السرطان
كان الطفل إينار جوستافسون البالغ من العمر أحد عشر عامًا من عشاق فريق بوسطن بريفز لكرة القاعدة. كان يتابعه بانتظام، على الرغم من أن الحظ لم يحالفه لحضور مباراة له. فقد كانت مزرعة البطاطس التابعة لعائلته بالقرب من نيو سويدن في مقاطعة مين تقع على بُعد أقل من ٣٠ ميلًا من الحدود الكندية. وكانت بوسطن على بُعد ما يزيد على ٤٠٠ ميل، وهي مسافة تستغرق يومًا كاملًا بالسيارة. ومع ذلك، كان البث الإذاعي لمباريات بريفز يجعلها تنبض بالحياة، إلى درجة أن إينار كان يعرف كل شيء عن كل لاعب في تشكيل الفريق. وفي نهاية صيف عام ١٩٤٧، كان يصلي من أجل أن يتمكن بريفز من اللحاق بفريق بروكلين دودجرز والمنافسة على بطولة الدوري الوطني.
اعتاد إينار، الذي نشأ في أحضان براري مين الشمالية، الحياة في الهواء الطلق. ففي كل يوم دراسي، كان يذهب سيرًا على الأقدام إلى مدرسة مكونة من غرفة واحدة لحضور الحصص. كان نحيفًا ذا وجه بشوش وملامح جادة صادقة كوجوه غلمان الجوقة. وعلى الرغم من أنه كان كثير التأمل وانطوائيًّا، فإنه لم يكن خجولًا. بل في بعض الأحيان كان يبدو واثقًا ومتأكدًا من نفسه أكثر من الطبيعي.
ذات يوم، بدأ إينار يشعر بتقلصات معدية غريبة في أثناء سيره إلى المدرسة. تفاقم هذا الألم تدريجيًّا حتى تحول إلى ألم حاد في البطن. أخذه والداه إلى بلدة كاريبو المجاورة، وهناك لم يكن الأطباء على معرفة بما كان يعاني منه. أجروا له جراحة، لكنها لم تكن شافية. بعد ذلك، أُرسِلت الأسرَّة إلى مستشفى أكبر في مدينة لويستون، التي تقع على بُعد ٢٢٠ ميلًا جنوبًا، حيث رأى أحد الجراحين أن إينار ربما يعاني من حالة متطورة من التهاب الزائدة الدودية. وافق والدا إينار اللذان اعتصرهما القلق على إجراء جراحة ثانية. فتفاجأ الجراح بأن الزائدة الدودية لإينار لم تكن ملتهبة أو مصابة بعدوى. بل وجد بدلًا من ذلك مشكلة مختلفة تمامًا وحددها، وكانت عبارة عن ورم.
استُئِصل الورم، وأُجري التشخيص أخيرًا. وعندما سمع والد إينار الأخبار بكى، مما أثار أعصاب إينار لأن والده الحمول نادرًا ما يظهر عواطفه. شُخِّص إينار بشكل نادر من السرطان وهو اللمفوما أو سرطان الغدد اللمفاوية. لم يكن استئصال الورم ليُشفي إينار، ولكن لم يكن هناك شيء آخر يمكن للأطباء فعله من أجله. فقد كان تسعون في المائة من الأطفال المصابين بهذا التشخيص مصيرهم الموت، وأغلب الظن، لن يتبقى لإينار إلا نحو ستة أسابيع فقط.
قبل القضاء على الأمل بالكامل، أخبر الأطباء في لويستون الزوجين جوستافسون أنه قد يكون هناك مكان أخير يمكنهم أخذ إينار إليه. كان هناك أطباء في مستشفى بوسطن للأطفال يستقبلون الأطفال المصابين بسرطانات الدم مثل اللوكيميا. لسوء الحظ، كان كل هؤلاء الأطفال يموتون؛ إذ كان سرطان الدم مميتًا دائمًا، لكنهم قد يقدمون بعض العلاجات التجريبية. إذا كان هناك أي شيء آخر يمكن القيام به حيال لمفوما إينار، فهؤلاء الأطباء هم من يعرفون هذا الشيء.
كانت محاولة يائسة، لكن حتى أقل فرصة لإيجاد علاج كانت أفضل من عدم وجود فرصة على الإطلاق. وأخذ الزوجان جوستافسون ابنهما إلى بوسطن. وما حدث لهم هناك كان من شأنه أن يغيِّر حياتهم جذريًّا، وحياة الآلاف من الأطفال الذين يشبهون إينار.
«حربنا» على السرطان
يتلقى نحو ١٫٩ مليون أمريكي كل عام الخبر السيئ بأنهم مصابون بالسرطان. فقد تسبَّب السرطان في وفاة ٢١ في المائة في الولايات المتحدة؛ أي ما يقرب من ٦٠٠ ألف حالة وفاة سنويًّا. ووفقًا لبعض التقديرات، فإنه سيقتل في النهاية واحدًا من كل ثلاثة منا. وعلى الرغم من أن الأطباء قد حاربوا السرطان بضراوة على مدى أكثر من قرن، فإنه لم يُعتبَر قاتلًا رئيسيًّا إلى أن تغلَّبنا على تفشي كثير من الأمراض المعدية، وزاد متوسط العمر المتوقع إلى النطاق الذي يظهر فيه كثير من الأورام. بحلول عام ١٩٣٨، أصبح السرطان ثاني أكثر الأمراض فتكًا في الولايات المتحدة، لا يتقدمه سوى مرض القلب فقط. احتفظ السرطان بالمركز الثاني منذ ذلك الحين؛ ولكن في الوقت الذي أخذت فيه وفيات مرض القلب في الانخفاض بانتظامٍ في القرن العشرين، ارتفعت وفيات السرطان، مما ضيَّق الفجوة بدرجة كبيرة. إذن مع كل التقدم التكنولوجي المذهل الذي شهدناه خلال الخمسين عامًا الماضية، من الإنترنت إلى الخدمات السحابية، ومن مشروع الجينوم البشري إلى التقدم الهائل المحرز في كل التخصصات الطبية الأخرى تقريبًا، لماذا كان تحقيق تقدُّم مكافئ في علم الأورام بهذه الصعوبة؟
الإجابة معقدة للغاية حقًّا، كما سيتبيَّن بوضوح. ولكن في الوقت نفسه، فإن قصة علم الأورام الآخذة في التطور باستمرار مليئة بإنجازات مدهشة تفوق حد التصديق، بعضها جاء بفضل الحظ أو العزيمة أو العمل الشاق. فقد أظهر الرواد، الذين سعوا لمواجهة هذا العدو القاتل والخادع، شجاعة وثباتًا لا مثيل لهما؛ لأن مرضاهم كانوا يموتون دائمًا. فليس من الهيِّن على الفرد أن يخوض معارك خاسرة لا محالة. وليس من السهل إخضاع المرضى لعلاجات غير مثبَتة من شأنها أن تفاقم مرضهم، أو حتى قد تعجل بوفاتهم، للحصول على مزايا متواضعة للغاية لا تتجاوز مجرد بضعة أسابيع أو أشهر تضاف إلى عمر المريض. ولكن هذا بالضبط ما فعله العديد والعديد من أطباء الأورام الثوريين.
السرطان، في الحقيقة، مصطلح يصف أكثر من مائة مرض مختلف. تنشأ جميعها عمومًا من المشكلة الأساسية نفسها، وهي الانقسام الخلوي العشوائي غير المحكوم وغير المرغوب فيه، لكن السرطان متنوع بدرجة ملحوظة. وكل عضو في الجسم تقريبًا معرض للإصابة به. تتنوع درجات انتشار الأورام الخبيثة وطبيعتها وتوقعات سير المرض لدى المصاب تنوعًا كبيرًا. فبعض الأورام تبقى خاملة ومقيدة من دون أن تنتشر، بينما تنتشر أخرى بسرعة إلى أماكن بعيدة في الجسم. يمكن أن يحدث تنوع كبير حتى داخل نوع السرطان نفسه، كما هو الحال مع سرطان الدم الذي يمكن أن يظهر في صورة حادة وشرسة تقتل المريض في غضون أسابيع، أو في صورة مرض مزمن خامل قد يظل مستقرًّا سنواتٍ.
هذا التباين يجعل السرطان مرضًا ليس كغيره من الأمراض. فهل هناك إذن أي غرابة في أننا قضينا معظم القرن الماضي نمضي بخطواتٍ متعثِّرة ومتقطعة وعشوائية في الغالب لمواجهة هذا العدو المتقلِّب المتغير الشكل؟ حلم الأطباء على مدى عقودٍ بإيجاد رصاصة سحرية يمكن أن تقتل جميع أنواع السرطان. وكان هذا الاعتقاد المتفائل يتناقض مع نقص معرفتهم، ويوضح لماذا بدا أن الاكتشافات المبكرة المتعلقة بالسرطان لم تكن نابعة من بحثٍ عقلاني قائم على أسس علمية، بل من اكتشافات حدثت عن طريق الطرق العملية التي تعتمد على التجربة والخطأ على نحوٍ غاشم، أو الصدفة البسيطة في بعض الأحيان.
