين من أجل إعادة استخدامه، وهي مهمة أطلقوا عليها اسم «دورية البول».
عند هذا الحد وقع الفريق في حيرة من أمره. فبما أن ألكسندر قد تحسن كثيرًا، هل لا يزال من الضروري إعطاؤه المزيد من البنسلين؟ جذبت انتباههم حالة أخرى لصبي يبلغ من العمر ١٥ عامًا يعاني من الإنتان بعد جراحة في الورك. قرروا إعطاء البنسلين الذي استخلصوه للصبي الذي تعافى تمامًا. لكن لم يكن هناك بنسلين متبقٍّ. وما أثار الرعب لدى الجميع أن حالة ألكسندر عاودت التدهور مرة أخرى. فقد عادت عدواه، وكان أطباؤه عاجزين عن التصرف.
بعد ثلاثة أسابيع ونصف من آخر جرعة حصل عليها من البنسلين، تُوفي ألبرت ألكسندر بسبب الإنتان الشديد.
تركت هذه التجربة المأساوية انطباعًا دائمًا على جميع الباحثين. وعلى الرغم من وفاة ألكسندر، كانوا عندئذٍ مقتنعين بأن البنسلين فعَّال، وأنهم قد أحرزوا تقدمًا طبيًّا كبيرًا. ولكن من دون المزيد من البنسلين، سيكون من المستحيل مساعدة أي شخص. كان الأمر مثيرًا للغيظ؛ فمن أجل إقناع شركات الأدوية البريطانية بتصنيع البنسلين، كانوا في حاجة إلى المزيد منه لإجراء دراسة كبيرة؛ ولإجراء مثل هذه الدراسة كانوا في حاجة إلى كميات من البنسلين التي لا يمكن الحصول عليها إلا بمساعدة شركات الأدوية. كانت معضلة مستحيلة، بلا حلٍّ ملموس.
ما عدا حلًّا واحدًا.
يمكنهم مغادرة بريطانيا وتجربة حظهم في الولايات المتحدة.
لم تكن هذه بالمهمة السهلة. فالسفر إلى أمريكا الشمالية كان محفوفًا بالمخاطر والصعوبات. وحتى لو وصلوا إلى أمريكا، لم يكن هناك ضمان أنهم سينجحون في العثور على شريك تصنيع. كان المشروع بأكمله يقوم على الإيمان … والاستماتة. لحسن الحظ، كان لدى فلوري فرصة دعم محتملة. ففي أبريل ١٩٤١، التقى بطبيب أمريكي يُدعى وارن ويفر كان في زيارة للندن. كان ويفر رئيسًا لقسم العلوم الطبيعية في مؤسسة روكفلر في مدينة نيويورك. عندما وصف فلوري الإمكانيات الهائلة للبنسلين، انبهر ويفر. ووعد بمساعدة فلوري، وأبلغ مؤسسة روكفلر: «هذا المشروع … إذا كان ناجحًا بالفعل، فسيكون أكثر ثورية من اكتشاف عقاقير السلفوناميد … ولا بد من الاعتراف بأن أهميته المحتملة كبيرة جدًّا. بالطبع يجب أن نبذل كل ما في وسعنا لتسريع تقدمه.»
كانت مهمة الوصول إلى الولايات المتحدة أصعب بكثير. فقد تطلَّب هذا كثيرًا من الموافقات من كلا جانبَي الأطلسي. تلقى فلوري تعليمات بالحفاظ على سرية خططه، ولم يفضِ بها لطاقم المختبر أو لإرنست تشين الذي فوجئ عند رؤيته حقائب فلوري في المختبر في اليوم الذي سبق الرحلة المخطَّط لها. سأله تشين عن وجهته. فأوضح فلوري أنه وهيتلي ذاهبان إلى أمريكا، ولكن لم يُختَر تشين لمرافقتهما.
