الفصل الرابع

العدوى الفيروسية

الجائحة

في أكتوبر عام ١٩٥٢، سقط صبي يبلغ من العمر ١٢ عامًا يُدعى أرفيد شوارتز من فوق دراجته في أثناء تجوُّله في مزرعة عائلته في شمال مينيسوتا. كان هذا أمرًا غير عادي؛ إذ لم تكن هناك أي عقبات في طريقه، كما أنه كان درَّاجًا ممتازًا. نهض ولاحظ أنه يشعر بضعفٍ طفيفٍ في ساقيه، لكن هذا لم يمنعه من تنظيف نفسه وإكمال مهامه في وقتٍ لاحقٍ من ذلك العصر. وعلى نحوٍ غريبٍ، استمر الشعور الغريب في ساقيه بضعة أيام أخرى. بعد ذلك أُصيب بصداعٍ وحمى وشعور بالإعياء. وفي صباح اليوم التالي، عندما بدأ في النهوض من السرير، سقط على وجهه.

وما أصابه بالهلع إدراكه أن ساقيه مشلولتان.

استغاث طلبًا للمساعدة. حمله والده إلى سرير نهاري في الطابق السفلي، وعلى مدى الأيام الثلاثة التالية كان والداه يناقشان في قلقٍ ما يجب عليهما القيام به. هل يتعيَّن عليهما الاكتفاء بالمشاهدة والانتظار؟ أم يحضران الطبيب؟ أخيرًا، استُدعي طبيب. ونظرًا إلى أنه لم يكن متأكدًا من التشخيص، أوصى بنقل أرفيد إلى مستشفى جامعة مينيسوتا في مينيابوليس. حمله والده إلى السيارة ووضعه في المقعد الخلفي، وأسنده إلى كومة من الوسائد والبطانيات. كان يومًا جميلًا من أيام الخريف، ولكن أرفيد شعر بتوجس، وألقى نظرة طويلة على أنحاء المزرعة. كان لديه شعور بأنه قد لا يعود لفترة طويلة جدًّا.

في المستشفى، كشفت الفحوصات عن أسوأ كابوس لوالديه: شلل الأطفال الذي يُعرف أيضًا بالتهاب سنجابية النخاع. عُزل أرفيد على الفور عن والديه، وأُخِذ إلى عنبر العدوى المزدحم. كانت الغرفة مكتظة عن آخرها بالأسرَّة التي تحمل أطفالًا غير قادرين على الحركة مثله. وعلى مدى الثمانية الأيام التالية، ظل أرفيد راقدًا ومحمومًا. وكان يقضي معظم الوقت يحدق إلى السقف ويبكي فقط.

قال أرفيد في معرض تذكُّره لاحقًا لتلك الأيام الأولى المروعة: «لم أكن أعرف ماذا سيحدث لي.» لم يخبر أحد أرفيد ما إن كان من المتوقع أن يعيش أم أن مصيره هو الموت. لم يكن يعرف ما إذا كان سيمكث هناك أسبوعًا أم شهرًا أم مدة أطول. ونظرًا إلى عدم قدرته على الحركة، تلقى حُقنًا شرجية، وكان لا بد من تركيب قسطرة لتفريغ مثانته. في الأوقات التي لم يكن يبكي فيها، حاول أن يشغل ذهنه بتخيل ما كان سيفعله لو كان يمارس حياته العادية، فكان يفكِّر قائلًا: «حسنًا، الآن الساعة الثامنة والنصف، كان من المفترض أن نكون في المدرسة، والآن الساعة التاسعة والنصف، من المفترض أننا ندرس الإملاء أو الجغرافيا.»

بعد مرور الأيام الثمانية الأولى، نُقِل إلى عنبر كبير آخر، وكان مكتظًّا أيضًا بالأسرَّة وعدد كبير من الأطفال المشلولين حسبما بدا. تمكَّن من رؤية والديه ولكن لوقت قصير جدًّا. بكت والدته. لم يكن أي منهما يتوقع أن تمتد إقامته في المستشفى في النهاية إلى ثمانية شهور، أو أنه لن يمشي أبدًا من دون مساعدة. كان الملل يسود أيام أرفيد، يتخللها تمارين المد والعلاج بالكمادات الساخنة مع المعالجين. بمرور الوقت، أصبح حجم إعاقته واضحًا. قُيِّمت قوة العضلات على مقياس من واحد إلى ١٠، حيث الرقم ١٠ يشير إلى الحالة الطبيعية. وكانت ساقا أرفيد تُقيَّم دائمًا بالقيمة صفر؛ أي لا تتحركان على الإطلاق. لم يتأثر طرفاه العلويان بشدة، باستثناء شلل طفيف في ذراع واحدة. وعلى الرغم من أن ظهره كان ضعيفًا، ساعدته ممرضاته على تعلُّم كيفية الحركة بمساعدة الدعامات والعكازات.

اعتبر نفسه محظوظًا لأنه، على عكس كثير من الأطفال الآخرين، لم يكن مقيدًا في رئة حديدية تشبه التابوت، تلك الآلة الكبيرة المروعة التي يُدفن داخلها جسم الطفل بالكامل باستثناء رأسه الصغير الذي يبرز من أحد طرفيها على نحوٍ مثيرٍ للشفقة. في حالة هؤلاء الأطفال، يكون فيروس شلل الأطفال إما قد أتلف الأعصاب التي تتحكم في الحجاب الحاجز وإما جزءًا من جذع الدماغ الذي يحافظ على التنفس. ومن دون مساعدة المحرك القوي الذي يبذل ضغطًا موجبًا وسالبًا بالتناوب على أجسادهم الصغيرة المحبوسة داخل حدود الرئة الحديدية المغلقة، لن يتمكن هؤلاء الأطفال من استنشاق الهواء أو زفره. كانوا عاجزين تمامًا، وكانوا يعتمدون على الآخرين في كل جانب من جوانب الحياة اليومية. كان المتطوعون يطعمونهم بالملعقة. ومن خلال بوابات على جانب الجهاز، كانت الممرضات يحمِّمنهم، أو يبدِّلن لهم ثيابهم، أو يحككن جلودهم عند الشعور بحكة. وخلال فترات انقطاع التيار الكهربائي، كان الأطفال يواجهون خطر الاختناق حتى وصول الممرضين أو الأطباء لتهويتهم باليد.١

وقعت تجربة أرفيد في نهاية جائحة شلل الأطفال، وهي جائحة لم يعرف لها أحد اسمًا عمليًّا قبل عام ١٩٠٠، لكنها روَّعت الآباء واستحوذت على انتباه الأمة على مدى الخمسين عامًا التالية. في كل صيف، كانت المناطق المتأثرة بشلل الأطفال تغلق حمامات السباحة ودور السينما والمكتبات. وكان الآباء يبقون أطفالهم في داخل المنزل ويحظرون عليهم اللعب مع الأطفال الآخرين. لم يكن أحد يعرف كيفية مكافحة هذا الوباء البغيض. كان مرضًا يتسم بالغموض ومثيرًا للرعب أيضًا.

fig12
عنبر داخل مستشفًى مليء بأطفال داخل الرئات الحديدية.

المرض المسبِّب للشلل

عادة ما تبدأ حالات شلل الأطفال بأعراضٍ بسيطة، كصداعٍ خفيفٍ أو نزلة برد طفيفة. كان الآباء يضعون أطفالهم في السرير مبكرًا، ولكن حينئذٍ تبدأ الآلام في الظهر وفي الساقين. وبعد ليلة يتصبَّب خلالها الطفل عرقًا ويجافيه النوم، قد يلاحظ الطفل ضعفًا طفيفًا في إحدى الركبتين أو الذراعين. ثم، في صباح اليوم التالي، ربما يستيقظ الأبوان على صوت جسم صغير يرتطم بالأرض، أو صرخة رعب مدوية من طفلهما الذي لم يعُد قادرًا على تحريك رقبته أو ساقيه. عند السرير، قد يسأل الأطباء الذين يُستدعَون من أجل تقييم حالة الأطفال الذين يعانون من الأعراض المبكرة، «ما هذا الذي أراه هنا على سرَّتك؟» لقد أصيب الطفل الذي لم يتمكن من رفع رأسه للنظر بشلل الأطفال بشكل شبه مؤكد.

كان المرض الغامض يهاجم عشوائيًّا دون تمييز. وعلى الرغم من ارتباطه بالصغار، فقد كان يصيب البالغين أيضًا. لقد أصاب الأغنياء والفقراء، وسكان والمدن والريف، والأشخاص من كل عِرق. وفي بعض الأحيان، لم تكن أسرة الطفل المصاب بالمرض تصاب به، لكن في أوقات أخرى، قد تصاب أسرة كاملة بالشلل. لم يكن أحد يعرف البلدة أو المدينة التالية التي سيحل عليها الوباء، أو كيفية مكافحته. فقد بدا تأثير الحجْر الصحي والتدابير الصحية الصارمة التي ساعدت خلال تفشي الكوليرا والتيفويد طفيفًا. ففي إبان الوباء الذي ضرب مدينة نيويورك عام ١٩١٦، نفقت ٧٢ ألف قطة ضالة، وكانت الشوارع تُغسل يوميًّا بأربعة ملايين جالون من الماء. وأصدر مسئولو الصحة العامة عددًا هائلًا من التوجيهات، من تجنُّب المطاعم وبائعي الآيس كريم، إلى إغلاق نوافير الشرب ومنع التجمعات العامة، وتجنب الإرهاق المفرط، ووضع أسلاك على جميع النوافذ، وقتل الحشرات دون كلل. كان الجيران يتجنبون بعضهم. وكان كثيرون يرتدون القفازات، ويرفضون المصافحة بالأيدي. وكان آباء الأطفال المصابين بالشلل يحرقون كتب أطفالهم ولُعبهم وأغطية أسرَّتهم، كل ذلك في محاولات يائسة للحماية من عدو غير مرئي.

ما لم يكن مفهومًا في البداية أن ظهور شلل الأطفال في القرن العشرين كان نتيجة غير مقصودة لتحسين الصرف الصحي في البلدان المتقدمة. ينتقل فيروس شلل الأطفال عادة من خلال البراز الذي يلوث مصادر المياه. وعلى مدى معظم تاريخ البشرية، أدى عدم وجود صرف صحي حديث إلى تعريض الناس للمياه الملوثة بشكلٍ مباشر، الأمر الذي عرَّضهم لمستوياتٍ منخفضة من فيروس شلل الأطفال دائمًا. تخيل العالم في القرن التاسع عشر، عالم تسوده المراحيض الخارجية، ولا يوجد به ورق حمام، وكان غسل اليدين محدودًا والمجاري مفتوحة، وسيكون من السهل أن نتخيل كيف كان كل طفل يواجه فيروس شلل الأطفال باعتباره جزءًا من حياته اليومية. لقد كانت لمسة للفم أو الأنف بيدٍ متسخة، أو رشفة من ماء ملوث، تعطي لفيروس شلل الأطفال مدخلًا إلى الجهاز الهضمي، حيث كان يتكاثر في الأمعاء الدقيقة ويُتخلَّص منه في البراز. بالنسبة إلى الأغلبية، كان التعرض المتكرر لمستويات منخفضة من الفيروس في مرحلة مبكرة من العمر، وخاصة في أثناء انتشار الأجسام المضادة الواقية الخاصة بالأم في الدم، يتيح لجهاز المناعة لدى الطفل توليد أجسامه المضادة الخاصة ضد فيروس شلل الأطفال. ولكن بعد أن حسَّنت البلدان المتقدمة البِنية التحتية للصرف الصحي في المناطق الحضرية، افتقرت شريحة واسعة من السكان إلى التعرض للفيروس في مرحلة الرضاعة. ونظرًا إلى أن هؤلاء الأطفال صاروا يصِلون إلى سنواتهم المدرسية دون حماية، لم يطوروا الخلايا اللمفاوية التي من شأنها أن تتعرف على فيروس شلل الأطفال وتقتله في المستقبل. ومن ثَم، كانوا عرضة لفيروس شلل الأطفال بصورة لم يتعرَّض لها أي جيل سابق.

غير أنَّ الفيروس لم يسبب أي أعراض أو سبَّب أعراضًا طفيفة جدًّا في ٩٥ في المائة من الأطفال؛ لأن الجهاز المناعي للجسم صدَّ الفيروس المتطفِّل. وفي مثل هذه الحالات، لم يعرف معظم الآباء حتى أن أطفالهم قد تعرضوا لفيروس شلل الأطفال. ولكن في خمسة في المائة من الأطفال، أفلت فيروس شلل الأطفال من الجهاز المناعي مسببًا درجات متفاوتة من المرض، تتراوح بين أعراض شبيهة بالإنفلونزا الخفيفة وأعراض أكثر خطورة تشمل ألم العضلات والتعب وتصلب الرقبة والظهر. وتطور ذلك إلى شلل الأطفال في نحو واحدٍ في المائة من الحالات.

كان الشلل يحدث نتيجة ميل الفيروس إلى الانتقال عبر مجرى الدم إلى جزء من الحبل الشوكي يُسمَّى القرن الأمامي. وهناك، كان فيروس شلل الأطفال يهاجم الخلايا العصبية الحركية الموجودة في المنطقة الرمادية، التي تنطلق من الحبل الشوكي وتحمل الإشارات إلى عضلات الجسم لتأمرها بالحركة.٢ في بعض الأحيان، كانت الخلايا العصبية التالفة تتعافى، ويستعيد الأطفال الذين يعانون من الشلل المفاجئ بعضًا من قوتهم أو يستعيدونها كاملة. وفي أحيان أخرى، كان التلف مستديمًا. تُوفي ما يصل إلى ١٠ في المائة من المرضى الذين يعانون من شلل الأطفال. وارتفع معدل الوفيات ليصل إلى ٦٠ في المائة في مجموعة فرعية من المرضى الذين يعانون من «الشلل البصلي»، وهو مصطلح يُطلق على الحالات التي تضررت فيها الأعصاب القحفية التي تتحكم في البلع أو مجرى الهواء، أو النخاع المستطيل (جزء من جذع الدماغ يتحكم في التنفس).
fig13
مقطع عرضي للحبل الشوكي. يهاجم فيروس شلل الأطفال الخلايا العصبية الحركية الموجودة في القرن الأمامي.
كان جهل الأطباء بشلل الأطفال في مطلع القرن جهلًا كاملًا إلى درجة أنه لم يكن هناك إجماع بشأن ماهية العامل المسبِّب للعدوى في الواقع. كان كثيرون يعتقدون أن شلل الأطفال يحدث بسبب البكتيريا. وقد ثبت خطأ هذا الاعتقاد في عام ١٩٠٨ على يد الطبيبَين النمساويَّين كارل لاندشتاينر٣ وإرفين بوبر، اللذين فحصا الحبل الشوكي للأطفال الذين تُوفوا من جراء المرض ولم يجدا أي علامات على وجود بكتيريا. إذا لم يكن مرضًا بكتيريًّا، فماذا كان إذن؟ لا بد أنه كان مرضًا معديًّا؛ لأنهما عندما طحنا النسيج الشوكي، وقاما بتصفيته وترشيحه وحقنه في معدة القردة، أصيبت القردة بشلل الأطفال. اشتبه لاندشتاينر وبوبر أنهما يتعاملان مع فيروس، وكان لا يزال نوعًا نظريًّا من الكائنات الحية آنذاك.

لقي استنتاجهما دعمًا من جانب الباحثَين الأمريكيَّين سايمون فليكسنر وبول لويس. ففي عام ١٩٠٩، أفاد فليكسنر: «فشلنا تمامًا في اكتشاف البكتيريا، سواء في الشرائح الرقيقة التي تحتوي على العينات المحضَّرة أو في المزارع الميكروبية … يبدو أن العامل المسبِّب لعدوى شلل الأطفال الوبائي ينتمي إلى فئة الفيروسات الدقيقة التي يمكنها المرور عبر المرشِّح، ومن ثَم لم يثبت وجودها بيقين قاطع.» وعلى الرغم من أن يقين العلماء من وجود الفيروسات وتسببها في المرض قد تزايد فيما بعد، كانت الفيروسات نفسها أصغر من أن تُرى بمجهرٍ ضوئي. ولم يتمكَّن العلماء من رؤية الفيروسات لأول مرة حتى ثلاثينيات القرن العشرين مع ظهور المجهر الإلكتروني.