في أعقاب الهبوط الناجح لمهمة أبولو على القمر، أعلن الرئيس ريتشارد نيكسون في مقولة شهيرة عن «حرب» طموحة على السرطان في عام ١٩٧١. لم تحرز هذه الجهود أي نجاح فحسب، بل كانت مضللة أيضًا على أصعدة عديدة. وبعد عقدين من الزمن، اتضح أننا لم نفز بالحرب على السرطان، ومعظم الأصوات الصادقة ستعترف بأننا حتى لم نكن نحقق أي تقدم نحو النصر.
ولكننا لم نكن نخسر تمامًا أيضًا. فقد أسفر تفاني عددٍ غير محدود من الأطباء، وشجاعة العديد من المرضى، عن تقدُّم أنقذ حياة مئات الآلاف من الأشخاص. في الواقع، عند النظر إلى قصور الممارسين الشديد في بداية هذه الرحلة، يبدو التقدم الذي تم خلال الخمسين عامًا الماضية أقرب إلى معجزة بعض الشيء.
الاستئصال أم الإشعاع
تمثَّل منهج هالستيد البسيط للتعامل مع السرطان في استئصاله. ولكن كانت هناك مشكلة. أحيانًا، حتى بعد أن يُستأصل الورم بالكامل، يظهر السرطان مرة أخرى بعد أشهر أو سنوات في المناطق المحيطة بموضع الاستئصال. ومن ثَم، يعيد الجراحون المرضى مرة أخرى إلى غرفة العمليات لإزالة السرطان من جديد. وإذا عاد مرة أخرى، في المنطقة نفسها أو على مسافة أبعد، كانوا يكررون العملية. كان حل هالستيد لهذا المأزق المتكرر هو استئصال الأورام الأولية مع إزالة مساحات أكبر من النسيج الموجود حول السرطان. وعلل ذلك بأن السرطان قد ينتشر مباشرة من الورم خارجًا؛ ولذا فإن أفضل طريقة للقضاء على الخلايا السرطانية غير المرئية التي تختبئ في ثنايا الأنسجة التي تبدو في ظاهرها طبيعية هو استئصال أكبر قدرٍ معقول من هذه الأنسجة.
في حالة سرطان الثدي، أسفر هذا التفكير عن اكتشاف هالستيد ما سيُعرف لاحقًا باسم «الاستئصال الجذري للثدي»، وذلك في عام ١٨٩٤، وهي عملية واسعة النطاق لا يُستأصل فيها الثدي فحسب، بل أيضًا العضلات الصدرية (عضلات جدار الصدر) الواقعة أسفل نسيج الثدي والعُقد الليمفاوية في الرقبة وتحت الإبط. وعلى الرغم من أن هذا الإجراء كان يسبِّب تشوهات كبيرة للمريضات، رأى الجراحون أنهم يلجَئُون إلى العنف قدر الإمكان بهدف مساعدة النساء؛ إذ من الأفضل أن تعيش المريضة مشوهة عن أن تفقد حياتها بسبب السرطان. في هذا الصدد، وصف جراح إنجليزي من جراحي القرن التاسع عشر النهج الأقل عنفًا بأنه «رفق في غير محله بالمريض». نجح الجراحون في إنقاذ كثير من النساء اللاتي ظلَّت أورامهن محصورة في موضعٍ محددٍ، ولم تنتشر بعد انتشارًا غير ملاحَظ إلى أجزاء أخرى من الجسم؛ ولكن في نسبة كبيرة من الحالات، كانت الأورام السرطانية تظهر مجددًا، وسرعان ما يتبع ذلك الوفاة.
أما الطريقة الثانية لعلاج السرطان، فيرجع منشؤها إلى عام ١٨٩٥، عندما توصَّل فيزيائي ألماني يُدعى فيلهلم رونتجن إلى اكتشاف عن طريق الصدفة. كان رونتجن منبهرًا بظاهرة «أشعة المهبط» (الكاثود) التي يولِّدها تيار كهربي داخل أنبوب كروكس زجاجي مفرَّغ. وقد تمكن من اكتشاف هذه الأشعة من خلال وهج شاشة مغطاة بسيانيد الباريوم البلاتيني، ومثبتة على مسافة قريبة جدًّا من الأنبوب (لا تتجاوز بضعة سنتيمترات فقط). في مساء الثامن من نوفمبر عام ١٨٩٥، قرر رونتجن تغليف أنبوب كروكس بالكامل بغطاء أسود من الكرتون حتى لا يتسرب إليه أي ضوء. فمن دون تداخل الضوء، اعتقد أنه سيكون قادرًا على رؤية الوهج الفلورسنتي على نحوٍ أفضل كثيرًا. لكن عندما بدأ في تعتيم المختبر، لاحظ ظهور ضوء خافت برَّاق يميل إلى اللون الأخضر في الغرفة. كان هذا الضوء ينبعث من شاشة الباريوم، القائمة على بُعد ست أقدام على الأقل لأنه لم يكن قد قرَّبها من أنبوب الكروكس بعد.
كانت تلك نقطة انطلاق لرونتجن. فقد كان يعرف أن أشعات الكاثود لا يمكن أن تنتقل إلى مسافة تزيد على بضعة سنتيمترات، وهو ما يعني أنها لن تقطع مسافة ست أقدام بالتأكيد. فأيًّا كان سبب هذا الوهج في أنحاء الغرفة، لا يمكن أن يكون أشعة الكاثود. واستنتج أنه لا بد من وجود نوعٍ مختلفٍ من أشعة غير مرئية، أطلق عليه اسم «الأشعة إكس» (أو الأشعة السينية كما نسميها)؛ لأن خصائص هذه الأشعة كانت مجهولة تمامًا. وجد رونتجن أن الأشعة السينية استطاعت اختراق حزمتَين من أوراق اللعب، وكتاب من ألف صفحة، وكتل خشبية سميكة. وبينما كان يحمل جسمًا أمام الشاشة، اكتشف شيئًا مدهشًا؛ إذ تمكن من رؤية عظام يديه! فأدرك أن هذه الأشعة يمكنها أن تخترق لحم الإنسان، ولكنها تتوقف عند العظام.
وسرعان ما أدت أخبار اكتشاف رونتجن إلى استخدام الأشعة السينية في علاج السرطان. وكان أول من فعل ذلك طالبًا بكلية الطب في شيكاغو يُدعى إيميل جروبيه، الذي احتل مكانة في التاريخ بوصفه أول من استخدم الإشعاع لعلاج ورم موضعي في عام ١٨٩٦. صنع جروبيه أنابيب الكاثود خاصته، وعند استخدامها، لاحظ أن جلد يده اليسرى أصبح منتفخًا وملتهبًا على نحوٍ مؤلمٍ بعد أن قرَّبها من الأنابيب. عندما أدرك أن الأشعة السينية أضرَّت بالأنسجة الطبيعية، حاول استخدامها لعلاج ورم في الثدي لدى امرأة مسنة عانت من تكرار الإصابة بالسرطان بعد استئصال الثدي. عالج جروبيه الورم على مدى ثمانية عشر يومًا متتالية. كانت تجربة مؤلمة للمريضة، لكن الورم بدأ تدريجيًّا في الانكماش. وعلى الرغم من أن المريضة قد تُوفيت في وقتٍ لاحقٍ بعد امتداد النقائل السرطانية إلى الدماغ، شجعت هذه النتيجة الواعدة المبدئية جروبيه على علاج مرضى آخرين يعانون من أورام موضعية. وهكذا وُلدت طريقة جديدة لعلاج السرطان، وهي العلاج الإشعاعي.
في هذه الأثناء، في فرنسا، أدى اكتشاف وجود أشعات غير مرئية مماثلة يمكن أيضًا أن تنشأ تلقائيًّا من معادن طبيعية المنشأ مثل اليورانيوم، إلى إلهام زوجَين من العلماء يُدعيان بيير كوري وماري كوري للبحث عن مواد «مشعة» أخرى. وفي عام ١٨٩٨، اكتشف الزوجان كوري أن معدِنًا مركبًا يُدعى بيتشبليند (أو يورانينينت) يحتوي على عنصرين؛ البولونيوم، الذي سُمِّي على اسم موطن ماري الأصلي وهو بولندا، والراديوم، الذي اشتُق اسمه من الكلمة اللاتينية التي تعني «إشعاع». في سبيل إثبات وجود الراديوم، تحمَّلت ماري أربع سنوات من العمل الشاق في طحن أطنان من البيتشبليند وتسخينها وإذابتها وترشيحها في مخزن خشبي متهدم. وأخيرًا، تمكنت من استخلاص عُشر جرام من الراديوم النقي في عام ١٩٠٢.
لسوء الحظ، أفسد جهل ماري كوري بالآثار الضارة للإشعاع نشوة انتصارها. ففي أثناء التعامل مع البيتشبليند، أصبحت بشرة يدَي ماري محترقة ومسودة. وأدى التعرض للإشعاع في النهاية إلى إلحاق الضرر بنخاع عظمها، وتسبَّب لها في الإصابة بفقر الدم اللاتنسجي، الذي أودى بحياتها في عام ١٩٣٤. ومع ذلك، أدرك الزوجان كوري أن الراديوم يبشِّر بطريقة جديدة لعلاج السرطان، أقل خطورة وتشويهًا من الجراحة. ولم يمضِ وقت طويل حتى بدأ الأطباء في استخدام الراديوم لعلاج سرطانات الجلد السطحية. وأمكن إدخال حبيبات الراديوم جراحيًّا لمكافحة الأورام الأعمق.