لم يتقبَّل تشين هذا الخبر بسعة صدر. كان يشعر بالاستياء الشديد حيال إغفاله، خاصة عندما وقع الاختيار على هيتلي الذي يصغره سنًّا للسفر. كان تشين يعتبر نفسه شريكًا مساويًا لفلوري، واعتبر أن إسهامه كان أكثر بروزًا من إسهام هيتلي. لكن فلوري أوضح أنهما ذاهبان إلى أمريكا لزيادة الإنتاج، وأن هذا هو مجال خبرة هيتلي. في عام ١٩٧٩، تذكر تشين هذه اللحظة في مقابلة أظهرت أن استياءه لم يتلاشَ؛ إذ قال: «غادرت الغرفة في صمتٍ، لكنني كنت محطمًا بسبب التعرض لهذا الخداع الماكر وسوء النية، الذي يُعد الأسوأ حتى الآن في تجربتي مع فلوري. وأفسد ذلك التصرف علاقتي التي كانت طيبة في بدايتها مع هذا الرجل إلى الأبد.»
قبل ذلك، بدأت العلاقة بين فلوري وتشين تتدهور بالفعل بسبب شعور تشين بتعرضه لمجموعة من الإهانات، بعضها تافه، والبعض الآخر أفدح، مما أدى إلى انهيار علاقة كانت في أولها صداقة حميمة. كان فلوري يميل إلى إبداء تعليقات لفظية مزعجة، كان يعتبرها غير مؤذية، لكن تشين الحساس وجدها مؤلمة.
علاوة على ذلك، جاء غضب تشين من استبعاده من الرحلة إلى أمريكا عقب خلاف شديد آخر بين الاثنين بشأن براءة اختراع عملية صنع البنسلين. حثَّ تشين فلوري بشدة على تقديم طلب للحصول على براءة اختراع. لم يكن يريد عوائد الملكية الفكرية لتكوين ثروة؛ بل كانت، كما أوضح تشين، ستُستخدَم لصالح مدرسة دان أو جامعة أكسفورد، ولتمويل أبحاثهم المستقبلية. في ألمانيا، حيث تدرب تشين، كانت هناك روابط أوثق بين الأوساط الأكاديمية والصناعية، وكان السعي للحصول على براءات اختراع للاكتشافات العلمية يُعتبَر أمرًا طبيعيًّا. ولكن فلوري لم يحرك ساكنًا. فقد كانت الأوساط العلمية في بريطانيا ترى أنه من الشائن إجراء الأبحاث العلمية لتحقيق أي مكاسب شخصية. لم تكن براءات الاختراع مقبولة، وكانت تُعتبَر غير أخلاقية. فأي اكتشافات تنتمي إلى الشعب، الذي هو في النهاية المموِّل للمؤسسات الخيرية والحكومية التي دعمت العمل.
استشاط تشين من الغيظ. كان مقتنعًا بأن التمويل الكبير سيكون له أهمية بالغة لدعم أبحاث البنسلين المستقبلية، وأن البراءات وعوائد الملكية الفكرية هما أفضل طريقة لضمان هذا التمويل. وكتب لاحقًا: «رأيت مجالًا هائلًا غير مستغَلٍّ، وكنا نحن القادة وسنظل كذلك إذا حصلنا على المال الكافي. ناقشت موقفنا مرارًا وتكرارًا مع فلوري، وخضنا معارك مريرة.» كما ذهب تشين إلى أنه في حالة عدم القيام بتسجيل براءة الاختراع، فسيفعل ذلك شخص آخر، وقد يأتي وقت سيضطرون فيه إلى دفع عوائد ملكية فكرية لتصنيع أو استخدام الدواء الذي اكتشفوه.
وفي إشارة إلى الخلافات القديمة بينهما، كتب فلوري فيما بعد إلى تشين يقول: «من الواضح تمامًا أنني لا أستطيع أن أواصل أي محادثات مريرة معك لأنها لا تفضي إلى أي تقدم وتضيع الوقت والطاقة، وهو ما لا يمكنني تحمُّله.»