في هذه الأثناء، ومع استمرار العلماء في كشف أسرار شلل الأطفال ببطء في مختبراتهم، استمرت الأوبئة الصيفية في إثارة الخوف في جميع أنحاء الولايات المتحدة. فقد تسبب وباء حدث في عام ١٩١٦ في ٢٧ ألف حالة شلل وستة آلاف حالة وفاة. وفي مدينة نيويورك وحدها، كانت هناك ٨٩٠٠ حالة إصابة و٢٤٠٠ حالة وفاة. كان ٨٠ في المائة من الضحايا أطفالًا دون سن الخامسة، وكان عدد كبير منهم من الرضع. وعلى الرغم من أن عدد ضحايا شلل الأطفال كان أقل بكثيرٍ من ضحايا أمراض القلب أو السرطان، فإن صغر سنهم وقلة حيلتهم جعلا تداعياته المأساوية مرعبة ومفجعة أكثر من أي حالة مرضية أخرى. فقد أظهر استطلاع للرأي في عام ١٩٥٥ أن الأمريكيين يخشون شلل الأطفال أكثر من أي كارثة أخرى باستثناء الحرب النووية.

لكن للمفارقة، لم تكن محنة الأطفال هي نقطة التحوُّل الأساسية في الحرب ضد شلل الأطفال. بل كان عزم رجل واحد، كان ضحية من ضحاياه، في التاسعة والثلاثين من عمره رفض السماح لشلل الأطفال أو العجز أن يحدد حياته.

في أحد مهرجانات فتيان الكشافة

في الثامن والعشرين من يوليو عام ١٩٢١، صعد فرانكلين ديلانو روزفلت على متن اليخت البخاري «بوكانتيكو» في مانهاتن منطلقًا في رحلة بحرية تقطع مسافة ٤٠ ميلًا عبر نهر هدسون إلى حديقة بير ماونتن الحكومية. كان من المقرر أن يظهر هناك في مهرجان لفتيان الكشافة، كان يعد الحدث الأبرز في الصيف بالنسبة إلى الكشافة المشاركين البالغ عددهم ٢١٠٠ فتى. كان روزفلت يحب الكشافة، ويشعر بضرورة أن يقضي جميع الأولاد وقتًا في الهواء الطلق، خاصة الأولاد الموغلين في الحياة الحضرية بمدينة نيويورك. كما كان يرحب بفرصة الاستراحة من أعماله. كان قد قضى النصف الثاني من عام ١٩٢٠ في الحملة الانتخابية للترشح لمنصب نائب الرئيس عن الحزب الديمقراطي ضمن قائمة جيمس كوكس الخاسر في الانتخابات الرئاسية. وبعد الهزيمة الانتخابية أمام وارن هاردينج ونائبه كالفين كوليدج، أبقى روزفلت على جدول أعمال صارم. وكان المهرجان هو آخر التزام له قبل عطلة كان في أمس الحاجة إليها. وفي طريقه إلى حديقة بير ماونتن الحكومية، سمح لنفسه بالاسترخاء، ورواية القصص والضحك مع أصدقائه على متن السفينة.

في المهرجان، ألقى روزفلت خطابًا، وقاد مسيرة، وانضم إلى الكشافة في قاعة الطعام لتناول «عشاء الدجاج على الطريقة الجنوبية التقليدية القديمة»، وفقًا لتقريرٍ صحفي. استمتع بوقته، وصافح العديد من الأيدي. وفي المساء، أبحر عائدًا إلى مانهاتن لقضاء الليلة هناك، وفي اليوم التالي بدأ عطلته التي طال انتظارها، حيث قضى بضعة أيام في منزل الصبا في هايد بارك في نيويورك أولًا قبل السفر للانضمام إلى عائلته في منزلهم الصيفي على جزيرة كامبوبيلو في مقاطعة نيو برونزويك بكندا.

في العاشر من أغسطس عام ١٩٢١، استمتع روزفلت بيومٍ نشيطٍ مع عائلته في كامبوبيلو. فأبحر حول الجزيرة بصحبة ثلاثة من أكبر أطفاله، وساعد في إطفاء حريق غابة صغير اندلع على جزيرة صغيرة قريبة، وأتم جولة سير مسافة ميلين، وذهب إلى السباحة في إحدى البرك. عندما عاد إلى المنزل بعد هذا اليوم المليء بالأحداث، شعر بألمٍ طفيفٍ في ظهره في أثناء العشاء. وبعد أن أخبر زوجته إليانور بألا تقلق؛ فهو مرهق للغاية فحسب، ذهب للنوم مبكرًا.

وفي صباح اليوم التالي استيقظ وشعر بأنه أسوأ.

ارتفعت درجة حرارته إلى ١٠٢ درجة فهرنهايت، وشعر بألمٍ غريبٍ في ركبته اليمنى، التي شعر بأنها في غاية الضعف. ظن أنه يحتاج إلى مزيدٍ من الراحة فحسب، ولكن بحلول المساء، تفاقم الألم وانتشر إلى ظهره ورقبته. ثم بدأ يشعر بالضعف في ركبته اليسرى أيضًا. وقضى ليلة أخرى في نومٍ متقطع.

عندما استيقظ في صباح اليوم التالي، تملَّكه الرعب عندما أدرك أنه لا يستطيع تحريك ساقيه كلتيهما. لم يتمكن من شد عضلات بطنه أو ردفيه. لم يتمكن حتى من الإمساك بقلم رصاص.

قام الدكتور روبرت لوفيت، وهو طبيب من هارفارد استُدعي من بوسطن، بالفحص وأبلغ الأسرة بالأخبار السيئة. لقد أُصيب روزفلت بشلل الأطفال. لم يكن أحد يعرف ذلك حينها، ولكنه لن يتمكَّن من المشي مرة أخرى.

من المفيد في هذا المقام تسليط الضوء على الظروف التي ربما جعلت شخصًا مثل روزفلت تحديدًا عرضة للإصابة بشلل الأطفال. كان روزفلت سليل عائلة ثرية، عاش طفولة مدللة ومحاطة بسُبل الحماية. فبدلًا من الالتحاق بالمدرسة الابتدائية والتعرض لأطفال آخرين وبيئات جديدة، تلقى تعليمه على أيدي مدرسين خصوصيين كانوا يأتون إلى منزله. ثم أرسِل إلى جروتون، وهي مدرسة داخلية أكثر تميزًا، وأخيرًا انتقل إلى هارفارد. مقارنة بالجمهور العام، ربما افتقر روزفلت إلى التعرض لكثيرٍ من الأمراض اليومية خلال فترة شبابه، ومن المؤكد أنه لم يعِش ولو لفترة في ظروف تُعتبَر غير صحية من بعيدٍ أو من قريبٍ وفقًا للمعايير المعاصرة.

على الرغم من عدم إمكانية إثبات هذا الأمر، يعتقد المؤرخون أن روزفلت على الأرجح أصيب بفيروس شلل الأطفال في وقتٍ ما خلال يومه الذي قضاه في زيارة الكشافة. كانت حديقة بير ماونتن الحكومية وجهة شعبية للغاية. ففي كل صيف، كان يزورها نحو ٧٥ ألف سائح للتمشية عبر دروبها، والتخييم والسباحة في البحيرات. وكان هذا العدد الكبير من الزوار يتجاوز قدرة الحديقة على الالتزام بالإرشادات الصحية الموصى بها، وضمان توفير مياه شرب نظيفة. لم تكن هناك دورات مياه متنقلة كافية، ولم تُعقَّم المراحيض الخارجية وتُطهر كما ينبغي. كان من الشائع أن يقضي الزوار حاجتهم في الغابات أو بالقرب من المسطحات المائية؛ لذا، من الوارد جدًّا أن يكون أحد مصادر المياه في الحديقة قد لُوِّث بفيروس شلل الأطفال. قد يكون في كوب من الماء أو عصير الليمون، أو في الماء المستخدَم لغسل الأطباق في قاعة الطعام، أو على أطراف أصابع صبي صافح روزفلت بعد أن فشل في غسل يديه. أيًّا كانت كيفية حدوث ذلك، فالشيء المؤكد أن فيروس شلل الأطفال قد بلغ فم روزفلت ودخل جهازه الهضمي.

أمضى روزفلت السنوات السبع التالية في التعاون مع المعالجين، والبحث عن أي علاج قد يقدم فرصة لاستعادة حركة ساقيه والقدرة على المشي. ومن خلال صديق له، اكتشف منتجعًا في مدينة وورم سبرينجز بولاية جورجيا، حيث كانت الينابيع الساخنة الزاخرة بالمعادن تتيح درجة عالية من الطفو بحيث يمكن للمرضى تخيل أنهم يمشون بصورة طبيعية مرة أخرى. كان هذا شعورًا لا يصدق لشخصٍ مصاب بالشلل، وأصبح روزفلت مقتنعًا بأن الينابيع الساخنة كان لها تأثير ترميمي يسمح لساقيه باستعادة بعض الوظائف. فأنفق ٢٠٠ ألف دولار، أي ما يقرب من ثلثَي ثروته، لشراء المنتجع، وتحويله إلى مكان يمكن فيه لمرضى شلل الأطفال خلع دعاماتهم، والزحف على المروج، وارتداء الشورتات التي تكشف عن أرجلهم الضامرة دون خجل، والتواصل الاجتماعي على نحوٍ مريح، خالٍ من الوصمة التي يفرضها مرضهم في العالم العادي.

أدرك روزفلت أيضًا الحاجة الكبيرة إلى الأموال للعناية بعلاج ضحايا شلل الأطفال وإعادة تأهيلهم، ولتحمُّل تكاليف الأبحاث العلمية حول المرض. وبالتعاون مع شريكه المحامي باسيل أوكونور، أسس منظمة في عام ١٩٢٧ ستُحدث ثورة في العلاقة بين جمع التبرعات الخيرية والاكتشافات العلمية، وهي مؤسسة «جورجيا وورم سبرينجز»، التي تحولت لتصبح المؤسسة الوطنية لشلل الأطفال في عام ١٩٣٨. جمعت حملات مؤسسة «مارش أوف دايمز» ملايين الدولارات لصالح المؤسسة الوطنية لتمويل الأبحاث ودفع تكاليف الرعاية الصحية للمرضى في جميع أنحاء البلاد. كما نجحت في جعل شلل الأطفال المرض الأكثر إثارة للخوف في أمريكا. في الحقيقة، لم يكن شلل الأطفال وباءً متفشيًا بالدرجة التي جعلت عامة الناس يصدقونه. فكان هناك أطفال أكثر يموتون بسبب الحوادث والسرطان، على سبيل المثال. ولكن من خلال استخدام صور للأطفال المعاقين، غالبًا ما يكونون على كراسٍ متحركة أو أحيانًا داخل رئات حديدية، لم يكن هناك تشخيص أكثر رعبًا في أذهان الآباء الأمريكيين، الذين جادوا بأموالهم عن طيب خاطر للقيام بدورهم في إنهاء هذا البلاء.

وبهذا، كانت المؤسسة الوطنية، التي أسسها روزفلت وأوكونور، هي التي أعادت توجيه التبرعات المقدَّمة من عشرات الملايين من الأمريكيين نحو جهدٍ بحثي استمر عقودًا لمكافحة شلل الأطفال. وأصبح واضحًا أن الطريقة المثلى، وربما الوحيدة، للمضي قُدمًا هي تطوير لقاح.

لكن على مدى عقود، بدت التحديات المرتبطة بمثل هذا المسعى شبه مستعصية.

الحلابة

عُثر على أول جهد بشري مسجل لتعزيز جهاز المناعة في الجسم عمدًا من خلال التعرض لمسبِّب المرض في كتاب صيني نُشر في عام ١٥٤٩، وإن كان يُعتقَد أن هذه الطريقة كانت تمارَس في الصين منذ القرن العاشر. فهمَ الصينيون أن الناجين من الجدري يكتسبون مناعة مدى الحياة ضد المرض. فحصل الممارسون الطبيون على عينات من البثور من الناجين من الجدري، وجفَّفوا هذه المادة وحوَّلوها إلى مسحوق، ونفخوا المسحوق في أنوف المرضى غير المصابين باستخدام أنبوب نفخ. كانت الطريقة الأخرى هي فرك المادة داخل شق سطحي في يد المريض أو ذراعه. عادة ما كان هذا الإجراء يسبِّب حالة خفيفة فقط من المرض، ويعطي الجسم مناعة من المرض، وذلك استنادًا إلى أن احتمالية أن يسفر التعرض البسيط والمحكوم لمسبب المرض عن عدوى خطيرة أو الموت أقل بكثير مقارنة بالعدوى الطبيعية المرتبطة بالاستنشاق الشديد للفيروس. وصل تقرير عن هذه الممارسة في وقتٍ لاحقٍ إلى الجمعية الملكية في لندن عن طريق موظف في شركة «الهند الشرقية» كان يعمل في الصين. وسُميت هذه الممارسة باسم «التجدير» (variolation) أو التلقيح ضد الجدري، وهي مأخوذة من الاسم العلمي للجدري variola.

لم يكن من قبيل المصادفة أن أصبح الجدري أول مرض معدٍ يواجَه بهذه الطريقة. فعلى مدى ثلاثة آلاف سنة، من زمن المصريين القدماء إلى القرن العشرين، قتل الجدري الملايين، ويُعد من أسوأ الأوبئة في تاريخ البشرية. كان فيروس الجدري معديًّا بدرجة كبيرة. وفي القرن الثامن عشر وحده قتل ٤٠٠ ألف شخص سنويًّا حول العالم، أي أكثر من جميع الأمراض المعدية الأخرى مجتمعة. فحين كان يجتاح بلدة، لم يكن غريبًا أن يصاب كل السكان تقريبًا بالمرض وتظهر عليهم أعراض الحمى العالية والتقرحات والطفح الجلدي البثري المرتبط به. تُوفي نحو ٣٠ في المائة من المصابين. وتركت البثور الملتئمة ندوبًا بشعة لدى الناجين تركزت غالبًا على وجوههم.

كان أول غربي يتبنى فكرة التجدير ويروجها امرأة كانت على دراية مباشرة بالأضرار التي يمكن أن يسببها الجدري. اشتهرت السيدة ماري وورتلي مونتاجو، زوجة السفير البريطاني لدى الإمبراطورية العثمانية، بجمالها عندما كانت شابة، ولكن بعد إصابتها بالجدري في عام ١٧١٥، فقدت كل رموشها، وأصبح وجهها مشوهًا بشدة بسبب الندوب الناتجة عن الجدري. في القسطنطينية، شهدت السيدة ماري ممارسة التجدير في عام ١٧١٧ على يد طبيبين عربيين. فأصبحت مقتنعة جدًّا بفوائد هذه الممارسة إلى درجة أنها أجرت عملية التجدير لابنها إدوارد البالغ من العمر خمس سنوات. ولدى عودتها إلى إنجلترا في عام ١٧٢١، أجرت التجدير لابنتها ماري البالغة من العمر أربع سنوات، على يد الطبيب تشارلز ميتلاند، الذي كان يعمل طبيبًا في السفارة في القسطنطينية. بعد ذلك، اختبر ميتلاند الإجراء في سجن نيوجيت على ستة سجناء محكوم عليهم بالإعدام ووعدوا بالحرية إذا نجوا. وقد نجوا جميعًا. بعد ذلك، أقنعت السيدة مونتاجو صديقتها كارولين، أميرة ويلز والملكة المستقبلية (باعتبارها قرينة جورج الثاني)، بإجراء التجدير لابنتيها في عام ١٧٢٢. على الرغم من أن الإجراء ينطوي على خطورة؛ إذ كان المريض في نحو اثنين في المائة من الحالات يُصاب بالجدري الشديد ويموت، لاقت الممارسة قبولًا واسعًا، واعتُمدَت في إنجلترا خلال القرن الثامن عشر.

أصبحت الساحة مهيأة لشخصية جديدة ستغيِّر تاريخ الطب من خلال تحدي التقاليد بتجربة جريئة. وُلد إدوارد جينر في بيركلي بإنجلترا عام ١٧٤٩، وكان يبلغ من العمر ١٣ عامًا عندما بدأ تدريبًا لمدة سبع سنوات مع طبيب ريفي يُدعى دانيال لودلو. في أحد الأيام، سمع جينر نقاشًا حول الجدري بين لودلو وحلابة شابة. قالت المرأة: «لن أصاب بالجدري أبدًا لأنني أصبت بجدري البقر.» كان جدري البقر مرضًا أقل حدة بكثيرٍ من الجدري يصيب ضروع الأبقار. في بعض الأحيان، كانت الحلابات يُصبن بجدري البقر وتظهر بثور على أيديهن. لم يكن المرض قاتلًا قَطُّ، وبعد التعافي من نوبات خفيفة منه تدوم ثلاثة أو أربعة أيام، كان يُعتقد بحسب الروايات المتناقلة أن النساء يصبحن محصنات ضد الجدري بعد ذلك. لم يفعل جينر أي شيء بهذه المعلومات في ذلك الوقت. فلم يكن إلا مجرد شاب. ولم تكن حالات الإصابة بجدري البقر شائعة، وكانت حالات التفشي نادرة. ببساطة، احتفظ جينر بالمعلومات في ذاكرته.