ولكن على الرغم من هذه الخطوات التقدمية المبكرة، ظل التشخيص بمرض السرطان يحمل نفس التوقعات المروعة بالموت المؤكد في معظم الحالات. فلم توفر الجراحة والإشعاع سوى بصيص من الأمل للأفراد المصابين بأورامٍ موضعية. لم يكن هناك أي حائط دفاع ضد خلايا السرطان غير المرئية التي كثيرًا ما تتسلل خلسة إلى بعيد، دون أن يتم اكتشافها، لنثر بذور السرطان في أجزاء أخرى مترامية من الجسم.
سيمضي ما يقرب من نصف قرن قبل أن يشير إنجاز من نوعٍ جديدٍ إلى نهج مختلف لعلاج السرطان.
«الهجوم الثاني على بيرل هاربور»
في الثاني من ديسمبر عام ١٩٤٣، كان ميناء باري، وهي مدينة على الساحل الجنوبي الشرقي لإيطاليا، تعج بسفن الحلفاء. كانت ناقلات النفط وسفن الشحن المليئة بالذخيرة والإمدادات قريبة جدًّا بعضها من بعض إلى درجة أن بعض أجسام السفن كانت متلامسة. كانت مدينة باري تقع في منطقة تخضع للاحتلال البريطاني. وعلى الرغم من أن الحكومة الإيطالية استسلمت بسرعة بعد عمليات الإنزال الأولى للحلفاء، بدا نظراؤهم الألمان عازمين على الحفاظ على إيطاليا بأي ثمن. ولتسريع عملية إنزال حمولة عددٍ ضخمٍ من السفن، عُلقت أوامر الإظلام المعتادة لباري. واعتقادًا من البريطانيين أن القوات الجوية الألمانية قد استُنزفت بشدة، اعتبروا احتمالات وقوع هجوم جوي من جانب العدو بعيدة. كانت الدفاعات المضادة للطائرات غير موجودة تقريبًا؛ إذ لم يكن هناك سوى بطارية مدفعية واحدة فقط تدافع عن المدينة. وفي عصر ذلك اليوم، أعرب المارشال طيار البريطاني سير آرثر كونينجهام عن ازدرائه للألمان عندما قال بغطرسة في مؤتمر صحفي: «سأعتبر الأمر إهانة شخصية وإساءة إذا حاولت القوات الجوية الألمانية اتخاذ أي إجراء خطير في هذه المنطقة.»
في تلك الليلة نفسها، في الساعة السابعة وخمس وعشرين دقيقة مساءً، هبط أسطول من ١٠٥ من قاذفات القنابل من طراز «يونكرز يو ٨٨» على باري، في هجوم ساحق استمر ٢٠ دقيقة فقط. نادرًا ما كان يتعرض أسطول من السفن للهجوم وهو بهذا القدر من عدم الاستعداد والافتقار إلى الحماية. أشعلت القنابل الألمانية سلسلة من الانفجارات بين السفن الراسية بعضها بجوار بعض، المحملة بالوقود والذخيرة. في المجمل، أُغرقت ١٧ سفينة، ولحقت أضرارٌ فادحة بثماني سفن. وضُرب خط لأنابيب النفط يقع على رصيف الميناء، مما تسبب في تدفق سيلٍ جارفٍ من الوقود إلى الميناء، حيث أشعل حريقًا وأذكاه. تلبدت السماء بالأدخنة؛ إذ غطت ألسنة اللهب والنفط سطح الماء أدناها. قفز الرجال من السفن المحترقة إلى مياه البحر الأدرياتيكي الباردة، وأنقِذ بعضهم وهم متجمدون من البرد والنفط يغطيهم. سقطت قنابل القوات الجوية الألمانية أيضًا على المدينة، مما أدى إلى تسوية المباني بالأرض، وقتْل المدنيين. وتجاوز العدد الإجمالي للقتلى، ويشمل ذلك البحارة والمدنيين، ألف شخص.
في الجيش، أصبح الهجوم معروفًا باسم «الهجوم الثاني على بيرل هاربور». وظل ميناء باري خارج الخدمة ثلاثة أشهر. عانى الحلفاء من كارثة تامة بكل المقاييس. وكان من الصعب تخيل أن تزداد الأمور سوءًا.
لكن هذا ما حدث.
حتى في خضم الهجوم، لاحظ كلٌّ من الرجال الذين يصارعون في الماء، والمدنيين الذين كانوا يهرعون بحثًا عن مخبأ، شيئًا غريبًا. كانت هناك رائحة أشبه برائحة الثوم المميزة أو ربما الخردل. كانت الرائحة منتشرة في أرجاء الميناء بقوة، ولم يعرف أحدٌ تفسيرًا للأمر.
كان السبب في غاية السرية. كانت إحدى سفن ليبرتي الأمريكية للشحن، وهي السفينة «جون هارفي»، تحمل شحنة سرية مكونة من ٢٠٠٠ قنبلة غاز خردل، كل واحدة تزن من ٦٠ إلى ٧٠ رطلًا. أدى حدوث انفجار على متن السفينة جون هارفي إلى انتشار السم، في صورة رذاذ في الهواء، وتسرُّبه في صورة سائلة إلى الميناء. وفي الماء، اختلط السائل السام بالنفط اللزج، وغطى مئات البحارة الذين يسبحون للنجاة بأرواحهم وسط ألسنة النيران والانفجارات. في الوقت نفسه، خيَّمت سحابة سامة فوق مدينة باري. كانت رائحة الثوم النفاذة تتخلل الهواء في كل مكان.
بسبب اكتظاظ المستشفيات بالمصابين بإصابات بالغة، تُرك الأشخاص الذين لم يصابوا بجروحٍ خطيرة ينتظرون في ملابس متسخة أو ملفوفين ببطانيات يومًا كاملًا. لو عرف الأطباء أن هؤلاء المرضى مغلَّفين بسائلٍ سام، لأمروا البحارة بالتخلص من ملابسهم والاستحمام على الفور. في المجمل، نُقل ٦٢٨ من الجنود إلى المستشفى نتيجة لتسممهم بالخردل، يعانون من أعراضٍ تراوحت من حروق كيميائية ممتدة وبثور، إلى التهاب القرنية الشديد والعمى المؤقت. وفي غضون شهر، تُوفي ٨٣ جنديًّا.
بدافعٍ من الخوف من أن اكتشاف العدو للحقائق قد يؤدي إلى هجوم كيميائي ألماني انتقامي، حاول الحلفاء التستر على كارثة غاز الخردل عن عمد. غير أن طبيبًا عسكريًّا يُدعى ستيوارت ألكسندر توصَّل إلى استنتاج صحيح بأن الأسلحة الكيميائية وحدها يمكنها تفسير مجموعة النتائج المرضية التي وجدها. وتأكدت شكوكه عند العثور على علبة قنبلة أمريكية سليمة تحتوي على سم الخردل في قاع الميناء. كان بروتوكول جنيف لعام ١٩٢٥، الذي وقَّعت عليه كلٌّ من ألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا، قد حظر استخدام الغاز السام في الحرب، لكنه لا يحظر حيازة مثل هذا الغاز. وقد زُعم أن غاز الخردل الأمريكي أحضِر إلى أوروبا من باب الاحتياط لاستخدامه في الانتقام حال بادر العدو باستخدامه.
في الأيام التي تلت الهجوم، لاحظ ألكسندر نتيجة غريبة ومدهشة بين الناجين من ضحايا غاز الخردل: كانت أعداد خلايا الدم البيضاء لديهم منخفضة للغاية. عادة ما يتراوح العدد الطبيعي لخلايا الدم البيضاء بين ٤٥٠٠ و١١ ألفًا لكل مليمتر مكعب (ميكرولتر). بينما كان عدد خلايا الدم البيضاء لدى بعض الضحايا في باري أقل من مائة. أدرك ألكسندر أن غاز الخردل أضرَّ بنقي العظام لدى المرضى حيث تُنتَج خلايا الدم البيضاء التي تحارب العدوى. وقد دفعه ذلك إلى التساؤل عما إذا كان من الممكن استخدام المادة الكيميائية لعلاج الأورام السرطانية المرتبطة بفرط إنتاج خلايا الدم البيضاء. وتذكر لاحقًا تفكيره آنذاك في أنه «بفرض أن الخردل يمكنه أن يفعل هذا، فماذا يمكن أن يفعل لشخصٍ يعاني من سرطان الدم أو الساركوما الليمفية؟» وبينما لاقى تأثير غاز الخردل على نقي العظام تجاهلًا كبيرًا خلال الحرب العالمية الأولى، ولم يخضع للدراسة كثيرًا بعد ذلك، منح حادث باري العلماء مجموعة كبيرة جدًّا من الضحايا البشر الذين يمكن دراستهم ومتابعتهم بعناية.