في ٢٧ يونيو ١٩٤١، طار فلوري وهيتلي من لندن إلى البرتغال المحايدة. وبعد ثلاثة أيام، صعدا على متن قارب «بان آم كليبر» الطائر الذي هبط في جزر الآزور، ثم برمودا، قبل أن يتوجه إلى مدينة نيويورك.
أوديسا أمريكية
في حقيبة لم تفارق جانبه، كان فلوري يحمل عينات من عفن البنسلين الثمين، وداخله، كان يحمل قلقًا دائمًا من أن التغيرات في درجة الحرارة أو الرطوبة خلال رحلتهما الطويلة قد تضر العينات أو تقتلها. ولحسن الحظ، نجت العينات، ووصل فلوري وهيتلي إلى نيويورك في الثالث من يوليو عام ١٩٤١. في ذلك اليوم نفسه، التقيا بألان جريج، مدير قسم العلوم الطبية في مؤسسة روكفلر. كانت كل آمال فلوري، وسنوات العمل والتضحية وفرصة إنقاذ أرواح لا تحصى، متوقفة على هذه اللحظة، اجتماع مع أحد أكبر العلماء المرموقين في المؤسسة.
تكلم فلوري دون الاستعانة بملاحظات مكتوبة، وشرح كل الأبحاث التي أجروها حول البنسلين، وقدراته الإعجازية، ومأساة نفاده ومشاهدة ألبرت ألكسندر يموت، والتحديات المرتبطة بزراعته، والحاجة إلى مساعدة واسعة النطاق من الجهات الصناعية. أسر فلوري انتباه جريج بحديثه. وكتب هيتلي عن الاجتماع في مذكراته يقول: «سرد البروفيسور حكاية البنسلين سردًا ينم عن خبرة … أتذكر له هذا الأداء أكثر من أي شيء آخر؛ كان متعبًا جدًّا بعد تلك الرحلة الطويلة … وكانت طريقته تنم عن سعة عقليته العلمية. على الرغم من أنني كنت على دراية جيدة بالموضوع، فقد أطلعني على حقائق جديدة، وأدركت فجأة مدى عظمته … أعتبر تلك الساعة التي قضيناها في مكتب جريج واحدة من أعظم تجارب حياتي.»
بمجرد إدراك مؤسسة روكفلر ومعارف فلوري في المجتمع العلمي ومسئولي الحكومة الأمريكية بالقدرات المحتمَلة للبنسلين، سارعوا إلى دعم إنتاجه. كان مكتب الكيمياء والهندسة الزراعية، وهو أحد أقسام وزارة الزراعة، يدير منشأة مختبرية كبيرة في بيوريا، بولاية إلينوي، تُعرف باسم مختبر الأبحاث الإقليمي الشمالي. كان ذلك هو المكان المثالي للعمل على تحسين إنتاج البنسلين في أنقى صوره الممكنة. ذهب هيتلي إلى بيوريا لإطلاعه على عينات البنسلين الثمينة وكل ما يعرفه عن نمو العفن. ولم يعد إلى بريطانيا لمدة عام.
في غضون ذلك، التمس فلوري مساعدة شركات الأدوية الأمريكية لإنتاج الدواء بكميات ضخمة. كانت مهمة صعبة. فقد سجَّل هيتلي في مذكراته أن فلوري اعترف بأنه يشعر كأنه «بائع حقائب سفر مصنوعة من السجاد يحاول ترويج فكرة مجنونة من أجل دافعٍ خفي.» في النهاية، نجح فلوري في ذلك، بدعمٍ من الدكتور ألفريد نيوتن ريتشاردز، رئيس اللجنة الأمريكية للبحث والتطوير الطبي. شهد ريتشاردز لإمكانات البنسلين، وأخبر القادة في شركات «ميرك» و«سكويب» و«ليدرل» و«فايزر» للأدوية أن الحكومة تدعم هذا الجهد؛ لأن تطويره في مصلحة الأمة. وبتحفيز إضافي من هجوم اليابان على بيرل هاربور في السابع من ديسمبر عام ١٩٤١ ودخول الولايات المتحدة الحرب بعد ذلك، اتفقت جميع الشركات الأربع على المشاركة في تصنيع الدواء.