بعد ذلك، في سبعينيات القرن الثامن عشر، بعد أن بدأ جينر مسيرته المهنية الخاصة، جمع تدريجيًّا سلسلة من دراسات الحالة من خمسة عشر شخصًا، كانوا قد أصيبوا بجدري البقر في السابق ولم يصابوا بالجدري البشري، على الرغم من تعرضهم له من خلال الاتصال المباشر بأشخاصٍ مصابين (أي العيش في نفس المنزل مع مريض بالجدري البشري أو رعايته)، ونشر هذه الدراسات في النهاية. في مايو ١٧٩٦، تفشى جدري البقر في مزرعة بالقرب من منزل جينر. ومنح هذا الفرصة لجينر لتصميم اختبار جريء. فاستخرج بعض السائل من بثرة على يد حلابة أبقار تُدعى سارة نيلمز، وقطَّره في شقَّين سطحيين بطول نصف بوصة في ذراع صبي يبلغ من العمر ثماني سنوات يُدعى جيمس فيبس. تشكَّلت بثور في موضع الشق، وأصبحت فيما بعد قشورًا مندملة وتركت ندوبًا. أصيب فيبس بحمى خفيفة وصداع لبضعة أيام، ولكنه تعافى بعد ذلك. انتظر جينر ستة أسابيع للتأكد من أن الصبي قد استعاد عافيته بالكامل. ثم فعل شيئًا يُعتبر غير أخلاقي تمامًا اليوم؛ إذ لقَّح فيبس بفيروس حي من قروح مريض بالجدري البشري.

كان من الممكن أن يموت فيبس، الصبي المعافى، لإشباع فضول جينر ورغبته في التحقق من صحة حدس راوده.

لكن فيبس لم يمت. بل كانت للقصة نهاية سعيدة. راقبه جينر من كثب لأسابيع، ولم يُصب فيبس بالمرض على الإطلاق. أوضح جينر أنه يمكن الاستعانة بجدري البقر للحماية من الجدري البشري، في ممارسة أطلق عليها لاحقًا «التطعيم» (vaccination)، والكلمة الإنجليزية مشتقة من الكلمة اللاتينية «vacca» التي تعني «البقرة». كرر جينر التجربة على أكثر من عشرين شخصًا، وأصبح مقتنعًا بفاعليتها. وفي عام ١٧٩٨، نشر كتابًا عن الطريقة. ازدادت شعبية التطعيم ضد الجدري البشري، وانتشر عبر المحيط الأطلسي إلى الولايات المتحدة، حيث حرص الرئيس توماس جيفرسون على تطعيم كل أفراد أسرته والعديد من الجيران من المزارع المحيطة في فرجينيا.٤ وفي فرنسا، أمر نابليون بتطعيم كل جندي فرنسي.

ذاع صيت جينر في جميع أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية، لكن لا هو ولا أي شخص آخر فهم سبب فاعلية التطعيم. لم يفهم الجهاز المناعي للإنسان. لم يكن يعرف أن الجدري البشري يسبِّبه فيروس. بل لم يكن يعرف ما هو الفيروس.

الفيروسات

مصطلح فيروس بالإنجليزية (virus) مشتق من كلمة لاتينية تعني «السم». تختلف الفيروسات تمامًا عن البكتيريا. والفيروسات هي الوحدات البيولوجية الأكثر شيوعًا على الأرض، وهي ببساطة شظايا صغيرة من الحمض النووي منقوص الأكسجين (دي إن إيه) أو الحمض النووي الريبوزي (آر إن إيه) مغلَّفة بغلافٍ بروتيني يُسمى الغلاف البروتيني للفيروس. الفيروسات طفيليات لا تُعتبَر حية بالكامل؛ لأنها تفتقر إلى القدرة على التكاثر وحدها. وهي أصغر من البكتيريا بأضعاف؛ بل دقيقة جدًّا إلى درجة أنها لا يمكن رؤيتها بالمجهر الضوئي، وهذا هو السبب الرئيس لعدم تأكيد وجودها حتى القرن العشرين. الهدف الوحيد للفيروس هو إصابة الخلية المضيفة، واختطاف الريبوسومات المنتِجة للبروتين في تلك الخلية لصنع نسخ من الفيروس نفسه. تفعل الفيروسات هذا عن طريق الالتصاق بالخلايا وحقن الحمض النووي أو الحمض النووي الريبوزي داخلها. يرسَل الحمض النووي الريبوزي المرسال الذي أُنتِج من الحمض النووي أو الحمض النووي الريبوزي (بواسطة عملية تسمى النسخ) إلى الريبوسومات التي تقرأ بدورها الحمض النووي الريبوزي المرسال لتكوين البروتينات الفيروسية (بواسطة عملية تسمى الترجمة)، مما يؤدي إلى إنتاج نُسخ طبق الأصل من الفيروس. وعادة ما يؤدي تراكم الفيروسات الجديدة إلى سحق الخلية المضيفة وتدميرها، وبذلك تنفجر الخلية، وتُطلق تلك الفيروسات بحثًا عن مضيفين جدد لها.

انبثقت فكرة احتمال وجود كائنات حية دقيقة غير بكتيرية، سُميت فيما بعد بالفيروسات، تزامنًا مع نتائج أبحاث الكيميائي الألماني أدولف ماير. في ثمانينيات القرن التاسع عشر، درس ماير مرضًا غامضًا كان يدمر محاصيل التبغ. ونظرًا إلى أنه كان يسبِّب تغيرًا مميزًا في لون أوراق التبغ، أطلق عليه اسم «مرض تبرقش التبغ». عندما هرس الأوراق المصابة وأضاف قليلًا من الماء، وجد أنه يمكن استخدام السائل المشابه للعصارة لنقل المرض إلى نباتات التبغ السليمة. عندما فحص العصارة المصابة وعينات النبات تحت المجهر، لم يرَ شيئًا. لم يتمكن من العثور على أي بكتيريا. غير أنه ظل يعتقد أن لا بد أن يكون السبب في ذلك بكتيريا غير مرئية.

في عام ١٨٩٢، مرَّر عالم روسي يُدعى ديميتري إيفانوفسكي عصارة أوراق تبغ مصابة عبر مرشِّح خزفي خاص عالي السعة يُعرف بمرشِّح شامبرلان، وكان معروف عنه أن فتحاته دقيقة بما يكفي لترشيح البكتيريا. وفوجئ أن السائل المرشَّح ظل معديًا؛ ما يعني أنه كان هناك شيء أصغر من البكتيريا في السائل يسبب المرض. كان يعتقد أنه قد يكون سمًّا بكتيريًّا. ثم في عام ١٨٩٨، افترض عالِم نبات هولندي يدعى مارتينوس بايرينك أن هذا العامل المعدي الجديد ليس بكتيريًّا، بل «سائل حي معدٍ». وأطلق عليه أيضًا اسم «فيروس»، وربما كان يعتقد أنه سائل بطبيعته.

في الوقت الذي كان فيه اكتشاف البنسلين بداية عصر من هيمنة البشر على الأمراض البكتيرية، فإن الحرب ضد الفيروسات ستحقق انتصارًا أقل بكثير. لم يعرف رواد علم الفيروسات أنهم يعملون في مجال سيُطلق عليه اسم علم المناعة. وعلى الرغم من أن المعرفة ستزداد، فإن احتمالية وجود رصاصة سحرية لقتل الفيروسات لم تتحقق قَطُّ، وأدرك علماء الفيروسات في القرن العشرين أن السلاح الأفضل، والوحيد غالبًا، لمحاربة الفيروسات هو الوقاية من خلال اللقاحات. ولكن لم يكن من السهل تصنيع لقاحات الفيروسات. كان الحل يكمن في إضعاف الفيروس بما يكفي ليصبح غير قادر على إحداث المرض، ولكن ليس بالقدر الذي يجعل الفيروس غير قادر على إثارة رد فعل مناعي واقٍ لدى المرضى. كانت هناك شعرة رفيعة للغاية تفصل بين الأمرين. كيف يمكن إضعاف الفيروس على نحوٍ مضمون وبالقدر الصحيح؟

في ثلاثينيات القرن العشرين، كان الباحث الجنوب أفريقي ماكس تيلر وزميله الأمريكي هيو سميث يدرسان الحمى الصفراء في معهد روكفلر في مدينة نيويورك. زرعا الفيروس المسبِّب للمرض في خلايا أجنة الدجاج، وشرعا في نقله مرارًا وتكرارًا عبر سلسلة من مزارع الأنسجة الجديدة. اكتشفا أنه في كل مرة يمرران فيها الفيروس من مزرعة إلى أخرى، يصبح أضعف، ويسبِّب مرضًا أقل خطورة عند حقن الحيوان به. بعد أكثر من ٢٠٠ عملية تمرير، توقف الفيروس عن التسبب في المرض تمامًا. وهكذا طوَّرا طريقة جديدة لإضعاف الفيروس بطريقة محكومة يمكن استخدامها لإنتاج لقاح بكميات كبيرة.٥

على عكس جينر، فهم العلماء في القرن العشرين مثل تيلر الدعائم الأساسية للجهاز المناعي، الذي ينقسم إلى قسمين: جهاز المناعة «الفطرية»، الذي نولد به، وجهاز المناعة «المكتسبة»، الذي يتأثر بمسببات الأمراض التي نتعرض لها طوال حياتنا. يتميز جهاز المناعة الفطري، أو «غير المتخصص»، بجيشٍ من الخلايا والبروتينات تتجول باستمرار عبر مجرى الدم، وتؤدي دور الحراس والمستجيبين الأوائل. ففي حالة اكتشاف جسم غريب يهاجم الجسم، فإن البروتينات الرسولة المعروفة باسم «السيتوكينات» تطلق جرس الإنذار. وعندئذٍ، تتدخل فئة من الخلايا، تُعرف باسم «الخلايا البلعمية» وتحمل أسماء مثل الخلايا «البلعمية الكبيرة» و«الخلايا المتعادلة» و«الخلايا الصارية» و«وحيدات النواة»، مباشرة وتبتلع مسببات المرض المعادية وتدمِّرها.

غير أن الجهاز المناعي المكتسَب «المتخصص» هو الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بدراسة اللقاحات. في هذا الفرع من الجهاز المناعي، تستطيع الخلايا «الليمفاوية» (الخلايا البائية والخلايا التائية)، من خلال سعة «الذاكرة» الخاصة بها، تنفيذ استجابات سريعة لمسببات المرض التي تعرض لها الجسم من قبل. فهذا التعرض المسبَق يتيح للخلايا اللمفاوية الفرصة للقضاء بسرعة على العوامل المُعدية قبل أن تتمكن من تثبيت أقدامها، من خلال إنتاج أجسام مضادة ذات مواصفات محددة تتعرف على البروتينات (المعروفة باسم «مولدات الضد» أو الأنتيجنات) الموجودة على سطح الأجسام المعتدية، وتعمل على وسمها كي تدمرها الخلايا البلعمية. يمكن أن تبقى الخلايا اللمفاوية، التي تنتج في نخاع العظم، لتصبح خلايا بائية منتِجة للأجسام المضادة، أو يمكنها الانتقال إلى الغدة السعترية في الجزء العلوي من الصدر وتتطور إلى نوعين من الخلايا التائية: الخلايا التائية CD4 التي يمكن تنشيطها لتصبح خلايا تائية «مساعدة» تساعد الخلايا البائية في إنتاج أجسام مضادة تختص بميكروبات محددة، والخلايا التائية CD8 على الخلايا المصابة بالفيروس وتقضي عليها.

لكي يكون اللقاح الذي يحتوي على فيروس حي موهَن ناجحًا، لا يمكن إضعاف الفيروس إلى درجة أن يفقد «القدرة على الاستضداد»؛ أي القدرة على التعرف عليه باعتباره مسببًا للمرض من جانب جهاز المناعة المكتسبة. يمكن أن يكون النهج البديل هو استخدام لقاح يحتوي على فيروس «ميت» أو لقاح معطَّل بدلًا من لقاح يحتوي على فيروس حي موهن، لكن معظم علماء الفيروسات في منتصف القرن العشرين كانوا يعتقدون أن اللقاحات المعطَّلة التي تحتوي على فيروسات ميتة تكون أقل كفاءة؛ لأنه من المتوقع أن تكون قدرتها على الاستضداد أضعف.

لم يُحدث الفرق بين هذين النهجين جدلًا أو نقاشًا مبالغًا فيه في النصف الأول من القرن العشرين. لكن بعد ذلك، بسبب رجلين متعارضين، أصبح هذا الموضوع فجأة هو الأهم في عالم دراسة الفيروسات. والمفارقة أن هذين الرجلين، على الرغم من أنهما يشتركان في كثير من الأمور، كالتفاني والبراعة والخلفية الأمريكية اليهودية والهدف، وهو إيجاد علاج لمرض مفجع، لم يتمكن أي منهما من قبول احتمالية أن يكون الآخر محقًّا أيضًا. ستدور معركة الأفكار والطموح بينهما على المسرح الأكبر، في خضم صراع عالمي: الصراع لهزيمة شلل الأطفال.

التنافس

في النصف الأول من القرن العشرين، أصبحت موجات تفشي وباء شلل الأطفال حدثًا صيفيًّا سنويًّا في المجتمعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة. ففي شهر يونيو من كل عام، يمكن أن يتسبب عدد قليل من حالات شلل الأطفال في إغلاق المدارس والمسارح في إحدى المدن. وتظل الملاعب والشواطئ فارغة. وتتوقف العائلات عن التواصل الاجتماعي مع العائلات الأخرى. وإذا حدث تفشٍّ، تنشر الصحف عناوين مثل «ذعر بسبب شلل الأطفال» و«المسار القاتل لشلل الأطفال». وكانت تنشر أعداد الوفيات اليومية، وتعرض صورًا لأقسام شلل الأطفال مكتظة عن آخرها بصفوفٍ من الأطفال داخل الرئات الحديدية. في منتصف القرن، بدا أن أعداد الحالات السنوية تتجه فقط نحو الارتفاع. ففي عام ١٩٤٦، كان هناك ٢٥ ألف حالة شلل أطفال في الولايات المتحدة، وفي عام ١٩٤٩، كان هناك ٤٢ ألف حالة. وفي عام ١٩٥٢، كان هناك ٥٨ ألف حالة.

ولكن حتى مع حلول أربعينيات القرن العشرين، لم يتقدم العلماء قيد أنملة في فهم شلل الأطفال عما كانوا عليه في مطلع القرن العشرين، عندما عزل لاندشتاينر وفليكسنر الفيروس لأول مرة باستخدام نموذج القردة. كانت طريقة انتقال المرض من شخص إلى آخر لغزًا، وكان من الواضح أن هذا لا يحدث عن طريق الاختلاط الوثيق فقط. كان من المستحيل وقف الانتشار عن طريق عزل الضحايا. ولم يكن من الممكن محو شلل الأطفال من البيئة المحيطة، على الرغم من أن كثيرين حاولوا ذلك عن طريق رش منازلهم بمبيد دي دي تي من الداخل والخارج.

في عام ١٩٤٧، تقلد باحث في الثالثة والثلاثين من عمره، يُدعى جوناس سولك، منصب المدير في مختبر فيروسات جديد في جامعة بيتسبرج. ومنحه المنصب الفرصة لإدارة أبحاثه الخاصة، وتكوين فريق بحثي من الصفر، وهو أمر كان يتوق إليه بعد سنوات من العمل تحت وصاية الآخرين. عُرف سولك باللسان العذب والتعاطف والاجتهاد والطموح. فقد كرَّس جزءًا كبيرًا من حياته المهنية من أجل دراسة الإنفلونزا؛ وخلال الحرب العالمية الثانية خدم في أوروبا حيث عمل على تلقيح آلاف الجنود. وفي بيتسبرج، وبتمويل سخي من الجمعية الوطنية لشلل الأطفال، ركز سولك اهتمامه على فيروس شلل الأطفال.