في الولايات المتحدة، لفت عمل ألكسندر انتباه الكولونيل كورنيليوس رودس، رئيس القسم الطبي في مركز الخدمات الحربية الكيميائية. وفي عام ١٩٤٤، نظَّم رودس تجربة سريرية سرية تضمنت ١٦٠ مريضًا بالسرطان عولجوا بالخردل الآزوتي، أحد مشتقات المادة الكيميائية المستخدَمة في غاز الخردل. أظهرت هذه الدراسة نتائج إيجابية لدى المرضى المصابين باللمفوما، وفي عام ١٩٤٩، كان أول علاج كيميائي للسرطان تُصدِّق عليه إدارة الغذاء والدواء عبارة عن شكلٍ من أشكال الخردل الآزوتي يُطلق عليه «موستارجين». وكان في صدارة فئة من عقاقير العلاج الكيميائي للسرطان، تُسمى «العوامل المؤلكِلة»، لا تزال مستخدمة اليوم.
بفضل الكارثة الهائلة التي وقعت في باري، بدأ العمل بطريقة جديدة في مكافحة السرطان. كانت الجراحة والإشعاع قادرَين على التصدي للأورام الموضعية المحصورة في موضع محدد، لكنهما لم يكونا كافيين لهزيمة سرطانات الدم أو السرطان المنتشر في جميع أنحاء الجسم. والآن، قدم العلاج الكيميائي إمكانية مغرية تمثَّلت في القدرة على قتل السرطان أينما كان يعيش.
مرض ميئوس منه
في أواخر الأربعينيات، كان سيدني فاربر رئيسًا لقسم علم الأمراض في مستشفى بوسطن للأطفال، وهو منصب مرموق ورفيع المستوى. كان يمكنه الاكتفاء بما حققه من إنجازات لبقية مسيرته المهنية. لكنه فعل شيئًا غير متوقع؛ إذ أعرض عن مجال علم الأمراض من أجل مواجهة أحد أكثر الأمراض المأساوية والميئوس منها في العالم، ألا وهو ابيضاض الدم أو سرطان الدم لدى الأطفال.
كان ابيضاض الدم أو اللوكيميا حكمًا بالإعدام بالنسبة إلى الأطفال. واللوكيميا هي شكل من أشكال السرطان يصيب خلايا الدم البيضاء غير الناضجة، ويتضمن تضاعف الخلايا بشدة بحيث تطغى على نقي العظام وتدمره من خلال مزاحمة الإنتاج الطبيعي لخلايا الدم الحمراء وخلايا الدم البيضاء والصفائح الدموية السليمة. كان ٩٧ في المائة من حالات سرطان الدم لدى الأطفال تظهر في صورة عنيفة، وتميزت بحمى مفاجئة وخمول وشحوب وفقدان للوزن. كان سحب الدم الكاشف يظهر امتلاء الدم بخلايا بيضاء غير طبيعية إلى درجة أن الدم يبدو كالطين الأبيض، أو حتى الصديد. وكان نقص إنتاج الصفائح الدموية يؤدي إلى النزيف بسهولة، كما كان نقص خلايا الدم الحمراء يؤدي إلى فقر الدم. وكان اختلال وظائف الخلايا الليمفاوية يجعل المرضى عرضة للعدوى. كان الموت يأتي بسرعة مذهلة، غالبًا بعد أسابيع قليلة فقط من التشخيص.
أثنت مأساة مشاهدة الأطفال يموتون بسبب هذا المرض الشنيع الكثير من الأطباء الشبان عن مجرد التفكير في العمل في مجال طب أورام الأطفال المحبِط. ونظرًا إلى كون اللوكيميا سرطانًا يصيب خلايا الدم، فلم يكن قابلًا للعلاج؛ إذ لم يكن من الممكن استئصاله جراحيًّا أو تشعيعه باستخدام الأشعة السينية. لكن سيدني فاربر توصَّل إلى فكرة. وجاء إلهامه من الجهد البحثي للطبيبة الإنجليزية لوسي ويلز.
في أوائل الثلاثينيات، كانت ويلز تدرس فقر الدم الناجم عن سوء التغذية الذي كان شائعًا بين عمال المطاحن المعدَمين الذين يعانون من سوء التغذية في الهند. اكتشفت ويلز عنصرًا مغذيًّا حسَّن عدد خلايا الدم لدى مرضاها، وهو المارمايت، وهو طعام قابل للفرد مصنوع من مستخلص الخميرة. كان عبارة عن معجون بني لزج ذي نكهة مالحة قوية. كان المكون الأكثر نشاطًا في «مارمايت» هو حمض الفوليك، المعروف أيضًا باسم الفولات. نحن نعرف الآن أن حمض الفوليك، الذي نحصل عليه عادة من خلال تناول الفواكه والخضراوات، هو مكون أساسي لبنية الحمض النووي، وله دور بالغ الأهمية في انقسام الخلايا. كان الجزء الأكثر عرضة لنقص حمض الفوليك في الجسم هو الموضع الذي ينشط فيه انقسام الخلايا إلى أقصى حد؛ وهو نقي العظم، ومن هنا يحدث فقر الدم لدى المرضى المعدمين.
عندما علم فاربر أن ويلز قد صححت إنتاج الدم لدى المرضى من خلال إعطائهم حمض الفوليك، تساءل: ماذا لو كان الأمر نفسه من شأنه أن يساعد الأطفال المصابين بسرطان الدم؟ في عام ١٩٤٥، أفاد علماء من كلية طب ماونت سايناي في نيويورك أن حُقَن حمض الفوليك أدت إلى تراجع الأورام لدى ٣٨ فأرًا من أصل من ٨٩. وبدا أن حمض الفوليك قد يكون له القدرة على انحسار السرطان. لذا قرر فاربر تجربته، فبدأ تجربة صغيرة حيث حقن مرضى سرطان الدم بحمض الفوليك.
كان هذا خطأً.
فزع فاربر حين وجد أن علاجه لم يفشل فقط في تراجع اللوكيميا، بل في الواقع أدى إلى تفاقم المرض، وعجَّل بوفاة الأطفال.
أصيب فاربر بالإحباط. وتملَّك الفزع زملاءه في المستشفى. لقد ارتكب فاربر خطأً فادحًا. فقد أدى علاجه إلى تسريع عملية انقسام الخلايا غير المحدود الذي تتميز به اللوكيميا، كأنه سكب البنزين على النار.
لكن فاربر رأى في فشله درسًا تعلَّمه. إذا كان حمض الفوليك قد كثَّف إنتاج خلايا الدم السرطانية الخبيثة، فماذا لو تمكَّن من إعطاء المرضى مضادًّا لحمض الفوليك؟ مضادًّا للفولات؟ ماذا لو تمكَّن من استنساخ فقر الدم الذي اكتشفته ويلز لدى المرضى الهنود المعدمين وتوظيفه لصالح الأطفال المصابين بسرطان الدم؟
قدَّم له الطبيب المبتكر والكيميائي يلابراجادا سوباراو جزيئًا مضادًّا لحمض الفوليك، وهو دواء أطلق عليه لاحقًا اسم أمينوبترين. في الثامن والعشرين من ديسمبر ١٩٤٧، جرَّب فاربر الدواء لأول مرة على صبي يبلغ من العمر عامَين يُدعى روبرت ساندلر يعاني من سرطان الدم. كانت الاستجابة مدهشة وأفضل بكثير مما توقع فاربر. فقد انخفض عدد الخلايا البيضاء لدى ساندلر، التي كانت قد ارتفعت إلى أكثر من ٦٠ ألف خلية لكل ميكرولتر (تتراوح القيمة الطبيعية بين ٤٥٠٠ و١١ ألفًا) انخفاضًا هائلًا ليعود إلى النطاق الطبيعي في غضون ثلاثة أيام. واستعاد الصبي حيويته وشهيته. فبدلًا من الخمول الذي كان يعاني منه، أصبح يقِظًا ونشيطًا. وبدأ يبدو كأي طفل طبيعي مرة أخرى.
لسوء الحظ، ثبت أن فترة التعافي هذه كانت عابرة. فقد عاد سرطان الدم إلى ساندلر بعد بضعة أشهر، وهذه المرة فشل إعطاؤه مزيدًا من مضادات الفولات في المساعدة، وتُوفي في عام ١٩٤٨. ومع ذلك، أدرك فاربر أنه حقق شيئًا لم يحققه أحد من قبل، حين أدخل مريضًا مصابًا بسرطان الدم في حالة «هدأة»، وهو ما يعني انخفاض عدد الخلايا السرطانية أو اختفاءها، ولو لفترة وجيزة. ولم يمضِ وقت طويل حتى بدأ فاربر في علاج أطفال آخرين، لكن أساليبه أثارت استياءً شديدًا بل غضبًا حادًّا بين العديد من زملائه الأطباء. فقد كان لعلاج مضاد الفولات تأثيرٌ سام على جميع الخلايا المنقسمة، سواء أكانت سرطانية أم طبيعية. علاوة على ذلك، ماتت الخلايا التي نمت سريعًا الموجودة في بصيلات الشعر وبطانة الأمعاء في الحال، وهو ما أدى إلى سقوط الشعر والإسهال وقرح الفم والغثيان والقيء. جعل الدواء التجريبي لفاربر الأطفال يشعرون بغثيان شديد وهم على وشك أن يلقوا حتفهم بالفعل مهما فعل أي شخص. إذن، لماذا كان فاربر يعذبهم بدلًا من أن يتركهم يموتون بسلام؟
ولكن استمر فاربر في عمله بعزم. وفي مقال نُشر عام ١٩٤٨، أفاد أن عشرة من بين أول ١٦ مريضًا عالجهم استفادوا من فترات هدأة المرض المؤقتة. فقد عاش بعض الأطفال ستة أشهر إضافية، على الرغم من أن جميعهم كانوا سيموتون في النهاية. قد يرى المراقبون العاديون أن هذا إنجاز ضئيل جدًّا، وهذا أمر مفهوم، لكن في عالم سرطان الدم، كان هذا إنجازًا كبيرًا. كان فاربر على استعدادٍ للقيام بأفعال لا ينكر أحد قسوتها من أجل تقديم بصيص من الأمل للمرضى الذين تلقوا تشخيصًا مخيبًا للآمال. ومثل هؤلاء المرضى كانوا كُثرًا. بدأ الآباء اليائسون يسمعون عن عمل فاربر. وما لبثوا أن بدءُوا يتوافدون إلى بوسطن من كل حدبٍ وصوب ليحضروا له أطفالهم المحتضَرين المصابين بسرطان الدم، وهم على أهبة الاستعداد لتجربة أي شيء، ومتلهفون على أي فرصة يمكن أن يقدمها لهم فاربر.