بعد إنجاز فلوري لمهمته، عاد إلى أكسفورد واستأنف قيادة عمل الفريق. وافقت شركتان بريطانيتان — وهما شركة «إمبريال» للصناعات الكيماوية وشركة «كيمبال وبيشوب وشركاؤهما» — على بدء تصنيع البنسلين بكميات كبيرة. وفي مارس ١٩٤٣، نشر فلوري تقريرًا يلخص تجربة فريقه في علاج أكثر من ١٨٠ مريضًا بالبنسلين، شُفي معظمهم. وفي أبريل من عام ١٩٤٣، كان الجنود الأمريكيون الذين قاتلوا في حرب المحيط الهادئ أول الجنود الذين تلقوا البنسلين لعلاج العدوى العنيفة أو المزمنة. وكما هو الحال مع جوانب أخرى من الإنتاج الأمريكي في أثناء الحرب، ارتفعت قدرة أمريكا على إنتاج البنسلين بكمياتٍ كبيرة بمعدلٍ متسارع. وبحلول عام ١٩٤٤، شُيِّد ٢٢ مصنعًا لإنتاج البنسلين على نطاقٍ واسعٍ في أمريكا الشمالية. كان البنسلين ينمو في خزانات عملاقة تحتوي على عشرات الآلاف من الجالونات من السائل. كان لاستخدام الجيش الأمريكي للبنسلين تأثيرات هائلة. فقد بدا الدواء علاجًا شافيًا لعددٍ لا يُحصى من الأمراض، وفي ذلك الالتهاب الرئوي والزهري والتيتانوس والتهاب السحايا والدفتيريا والحمى الروماتيزمية وغيرها الكثير. أصبح الآلاف من الجنود المصابين بأمراض تنتقل جنسيًّا كالسيلان ممن استُبعدوا من الخدمة لائقين للخدمة بعد العلاج بالبنسلين؛ وصار عشرات آلاف آخرين مدينين بحياتهم للدواء … ولفريق أكسفورد، بإنجلترا.
لكن على الرغم من هذا النصر، ظل هناك جانب مهم جدًّا من ملحمة البنسلين لم يُحسم بعد. كان جزءًا من القصة لم يتنبأ أيٌّ من الأطراف الرئيسة بأنه سيصبح مثار إشكال كبير.
الفضل
راقب ألكسندر فليمنج تقدم فلوري وتشين وهيتلي باهتمام. وبعد نشر أول ورقة بحثية للفريق في مجلة «لانسيت» في عام ١٩٤٠، زار فليمنج مختبر فلوري بأكسفورد لمعرفة «ما فعلوه بالبنسلين الذي اكتشفه من قبل» ولمعرفة المزيد عن كيفية إنتاج البنسلين. كان ظهور فليمنج مفاجئًا لتشين بالذات؛ إذ كان يعتقد أن فليمنج مات. استضاف فلوري فليمنج بترحابٍ، ولم يخفِ أيٌّ من أعضاء الفريق أيَّ معلومات عن كيفية نجاحهم. حتى إنهم أعطوا فليمنج عينة من البنسلين الأنقى الذي استخلصوه، الذي اختبره فليمنج فيما بعد، وتحقق من أنه أفضل بكثير من عقاقير السلفا.