قبل الانتقال إلى جامعة بيتسبرج، ساعد سولك في تطوير لقاح فعال معطل للإنفلونزا، وكان يعتقد أن لقاح الفيروس المعطل سيكون الاستراتيجية الأكثر واقعية التي يمكنها أن تنجح مع شلل الأطفال على المدى القريب. كان يعلم أن معظم علماء الفيروسات الآخرين لا يتفقون معه في ذلك. فقد كانوا يعتقدون أن اللقاح الذي يحتوي على فيروس موهَن سيكون أفضل بكثير؛ لأن عملية قتل الفيروس بالكامل تقضي حتمًا على معظم قدرته على الاستضداد والقدرة على استثارة استجابة مناعية واقية، إن لم تقضِ عليها كليًّا. وحتى لو كان للفيروس الميت تأثير، فمن المحتمل أن تكون تأثيراته مؤقتة؛ إذ ربما تستمر أسابيع، أو أشهرًا، أو عامًا على الأكثر، وهذا سيتطلب تطعيمات متعددة تستمر على مدى حياة الفرد باللقاح. في المقابل، سيخلق لقاح الفيروس الحي مناعة مدى الحياة عن طريق محاكاة العدوى الحقيقية في الجسم، لا محاولة خداع الجسم لإنتاج الأجسام المضادة لفترة محدودة فقط. وقد صنعت لقاحات تحتوي على فيروسات حية بنجاح لمكافحة الحمى الصفراء والجدري.

غير أن سولك رأى أن اللقاح المعطَّل سيكون له مزايا خاصة به. فكان يعتقد أنه الخيار الأكثر أمانًا؛ لأن الفيروس الميت لن يكون قادرًا على إحداث المرض. أما مع اللقاحات التي تحتوي على فيروسات حية، فهناك دائمًا فرصة، ولو بسيطة، أن تحتفظ الفيروسات التي لم تُضعَف على النحو الكافي بقدرتها على إحداث عدوى. لم تنجح اللقاحات المعطَّلة التي تحتوي على فيروس ميت مع الإنفلونزا فحسب، بل نجحت في مكافحة داء الكلب، والسموم البكتيرية للدفتيريا والتيفويد والكوليرا. واعترف كل علماء الفيروسات تقريبًا أن اللقاح المعطَّل سيكون أبسط بكثير في تصنيعه من لقاح الفيروس الموهَن.

لكن قبل التفكير في أي لقاح، كان لا يزال هناك كثير من الأسئلة المهمة التي لم يتمكن العلماء من الإجابة عنها حول فيروس شلل الأطفال، وكانت أسئلة أساسية مثل: كيف يدخل الفيروس الجسم ويصيب الحبل الشوكي؟

كان الاعتقاد السائد لعقود أن فيروس شلل الأطفال يدخل الممرات الأنفية ويتجه مباشرة إلى الجهاز العصبي المركزي، متفاديًا مجرى الدم تمامًا. في الواقع، كانت هذه الفكرة بالذات هي التي أثنت كثيرًا من الباحثين عن مباشرة أبحاث لقاح شلل الأطفال لأنها كانت تعني، حال كونها صحيحة، أن اللقاح المصمم لإفراز أجسام مضادة في مجرى الدم لن يكون مجديًا. لكن في عام ١٩٤١، ساعد باحث آخر يدعى ألبرت سابين على دحض هذه الفكرة. أجرى سابين، الذي سيصبح عدوًّا لسولك، عمليات تشريح أظهرت أن الفيروس يوجد، بخلاف الشائع، في التجويف الأنفي، وكان أكثر انتشارًا بكثير في الجهاز الهضمي. عندما نجح أطباء آخرون في نقل فيروس شلل الأطفال إلى حيوانات الشامبنزي عن طريق إطعامها به، بدلًا من حقنه في أدمغتها، أصبح الجهاز الهضمي مقبولًا باعتباره وسيلة لدخول الفيروس إلى الجسم.

السؤال الأساسي الآخر هو: كم عدد الأنواع المختلفة الموجودة من فيروس شلل الأطفال؟

لم يعرف أحد يقينًا. فبحلول أواخر الأربعينيات، عرف الباحثون أن هناك على الأقل نوعَين من فيروس شلل الأطفال، لكن ربما لا يزال هناك المزيد. وأي لقاح فعال سيكون لزامًا عليه توفير وقاية من هذه الأنواع جميعًا. يتألف كثير من فصائل الفيروسات من أنواع متعددة؛ فقد كانت الإنفلونزا إحدى الفصائل التي تشمل كثيرًا من الأنواع المختلفة التي تتحور على نحو متكرر للغاية، وهو ما حتم إعطاء المرضى لقاحًا محدَّثًا جديدًا كل عام. للإجابة على سؤال شلل الأطفال، كان لا بد من جمع كل السلالات الممكنة من فيروس شلل الأطفال الموجودة في جميع أنحاء العالم، وفحصها لمعرفة ما إذا كانت تتطابق مع أحد أنواع فيروسات شلل الأطفال المعروفة أو قد تكون نوعًا جديدًا.

تطوع سولك ليكون جزءًا من هذا الجهد الضخم. فعكف معمله، ومعامل أخرى، على تنفيذ المهمة التي استمرت عدة سنوات من اختبار عينات الفيروس من جميع أنحاء العالم. إن وصف هذه العملية بأنها شاقة لن يوفيها حقها. فقد كانت عينات البراز ومزارع الحنجرة والعينات المأخوذة من الحبل الشوكي تُشحَن إلى معمل سولك من كل حدب وصوب. حُقنت أجزاء صغيرة من هذه العينات في أدمغة القردة. وعندما أصيبت هذه الحيوانات بشلل الأطفال، ضحوا بها حتى يمكن استئصال أدمغتها وأحبالها الشوكية لعزل فيروس شلل الأطفال. بعد ذلك، كان هذا الفيروس يُحقن في قردٍ جديد. إذا حُقن هذا القرد بفيروس من النوع الأول ونجا، كان يكتسب مناعة ضد الفيروسات من النوع الأول. بعد ذلك، إذا حُقِن هذا القرد نفسه بسلالة غير معروفة من الفيروس ولم يصب بالمرض، كان الباحثون يستنتجون أن الفيروس غير المعروف لا بد أن يصنف أيضًا ضمن النوع الأول. أما إذا أصيب القرد المحصن من النوع الأول بالمرض، فلا بد أن السلالة غير المعروفة تمثل نوعًا آخر، مثل النوع الثاني. أصبحت تلك القردة التي نجت من التطعيم بفيروس من النوع الثاني محصنة ضد النوع الثاني؛ ومن ثَم أصبحت وسيلة يمكن من خلالها اختبار فيروسات النوع الثاني الأخرى. وهكذا دواليك. كان عملًا شاقًّا ومملًّا. وفي عام ١٩٤٩، اكتُشف نوع ثالث من فيروس شلل الأطفال. استمر برنامج التصنيف ثلاث سنوات، من ١٩٤٩ إلى ١٩٥١. وتكلَّف هذا العمل الشاق، المموَّل من الجمعية الوطنية، ١٫١٩ مليون دولار أمريكي، وحياة نحو ١٧٥٠٠ قرد.

وفي النهاية، عُثر على ثلاثة أنواع فقط من فيروس شلل الأطفال.

تمثَّل التحدي التالي الذي بدا مستعصيًا في زراعة ما يكفي من فيروس شلل الأطفال من كل نوع لابتكار لقاح يمكن إنتاجه على نطاقٍ ضخم. كان ذلك يتطلب ملايين الجرعات، وكانت عدم القدرة على زراعة فيروس شلل الأطفال بكميات كبيرة عقبة رئيسة دائمًا. فعلى مدى عقود، لم يُزرع فيروس شلل الأطفال بنجاح إلا في المزارع المكونة من الأنسجة العصبية للقردة فقط. ولكن كان من المعروف أن الأنسجة العصبية للقردة تسبب رد فعل عكسيًّا ضارًّا، وأحيانًا التهاب الدماغ والموت، عند حقن البشر الخاضعين للتجربة بها. لم يكن من الممكن استخدام أي فيروس ينمو في الأنسجة العصبية في لقاح آمن، ولكن لسنوات، اعتبر بديهيًّا أن فيروس شلل الأطفال لا يمكن أن يتكاثر في المختبر (في مزارع الأنسجة) باستخدام أي وسط آخر.

أخيرًا، تحدى طبيب يُدعى جون إندرز هذه الفكرة. كان إندرز مدير مختبر أبحاث الأمراض المعدية في مستشفى بوسطن للأطفال. في عام ١٩٤٨، كان إندرز واثنان من مساعديه، هما توماس ويلر وفريدريك روبينز، يعملون على زراعة فيروس الحُماق، المعروف أيضًا باسم جدري الماء، في مزارع من الأنسجة العضلية والجلدية الجنينية. تصادف أن كان لديهم بعض العينات الإضافية من فيروس شلل الأطفال في المجمِّد، وبِناءً على حدس لديهم، قرروا إضافة هذه العينات إلى المزارع، على الرغم من أنه كان من المعروف أن فيروس شلل الأطفال لا يمكن أن ينمو في الأنسجة غير العصبية. ما أدهشهم وأسعدهم هو نمو فيروس شلل الأطفال في أنسجة العضلات والجلد. لقد كانت المعلومة الشائعة خاطئة. وعندئذٍ أصبح من الممكن زراعة فيروس شلل الأطفال في طبق بتري أو أنبوب اختبار باستخدام أنسجة القرد غير العصبية، وهو وسط لن يكون سامًّا تلقائيًّا للبشر. وفجأة، قفز احتمال ابتكار لقاح شلل الأطفال قفزة ضخمة قرَّبته أكثر نحو التحول إلى واقع.٦

باتت الساحة مهيأة لمعركة ملحمية من الأفكار والإرادات. كانت هذه المعركة في ظاهرها مباراة علمية بين مدرستين فكريتين انبثقت من أروقة المؤتمرات الأكاديمية المغلقة وانتقلت إلى الرأي العام؛ ذلك الصراع بين مؤيدي اللقاح المعطَّل ومن يفضِّلون لقاح الفيروس الحي الموهَن. ووراء الكواليس، دارت منافسة بين عبقريَّين اثنين، هما جوناس سولك وألبرت سابين، اللذين سيقضيان بقية حياتهما يخوضان حربهما الباردة الشخصية؛ حربًا من الكلمات والعلوم، والأهم من ذلك كله، الإرث.

كان سابين الباحث الأكثر خبرة وسنًّا بينهما. كان سابين، الذي يكبر سولك بثماني سنوات، رئيسًا لقسم أبحاث طب الأطفال في مستشفى سينسيناتي للأطفال في أوهايو. في الاجتماعات والمؤتمرات الأكاديمية، كان يفشل أحيانًا في إخفاء رأيه السلبي في سولك بوصفه مبتدئًا طموحًا ومجتهدًا بصورة مبالغ فيها، أقل خبرة بكثيرٍ من سابين وأعلام المجال الآخرين. وقد عزَّز موقف سابين المتغطرس حقيقة أن سولك كان يقوم بذلك العمل الروتيني المتمثِّل في تصنيف الفيروسات، الذي كان يراه أقطاب علم الفيروسات عملًا وضيعًا جدًّا. في واقعة بارزة حدثت خلال اجتماع لكبار الباحثين في عام ١٩٤٨، تساءل سولك عن إمكانية أن يصبح برنامج التصنيف أكثر كفاءة إذا تمكَّن ببساطة من عزل الأجسام المضادة التي يفرزها كل فيروس غير معروف، بدلًا من تلك الطريقة المستنزِفة للوقت المتمثلة في اختبار قدرة الفيروسات غير المعروفة على العدوى، لمعرفة نوع الفيروسات التي تثبطها هذه الأجسام المضادة.

كان اقتراحًا معقولًا تمامًا، ومن شأنه توفير كثير من الوقت. ولكن ما أحبط سولك أن سابين كان أول من أجاب عن الاقتراح، وكانت إجابته تقطر ازدراءً حرفيًّا؛ فقد قال: «لا بد أنك أكثر دراية من أن تطرح مثل هذا السؤال يا دكتور سولك.»

بعد أن فشل توضيح إضافي بسيط قدمه سولك في كسب تأييد أي من أفراد المجموعة، شعر سولك بالإحباط. ووصف التجربة في معرض تذكره لها بأنها «لطمة على الوجه.»

قال متذكرًا ما حدث: «كان في إمكاني استشعار العناد والعداء والرفض. ومنذ ذلك الحين، لم أحضر أيًّا من هذه الاجتماعات دون أن يراودني الشعور نفسه.»

في عام ١٩٥١، سافر سولك وسابين إلى أوروبا على متن السفينة نفسها لحضور مؤتمر في الدنمارك. روى سولك لاحقًا موقف سابين تجاهه خلال الرحلة: «أصبح واضحًا لأي شخص لم يسمع بالأمر من قبل أنني شاب تافه من بيتسبرج، متجه إلى الدنمارك للحديث عن بعض الأعمال الوضيعة التي أنجزتها. بدا واضحًا أنه لولا تواجد ألبرت خلف الكواليس يحرك الخيوط ويحدد المعايير، لربما منيت بفشل ذريع.»

لم يخفِ سابين معارضته لفكرة سولك الخاصة بلقاح معطَّل لشلل الأطفال. ففي رسالة وجَّهها سابين عام ١٩٤٩ إلى باسيل أوكونور، رئيس المؤسسة الوطنية لشلل الأطفال، كتب يقول: «لا يوجد سبب وجيه يجعلنا نصدق في هذا الوقت أن اللقاحات «المعطَّلة» يمكن أن يكون لها أي قيمة عملية في السيطرة على مرضٍ كشلل الأطفال … أرى أن الوعود المبكرة وغير المسئولة للجمهور غير مضمونة وقاسية، بل قد تشكِّل أيضًا خطرًا كبيرًا على الجهود المهمة التي تبذلها المؤسسة الوطنية لشلل الأطفال.»

كان لسابين، شأنه في ذلك شأن الباحثين البارعين، شخصية معقدة. ربما كان متعجرفًا ومتعاليًا، ولكنه كان أيضًا على خُلقٍ عالٍ، ولديه عزم على تحقيق هدفه. اعترف سابين بأن لقاح الفيروس الحي سيستغرق وقتًا أطول في تطويره من اللقاح المعطَّل، لكنه كان يعتقد أنه سيكون أفضل على المدى الطويل. كان يشعر أنه لا يزال هناك الكثير لتعلمه وفهمه حول فيروس شلل الأطفال، ومن غير الممكن استعجال التقدم العلمي.

لسوء حظ سابين، لم يكن باسيل أوكونور رجلًا صبورًا. فقد كان شريكًا لفرانكلين روزفلت في مكتب محاماة ومستشارًا له، وهو رجل ارتقى من بدايات متواضعة إلى ثروة ونفوذ كبيرين. ولكونه رئيسًا لكبرى المنظمات الخيرية الطبية وأعظمها تأثيرًا في تاريخ أمريكا، شعر أوكونور بالحاجة الملحة إلى إيجاد لقاح لشلل الأطفال.

كان جوناس سولك يفكر بالطريقة نفسها. لم يحتَجْ سولك قَطُّ إلى من يذكِّره بالحاجة العامة الملحة إلى لقاح. كان معمله في بيتسبرج في قبو المستشفى الحكومي، وكانت أقسام الأطفال المصابين بشلل الأطفال تحتل الطوابق التي تعلوه. كان هو وفريقه يمرون بهذه الأقسام كل يوم في طريقهم إلى المعمل. تذكرت إحدى الممرضات حالة الحزن المأساوي الدائم التي تخيم على المكان قائلة:

كان هناك ١٦ أو ١٧ حالة جديدة تُودع كل يوم بالمستشفى … لمغادرة المكان كان عليك المرور بعددٍ معين من الغرف، وكان من الممكن أن تسمع طفلًا ينادي على شخص ما ليطلب منه أن يقرأ له بريده أو يعطيه شربة ماء، أو يسأله عن السبب الذي يجعله لا يستطيع الحركة، ولم يكن في إمكانك أن تكون قاسيًا لتمر فحسب دون مبالاة. كانت أجواء الحزن والرعب والغضب العاجز تلف المكان. كان الأمر مروعًا. أتذكر صبيًّا في المرحلة الثانوية كان يبكي لأنه كان مشلولًا تمامًا ولم يستطع تحريك يده ليقتل نفسه. أتذكر النساء المشلولات اللواتي أنجبن أطفالًا طبيعيين في أجهزة الرئة الحديدية. أتذكر فتاة صغيرة كانت ترقد بلا حراك أيامًا مغمضة العينينن، ولكنها تعافت، وأتذكر كيف بكينا جميعًا عندما عادت إلى المنزل. وأتذكر كيف كان الموظفون يمزحون مع الدكتور سولك — مزاحًا جادًّا — يطالبونه بأن يسرع ويفعل شيئًا.