جيمي
من عجيب المفارقات أن نجاح فاربر الوليد في بوسطن والتوافد المتواصل للعائلات على مستشفى الأطفال، بدا أنه سلَّط الضوء على جهل الأطباء خلال معركتهم ضد السرطان. فأولئك الذين كان من السهل تجاهلهم سابقًا باعتبارهم حالات ميئوسًا منها مُنحوا الآن بصيصًا من الأمل. ومع نيل الأطفال فترات هدأة خاطفة للمرض لشهرين أو ثلاثة، كان من الطبيعي أن يتبع ذلك على الفور ضغوط لتقديم نتائج أفضل. لم يشعر أحد بحجم هذه التوقعات أكثر من سيدني فاربر، ولكن عجزه عن أن يكون على قدر الموقف كان واضحًا. فببساطة، لم يكن فاربر أو أي طبيب آخر في الواقع يعرف أسباب حدوث السرطان. لم يكن أحد يفهم السبب في تكاثر الخلايا الخبيثة بهذه الشراسة أو الاستمرارية، ولا أحد يعرف القوانين التي تحكم انتشارها في جميع أنحاء الجسم. فكان اكتشاف علاجات مستقبلية للسرطان من خلال طرق منهجية غير تلك التي تعتمد على الصدفة، يحتم على الأطباء أولًا اكتساب فهم أكبر بكثير للعلوم الأساسية التي توضح منشأ السرطان. وكان اكتساب هذه المعرفة سيتطلب جهدًا جبارًا يستمر عقودًا، وكان فاربر يعرف أن هذا الجهد سيتطلب قدرًا ضخمًا من المال.
بينما كان فاربر يفكر في كيفية جمع ملايين الدولارات المطلوبة لمباشرة جهد بحثي جاد لهزيمة سرطان الدم، أدرك أن هناك مؤسسة ناجحة تقوم بشيء مشابه للغاية، وهي المؤسسة الوطنية لمكافحة شلل الأطفال، التي كانت تجمع ملايين الدولارات سنويًّا من خلال حملات «مسيرة الدايمات» التي كانت تنظمها. وضع فاربر رؤية طموحة للاقتداء بالمؤسسة الوطنية من خلال إنشاء منظمة خيرية مكرسة لعلاج سرطان الأطفال. وبالتعاون مع منظمة خيرية تُدعى «فارايتي كلوب» في نيو إنجلاند، ساعد في تأسيس صندوق أبحاث سرطان الأطفال في عام ١٩٤٨. وخلال فعالية اليانصيب الافتتاحية، جُمع مبلغ ٤٥٤٥٦ دولارًا لصالح الصندوق. كان هذا مبلغًا كبيرًا، لكنه لم يكن كافيًا لتحقيق تطلعات فاربر نحو إحداث ثورة في مجال أبحاث السرطان.
سرعان ما اتضح له أنه لكي يضاهي صندوق سرطان فاربر النجاح الذي حققته المؤسسة الوطنية لشلل الأطفال، سيتعيَّن على فاربر محاكاة أساليبها في التسويق الفعَّال والعلاقات العامة. كانت المؤسسة الوطنية تشجع على التبرع من خلال عمل ملصقات لأطفال شجعان يرتدون دعامات، ويكافحون من أجل المشي مرة أخرى. كان فاربر في حاجة إلى شيء مشابه يخاطب قلوب الأمريكيين ويستثير تعاطفهم. كان في حاجة إلى العثور على مريضٍ صغيرٍ يمكن أن يمثِّل جميع الأطفال المصابين بالسرطان. كان من الضروري أن يكون هذا الطفل النموذجي ودودًا ومرحًا ومفعمًا بالنشاط والحيوية. لذا لم يكن من الممكن أن يكون مريضًا جدًّا. لسوء الحظ، كان معظم مرضى فاربر المصابين بسرطان الدم يرزحون تحت نير المرض وعلى مشارف الموت. ستكون الصور الملتقَطة لهم كئيبة وغير ملهمة، وقد تعزز فقط من حالة اليأس من الشفاء من السرطان. تأمل فاربر بعناية في كل طفل يقيم في قسم المرضى الداخليين لديه. وحينئذٍ وجد الطفل المثالي.
كان إينار جوستافسون، الصبي البالغ من العمر ١٢ عامًا من شمال ولاية مين، أكثر صحة من معظم الأطفال الآخرين لأنه لم يكن مصابًا بسرطان الدم؛ بل شُخِّص ﺑ «لمفوما» بطنية غير شائعة. وعالجه فاربر بمضادات الفولات محققًا نتائج جيدة. بدا إينار نموذجًا لجميع الأطفال الأمريكيين في الصوت والشكل. كان إينار مثاليًّا لأغراض فاربر. ولحماية خصوصية إينار، فكر فاربر أنه يجب أن يعطيه اسمًا مستعارًا.
وقرر استخدام اسم «جيمي».
في الثاني والعشرين من مايو ١٩٤٨، قُدِّم جيمي للأمة من خلال البرنامج الإذاعي الذي يبث من كاليفورنيا مساء كل سبت «تروث أور كونسيكونسيز». قبل الاتصال بجيمي في غرفته بالمستشفى في بوسطن، قال المذيع، رالف إدواردز، لمستمعيه خلسة: «الليلة سنصطحبكم إلى صبي صغير يُدعى جيمي. لن نعطيكم اسمه الأخير؛ لأنه كآلاف الصبية والفتيات الآخرين المحجوزين في المنازل الخاصة والمستشفيات في جميع أنحاء البلاد. يعاني جيمي من السرطان، لكنه لا يعرف أنه مصاب به. إنه صبي رائع، وعلى الرغم من أنه لا يمكنه معرفة السبب في عدم وجوده بالخارج مع الأطفال الآخرين، فإنه يحب كرة القاعدة، ويتابع كل خطوة يخطوها فريقه المفضَّل: بوسطن بريفز …
والآن، بفضل سحر الراديو، سنمد البث الإذاعي لبرنامجنا إلى جميع أنحاء الولايات المتحدة، وسنأخذكم مباشرة إلى سرير جيمي … حتى الآن، جيمي لم يسمعنا بعد. والآن يجري ضبط مكبر الصوت في غرفته … دعونا نتحدث إلى جيمي من فضلكم. مرحبًا، هل أتحدث الآن مع جيمي؟»
جاء صوت جيمي واضحًا عبر الأثير.
هل هو هناك في غرفتك حقًّا؟
وطوال مدة البث، احتشد المزيد من أبطال جيمي في غرفته. دخل لاعبو بريفز إيدي ستانكي وجوني سين ووارن سبان وبوب إليوت وإيرل تورجيسون، كلٌّ منهم يحمل هدايا تشمل قمصانًا وصورًا موقَّعة وحتى المضرب الذي يلعب به تورجيسون. وتحدث بيلي ساوثورث، المدير الفني لفريق بريفز، على الهواء.
بعد وقت قصير، أدخِل البيانو إلى باب غرفة المستشفى، وغنى جيمي وجميع اللاعبين نسخة حماسية من أغنية «خذني لمباراة الكرة (تيك مي أوت تو ذا بول جيم)». كان في إمكانك سماع صوت جيمي الذي يغني بنشازٍ ملحوظ. في المجمل، مرَّت سبع دقائق على الهواء. ودَّع إدواردز جيمي وقُطع الاتصال ببوسطن. تحدث إدواردز بعد ذلك مباشرة إلى الجمهور بنبرة حزينة وجادة: «استمعوا لي الآن يا أصدقاء. لا يمكن لجيمي سماع هذا، أليس كذلك؟ الآن استمعوا إلى، حقًّا … دعونا نسعد جيمي وآلاف الصبية والفتيات الآخرين الذين يعانون من السرطان من خلال دعم الأبحاث للمساعدة في إيجاد علاج للسرطان لدى الأطفال … هذه ليست منافسة تفوزون فيها بأي شيء، يا أصدقاء. هذه فرصتنا لمساعدة الأولاد والبنات الصغار قليلي الحيلة أمثال جيمي للفوز بجائزة أكبر: جائزة الحياة. أعطوا عن طيب خاطر لقضية جديرة بالاهتمام بدرجة لا توصف.»