بدأت القصة تتخذ منعطفًا آخر في الخامس من أغسطس ١٩٤٢، عندما اتصل فليمنج بفلوري ليسأله ما إذا كان في وسع فلوري توفير البنسلين لعلاج صديق قديم له يبلغ من العمر ٥٢ عامًا، كان يعاني من التهاب السحايا العقدي، وهو تشخيص قاتل. شعر فلوري بأن من واجبه مساعدة الرجل الذي اكتشف البنسلين. فأحضر فلوري شخصيًّا عينة من الدواء لفليمنج. أعطى فليمنج البنسلين للمريض بحقنه عضليًّا لمدة خمسة أيام، وأسفر عن تأثير سريري طفيف؛ لكنه بعد ذلك حقن الدواء مباشرة في قناة العمود الفقري للمريض، مما أدى إلى تحسن ملحوظ، وسرعان ما تعافى تمامًا.
ورد خبر هذه النجاة المعجزة الشبيهة بقيامة القديس لعازار من الموت في جريدة «لندن تايمز»، التي نشرت خبرًا في السابع والعشرين من أغسطس لعام ١٩٤٢، بعنوان «فطر البنسيليوم». ولم يُذكر أسماء أي علماء. ثم، في الحادي والثلاثين من أغسطس، نُشِرت رسالة من السير ألمروث رايت، مدير قسم التطعيم في مستشفى سانت ماري (وهو في الواقع رئيس فليمنج)، في الصحيفة نفسها. وجاء فيها:
سيدي،
سُلط انتباه الجمهور العام بأضوائه المبهرة فجأة على ألكسندر فليمنج مباشرة، ذلك الرجل الهادئ الصامت ذو الواحد وستين عامًا، وهرع الصحفيون إلى مستشفى سانت ماري لمقابلته. وما فاجأ الكثيرين أن فليمنج بدا مستمتعًا بالأضواء. فأجرى مقابلات عديدة، وسمح للمصورين بالدخول إلى مختبره. استغرق الصحفيون المجتهدون وقتًا للتعرف على إسهامات الفريق في أكسفورد، لكن عندما سافروا إلى هناك لمقابلة هوارد فلوري، واجهوا رجلًا له موقف مختلف تمامًا تجاه الصحفيين. كان فلوري يحتقر الصحافة، ولم يهتم قَطُّ بإجراء مقابلات صحفية أو بالتصوير. كان يعتبر أنه لا يليق بالعلماء أن يُرَوا منخرطين في أي تصرف يمكن اعتباره إعلانًا تجاريًّا أو ينطوي على تعظيم للذات. ونتيجة ذلك، انجذب الصحفيون نحو فليمنج، ولا سيما أن تواضعه يناسب صورة البطل الشعبي المتواضع تمامًا. ولم تمضِ فترة طويلة حتى توقف الصحفيون عن تكبُّد عناء ذكر الإسهامات التي قدمها فريق فلوري في أكسفورد تمامًا. لم يكن غريبًا أن تتضمن المقالات معلومات غير صحيحة، بدءًا من الادعاء بأن فليمنج قد طور البنسلين وحده تمامًا، وصولًا إلى تأكيد أنه قد وجَّه إنتاجه في أكسفورد لاستخدامه في مستشفى سانت ماري. وفي عام ١٩٤٥، أشاد عنوان مقال عن البنسلين نُشر في «نيويورك تايمز» بالعمل الذي قام به فليمنج و«اثنان من زملائه»، إشارة إلى فلوري وتشين.
من الصعب وصف درجة عشق المواطنين في جميع أنحاء العالم لفليمنج، أو بالأحرى أسطورة فليمنج. فبوصفه المخترع المفترَض لأعظم دواء إعجازي في العالم، حقق شهرة، وأصبح واحدًا من أشهر أعلام القرن العشرين. وكرَّس معظم السنوات العشر الأخيرة من حياته للسفر وتلقي الجوائز في جميع أنحاء العالم. فحصل على لقب فارس، وانتُخِب لعضوية الجمعية الملكية. وفي عام ١٩٤٤، وضعت مجلة «تايم» صورة لفليمنج على غلافها، وأطلقت حملة تمويل لفليمنج، وشجعت القراء على المساهمة؛ لأن فليمنج لم يحصل على أي مكاسب مالية من اكتشافه.