على غرار أوكونور، شعر سولك بأن السرعة أمر ضروري للغاية، وربما يكون الكمال في مجال العلوم عدوًّا للخير في بعض الأحيان أيضًا. فمضى قُدمًا في خططه الخاصة لتطوير لقاح معطَّل، على الرغم من أنه كان يتنافى مع النصائح الغالبة لأقرانه.

عمل سولك وفريقه على تكرار إنجاز إندرز المتمثِّل في زرع فيروس شلل الأطفال في الأنسجة غير العصبية. ووجدوا في نسيج كُلية القرد الوسط المثالي لذلك. فالكُلية الواحدة قادرة على إنماء مادة فيروسية كافية لإنتاج ٦٠٠٠ لقاح. كانت الطريقة دقيقة ومضنية للغاية. فكانت الأنسجة المفرومة والمرشَّحة تُغرَس بعيناتٍ حية من السلالات الأشد فتكًا في كلٍّ من أنواع شلل الأطفال الثلاثة، وتحُفَظ بعناية في الحاضنات. كان الخطوة الحاسمة التالية هي تعطيل الفيروس عن طريق قتله. وقد قام سولك وفريقه البحثي بذلك عن طريق غمر المزارع في الفورمالدهيد. تطلَّب الأمر دقة شديدة. فالتركيز المرتفع جدًّا من الفورمالدهيد قد يحد من قدرة اللقاح على إنتاج استجابة مناعية ضد المرض. أما التركيز القليل جدًّا فقد يقتل الفيروس على نحوٍ غير كافٍ مما ينتج عنه لقاح حي غير آمن يمكن أن يسبب شلل الأطفال، وهو ما يُعد بحد ذاته فكرة مروعة. كانوا يعدِّلون البروتوكول مرارًا وتكرارًا. ما أفضل تركيزات الفورمالدهيد والفيروس؟ عند أي درجة حرارة وحموضة يجب دمج هذه التركيزات؟ وإلى متى؟ كانت السلامة هي الأولوية. اختُبرت عينة من كل دفعة من الفيروس الميت عن طريق حقنها في القرود التي خضعت للمراقبة بحثًا عن علامات الإصابة بشلل الأطفال. إذا أصيب القرد بالمرض، كانوا يتخلصون من الدفعة بأكملها. حتى تلك القردة التي لم تمرض كان يُضحَّى بها في وقت لاحق حتى يمكن فحص أنسجتها العصبية بحثًا عن أي علامات تدل على تلف ناتج عن شلل الأطفال.

عندما أصبح سولك واثقًا كفاية بإمكانية تجريب لقاحه على البشر، جرَّبه هو وفريق معمله أولًا على أنفسهم. كما لقَّح زوجته وأطفاله. ثم حصل على موافقة بشأن طلب متطوعين في مؤسستين: دار دي تي واطسون للأطفال المعاقين، وهي منشأة تُئْوي العديد من مرضى شلل الأطفال، ومدرسة بولك الحكومية للمصابين بالتأخر وضعاف العقل. بدأ الاختبار في يونيو ١٩٥٢ بموافقة الآباء. كانت الاستراتيجية الأساسية المعتمدة هي سحب دم من المرضى قبل تلقي اللقاح وبعد تلقي اللقاح بحثًا عن زيادة ناتجة في مستوى الأجسام المضادة بالنسبة إلى فيروس شلل الأطفال. كان سولك في أشد حالات القلق.

في مقابلة صحفية اعترف لاحقًا: «عندما تطعِّم الأطفال بلقاح لشلل الأطفال، لا تنام جيدًا لمدة شهرين أو ثلاثة.»

لكن ما جعله يتنفس الصعداء أن اللقاح بدا فعَّالًا. فلم يُصب أي شخص خضع للتجربة بالمرض. ونتج عن اللقاح استجابة وقائية ملحوظة من جهاز المناعة تتمثل في إنتاج أجسام مضادة لأنواع فيروس شلل الأطفال الثلاثة.

في يناير ١٩٥٣، أعلن سولك نتائج دراسته في مؤتمر لعلماء الفيروسات البارزين في هيرشي، بولاية بنسلفانيا. كان كثير من الحاضرين يعتقدون أن اللقاح البشري ما زال أمامه سنوات، وأن أمامهم الكثير من العلوم التي يلزم اكتشافها قبل اتخاذ هذه الخطوة. لذا عندما كشف سولك عن نتائجه الناجحة في البشر، لم يقابل برد فعل إيجابي.

يتذكر سولك: «كان اجتماعًا متوترًا، ولم أكن بأي حال الشخص الأكثر توترًا هناك.»

أعرب أقرانه عن دهشتهم وعدم تصديقهم وشكوكهم. وعلى الرغم من أن ذلك لم يكن معلنًا، كانت الغرفة على الأرجح مشحونة بتيارٍ مستترٍ من الحقد. شكك الحضور في فاعلية لقاح سولك وسلامته. وانتقدوا منهجه المعتمِد على الفيروس الميت. كان ألبرت سابين قاسيًا بصفة خاصة. يتذكر سولك ما حدث قائلًا: «بدا الأمر كأنه يحاول التقليل مما قلته. فتأويلاته جعلت عملي يبدو لا يُصدَّق، وبلا معنًى أو أهمية. لم نفعل هذا ولم نفعل ذاك، وهذا سابق لأوانه وذاك غير مثبت. أتذكر أنني سألته لاحقًا: «لماذا تؤكد باستمرار على السلبيات؟» وأجاب أن هذه هي «الطريقة العلمية للقيام بالأشياء».»

احتدم النقاش حول ما إذا كانت نتائج التجربة التي أجراها سولك كافية لإجازة بدء تجربة سريرية كبيرة. واتفق معظم الحاضرين مع سابين وعارضوا الفكرة. لكن هاري ويفر، مدير البحوث في المؤسسة الوطنية، اعتبر أن دراسة سولك أكثر من كافية للمُضي قُدمًا في التجربة. وبعد يومين، أبلغ ويفر، الذي لم يكن يطيق صبرًا لظهور لقاح، مجلس أمناء المؤسسة الوطنية بأن أحد علمائهم قد صنع لقاحًا لشلل الأطفال ثبت أنه آمن وفعَّال خلال تجربة صغيرة. وأخبرهم أن الوقت حان للبدء في التفكير في تجربة ميدانية. بعد أن سرَّب أحدهم هذه المعلومات، تناقلت وسائل الإعلام الخبر، وألقى صحفي من بيتسبرج يُدعى جون ترون الضوء حصريًّا على سولك؛ ففي صحيفة «بيتسبرج برس»، كتب ترون: «على حد علم أي شخص، ثمة عالم واحد في هذا البلد يجري أبحاثًا على هذا النوع تحديدًا من اللقاحات. إنه الدكتور جوناس إي سولك.» حاول ويفر الاستفادة من هذا الحراك من خلال تنظيم مؤتمر للقادة الحكوميين والطبيين المؤثرين، بالإضافة إلى الصحافة، في فندق والدورف أستوريا في مدينة نيويورك في السادس والعشرين من فبراير لعام ١٩٥٣.

حتى سولك في ذلك الوقت تملَّكه القلق من السرعة الكبيرة التي تسير بها الأمور. لقد أراد إجراء مزيدٍ من الأبحاث لتحسين لقاحه وتأكيد سلامته أكثر. كان يخشى أن يستنكر أقرانه الاهتمام الذي كان يتلقاه، خاصة بعد أن نشرت مجلة «تايم» مقالًا فيه صورة ﻟ «الباحث سولك»، مُرفَقة بالتعليق التوضيحي «مستعد للهجوم الكبير.»

كان سولك محقًّا في قلقه؛ فقد كان أقرانه في حالة صدمة من اهتمام الصحافة به. وعلى نحوٍ متزايد، بدا سولك انتهازيًّا أكثر من كونه عالمًا، رجلًا اعتُبر قائدًا في المعركة ضد شلل الأطفال بغير جدارة، وهو أبعد ما يكون عن الحقيقة. لم يكن من المقبول أخلاقيًّا أن يقبل عالِمٌ مثل هذا الثناء العلني على لقاح غير مثبت، أو أن يتحدث إلى الصحافة عن نتائج دراسة قبل أن تُنشر حتى في دورية علمية محكَّمة. كتب سابين إلى سولك: «على الرغم من أنه كان من اللطيف رؤية وجهك السعيد في مجلة «تايم»، كان المحتوى الذي رافق ذلك شنيعًا.» وفي محاولة للإطراء الخفي على سولك، ألقى باللوم فيما حدث على الترويج الزائد على الحد من جانب المؤسسة الوطنية: «كنت أعرف أنك لا يمكن أن يكون لك أي علاقة [بذلك]، لأنه لو كانت لك علاقة بالأمر، لتعاملوا مع الأمر على نحوٍ صحيح.» ولكن لم يكن بيد سابين أو أي شخص آخر شيء يمكن قوله أو فعله لوقف موجة الضغط العام لإنتاج لقاح في أسرع وقت ممكن. شعر كلٌّ من سولك والمؤسسة الوطنية بضغطٍ شديد للمُضي قُدمًا، ولم تساعد عناوين الصحف، مثل «الانتصار على شلل الأطفال بات أقرب»، و«تلميح بجاهزية لقاح شلل الأطفال» في تهدئة الأمور.

كانت حقيقة رغبة سولك في الاستحواذ على الاهتمام أعقد بكثيرٍ مما كان يظنه معارضوه. ففي كثير من المواقف، كان يُعرِض عن الاهتمام الصحفي. كان يكره تخصيص وقت للصحفيين، ويكره السماح للمصورين بالتقاط صور له أو لمعمله، ويُعزى ذلك في الأساس إلى أن مثل هذه الإجراءات كانت تتداخل مع عمله. ولكنه في الوقت نفسه قام أيضًا ببعض الأمور التي كان يعرف حتمًا أنها لن تفشل في وضعه في طليعة المعركة ضد شلل الأطفال في ذهن الجمهور، على حساب زملائه في مجال علم الفيروسات.

أحد هذه الأمور وقع في السادس والعشرين من مارس عام ١٩٥٣، عندما طلب سولك من المؤسسة الوطنية دعمه في إلقاء خطاب عام من أجل نقل المعلومات الأكثر دقة، وذلك حين ساوره القلق، على حد زعمه، من أن حماسة وسائل الإعلام والتفاؤل العام بشأن اللقاح سابق لأوانه إلى حدٍّ كبير. رأى باسيل أوكونور أن هذه فكرة رائعة، وظهر سولك في الإذاعة الوطنية، من خلال شبكة كولومبيا للبث الإذاعي (سي بي إس)، في برنامج مدته ١٥ دقيقة يُدعى «العالِم يتحدث عن نفسه» (ذا ساينتست سبيكس فور هيمسيلف). سرد نتائجه، ولكنه نوَّه إلى أنه لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به، وأن اللقاح لن يكون متاحًا قبل عام أو أكثر. كما أدلى بتصريح قاطع وواضح فتح أبواب التفاؤل على مصاريعها: «من الدراسات التي يُعلن عنها هذا الأسبوع، تبين أيضًا أن كمية الأجسام المضادة التي يستحثها التلقيح مشابهة بشكلٍ واعدٍ ومبشر لتلك التي تتطور بعد الإصابة بالعدوى بصورة طبيعية.» وعلى سبيل المجاملة، أرسل سولك إلى سابين مُسوَّدة الخطاب مسبقًا. ما أثار استياء سولك أن سابين اتصل به غاضبًا. تذكر سولك ما حدث فيما بعد: «أخبرني أنني أضلل الجمهور. حثَّني على عدم القيام بذلك. كنت مذهولًا.»

إذا كان هدف خطاب سولك الإذاعي هو تخفيف توقعات الجمهور، فقد فشل. فقد بدأت الصحافة تطلق عليه «لقاح سولك»، حتى إن بعض أفراد طاقم سولك بدءُوا يشيرون إليه على سبيل الازدراء باسم «جوناس المقدس» من وراء ظهره. أصبح سابين يصدح أكثر بمعارضته لنهج سولك. فأدلى بشهادة أمام جلسة استماع في الكونجرس تفيد بأن لقاح سولك لا يعِد إلا بحماية ضعيفة، وما زال حتميًّا أن تُؤكَّد سلامته من قبل علماء آخرين. ومع ذلك، صوَّت المجلس الاستشاري للقاحات التابع للمؤسسة الوطنية، في نوفمبر ١٩٥٣، لصالح الشروع في دراسة ضخمة للقاح سولك. كان ذلك قرارًا مصيريًّا. فها هو ذا لقاح تجريبي، صنعه عالم يبلغ من العمر ٣٩ عامًا في معمل تحت الأرض في بيتسبرج ولم يُختبر من قبل إلا على بضع مئات من الأشخاص، سيعطى لآلاف الأطفال في جميع أنحاء أمريكا.

كانت تجربة اللقاح في عام ١٩٥٤ أكبر دراسة طبية في التاريخ حتى تلك اللحظة وحظيت باهتمامٍ عالمي. ساعد سبعة ملايين متطوع في إجراء التجربة في ١٤ ألف مدرسة في ٤٤ ولاية أمريكية بالإضافة إلى كندا. في الولايات المتحدة، تلقَّى ٦٢٣٩٧٢ طالبًا في الصفوف الأول والثاني والثالث ثلاث جرعات، إما من اللقاح وإما من دواء وهمي، ويفصل بين كل جرعة شهر. بالإضافة إلى المجموعة الضابطة التي تلقَّت الدواء الوهمي، كانت هناك مجموعة ضابطة كبيرة أخرى تتألف من أطفال خضعوا للملاحظة دون أن يخضعوا لأي إجراء.

لم يكن الجميع مؤيدًا للقاح. فقد رفض بعض الآباء تعريض أطفالهم لعلاجٍ «تجريبي». وفي الرابع من أبريل ١٩٥٤، انتقد الإذاعي الشهير والتر وينشل اللقاح علنيًّا في مقدمة قال فيها: «فلينتبه الجميع! سأقدم تقريرًا خلال بضع لحظات عن لقاحٍ جديدٍ لشلل الأطفال، قد يكون قاتلًا!» أكد وينشل الخطر الذي يمكن أن ينطوي عليه لقاح يحتوي على فيروس لم يُقتَل بدرجة كافية، ومن شأنه أن ينقل الشلل إلى الأطفال.

أثبتت التجربة نجاحًا كبيرًا رغمًا عن أنف المنتقدين. فقد تلقى نحو ٩٥ في المائة من الأطفال المشاركين في التجربة الجرعات الثلاث كلها، وكان معدل الطلاب الذين لم يكملوا الجرعات الثلاث صغيرًا جدًّا. وضع باسيل أوكونور والمؤسسة الوطنية ثقة كبيرة في اللقاح إلى درجة أنهم التزموا بتقديم تسعة ملايين دولار لشركات الأدوية التي ستبدأ في إنتاج اللقاح حتى قبل معرفة النتائج، لضمان وجود إمداد جاهز من اللقاح لتوزيعه في جميع أنحاء البلاد على الفور.

كان من المقرر الإعلان عن نتائج الدراسة في الثاني عشر من أبريل ١٩٥٥، في جامعة ميشيجان. كانت الأمة تحبس أنفاسها. بموجب اتفاق سابق، كان من المفترض أن يتلقى الصحفيون الحاضرون البالغ عددهم ١٥٠ صحفيًّا، بيانًا صحفيًّا وتقريرًا عن الدراسة في الساعة التاسعة وعشر دقائق صباحًا، لكنهم وافقوا على تأجيل نقل الأخبار حتى يلقي الدكتور توماس فرانسيس الابن، العالم المشرف على التجربة، خطابه العام. عندما وصلت رزم التقارير إلى الموقع، عم الهرج والمرج. هرع الصحفيون المتحمسون إلى أكوام الأوراق، مما اضطر مسئول العلاقات العامة بالجامعة إلى الوقوف على طاولة، وإلقاء التقارير إلى حشد الصحفيين المتلهفين الواقفين تحت قدميه.