العلاج الكيميائي
خلال الخمسينيات والستينيات، اكتُشِف وطوِّر كثير من أدوية العلاج الكيميائي. ففي عام ١٩٤٩، ثبت أن أحد مضادات حمض الفوليك الفائقة ويُسمَّى ميثوتريكسات أكثر فاعلية وأقل سمية من الأمينوبترين. كما وجِد أنه يمكن أن يعالج سرطان المشيميائية، وهو سرطان ينشأ من الخلايا المتخصصة للمشيمة. في عصر كان فيه كثير من الأطباء يعتبرون السرطان مرضًا واحدًا قد يستجيب لعلاجٍ سحري واحد — فقط لو يعثرون عليه — استمر البحث عن علاجات كيميائية جديدة، سواءً في المختبر أو في الطبيعة.
أصبح التوصُّل إلى علاجات مضادة للسرطان عن طريق المصادفة من خلال ملاحظة الخصائص القاتلة للخلايا لبعض الأدوية التي كانت مرشحة لعلاج مرض معين وفشلت في ذلك نمطًا متكررًا. ففي عام ١٩٥٤، حصل سيدني فاربر على عينة من مضاد حيوي محتمل وثبت أنه غير فعال من سيلمان واكسمان، عالم أحياء التربة في روتجرز والفائز بجائزة نوبل عن مشاركته في اكتشاف الستريبتومايسين. كان الدواء الذي اكتشفه واكسمان، الذي يُطلق عليه اسم أكتينومايسين دي، يعطل الحمض النووي البكتيري، ولكن ثبت عدم جدواه كمضاد حيوي؛ لأنه يقتل الخلايا البشرية العادية أيضًا وليس الخلايا البكتيرية فحسب. وهذه السِّمة جعلت فاربر يعتقد أن أكتينومايسين دي قد يفيد في انتقاء خلايا السرطان السريعة الانقسام وقتلها. وعندما عالج أورام الفئران به، تقلصت الأورام واختفت. وعندما جرَّب فريق البحث لدى فاربر أكتينومايسين دي على البشر، وجدوا أنه غير مفيد في علاج سرطان الدم؛ لكن ما أسعدهم أنه كان فعالًا للغاية في مكافحة أحد سرطانات الكُلى التي تصيب الأطفال ويُطلق عليه اسم ورم ويلمز.
كان كثير من الأطباء يفتقرون إلى الشجاعة الكافية للانخراط في هذه اللعبة المحفوفة بالمخاطر مع السرطان. فإعطاء المرضى أدوية سامة وجعلهم يعيشون أيامهم الأخيرة في بؤس على أملٍ ضئيلٍ في انحسار المرض قد لا يستمر سوى أسابيع أو بضعة أشهر كان أمرًا يتطلب ثباتًا وإقدامًا من نوع خاص. كان هناك طبيبا أورام تابعان للمعهد الوطني للسرطان أظهرا عزمًا لا يلين على مكافحة السرطان في ظل هذه الظروف، يكاد اسماهما يتطابقان، وهما إميل فراي وإميل جيه فرايريتش. كان فراي، الذي عُرف بالكنية «توم» لتسهيل تمييزه في العمل، هادئًا ومتواضعًا. على الجانب الآخر، كان فرايريتش، الذي اختار أن يُعرف باسم «جاي»، صاخبًا ومجادلًا ولافتًا للأنظار. لم يكن تعاونهما أمرًا متوقعًا، ولكن كليهما كان مأخوذًا بالفوائد المحتملة لعلاج المرضى بعدة أدوية كيميائية في آن واحد. فقد اعتقدا أن استخدام الأدوية التي تهاجم خلايا السرطان بآليات عمل مختلفة من شأنه أن يقلل من حدوث مقاومة الأدوية ويكون له تأثير إضافي في قتل خلايا السرطان. ونظرًا إلى أن كل عقار كان يسبِّب آثارًا جانبية مختلفة — إذ قد يسبب أحدها الغثيان بينما يسبب الآخر تلفًا للكبد، على سبيل المثال — فقد استنتجا أن حدة أي نوع من هذه الآثار الجانبية لن يكون لها السيطرة على المريض. وإذا كان المرضى قد استطاعوا تحمُّل مجموعة من الآثار الجانبية المتعددة في آن واحد، فسيستفيدون من تعاظم القدرة على قتل السرطان نتيجة لاستخدام عقارين؛ أو على الأقل هذا ما كانت النظرية تخبرنا به.
باختصارٍ، كان الأمر جحيمًا.
كان كثير من زملاء فراي وفرايريتش في حالة ذعر. فقد كانوا لا يعتبرون أن هذا البروتوكول غير أخلاقي فحسب، بل على درجة لا يمكن تصورها من القسوة. حتى العظيم سيدني فاربر عارضه بشدة، قائلًا: «إنه جيد للجرذان والفئران، ولكن مثل هذه العلاجات ستؤذي الأطفال بشدة. هذه كلها أدوية سامة، ولن أسمح أبدًا بمثل هذا التجريب على أطفالي.» كان فاربر يستخدم عقارًا كيميائيًّا واحدًا في كل مرة، ولم يطِق أن يحمِّل الأطفال أي معاناة فوق تلك التي يسبِّبها عقار واحد.
اتُّهِم فراي وفرايريتش باستخدام الأطفال باعتبارهم حيوانات تجارب. وفي محاضراتهما، تعرَّضا لانتقادات حادة وصلت حد السخرية من أفراد الجمهور، الثائرين عن حقٍّ في اعتقادهم، حيث تفوهوا بتعليقات مثل «هذا سوق للحوم! يا لها من مجزرة!» تذكر الدكتور فينسنت ديفيتا، الذي أصبح فيما بعد مديرًا للمعهد الوطني للسرطان، الذي كان يعمل متدربًا تحت إشراف فراي وفرايريتش في ذلك الوقت، الإهانات التي تعرض لها معلماه: «كانت مشاهدة ذلك محرجة وصادمة. لم أرَ قَطُّ أطباء يتصرفون بهذه الطريقة تجاه أطباء آخرين.» بدأ ديفيتا والأطباء الشباب الآخرون يشكون في أنفسهم. تساءل ديفيتا: «هل كنا نفعل الشيء الصحيح؟» «هل كنا شركاء فيما كان الأطباء الآخرون يصورونه على أنه سلوك غير أخلاقي؟» ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى بدأ المتدربون الواعدون يُنصَحون بتجنب فراي وفرايريتش، اللذين اعتبرهما كثيرون منشقين متطرفين انجرفا عن المسار الرئيسي لأقطاب طب الأورام المعترف بهم.
بدا أن النقاد ربما يكونون على حق لبعض الوقت. فقد عانى الأطفال المصابون بسرطان الدم الذين تلقوا البروتوكول السام المتنوع من تدميرٍ شبه كامل لخلايا نخاع العظم السليمة جنبًا إلى جنب مع الخلايا السرطانية. وبينما كان الآباء المرعوبون يشاهدون، فقدَ أطفالهم العاجزون الذين لم تتجاوز أعمارهم الثلاث أو الأربع أو الخمس سنوات شعرهم، وأصيبوا بالهزال والضعف، وأصيبوا بأشكالٍ رهيبة من العدوى، وكانوا ينزفون تلقائيًّا، ويدخلون في غيبوبة في الوقت الذي كان أطباء الأورام المعالجون يحثُّونهم فيه على التحلي بالصبر وإكمال بروتوكول العلاج المكوَّن من سموم خلوية والذي يستمر أسابيع. تذكر الدكتور ديفيد ناثان، وهو طبيب شاب في المعهد الوطني للسرطان، أنه كان يشاهد معاناة الأطفال، ويرغب في الاستقالة: «كان هذا كابوسًا بالنسبة إليَّ … لم يكن هذا بحثًّا. بل كان حكمًا بالإعدام. كنت مذعورًا مما رأيت.»
بعد ١٥ عامًا من إعلان الحرب على السرطان، كشفت دراسة مهمة نُشرت في عام ١٩٨٦ في دورية «نيو إنجلاند جورنال أوف ميديسين» أن وفيات السرطان لم تكن تتناقص في الولايات المتحدة، بل زادت بنسبة ٨٫٧ في المائة بين عامَي ١٩٦٢ و١٩٨٢. وقال مؤلفو هذه الدراسة بوضوح: «نحن نخسر الحرب ضد السرطان.» وأشار جيمس واطسون الحائز على جائزة نوبل، الذي كشف بالتعاون مع فرانسيس كريك، عن هيكل اللولب المزدوج للحمض النووي، إلى السرطان بأنه «صندوق أسود نحاول التأثير فيه بالسحر». وفي السنوات اللاحقة، مع تزايد الإحباط من أن مليارات الدولارات المخصصة للبحث لم تتمكن من تحسين معدلات الوفيات، كانت هناك دعابة مرعبة تُردَّد أحيانًا في مؤتمرات الأورام تتساءل عن إمكانية إنقاذ مزيد من الأرواح حال تفجير اجتماع ينتج عنه القضاء على عدد كبير من أطباء الأورام في البلاد.
حققت ملحمة التقدم التي حدثت على مدى خمسين عامًا في مجال العلاج الكيميائي بعض النجاحات الرائعة. فقد أعطت سلسلة الاكتشافات، التي بدأت بكارثة باري ورؤية سيدني فاربر الجريئة، الأمل لعشرات الآلاف من المرضى الذين كانوا يائسين من قبل؛ غير أن تدمير الخلايا العشوائي من خلال العلاج الكيميائي لم يصبح الرصاصة السحرية التي عقدوا الكثير من الآمال على أن تكون العلاج الحاسم والشافي للسرطان.