في المقابل، كانت إسهامات فلوري وتشين وهيتلي، في أحسن الأحوال، معروفة على نطاقٍ محدود، وفي أسوأ الأحوال، منسية تمامًا. وعلى الرغم من أن فليمنج لم يدَّعِ الفضل في أي شيء لم يقُم به عمومًا، كان في إمكانه أن يفعل الكثير لتوضيح الحقائق للصحفيين المتلهفين على تصويره بوصفه البطل الأوحد لمعجزة البنسلين. وعندما كان ينسب الفضل أحيانًا إلى مجموعة فلوري، كانت الصحافة غالبًا ما تتجاهل هذا الجانب من القصة ببساطة.
لا عجب في أن فلوري قد أصبح منزعجًا للغاية من سلوك فليمنج، لكنه لم يصرح بأي شيء علنًا. فقد كان في ذلك كسرًا لميثاق شرفه الصارم ضد الدعاية لنفسه. وألقى تشين اللوم على فلوري لعدم الدفاع عن جهد مجموعة أكسفورد. لم يكن يعلم أن فلوري كان قد تلقى نصيحة من شخصيات بارزة موثوق بها في المجتمع العلمي البريطاني بالتزام الصمت. وكشفت رسالة خاصة كُتبت في الحادي عشر من ديسمبر عام ١٩٤٢، إلى السير هنري ديل، المستشار العلمي للحكومة البريطانية، عن استياء فلوري: «لديَّ الآن أدلة دامغة … على أن فليمنج يبذل قصارى جهده لتصوير الموضوع بأكمله على أنه قدِّم كما تنبأ، وأعد له فليمنج، وأننا في هذا القسم وضعنا فقط بعض اللمسات النهائية … يبدو أن هذه الدعاية المستمرة تؤثر حتى في أهل العلم؛ فقد أصبح العديد منهم يقول لنا: «لكني ظننت أنكم قد قمتم أيضًا بشيء ما يتعلق بالبنسلين».»
بينما كان فلوري يأمل ويفترض أن تأليه فليمنج سيتلاشى مع مرور الوقت، فلم يحدث ذلك. بل كان يزداد فقط. وواصل فريق فلوري في أكسفورد التذمُّر. وبعد عام ونصف، في رسالة بتاريخ التاسع عشر من يونيو ١٩٤٤، كتب فلوري إلى سير إدوارد ميلانبي، أمين مجلس البحوث الطبية في بريطانيا يقول:
لقد انزعجنا جميعًا هنا من مشاهدة الحملة غير الأخلاقية التي قادتها مستشفى سانت ماري بروية وتخطيط لنسب كل العمل الذي تم هنا إلى فليمنج. لديَّ أدلة كافية متنوعة على أن هذه الحملة مدروسة وذكية. كانت سياستي هنا ألا أجري مقابلات مع الصحافة أبدًا، وألا أسمح لهم بالحصول على أي معلومات منا حتى عبر الهاتف … في المقابل، كانت المقابلات الصحفية جارية مع فليمنج دون توقف، وجرى تصويره … إلخ. والنتيجة أنه قُدِّم باعتباره «مكتشف البنسلين» (وهذا صحيح) مع الإيحاء بأنه قام بكل العمل الذي أدى إلى اكتشاف خصائصه العلاجية الكيميائية (وهذا غير صحيح) … يشعر زملائي هنا أن الأمور تتجاوز الحدود بشدة، وفي حين أنهم لا يرغبون في دعاية أو تقدير خاص لشخصهم، إلا إنهم بطبيعة الحال يزدادون تذمرًا وسخطًا وهم يرون قدرًا كبيرًا من عملهم يذهب إلى تمجيد شخص آخر بل إثرائه ماديًّا.