كانت الكلمات الأولى من البيان الصحفي هي «اللقاح فعَّال.» تذكر الصحفي جون ترون ما حدث بقوله: «أحضروا التقرير على عربات، وكان الصحفيون يقفزون بعضهم فوق بعض ويصرخون، «فعَّال! فعَّال! فعَّال!» كان المكان يعج كله بالفوضى.»

كان اللقاح آمنًا وفعالًا بنسبة تتراوح بين ٨٠ و٩٠ في المائة. في أحد فرعَي التجربة، تلقَّى ٢٠٠٧٤٥ طفلًا اللقاح، وحُقن ٢٠١٢٢٩ طفلًا بدواء وهمي. أصيب ٥٧ طفلًا (٢٨ لكل ١٠٠ ألف) في المجموعة التي تلقت اللقاح بالشلل، مقابل ١٤٢ طفلًا (٧١ لكل ١٠٠ ألف) في المجموعة التي تلقت الدواء الوهمي.

في الفرع الآخر من التجربة الذي استخدم مجموعة ضابطة تحت الملاحظة، تلقَّى ٢٢١٩٨٨ طفلًا اللقاح، وخضع ٧٢٥١٧٣ للملاحظة. أصيب ٥٦ طفلًا (٢٥ لكل ١٠٠ ألف) من الأطفال الملقحين بالشلل، مقابل ٣٩١ طفلًا (٥٤ لكل ١٠٠ ألف) في المجموعة الخاضعة للملاحظة.

بلغت التكلفة الإجمالية التي تحمَّلتها المؤسسة الوطنية لتطوير اللقاح، من المنح البحثية وحتى اكتمال التجربة الميدانية ٢٥٥٤١٦٢٢ دولارًا.٧

بُثَّت الأخبار على الفور في جميع أنحاء البلاد وحول العالم. وسادت البهجة وعمَّت الاحتفالات العفوية المدن والبلدات. رنَّت أجراس الكنائس. أطلق السائقون أبواق سياراتهم. في المنازل والمكاتب والمتاجر والمدارس في جميع أنحاء أمريكا، هلَّل الناس وبكى كثيرون. هللت عناوين الصحف الرئيسية؛ ففي صحيفة «بيتسبرج برس»، كان العنوان الرئيسي «هزيمة شلل الأطفال»، وفي «نيويورك بوست»، «هزيمة داحرة لشلل الأطفال!» وفي صحيفة «ساوث تشاينا مورنينج بوست» بهونج كونج «الانتصار على شلل الأطفال». سيتذكر جيل من الأمريكيين ما كانوا يفعلونه في اللحظة التي سمعوا فيها الأخبار.

أصبح جوناس سولك الطبيب الأشهر في العالم. فبعد الإعلان، نُقل وعائلته في سيارة ليموزين في حراسة الشرطة. وفي بيتسبرج، استقبله وفد من مسئولي المدينة في المطار. حتى إن زوجته دونا سمعت ابنهما البالغ من العمر خمس سنوات يخبر صديقه عبر الهاتف: «مرحبًا بيلي، لقد عدت من إجازتي وأنا مشهور، وكذلك والدي.»

أحبَّت الصحافة سولك. وسرعان ما تلقَّى مئات الجوائز وعروض الدرجات الفخرية وطلبات لإجراء مقابلات ودعوات للتحدث من جميع أنحاء العالم. تلقَّى أطنانًا من البريد وآلاف البرقيات. وسُميت مدارس وشوارع باسمه.

لكن كان هناك ثمن مهني يجب دفعه مقابل كل هذا الإعجاب العام. كان أقران سولك العلميون ينظرون نظرة سلبية إلى تلك الضجة المثارة، وإلى سلوك سولك. فقد كان في نظرهم طموحًا على نحوٍ مبالغٍ فيه، يسعى دائمًا لأن يكون محط الأنظار، وعلى أتم الاستعداد أن يُنسب إليه وحده الفضل في إنجاز لم يحققه وحده. فوق ذلك، لم يطور أو يخترع أي مفهوم أو تقنية علمية جديدة. وفي أحسن الأحوال، اعتبروا لقاح سولك مجرد حلٍّ مؤقت إلى حين التمكن من تطوير لقاح بالفيروس الموهن يدوم فترة أطول. لقد اتخذ سولك الطريق السهل، الطريق إلى الشهرة والثروة المحتمَلة. بعد سنوات، علَّق سولك على نبذ أقرانه له: «كانت أسوأ مأساة حلَّت بي هي نجاحي. عرفت على الفور أنني انتهيت وصرت منبوذًا.»

fig14
جوناس سولك

في الحقيقة، كان من المؤلم لسولك أن يتلقى إعجابًا غير مستحق من الجماهير التي اختارت رفعه إلى مكانة أقرب إلى التأليه. حاول أن يجعل الصحافة تتوقف عن تسميته «لقاح سولك». لكن لم يكن بيده أو بيد أي شخص آخر الكثير للقيام به لكبح هذا الإعجاب العام الساحق. كان العالم في حاجة إلى بطل ليشكره، وقد فُرض عليه هذا الدور جزئيًّا. بالإضافة إلى ذلك، لم تكن أحد أكثر اللحظات التي لا تُنسى بالنسبة إلى سولك، التي ساهمت كثيرًا في تعزيز سمعته بوصفه بطلًا، في حاجة إلى إعداد مسبق كي تخرج كما خرجت. ففي بثٍّ تلفزيوني مباشر في ضيافة إدوارد آر مورو في برنامجه الشهير «سي إت ناو» في يوم صدور نتائج الدراسة الوطنية، سأل مورو سولك: «من يمتلك براءة اختراع هذا اللقاح؟»

أجاب سولك: «حسنًا، هو ملك للناس. لا توجد براءة اختراع. هل يمكنك أن تملك براءة اختراع الشمس؟»

لم يربح سولك سنتًا واحدًا من وراء اللقاح الذي اخترعه. ففي وقتٍ لاحقٍ من تلك الليلة، أخذ مورو سولك جانبًا ليحذره، قائلًا: «لقد حلَّت بك مأساة كبيرة للتوِّ أيها الشاب.» عندما سأله سولك عما يقصده، قال مورو: «لقد فقدت مجهوليتك للتوِّ.»

كارثة

تعاونت المؤسسة الوطنية مع مجموعة مختارة من شركات الأدوية لتسريع إنتاج اللقاح وتوزيعه. ولكن قبل أن تخفت حالة الابتهاج العامة، وقعت كارثة. ففي الرابع والعشرين من أبريل ١٩٥٥، واجه طبيب في إيداهو حالة شلل أطفال جديدة لفتاة في الصف الأول تلقَّت اللقاح قبل ستة أيام فقط. تُوفيت الطفلة بعد ثلاثة أيام. وفي الخامس والعشرين من أبريل، نُقل رضيع تلقَّى اللقاح قبل تسعة أيام إلى مستشفى في شيكاغو مصابًا بشلل الأطفال. وفي السادس والعشرين من أبريل، أُبلِغ عن خمس حالات أخرى لأطفالٍ تلقوا اللقاح في كاليفورنيا. سادت حالة من الذعر في المؤسسة الوطنية. ماذا يحدث؟

كان جميع الأطفال المصابين قد تلقوا لقاحات صنِّعت بواسطة شركة واحدة: مختبرات كاتر في بيركلي، بولاية كاليفورنيا. أوقِف استخدام لقاح كاتر في الحال، وسُحب اللقاح، ولكن كان قد أعطي بالفعل ٣٨٠ ألف جرعة من لقاح كاتر. أظهر تحقيق مكثف أن كاتر لم يلتزم ببروتوكولات السلامة الصارمة التي أرساها سولك كما ينبغي، وأن الفيروس الحي الذي لم يُقتل على نحوٍ كافٍ، دخل لقاحاتهم. سبَّب لقاح كاتر الذي لم يُعَد كما ينبغي ٧٩ حالة شلل أطفال مباشرة، كما تسبَّب في حالات إضافية غير متوقعة في ١٠٥ أفراد من أفراد أسرهم و٢٠ ممن لهم اتصال قريب بالمرضى. أصيب معظم هؤلاء المرضى بالشلل، وتُوفي ١١ منهم.

كان هذا بالضبط ما حذَّر ألبرت سابين وأقرانه ذوو الأفكار المماثلة من إمكانية حدوثه. كم هو مثير للسخرية أن الانتقاد نفسه الذي وجِّه إلى اللقاحات المصنوعة من الفيروس الموهن — وكان مفاده أن الفيروسات غير الموهنة كفاية قد تسبب المرض — استطاع أن يثبت السقوط المفاجئ للقاح الفيروس الميت الذي طوره سولك. ضاعف سابين هجماته، وشهد أمام الكونجرس بأن إنتاج لقاح سولك يجب أن يتوقف. أصبح سولك مضطربًا ومشتت الفكر بسبب حادثة كاتر. وبعد أن تعرض لتقريع شديد من أقرانه في اجتماع في المعاهد الوطنية للصحة، اعترف لاحقًا بأن «هذه كانت المرة الأولى والوحيدة في حياتي التي راودتني فيها ميول انتحارية.»

توقف إنتاج مختبرات كاتر، لكن استمر توزيع اللقاح من الشركات المصنعة الأخرى. انخفضت حالات شلل الأطفال في جميع أنحاء البلاد، من ٥٨ ألف حالة في عام ١٩٥٢، إلى ١٥ ألف حالة في عام ١٩٥٦، ثم إلى سبعة آلاف حالة في عام ١٩٥٧. وهكذا نجت سمعة سولك من فضيحة كاتر، وارتقت إلى آفاق أعلى جديدة؛ فلم يعد شلل الأطفال يحتجز أطفال أمريكا رهائن كل صيف. ولم يعد الآباء يشعرون بالخوف. وبقيت حمامات السباحة مفتوحة. وسمحت الأمهات لأطفالهن بالخروج للعب.

فرصة سابين

بينما كانت الأضواء مسلَّطة على سولك، مضى سابين قُدمًا في العمل. لم يشك قَطُّ في أن طريقته كانت الأفضل، فاستمر في السعي للحصول على لقاحٍ من فيروس حي موهن يعِد بمزايا عديدة تفوق مزايا لقاح سولك. فسيكون أرخص وأسهل في التصنيع. ويمكن إعطاؤه عن طريق الفم، وفي جرعة واحدة فقط. سيسري مفعول اللقاح في الأمعاء حيث يستقر فيروس شلل الأطفال بطبيعة الحال، لتكوين مناعة طويلة الأمد، وربما مدى الحياة. سيعمل استهداف القناة الهضمية بلقاحٍ فموي أيضًا على القضاء على الانتقال السلبي لفيروس شلل الأطفال. قد لا يصاب الشخص الذي تناول لقاح سولك بمرض شلل الأطفال، لكن الفيروس قد يظل يتكاثر في أمعائه ويتخلص منه الجسم عبر البراز، مما قد يسبِّب عدوى للآخرين. في المقابل، سيحوِّل لقاح سابين هذا العيب إلى ميزة: إذا افترضنا أن أشخاصًا ابتلعوا برازًا من مريض محصن بلقاح سابين، فكأنهم عندئذٍ يبتلعون الفيروس الموهن داخل البراز وهو ما سيمنحهم حصانة أيضًا.

غير أن تحسين لقاح الفيروس الحي كان صعبًا. فكان لا بد من إبقاء الفيروس قويًّا بما يكفي لإثارة الاستجابة المناعية، على أن يبقى ضعيفًا بما يكفي حتى لا يسبب شلل الأطفال. أضعف سابين فيروس شلل الأطفال من خلال تمريره عبر أنسجة القردة عدة مرات. وجاءت نقطة الحسم عندما لم يتسبب فيروس تم إضعافه بنجاحٍ في إصابة شمبانزي بالشلل بعد حقنه في العمود الفقري. خلال شتاء ١٩٥٤-١٩٥٥، اختبر سابين لقاحه على ثلاثين نزيلًا من نزلاء أحد السجون في تشيليكوثي، بولاية أوهايو. حصل كل سجين على ٢٥ دولارًا إلى جانب تخفيف مدة العقوبة قليلًا. سارت التجربة على نحوٍ جيد. ونجا جميع السجناء ونشأت لديهم أجسام مضادة لفيروس شلل الأطفال.

واجه سابين مأزِقًا بعد ذلك. كان إجراء اختبار ميداني كامل للقاحه سيتطلب مئات الآلاف من الأطفال، ولا بد ألَّا يكون أي منهم قد تلقى لقاح سولك ونشأت لديه أجسام مضادة واقية. ولسوء حظه، كان أغلب الأطفال في أمريكا قد حصلوا على اللقاح بالفعل. فكان الحل أمام سابين هو العثور على عددٍ كبيرٍ من السكان غير الملقحين خارج الولايات المتحدة. فذهب إلى الاتحاد السوفييتي.

حتى في ذروة الحرب الباردة، كان الأمريكيون والسوفييت مستعدين لمشاركة التكنولوجيا المتعلقة بالأغراض الإنسانية. كانت موجات تفشي وباء شلل الأطفال في الاتحاد السوفييتي مشكلة كبيرة، وكان السوفييت يواجهون صعوبة في استخدام لقاح سولك، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى نقص المحاقن الزجاجية. ونتيجة لذلك، دُعي سابين إلى الاتحاد السوفييتي في عام ١٩٥٦. وافقت الحكومة السوفييتية فيما بعد على استخدام لقاحه، وأجرت في عام ١٩٥٩ تجربة سريرية ضخمة، لُقِّح خلالها ١٠ ملايين طفل. كان لقاح سابين يُعطى في صورة سائل يدخل الفم بواسطة قطارة، أو يقدَّم في صورة قطعة من الحلوى الصلبة. وقد أثبتت نتائج التجربة أن لقاح سابين فعَّال للغاية. وسرعان ما أمرت الحكومة السوفييتية بتطعيم كل مواطن دون العشرين عامًا؛ أي ٧٧ مليون شخص.

حصل سابين أخيرًا على التقدير الذي طالما انتظره. واستمر في الانتقاص من لقاح سولك، مدعيًا أن فاعليته لم تتجاوز نسبة ٦٠ إلى ٧٠ في المائة (على الرغم من أن هيئة الصحة العامة اعتبرته فعَّالًا بنسبة ٩٠ في المائة)، ومحذرًا من أن «مئات الأطفال» سيموتون إذا لم يوفَّر لقاحه على الفور.

في الوقت نفسه، بدأ سولك في صد الهجوم. كان قد ثبت بالفعل أن مفعول لقاحه يبقى مدة أطول مما توقع أي أحد، وكان مسئولًا عن الحد من الإصابة بشلل الأطفال في الولايات المتحدة بنسبة ٩٢ في المائة خلال خمس سنوات. وفي نهاية عام ١٩٦١، أوضحت البيانات الحكومية أن هذه النسبة قد تحسَّنت إلى ٩٧ في المائة. ولكن مُني سولك بخيبة أمل حين دعت الجمعية الطبية الأمريكية إلى تغيير برنامج التلقيح الوطني، والتحوُّل من لقاح سولك إلى لقاح سابين. اشتكى سولك من تحوُّلهم إلى لقاح لم يُرخَّص للاستخدام في الولايات المتحدة. ففي رسالة إلى الجمعية الطبية الأمريكية، كتب يقول: «لا يوجد تبرير علمي لبرنامج التلقيح الجديد، بل إنه لا توجد «أدلة» تؤيد «الحاجة» إلى «التحول» من طريقة تلقيح إلى أخرى، وإعادة تطعيم السكان بالكامل.» كان يعتقد أن لقاحه يمكنه القضاء على شلل الأطفال تمامًا إذا التزمت الحكومة بالخطة، واستمرت في استخدامه. جل ما تمنَّاه سولك أن يكون لقاحه وحده هو اللقاح الذي يقضي على شلل الأطفال.

في عام ١٩٦١، اعتُمد استخدام لقاح سابين رسميًّا في الولايات المتحدة، وحل محل لقاح سولك على مستوى البلاد. أصيب سولك بالإحباط. وفي مقابلة أجريت مع ابنه بيتر بعد عقود، قال: «كان والدي يحاول تجاهل هذه الأمور عادة، لكن هذه الواقعة آلمته بشدة، وكانت إهانة شخصية له كعالم، حتى إنه لم يستطع تجاهلها. ولا أبالغ إذا قلت إنها لازمته طول حياته.»