لتحقيق مزيدٍ من التقدم، كان لا يزال من الضروري الإجابة عن كثير من الأسئلة الجوهرية. أسئلة أساسية مثل: من أين يأتي السرطان؟ كيف يستفحل؟ ما الذي يجعله ينتشر؟ على مدى عقود كانت الإجابات عن هذه الألغاز من شأنها استدعاء مزيد من الأسئلة بدلًا من تقديم حلول، وإثبات أن السرطان كان لغزًا أكثر تعقيدًا بكثير مما كان يمكن لأي شخص تخمينه.
مرض معروف بالتباين
لم يكن تاموكسيفين علاجًا شافيًا؛ إذ سرعان ما اتضح أنه سيؤثر فقط في الأورام الإيجابية لمستقبِلات الإستروجين، ومع ذلك فقد أتيح للجمهور لأول مرة دواء فعال للسرطان لم يكن مصمَّمًا فقط لتسميم الخلايا عشوائيًّا. وكانت هذه أداة جديدة ضمن أدوات أطباء الأورام: دواء له هدف محدد، رغم أنه يقتصر على مجموعة فرعية واحدة فقط من نوع واحد من السرطان.
في الوقت نفسه، كان هناك طبيب مبتكر آخر يبحث أيضًا في نهجٍ جديدٍ تمامًا لمهاجمة السرطان. في عام ١٩٦٧، كان الدكتور جودا فولكمان، البالغ من العمر ٣٤ عامًا، أصغر رئيس لقسم الجراحة في مستشفى بوسطن للأطفال. استحوذت عليه فكرة غير عادية، وهي أن الأورام تصدر نوعًا من الإشارات، ربما عامل نمو، يجذب الأوعية الدموية نحوها. وقد جعلته نظريته، المعروفة باسم «تولُّد الأوعية الدموية»، محط سخرية بين أطباء الأورام لعقود. كانت أبحاث السرطان مكرسة لعقاقير العلاج الكيميائي؛ ولم يكن هناك أحد تقريبًا يعتقد أن الأوعية الدموية تلعب أي دور على الإطلاق. لكن فولكمان أصر على فكرته لأنه، بوصفه جراحًا، كان غالبًا ما يندهش من كم الأوعية الدموية الجديدة المنتشرة في كثير من الأورام.
لسنوات، لم يكن لدى فولكمان سوى قليل من الأدلة التي تدعم مزاعمه. فواصل عمله من خلال تفتيت نسيج الورم وخلطه، على أمل عزل وتنقية عامل النمو الذي تفرزه الأورام لجذب الأوعية الدموية نحوها. حتى إن أحد الأطباء اتهمه ﺑ «تنقية الأوساخ». كما أخبره شخص آخر في المستشفى الذي يعمل به قائلًا: «أنت تجعل من البحث أضحوكة». أشار الدكتور فينسنت ديفيتا إلى سمعة فولكمان الأقل من المتواضعة خلال اجتماع سنوي قائلًا: «كان جودا يقدم عروضًا تقديمية كل عام تقريبًا. كان الأمر أشبه بدعابة. فقد سخر منه الأطباء المتفرجون في الواقع.»
مع تكريس مزيدٍ من العلماء حياتهم المهنية لتحديد السبب الحقيقي للسرطان، زادت نظرياتهم تعقيدًا بعض الشيء من خلال ملاحظة أن السرطان لا ينشأ فقط بصورة عفوية داخل جسم شخص غير محظوظ، ولكن يمكن أيضًا أن تسببه عوامل خارجية، من خلال التعرض للمواد المسرطنة. عُرف خطر المواد المسرطنة لأكثر من قرنين. ففي عام ١٧٧٥، لاحظ جراح بريطاني يُدعى بيرسيفال بوت أن جميع حالات سرطان الصفن التي واجهها تقريبًا ظهرت في أولاد صغار يمارسون نفس المهنة، وهي كنس المداخن. اكتشف بوت أن السناج الذي يتراكم تحت الجلد بصورة مزمنة كان سببًا في سرطان الصفن. وحدد إحدى المواد المسرطنة المسبِّبة له. وأصبحت المسرطنات البيئية الأخرى، ويشمل ذلك الراديوم والأسبستوس المسبِّب لورم الظهارة المتوسطة، والتبغ، معروفة جيدًا. على الرغم من أن هذه العوامل الخارجية ربما أربكت الأطباء الساعين للعثور على سببٍ واحدٍ موحد لجميع أنواع السرطان، فإنها أيضًا قدمت فرصة ذهبية للحد من وفيات السرطان من خلال الوقاية. لا شك في أن اللوائح التنظيمية للصناعة وحملات الحد من التدخين قد أنقذت عددًا أكبر من الأرواح مقارنة بالعلاج الكيميائي أو الإشعاع أو الجراحة في أي وقت مضى. وفي كثير من الأحيان، كان أفضل هجوم ضد السرطان هو الدفاع، من خلال الوقاية، وخاصة اختبارات التحري أو الكشف المبكر.
في العشرينيات، وافق عالم الخلايا اليوناني جورج بابانيكولاو على القيام بمهمة غير عادية نوعًا ما في كلية الطب بجامعة كورنيل، وهي دراسة دورة الحيض للخنازير الغينية. ما زاد من المهمة صعوبة على صعوبتها أن الخنازير الغينية الحائض لم تكن تنزف على نحوٍ واضح. أصبح بابانيكولاو ماهرًا في كشط كميات دقيقة من خلايا عنق الرحم للخنازير الغينية ومشاهدتها تحت المجهر. كما قضى عقودًا في دراسة خلايا عنق الرحم البشرية، وتعلم كيف يتغير شكل الخلايا في مراحل مختلفة في دورة الحيض، إلى أن أصبح خبيرًا محنكًا إلى درجة أنه استطاع فعليًّا أن يحدد اليوم الذي تكون المرأة فيه في دورة الحيض من مجرد النظر إلى الخلايا. في سياق هذا العمل، حتمت عليه الضرورة مقابلة بعض النساء اللواتي يعانين من سرطان عنق الرحم. وقد حدد التغيرات الخلوية المميزة للمرض في خلاياهن، ويتضمن ذلك التشوهات في النوى والسيتوبلازم والعضيات. ثم فجأة تجلى له أمر؛ فقد اكتشف طريقة جديدة للكشف عن السرطان. وفي عام ١٩٢٨، نشر مقالًا بعنوان «تشخيص جديد للسرطان»، يصف فيه طريقته التي سميت فيما بعد باسم «لطاخة بابانيكولاو» أو مسحة عنق الرحم.
لم يبدِ أحد أي اهتمام بهذه الطريقة لمدة عشرين عامًا تقريبًا.
حتى القلة من أطباء الأمراض الذين كلَّفوا أنفسهم ونظروا في طريقة بابانيكولاو، لم يعتدوا بعيناته المائية الرقيقة، التي لم يكن من السهل تقييمها. فإذا كانت السيدة قلقة حقًّا بشأن سرطان عنق الرحم، فإن الخزعة ستكون الطريقة الأكثر حسمًا لاكتشافه. اضطر بابانيكولاو إلى أخذ اختباره إلى اتجاه مغاير. فاكتشف أن الخلايا الخبيثة في عنق الرحم لا تتحول فجأة إلى خلايا سرطانية بين عشية وضحاها. بل كانت هناك تغيُّرات تدريجية ومتمايزة في الخلايا حدثت قبل أن تصبح الخلايا سرطانية. أدرك بابانيكولا بحماسٍ أن هذه التغييرات السابقة للسرطان من شأنها أن تجعل طريقته مفيدة باعتبارها اختبارَ تحرٍّ، مما يتيح تحديد المرضى المشتبه فيهم وعلاجهم حتى قبل أن يصابوا بالمرض.
في عام ١٩٥٢، أجرى المعهد الوطني للسرطان تجربة على نطاقٍ واسعٍ لمسحات عنق الرحم التي ابتكرها بابانيكولاو، أثبتت فاعليتها. كان في إمكان النساء اللواتي يعانين من تغيرات سابقة للسرطان أن يخضعن لإجراء جراحي بسيط لإزالة الآفات المهدِّدة، مما قلل احتمالية تحوُّل هذه الآفات إلى أورامٍ خبيثة. وهكذا كشف اختبار التحري الذي ابتكره بابانيكولاو في خضم رحلة السعي لهزيمة السرطان، والذي يُقدَّر أنه أنقذ حياة أكثر من ستة ملايين امرأة في جميع أنحاء العالم، عن طريقة جديدة للقضاء على العدو قبل أن يصل إلى القوة الكاملة.