في عام ١٩٤٥، مُنحت جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب إلى فليمنج وفلوري وتشين. وكانت القواعد تمنع تكريم أكثر من ثلاثة أشخاص، وبذلك استُبعد هيتلي. اليوم، يظل اسم ألكسندر فليمنج مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا باختراع البنسلين، بينما يتذكر قليلون أسماء فلوري وتشين، وهيتلي. أبرز الكاتب إريك لاكس ملاحظة أبداها عالم الأعصاب البارز ويليام ماكسويل كوان، أشار فيها إلى أن ألكسندر فليمنج قد جاء على رأس جميع الأرواح التي أنقذتها أبحاث فلوري على البنسلين؛ فلولا أبحاث فلوري لذهبت مسيرة فليمنج المهنية في طي النسيان، ولصارت مجرد هامش في تاريخ علم الأحياء الدقيقة.
تُوفي فليمنج عام ١٩٥٥، إثر أزمة قلبية عن عمر ناهز ٧٤ عامًا. ونُعي في جميع أنحاء العالم، ودُفن في كاتدرائية القديس بول بالقرب من هوراشيو نيلسون وكريستوفر رين. أما فلوري، فتُوفي في عام ١٩٦٨، ودُفن في كنيسة ويستمنستر. وفي وقتٍ لاحقٍ من مسيرتيهما المهنية، تبادل فلوري وتشين رسائل أكثر إيجابية، وبعض رسائل المصالحة. انتُخب تشين لعضوية الجمعية الملكية في عام ١٩٤٩، وحصل على لقب فارس عام ١٩٦٩. وتُوفي في عام ١٩٧٩. وكتعويض جزئي لنورمان هيتلي عن استبعاده من قِبَل لجنة جائزة نوبل، مُنِح أول دكتوراه فخرية في الطب من جامعة أكسفورد في عام ١٩٩٠. وتوفي في عام ٢٠٠٤.
المقاومة
في وقتٍ مبكرٍ من عام ١٩٤٠، أفاد إرنست تشين وعضو آخر في فريق أكسفورد يُدعى إدوارد أبراهام بأنهما اكتشفا سلالة بكتيرية يمكنها تعطيل مفعول البنسلين من خلال إنتاج إنزيم يُعرف بالبنسليناز (والمعروف أيضًا باسم بيتا-لاكتاماز) يكسر حلقة بيتا-لاكتام البنيوية للعقار. في خطاب تسلُّمه جائزة نوبل في عام ١٩٤٥، أطلق ألكسندر فليمنج تحذيرًا تنبؤيًّا بأن عدم اكتمال البرنامج العلاجي باستخدام المضادات الحيوية سيفشل في قتل البكتيريا بالكامل، والأسوأ من ذلك «سيعلِّمها كيفية مقاومة البنسلين». ففي غضون ٢٥ عامًا، أصبح أكثر من ٨٠ في المائة من عينات المكورات العنقودية غير حساسة للبنسلين. وفي عام ٢٠١٩، قدَّرت مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة أن نحو ٢٫٨ مليون أمريكي يتعرضون للإصابة ببكتيريا مقاومة للأدوية سنويًّا، ومن بين هؤلاء، يموت أكثر من ٣٥ ألف شخص.
كيف حدث هذا؟
كان الاستخدام المفرط للمضادات الحيوية مشكلة مستعرة من البداية. فما إن أصبح البنسلين متوافرًا بكثرة، حتى صار الأطباء يعطونه بسخاء للمرضى لعلاج جميع أنواع الأمراض، وفي ذلك حالات البرد الفيروسي أو الإنفلونزا، التي لا تكون للمضادات الحيوية أي تأثير مفيد فيها. ولا يزال هذا مستمرًّا إلى اليوم. فقد أشارت إحدى الدراسات عن الوصفات الطبية التي وصفت فيها المضادات الحيوية في الولايات المتحدة في الفترة من ٢٠١٠ إلى ٢٠١١ إلى أن نحو ٣٠ في المائة منها كانت غير مبررة. وفي كثير من الدول الأوروبية، يمكن شراء المضادات الحيوية دون وصفة طبية.