باستخدام لقاح سابين، قُضي على شلل الأطفال في العالم المتقدم بشكلٍ شبه تام. فمن عام ١٩٥٢ إلى عام ١٩٨١، انخفض معدل الإصابة بشلل الأطفال لكل ١٠٠ ألف شخص من ١٣٫٧ إلى ٠٫٠٠٣. بدا أن سابين قد تفوق على منافسه ليصبح الفائز النهائي في السباق. ورغم أن الجمهور لم يعشقه كما عشق سولك، فقد حظي بإعجاب المجتمع العلمي، الذي أغدق عليه الجوائز. فحصل على الميدالية الوطنية للعلوم، وانتُخب لعضوية الأكاديمية الوطنية للعلوم، وهي هيئة لم يصوِّت أعضاؤها قَطُّ لقبول سولك. أصبح سابين رئيسًا لمعهد وايزمان للعلوم في إسرائيل في عام ١٩٦٩. وتُوفي في عام ١٩٩٣، بسبب هبوط في القلب.

fig15
ألبرت سابين

ترك جوناس سولك جامعة بيتسبرج في عام ١٩٦٣ لتأسيس معهد سولك للعلوم البيولوجية بالقرب من سان دييجو، وهو مركز للبحث الطبي والعلمي لا يزال مستمرًّا في العمل حتى اليوم. وفي ثمانينيات القرن العشرين، عمل على لقاحٍ لمرض الإيدز. تُوفي سولك في عام ١٩٩٥، بسبب فشل القلب أيضًا.

استمرت المعركة بين لقاح سولك ولقاح سابين حتى بعد وفاتهما. فقد حقق لقاح سابين حلم القضاء على شلل الأطفال على مستوى العالم تقريبًا، ولكن لم يقضِ عليه تمامًا. فلسوء الحظ، كان من أحد الأخطار المرتبطة بلقاح الفيروس الحي احتمالية أن يسبِّب شلل الأطفال في حالات نادرة جدًّا. كانت نسبة الخطورة تعادل نحو حالتَين لكل مليون جرعة من اللقاح. بحلول منتصف التسعينيات، كانت حالات شلل الأطفال الوحيدة في العالم تحدث بسبب لقاح سابين؛ وكان عدد الحالات التي تحدث سنويًّا في الولايات المتحدة تبلغ نحو عشر حالات. وهكذا أصبح واضحًا أن استخدام لقاح سابين وحده لن يحقق هدف القضاء على شلل الأطفال تمامًا. في عام ١٩٩٦، أقر مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها بروتوكول تلقيح جديدًا للرُّضع يجمع بين جرعتَين من لقاح سولك تليهما جرعة من لقاح سابين الفموي، ولكن حتى هذا البروتوكول لم يقضِ تمامًا على شلل الأطفال. وفي عام ٢٠٠٠، تحوَّل المركز إلى استخدام لقاح سولك وحده. فمنذ فضيحة كاتر، لم يسبِّب لقاح سولك أي حالة شلل الأطفال. لذا ربما يكون النصر النهائي من نصيب سولك.

في الواقع، كان هناك قدرٌ كبيرٌ من النصر لكلا الرجلين. فبفضلهما، لم يعُد الخوف يغلِّف الصيف الأمريكي. ومثلما حفزت المنافسة بين لويس باستور وروبرت كوخ على الوصول إلى مستويات أعلى من الإنجاز، صبَّت المنافسة بين جوناس سولك وألبرت سابين في النهاية في صالح البشرية. فقد حال هذان الرجلان معًا، والفريقان البحثيان اللذان قاداهما، دون وقوع مئات الآلاف من الوفيات، وأنقذوا ملايين الأطفال من الشلل.

جائحة

في أواخر ديسمبر عام ٢٠١٩، كان هناك طبيب عيون في الرابعة والثلاثين من عمره يُدعى لي وينليانج يعمل في مستشفى ووهان المركزي في الصين. ساور هذا الطبيب القلق حيال سبعة مرضى محتجزين بالمستشفى شُخصوا بالتهاب رئوي غير نمطي. عُزل هؤلاء المرضى، نظرًا إلى سوء حالتهم.

عندما جاءت نتائج المختبر الخاصة بأحد المرضى إيجابية لفيروس كورونا من نوع سارس، انتابته وأطباء آخرين حالة من الانزعاج. وفي الثلاثين من ديسمبر، في الساعة الخامسة وثلاث وأربعين دقيقة مساءً، كتب رسالة إلى مجموعة دردشة خاصة على تطبيق التواصل الاجتماعي الصيني «وي تشات» تضم زملاءه الأطباء قائلًا: «تأكدنا من إصابة سبع حالات من سوق هوانان للمأكولات البحرية بسارس. وجارٍ عزلهم الآن في قسم الطوارئ.»

بعد ساعة، رد عضو في المجموعة يخشى من الرقابة الحكومية: «كن حذرًا، وإلا قد تُلغى مجموعة الدردشة خاصتنا.»

رد لي: «تفيد آخر الأخبار بتأكيد إصابتهم بفيروس كورونا، ولكن سلالة الفيروس الدقيقة تخضع للتصنيف الآن. لا تنشروا هذه المعلومات خارج هذه المجموعة، وأخبروا عائلاتكم وأحباءكم أن يتخذوا التدابير الاحتياطية.»

على الرغم من رغبة لي الشخصية في الحفاظ على خصوصية رسائله، انتشرت لقطات شاشة من منشوراته كالنار في الهشيم في الصين في غضون ساعات. وفي اليوم التالي؛ أي في الحادي والثلاثين من ديسمبر ٢٠١٩، أكد مسئولو الحكومة الصينية في ووهان أن العشرات من المرضى يتلقون العلاج من سلالة جديدة من فيروس كورونا.

في الثامن من يناير ٢٠٢٠، فحص لي امرأة تعاني من زَرَق العين متضيق الزاوية. بعد فترة وجيزة، أصيبت المريضة، التي تبين لاحقًا أنها كانت تعمل في سوق هوانان للمأكولات البحرية، بحمى، وجاءت نتيجة اختباراتها إيجابية لفيروس كورونا. أصيب لي أيضًا بوعكة صحية شديدة، ونُقل إلى وحدة العناية المركزة في مستشفاه. وقد أثارت منشوراته الأولى على «وي تشات» انتقادات من الحكومة الصينية، التي اتهمت لي ﺑ «ترويج الشائعات»، وأجبرته على التوقيع على بيان يعترف فيه بالإدلاء بتصريحات كاذبة أخلت بالنظام العام. وفي نهاية يناير، أجرت صحيفة «نيويورك تايمز» مقابلة مع لي، وسألته عما يخطط للقيام به بعد تعافيه. أجاب لي: «سأنضم إلى العاملين في المجال الطبي في مكافحة الوباء. فهنا تكمن مسئولياتي.»

تُوفي لي وينليانج في السابع من فبراير لعام ٢٠٢٠. وقد ترك وراءه ابنًا وزوجة، أنجبت طفلهما الثاني في يونيو ٢٠٢٠. ونظرًا إلى كونه من أوائل الأشخاص الذين أطلقوا جرس الإنذار بشأن ما سيصبح لاحقًا وباءً عالميًّا كارثيًّا، لاقى لي استحسانًا وإشادة باعتباره أول من أماط اللثام عن الكارثة. وقد أثارت وفاته موجة من الحزن العام والغضب تجاه الحكومة. في مستشفى ووهان المركزي، أطلق الزملاء والمواطنون الصافرات تكريمًا لذكراه. وأثبتت التحقيقات الحكومية براءته من أي مخالفات، وسُحب بيان الاتهام الذي وجِّه إليه، وقُدِّم اعتذار لعائلته. ومُنح لي رسميًّا لقب «شهيد»، وهو أعلى لقب شرفي مدني في الصين.

في غضون ذلك، انتشر الفيروس، الذي اشتُبه في أن منشأه سوق مفتوحة للمأكولات البحرية والحيوانات البرية، بالفعل خارج الصين بسرعة لا تُصدق. ففي الثالث عشر من يناير عام ٢٠٢٠، أبلِغ عن حالة في تايلاند. وفي العشرين من يناير، اكتُشفت أول حالة أمريكية في ولاية واشنطن لمريضٍ كان قد عاد من مدينة ووهان الصينية قبل خمسة أيام. وفي الثالث والعشرين من يناير، أغلقت الصين ووهان، وأوقفت جميع وسائل النقل العام ومنعت السفر من وإلى المدينة التي يبلغ عدد سكانها ١١ مليون نسمة. وفي الثلاثين من يناير، أعلنت منظمة الصحة العالمية حالة طوارئ صحية عالمية، وفي اليوم التالي، فرضت إدارة ترامب قيودًا على دخول المسافرين من الصين إلى الولايات المتحدة. في ذلك الوقت، قدِّر عدد الحالات بنحو ١٠ آلاف حالة في ١٢ دولة تقريبًا.

في الحادي عشر من فبراير، سُمي المرض الذي يسببه فيروس كورونا المستجَد رسميًّا «كوفيد-١٩»، وهو اختصار بسيط لكلمات «مرض فيروس كورونا ٢٠١٩». وبحلول منتصف مارس، انتشر الفيروس في جميع أنحاء العالم، مزلزلًا العالم الذي لم يكن مستعدًّا لذلك، ومستنزفًا موارد كل الدول. في الولايات المتحدة، أُلغيت الحفلات الموسيقية والمواكب والأحداث الرياضية والمؤتمرات. وأصبح ارتداء الأقنعة شائعًا في كل مكان. وأغلقت المدارس والجامعات أبوابها وتحولت إلى التعلم عن بُعد. وبحلول أبريل، فَقدَ ما يقرب من ١٠ ملايين أمريكي وظائفهم، وتقدم ٦٫٦ ملايين بطلب للحصول على مزايا البطالة (كان الرقم القياسي السابق ٦٩٥ ألفًا في عام ١٩٨٢).

أخِذت الحكومة الأمريكية والأمريكيون جميعًا على حين غرة. فالأجيال الكاملة التي لا تذكر وباء الإنفلونزا الإسبانية ١٩١٨-١٩١٩ الذي قتل نحو ٥٠ مليون شخص في جميع أنحاء العالم، وبالكاد تذكر شلل الأطفال، لم تتخيل يومًا إلى أي مدى قد يعكر مرض معدٍ حياتهم اليومية. كانت الأوبئة في الماضي القريب، وفي ذلك السارس وإنفلونزا الطيور والإيبولا مشكلات بعيدة؛ فهي أمراض تصيب الأجانب عبر البحار، لا الأمريكيين. تأثر تعامل الأمريكيين مع كوفيد-١٩ سلبًا بسبب عدم كفاية الفحوصات، وعدم كفاءة تتبُّع المخالطين للمرضى، وعدم كفاية المعدات الواقية الشخصية، ونقص المستلزمات الطبية ولا سيما أجهزة التنفس. ارتفعت حالات الإصابة والوفيات في أمريكا ارتفاعًا صاروخيًّا، لتتصدَّر أرقام العالم. وهكذا، استطاع فيروس أن يُخضِع أمة نسيت قوة الأمراض المعدية. وعلى الرغم من تجريب أدوية كثيرة في محاولات يائسة لمكافحة الفيروس، لم يثبت أن أيًّا منها هو الدواء الشافي الذي كان الكثيرون يصلون من أجله.

الأمل الوحيد للعالم سيكون لقاحًا.

لكن الإطار الزمني لتطوير لقاح جديد، وفي ذلك الدراسات ما قبل السريرية والتجارب البشرية وموافقة الجهات التنظيمية، كان يتراوح عادة بين خمسة أعوام وخمسة عشر عامًا. كم مليون شخص سيموتون قبل أن يحدث ذلك؟

سيتطلب تسريع تصنيع لقاحٍ، لمكافحة هذا التهديد الاستثنائي بسرعة، نهجًا استثنائيًّا جديدًا لم يُجرَّب من قبل. وبفضل مجموعة من الأبطال المجهولين، كانت هذه الاستراتيجية الجديدة جاهزة لتتصدَّر المشهد.

وقد استغلت هذه الاستراتيجية قوة الحمض النووي الريبوزي المرسال.

الحمض النووي الريبوزي المرسال

في الثامن والعشرين من يونيو عام ١٨٠٢، تلقَّى الطبيب الإسباني فرانسيسكو خافيير دي بالميس أمرًا من الملك. كان نواب الملك في العالم الجديد يتوسلون إلى الملك تشارلز الرابع كي يساعدهم في مكافحة وباء الجدري؛ لذا أرسل تشارلز بالميس في مهمة خاصة، تمثَّلت في بعثة لم يسبق لها مثيل من قبل.

كُلِّف بالميس بإحضار لقاح إدوارد جينر إلى سكان قارة بأكملها. ولكن كيف يمكنه نقل فيروس الجدري البقري الحي عبر المحيط الأطلسي؟ لم يكن لديه وسيلة للتبريد أو طريقة للتخزين النظيف. ولم يكن في إمكانه وضع قطعان من الأبقار على السفينة الكورفيت الخاصة بالبعثة، والتي تُسمى «ماريا بيتا». وهكذا بدا طلب الملك مستحيلًا.

ثم فكر بالميس في طريقة، وهي الاستعانة بالأيتام.

وضع خطة لضم ٢٢ يتيمًا إلى الرحلة. سيكون الأولاد، جميعهم بين الثامنة والعاشرة من العمر، بمنزلة حاضنات بشرية متسلسلة لفيروس جدري البقر. سيصيب بالميس طفلَين بالعدوى في البداية، بعدها سينقل الفيروس تدريجيًّا إلى الأطفال الآخرين، واحدًا تلو الآخر، بحيث تنتقل العدوى تدريجيًّا بالتتابع، كأنها شعلة أوليمبية، بحيث تظل العدوى نشِطة إلى أن يصلوا إلى أمريكا الجنوبية.

أدخلت بعثة بالميس التي استمرت سنتين ونصف السنة لقاح الجدري إلى ما يُعرف الآن بكوبا والمكسيك وفنزويلا وكولومبيا وبيرو وبوليفيا. وجدَّد مجموعة الحاضنات البشرية لديه بالحصول على ٢٥ يتيمًا جديدًا في المكسيك، وانطلق عبر المحيط الهادئ إلى الفلبين. ثم أبحر إلى ماكاو وتوجه غربًا لإتمام رحلة ملاحية كاملة حول العالم. وأدى الفيروس الذي تم تناقله بين الاثنين وعشرين يتيمًا منذ البداية إلى التطعيم الناجح لمليون ونصف مليون شخص.

تُعد هذه البعثة الطبية الإنسانية الرائعة فريدة من نوعها في سجلات التاريخ، إلا إنها تساعدنا اليوم على فهم حقيقة وتحدٍّ بالغَي الأهمية. خضعت جميع اللقاحات التي أنتِجت منذ بداية تطويرها إلى الآن — من جينر إلى باستور إلى سابين ومَن أعقبهم — لعملية تتضمن اكتشاف اللقاح وإنماءه ونقله وتعديله؛ كل هذا في الخلايا الحية. تكلف تطوير لقاح سولك لشلل الأطفال حياة عشرات الآلاف من القردة التي رُبيت في مزارع لغرضٍ واحدٍ فقط، وهو أن تكون في يوم من الأيام حاضنات لعلماء الفيروسات. تتطلب إمدادات أمريكا من لقاح الإنفلونزا كل عام استخدام نحو ١٤٠ مليون بيضة تعمل حاضنات حية يُنمَّى فيها الفيروس. وهكذا كانت الكائنات الحية البيولوجية والخلايا هي الطريقة الوحيدة لإنتاج اللقاحات منذ نشأة علم الفيروسات باعتباره تخصصًا.

وحتى الآن.

•••

في أوائل الألفية الثالثة، كان أي شخص ينظر إلى مسيرة اختصاصية الكيمياء الحيوية في جامعة بنسلفانيا كاتالين كاريكو، لا ينبهر بدرجة كبيرة. فعلى الرغم من أن قصتها الشخصية كانت جذابة — إذ هاجرت من المجر في عام ١٩٨٥ بصحبة عائلتها التي حملت معها إجمالي مدخراتها البالغ ١٢٤٦ دولارًا مخيَّطًا في دمية ابنتهم — فقد أخفقت كعالِمة أكثر مما نجحت. عملت كاريكو بكدٍّ على مدى عقود في مجال دراستها المختار، وهو علم الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA)، لكنها لم تتمكن قَطُّ من الفوز بما يكفي من التمويل الخاص بالمنح لارتقاء السُّلم الأكاديمي. ومن دون تمويل أبحاثها من خلال المنح، افتقرت إلى الأمان الوظيفي، كما أنها لم تكسب أكثر من ٦٠ ألف دولار في السنة.