لا يقتصر الاستخدام المفرط للمضادات الحيوية على مجال الطب. فثمة مشكلة أكبر، وهي الاستخدام الواسع النطاق للمضادات الحيوية في الزراعة وللماشية؛ إذ يُقدر أن نحو ٧٠ في المائة من المضادات الحيوية التي تُنتَج اليوم تُعطى للحيوانات. فقد أدى الاكتشاف العرضي في أربعينيات القرن العشرين لكون المضادات الحيوية تسرِّع نمو الحيوانات إلى دفع المزارعين إلى إعطاء ماشيتهم جرعات صغيرة ومتقطعة، وهي كميات ليست كافية لقتل البكتيريا الأكثر مقاومة، ولكنها كافية للقضاء على الميكروبات الضعيفة، تاركة البكتيريا الأقوى لتبقى وتزدهر.
الطرق التي تتطور بها البكتيريا لمقاومة المضادات الحيوية عديدة. فيمكنها مهاجمة المضاد الحيوي نفسه عن طريق تكوين إنزيمات تعطِّل مفعول الدواء. ويمكنها تغيير شكل مواقع الارتباط لمنع جزيء المضاد الحيوي من الالتصاق بجدار الخلية البكتيرية أو اختراقه. كما يمكنها تكوين مضخات في جدار الخلية تضخ المضاد الحيوي خارج البكتيريا قبل أن تُقتَل. عندما يستهدف مضاد حيوي خطوة معينة في مسار البكتيريا الأيضي، يمكن للبكتيريا تغيير هذا المسار الأيضي لتجنب الأذى.
ما الذي يمكن القيام به؟ كيف يمكننا أن نبدأ حتى في التعامل مع هذه المشكلة الكبيرة ونسبق أعداءنا الماكرين بخطوة؟
من ناحية أخرى، ثمة كثير من الأفكار لطرقٍ أخرى لمكافحة المشكلة. التوعية مسألة ضرورية، من خلال إخطار الأطباء بأن عليهم وصف المضادات الحيوية بمزيدٍ من الحذر (وبالتأكيد ليس للعدوى الفيروسية)، وكذا تحذير المرضى من طلب المضادات الحيوية دون داعٍ. يجب على كل مريض أن ينهي برنامج العلاج كاملًا حتى بعد بدء الشعور بالتحسن؛ لأن التوقف مبكرًا يترك بكتيريا أقوى على قيد الحياة. من شأن تقليل الحاجة إلى المضادات الحيوية من خلال تعزيز الصرف الصحي المُحسَّن، وتوفير المياه النظيفة في الأماكن التي تفتقر إليها، والتشجيع على استخدام اللقاحات، أن يفعل الكثير للحد من آثار المضادات الحيوية علينا. ومن شأن المبادرات الحكومية والمعاهدات الدولية التي تحد من استخدام المضادات الحيوية في الزراعة وللماشية أن تقدم مساعدة هائلة، أكثر من أي شيء آخر.
إن السعي نحو التعرُّف على البكتيريا التي قتلت ملايين لا تُحصى من البشر طول تاريخ البشرية والقضاء عليها قصة إنجاز لا مثيل لها، وكفاح مستمر حتى اليوم. لقد كان العمالقة أمثال باستور وكوخ وإيرليش وفليمنج وفلوري وتشين وهيتلي أفرادًا نابغين ولا يخلون من العيوب. وحكاياتهم الملحمية تعكس جرأة وإنجازًا مدهشَين، وتكون في بعض الأحيان مشوبة بالغرور والصراع، والضغائن الصغيرة. ومما لا شك فيه أن طبائعهم التنافسية، التي كانت مصدرًا لكثيرٍ من الصراعات، حفَّزتهم أيضًا على الوصول إلى قممٍ أعلى. لقد ورَّثونا أدوات للدفاع عن أنفسنا ضد أعداء غير مرئيين عنيدين. ونتمنى أن يكون لدينا الحس السليم لكي نحسِن استخدام هذه الهدية.