غير أنها سعت بإصرارٍ لإثبات فكرة إمكانية الاستعانة بالحمض النووي الريبوزي المرسال يومًا ما لتوجيه الخلايا إلى إنتاج أدويتها الخاصة. إن الوظيفة الأساسية لكل خلية حية هي إنتاج البروتينات. تُكتَب الشفرة التي تحدد البروتينات التي تُنتج في الحمض النووي الكروموسومي داخل نواة كل خلية. يُستخدم شريط الحمض النووي القالب هذا لتكوين شريط مكمل من الحمض النووي الريبوزي المرسال يخرج من النواة ويتجه إلى ريبوسوم يقرأ بدوره تعليمات الحمض النووي الريبوزي المرسال لإنتاج سلاسل الأحماض الأمينية التي تُطوى لتشكيل البروتينات. تمثَّلت الفرضية التي يقوم عليها بحث كاريكو في أن غرس الحمض النووي الريبوزي المرسال الاصطناعي في خلية ما يمكنه السيطرة على القدرة الإنتاجية للخلية، ويحمل الريبوسومات على إنتاج أي بروتين ترغب فيه.

في عام ١٩٨٩، حققت كاريكو إنجازًا صغيرًا. فمن خلال التعاون مع الدكتور إليوت بارناثان، اختصاصي القلب في جامعة بنسلفانيا، استهدفت كاريكو توجيه تعليمات إلى الخلايا بصنع بروتين يُسمى مستقبِل اليوروكيناز. ولمعرفة ما إذا كانا قد نجحا في ذلك، استخدم الباحثان إنزيم اليوروكيناز الموسوم بالإشعاع الذي سيرتبط بالبروتين الجديد.

ونجحت العملية.

كانت الخلايا تنتج المنتج المطلوب؛ وكان الأمر يتم كما تمنى كاريكو وبارناثان. كانت القدرة على توجيه آليات الطبيعة إلى إنتاج بروتين حسب رغبة الإنسان أمرًا مثيرًا للغاية. قالت كاريكو فيما بعد لمراسل صحيفة «نيويورك تايمز» عقب التوصل إلى هذا الاكتشاف: «شعرت كأنني إلهة.»

لكن السنوات التي تلت هذا الإنجاز اتسمت بالإحباط. فقد باءت الطلبات التي أرسلتها كاريكو للحصول على منحة بالرفض مرارًا وتكرارًا، وفي عام ١٩٩٥، خُفِّضت درجتها الرسمية كأستاذ أبحاث مساعد. وبعد أن فقدت مكانتها الأكاديمية الرسمية في جامعتها، كان على كاريكو مواجهة الحقائق. كان من الممكن أن تفعل الشيء المتوقع، وهو الاستسلام وترك الحياة الأكاديمية لتشغل وظيفة براتبٍ أعلى في مجال صناعة الأدوية أو في شركة للتكنولوجيا الحيوية، لكن كاريكو لم تستطع أن تجبر نفسها على الاستقالة. فقد كانت تحب مجال البحث، وكانت مفتونة بالحمض النووي الريبوزي المرسال. لذا بقيت في الجامعة على الرغم من أنه لم يكن هناك أي ضمان أن وضعها سيتحسن أبدًا. ظلت تحضر إلى العمل في الساعة السادسة صباحًا وفي معظم عطلات نهاية الأسبوع، ملتزمة بمشروعاتها البحثية على الرغم من علمها بأن من يعتقدون أنها ستؤتي أي ثمار كانوا قلة.

ثم، في عام ١٩٩٧، غادر الدكتور بارناثان الجامعة، تاركًا كاريكو دون منصب على الإطلاق. فكافحت حتى حصلت على منصبٍ في مختبر لجراح أعصاب، ولكن بعد عامين، غادر ذلك الطبيب أيضًا. في هذه المرحلة، أدى لقاء عرضي حول آلة تصوير مستندات إلى تغيير حياة كاريكو، كما أسفر عنه تعاون مهم. فقد التقت باختصاصي المناعة درو وايزمان. وقالت له كاريكو: «أنا عالمة متخصصة في الحمض النووي الريبوزي، يمكنني صنع أي شيء بالحمض النووي الريبوزي.»

قرر وايزمان المجازفة من أجل إتاحة فرصة لكاريكو. وفي عام ٢٠٠٤، حققا إنجازًا. لسنوات، كانت العقبة الرئيسة أمام استخدام الحمض النووي الريبوزي المرسال في الحيوانات الحية أن الجهاز المناعي يعتبر الحمض النووي الريبوزي المرسال الاصطناعي جسمًا غريبًا؛ ويدمره قبل أن يتمكن من الوصول إلى خلاياه المستهدفة. اكتشفت كاريكو ووايزمان أنه في حالة إضافة جزيء يُسمى سُودويُورِيدِين إلى الحمض النووي الريبوزي المرسال الاصطناعي، سيكون في إمكانهما خداع الجهاز المناعي لقبوله باعتباره جزيئًا طبيعيًّا. واستخدما الحمض النووي الريبوزي المرسال الاصطناعي كي يستحثا خلايا القردة لزيادة إنتاج الإريثروبويتين (بروتين يحفز الجسم على إنتاج خلايا الدم الحمراء)؛ وعندما أدت هذه الطريقة نفسها إلى زيادة عدد خلايا الدم الحمراء في الفئران، عرفا أنهما نجحا. وأدركا أن طريقتهما يمكن أن تُستخدم لمساعدة الجسم على إنتاج أي عدد من البروتينات المفيدة: الإنزيمات والهرمونات، والعوامل الدوائية الطبيعية، واللقاحات.

لفتت تقارير كاريكو وايزمان العلمية انتباه شركتين ناشئتين في مجال التكنولوجيا الحيوية: شركة تقع في كمبريدج في ماساتشوستس، تُدعى «موديرنا»، وشركة ألمانية تُدعى «بيو إن تك». في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة، كانت هاتان الشركتان تعملان على تطوير لقاحات ضد الفيروسات، مثل الفيروس المضخم للخلايا وفيروس زيكا.

ثم ظهر فيروس كوفيد-١٩. ففي العاشر من يناير لعام ٢٠٢٠، شارك العلماء الصينيون التسلسل الجيني لفيروس كورونا الجديد (فيروس سارس-كوف-٢) مع العالم. وفي غضون ساعات، طورت «بيو إن تك» لقاحًا من الحمض النووي الريبوزي المرسال باستخدام الشفرة. وقامت «موديرنا» بالشيء نفسه في غضون يومين. كان من الضروري، في سبيل تحقيق النجاح، أن تحدِّد كلتا الشركتين الجزء من الشفرة الذي ينتج عنه البروتين الشوكي لفيروس كورونا، وهو جزيء فريد يبرز من الجزء الخارجي للفيروس. إذا استطاع لقاح ما أن يحفز بعض الخلايا مؤقتًا لإنتاج البروتين الشوكي فقط، فسيكون هذا كافيًا للحصول على التعرف المناعي وإعطاء فرصة للجسم كي يقضي على أي عدوى مستقبلية بفيروس كوفيد-١٩ بسرعة. وقد أتاحت معرفة شفرة الحمض النووي ذي الصلة للباحثين تجميع التسلسل نفسه باستخدام النيوكلوتيدات الحرة. يتحول هذا الحمض النووي إلى الحمض النووي الريبوزي المرسال خلال عملية النسخ، ويُغلف بعد ذلك بفقاعة شحمية تحميه إلى أن يتمكن من دخول الخلية.

بعد ٤٢ يومًا فقط من الكشف عن الشفرة الجينية، أرسلت شركة «موديرنا» عينات من لقاحها التجريبي إلى المعهد الوطني للصحة للفحص. وبعد أقل من تسعة أشهر، تحديدًا في الثامن من نوفمبر عام ٢٠٢٠، أظهرت نتائج دراسة أجرتها «بيو إن تك» بالتعاون مع شركة «فايزر» (كانت «بيو إن تك» قد عقدت شراكة مع «فايزر») أن لقاحهما كان ناجحًا جدًّا؛ إذ حقق فاعلية بنسبة ٩٠ في المائة ضد كوفيد-١٩. وسرعان ما أظهرت تجربة لقاح موديرنا نجاحًا مماثلًا.

لأول مرة في التاريخ، لم يعُد تكوين لقاح يعتمد على الإنماء أو الإضعاف، أو النقل من خلال مزرعة خلايا، أو نموذج حيواني، أو يتيم تعيس الحظ. فيكفي الآن معرفة تسلسل نيوكلوتيدات الحمض النووي اللازمة لإنتاج المنتج المطلوب أو بالأحرى البروتين المطلوب. ولهذا السبب، تُشبَّه صناعة الأدوية الآن ببرمجة الكمبيوتر. فيجمع العلماء التعليمات، التي يمكن تعديلها وتكييفها كما يشاءون، ويرسلونها إلى خلايا الجسم، التي تتولى كل العمل بعد ذلك. وعلى عكس كل لقاح صُنع على الإطلاق من فيروس موهن، وفي ذلك لقاح سابين، من المستحيل أن يسبب لقاح لكوفيد-١٩ يقوم على الحمض النووي الريبوزي المرسال أي إصابة بكوفيد-١٩ للمريض؛ لأن البروتين المُنتَج ليس الفيروس؛ بل مجرد قطعة صغيرة من الغلاف الفيروسي، عبارة عن بروتين شوكي غير ممرض لفيروس كورونا.

أصبح من المعترف به الآن أن تقنية الحمض النووي المرسال التي ابتكرتها كاريكو ووايزمان لها قدرات هائلة، ومن الصعب المبالغة في تقديرها. سنوات قليلة فقط قد تفصلنا عن التوصل إلى لقاحات ضد كثير من الفيروسات الأكثر خطورة، وفي ذلك فيروس نقص المناعة البشرية والإيبولا وإنفلونزا الخنازير (إتش ١ إن ١) وفيروس زيكا. قد يصبح من الممكن توجيه الخلايا إلى إنتاج الهرمونات، ربما حتى الإنسولين، حسب الطلب. وبالنسبة إلى المرضى الذين يعانون من أمراض القلب، قد يكون من الممكن استثارة الخلايا لإنتاج مستويات مستمرة من العوامل المفيدة الموسعة للأوعية الدموية مثل أكسيد النيتريك. من الممكن أيضًا كتابة تسلسل الخلايا السرطانية للمريض لتكوين لقاح مخصص يهيئ الجهاز المناعي لمهاجمة الخلايا السرطانية دون المساس بخلايا الجسم الطبيعية.

كان التطوير السريع للقاحات كوفيد-١٩ في غضون عشرة أشهر فقط معجزة حقيقية للعلوم الحديثة. ولكن قبل أن يأخذنا الولع بتمجيد ذكائنا، سيكون من الحكمة أن ندرك المذلة الشديدة التي عرضتنا لها الأمراض المعدية. فعلى الرغم من أن التطورات الهائلة المدوَّنة في هذه الصفحات قد أنزلت الأمراض المعدية من المرتبة الأولى التي كانت تحتلها في قائمة الأمراض القاتلة عالميًّا، فإنها لا تزال مسئولة عن ثلثَي وفيات الأطفال في جميع أنحاء العالم، وما يتراوح بين ربع وثلث إجمالي الوفيات في العالم النامي. وقد أظهر التاريخ الحديث أنه في كل عقد تقريبًا، تظهر عدوى جديدة لتصبح سببًا في وباء إقليمي، وأن الجوائح العالمية تحدث مرة واحدة تقريبًا كل قرن.

كان في الدروس التي تعلمها العالم من كوفيد-١٩ صحوة وإثارة للفكر. لقد كانت الاستجابة العالمية بلا شك متأخرة وبطيئة للغاية. وفي كثير من الجوانب، لم تكن استجابتنا للجائحة مختلفة عن استجابة أهل العصور الوسطى، عندما كانت الأوبئة تدفع الناس إلى الاختباء في منازلهم وعزل المرضى ووقف التجارة وتجنب الأجانب. فكلما أعمى الجهل والخوف بصائرنا، مالت تكتيكاتنا نحو مزيدٍ من البدائية وعدم الدقة. لقد تسبب اندلاع فيروس إنفلونزا الطيور (إتش ٥ إن ١) في هونج كونج عام ١٩٩٧ في ست وفيات، ودفع إلى قتل أكثر من مليون ونصف مليون دجاجة. وتسبب اندلاع فيروس الإنفلونزا إتش ٧ إن ٧ في هولندا في عام ٢٠٠٣ في مقتل شخص واحد، وأدى إلى ذبح ما يقرب من ٣٠ مليون دجاجة.

نحن نتخذ هذه الإجراءات الدرامية لأننا نفتقر إلى المعرفة بحلولٍ أكثر ذكاءً. ومن ثَم، بينما يخرج العالم ممتنًّا من فوضى جائحة كوفيد-١٩، علينا ألا نقاوم أي رغبة في الاحتفاء بأنفسنا، وأن نتذكر أن أعظم المزايا ستأتي من دروس فشلنا.

تلك الدروس عديدة وبعض الدروس الأكثر أهمية لا علاقة لها بالتكنولوجيا أو حتى رعاية المرضى. يمكننا أن نخطو خطوات واسعة ببساطة عن طريق تحسين الصرف الصحي الأساسي ومعدلات التطعيم حول العالم. فتدابير بسيطة، مثل ضمان تأمين الموارد الكافية للاختبارات الطبية، وتتبُّع المخالطين للمرضى والأدوات الواقية الشخصية، ستساهم كثيرًا في رفع مستوى الثقة بالحكومات والقادة خلال الجائحة التالية. إن تجميع اللوازم والمعدات الطبية المتخصصة، مثل أجهزة التنفس، بالإضافة إلى الجاهزية لنقل هذه الأدوات بسرعة إلى الأماكن التي تحتاج إليها، ليست مهامَّ صعبة عند التخطيط لها مسبقًا. والاستثمارات المستقبلية في البنية الأساسية للرعاية الصحية وتكنولوجيا الاختبار، وتحسين الإشراف الصحي، والبحث الطبي أمورٌ بالغة الأهمية.

إن الضرورة تحتم أن نتعلم من الصعاب التي قاسيناها. وعلينا أن نفخر بشدة بالتقدم المحرز ضد الأمراض المعدية خلال المائة والخمسين عامًا المنقضية. لكن علينا أيضًا أن ندرك أننا نخوض حربًا بلا نهاية ضد العدوى، بغض النظر عن عدد المعارك التي نكسبها.

١  على الرغم من أن معظم المرضى لا يحتاجون إلى الرئات الحديدية إلا خلال المرحلة الأسوأ والأكثر حدة من المرض، أمضى بعضهم شهورًا، بل سنوات من حياتهم داخلها بالكامل.
٢  تشير المصطلحات polio وmyelo وitis إلى كلٍّ من المادة الرمادية، والحبل الشوكي، والالتهاب على التوالي.
٣  فاز لاندشتاينر لاحقًا بجائزة نوبل عن اكتشافه فصائل الدم الأربع: A, B, AB, O.
٤  قتل الجدري الذي نقله الأوروبيون إلى أمريكا الشمالية عشرات الآلاف من الأمريكيين الأصليين. وفي عام ١٨٠٧، أرسل تحالف من خمس قبائل، هي موهاوك، وأونونداجا، وسينيكا، وأونيدا، وكايوجا، إلى جينر حزامًا من الصدف تعبيرًا عن امتنانهم لتطوير طريقة التطعيم ضد الجدري.
٥  نجح لقاحهما في وقاية ملايين من الجنود المريكيين من الإصابة بالحمى الصفراء في أثناء أداء مهامهم العسكرية في المناطق الاستوائية، مثل جنوب المحيط الهادي إبان الحرب العالمية الثانية. وقد نال تيلر جائزة نوبل في عام ١٩٥١ عن عمله هذا.
٦  تقاسم إندرز وويلر وروبينزز جائزة نوبل عن هذا الاكتشاف في عام ١٩٥٤.
٧  كان هذا المبلغ يعادل نحو خمسة عشر سنتًا للمواطن الأمريكي الواحد في عام ١٩٥٥. وبقيمة الدولار في عام ٢٠٢٢، تصل التكلفة الإجمالية إلى نحو ٢٧٨ مليون دولار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