•••
استطاعت تلك الفكرة المثيرة بأن السرطان قد يكون في الواقع مرضًا معديًا، تسببه الفيروسات، أن تأسر ألباب كلٍّ من العلماء والجمهور العام في القرن العشرين. ففي عام ١٩١١، كان هناك عالم فيروسات في الحادية والثلاثين من عمره يُدعى بيتون روس، فعل شيئًا ألقى بظلال الشك على النظريات المعاصرة عن سبب السرطان. في معهد روكفلر في مدينة نيويورك، كان روس يدرس نوعًا نادرًا من الساركوما لدى الدجاج، وهي عبارة عن ورمٍ خبيثٍ في الأنسجة الضامة مثل العضلات والأوتار. أزال ورمًا، ثم طحنه تمامًا في سائل، ومرَّر الخليط عبر سلسلة من المرشحات لإزالة جميع الخلايا والبكتيريا والملوثات، حتى لم يتبقَّ سوى السائل المُرشح الذي كانت الخلايا مستقرة فيه. عندما حقِن هذا السائل الخالي من خلايا السرطان في دجاجة، أصيبت بالسرطان.
كانت هذه مفاجأة.
بدأ الباحثون الذين اعتمدوا تلك النظرية في التساؤل: هل «كل» السرطانات تسببها الفيروسات؟ هل السرطان مرض معدٍ؟ بدا الأمر ممكنًا تمامًا؛ إذ كانت الفيروسات غامضة وغير مفهومة جيدًا، بل لم يتم تصورها بعد، وهي حقيقة أضافت غموضًا إلى غموضها. وبدأ الباحثون في البحث عن الأسباب الفيروسية للسرطانات البشرية.
لم يؤتِ البحث ثماره حتى عام ١٩٥٧، عندما بدأ الجراح الأيرلندي دينيس بوركيت يصادف أطفالًا يعانون من أورام في الفك سبَّبت لهم تشوهات مخيفة في أثناء عمله في أوغندا. اعترف بوركيت بأن هذا شكل عدواني للغاية من اللمفوما، لم تسبق دراسته في الغرب. ومن خلال استطلاع آراء الأطباء في جميع أنحاء أفريقيا، اكتشف بوركيت نمطًا ما. كان يبدو أن جميع الحالات تظهر في منطقة جغرافية محددة، وهي شريط يمتد عبر أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. لم تكن هناك حالات في جنوب أفريقيا، أو في شمال أفريقيا. كانت دبابيس الضغط التي تغطي خريطة بوركيت، التي كان كلٌّ منها يمثِّل حالة، تغطي وسط القارة في صورة شريط أفقي. دفع هذا الاكتشاف الغامض بوركيت واثنين من الزملاء إلى الانطلاق في رحلة لمسافة عشرة آلاف ميل، قادوا خلالها سيارة رحلات مستعمَلة لزيارة عشرات المستشفيات والمراكز الدينية الخيرية في ١٢ دولة مختلفة. سعى بوركيت لإيجاد أي شخص رأى أطفالًا يعانون من أورام مماثلة، واكتشف أن حدوث هذه اللمفوما الفريدة كان مرتبطًا بدرجة حرارة المنطقة وكمية الأمطار فيها. فقد ظهر السرطان في الأساس في المناطق التي تظل درجة الحرارة فيها أعلى من ٦٠ درجة وكمية الأمطار السنوية فيها أكثر من ٢٠ بوصة؛ بعبارة أخرى، المناطق الدافئة والرطبة.
لوحظ هذا النمط للمرض من قبل، مع الأمراض المعدية مثل مرض النوم الذي تسببه ذبابة تسي تسي، والملاريا التي تنتشر عن طريق بعوضة «الأنوفيليس»، أو الأنوفيلة. كان بوركيت قد اكتشف سرطانًا، يُعرَف اليوم باسم لمفوما بوركيت، له طريقة انتشار بدت نموذجية بالنسبة إلى مرض معدٍ.
الأسس الجزيئية
ولكن كان هناك المزيد. فقد كشفَت دراساتٌ عن سرطان العَين، المعروف بالورَم الأرومي الشبكي، عن أهمية نوعٍ آخر من الجينات، وهو جينٌ كابتٌ للوَرَم (يُعرف أيضًا باسم «الجين المضاد للوَرَم») الذي عادة ما يكبح الانقسامَ الخلَوي. إذا أصبح أحد الجينات الكابتة جينًا غيرَ نَشِطٍ من خلال التحوُّر، فإن إشارة الكبح تضيع، وقد يدفع هذا الخليةَ للتكاثر أيضًا. ما ظهَر هو صورةٌ لجينومٍ بشري يُنظَّم تنظيمًا صارمًا عن طريق الجينات البدئية الورمية والجينات الكابتة للورَم التي تحافظ عادة على الانقسام الخلوي ضمن حدود النمو الصحي. ولكن إذا تسبَّب تغيُّرٌ ما في إحداث خللٍ في أي نوعٍ منهما — إذا نَشِط جينٌ ورمي، أو عُطِّل جينٌ كابتٌ — تكون النتيجة نموًّا خلويًّا سرطانيًّا متسارعًا.
في هذا القَرن، طُرح عشرات من الأدوية الجديدة للسرطان تستهدف جزيئاتٍ محدَّدة. ومن بين هذه الأدوية جليفيك (إيماتينب) لعلاج ابيضاض الدم النقوي المزمن، وفيلكاد (بورتيزوميب) لعلاج الأورام النقوية المتعددة، وإربيتوكس (سيتوكسيماب) لعلاج سرطانات الرأس والعنق، وتارسيفا (ايرلوتينب) لعلاج سرطان الرئة والبنكرياس. تخلو هذه الأدوية إلى حدٍّ كبير من الآثار الجانبية الرهيبة الشائعة في عقاقير العلاج الكيميائي السابقة. بدأ العمَل على مشروعٍ ضخمٍ يُسمَّى «أطلس جينوم السرطان» بين عامَي ٢٠٠٥ و٢٠١٨، وكان يهدف إلى تحديد تسلسُل الجينوم الكامل لأكثر من عشرة آلاف ورمٍ تمثِّل ما يزيد على ثلاثين من أكثر أنواع السرطان شيوعًا وخطورة. توقَّع العلماء في جميع أنحاء العالم أن هذا الجهد الشامل سيكشفُ عن أساسيات السرطان وسينتُج عنه كثيرٌ من العقاقير الجديدة والفعَّالة، بل ربما يبشِّر بظهور الطب «الشخصي».
لسوء الحظ، ليس هذا ما حدث. فعلى الرغم من الأدوية الجديدة المذكورة أعلاه، فإن معرفتَنا المتزايدة بالأسس الجُزيئية للسرطان كانت كاشفة أكثر من كونها ثورية؛ لأننا عَلِمنا أن السرطان أكثر تعقيدًا بكثيرٍ مما كنا نتصوَّر. وفي حين أننا الآن نملك تفسيرًا موحَّدًا لسبب حدوث السرطان، فإن الحقيقة هي أن الطفرات التي تسبِّب معظم السرطانات متباينة ومتنوعة لدرجة أننا سنحتاج إلى عقود لاستغلالها لتحقيقِ مكاسبَ سريرية. معظم السرطانات لا تنجُم عن تشوُّهٍ وراثيٍّ واحد فقط بل عدَّة تشوُّهات. فسرطانُ البنكرياس ينطوي على ١٢ تشوُّهًا. وكثير من السرطانات تُظهِر العشرات أو حتى المئات من الاختلافات الجينية التي تتباين بين الأورام حتى داخل النوع الواحد. وهذا يعني أن سرطان الثدي لمريضتَين متطابقتَين سريريًّا قد يتسم بطفراتٍ جينيةٍ مختلفةٍ تمامًا. وقد حدَّدَت دراسةٌ أُجريَت عام ٢٠٠٦ لسرطان الثدي والقولون ١٨٩ طفرة جينية مختلفة، بواقع ١١ طفرة في المتوسط في كل وَرَم. الأسوأ من ذلك أنه حتى الخلايا داخل الوَرَم الواحد قد لا تُظهر تجانُسًا جينيًّا. فيُمكِن أن تحتوي الخلايا المتجاورة في ورمِ سرطانِ المبيض الواحد، على سبيل المثال، على كثيرٍ من الطفرات الجينية المتباينة، دون وجود أي شيءٍ مشترك. يُطلَق على هذا التغايرية «داخل الورم». وهكذا ثَبَت أن الفكرة الغريبة التي تُفيد بأن الأورامَ نشأَت من خليةٍ واحدة، استُنسِخَت ملايين المرات لتصبح كل خلية من الخلايا الورمية متطابقة، مبسَّطة وساذجة جدًّا.
ببساطة، لقد أذلَّنا السرطان بشدة. في مقالٍ نُشر في مجلة «نيو إنجلاند جورنال أوف ميديسين» عام ٢٠٠٢، كَتَب العالمان ويليام هان وروبرت واينبرج: «كان المسار الفعلي للبحث المتعلق بالأساس الجُزيئي للسرطان محبطًا بدرجةٍ كبيرة. فبدلًا من الكشف عن عددٍ قليل من المحدِّدات الجينية والبيوكيميائية التي تعمل داخل الخلايا السرطانية، أظهَرَت التحليلاتُ الجزيئية للسرطانات البشرية مجموعة تتسم بدرجةٍ مذهلة من التعقيد من هذه العوامل.» كلما علمنا أكثر عن السرطان، يتضح لنا كَمْ هو محيِّر. فالأورام السرطانية تنمو في نظامٍ بيئيٍّ معقَّد يتأثَّر بالجينات الوَرَمية والهرمونات وتكون الأوعية الدموية والجينات الوراثية والفيروسات والبكتيريا والمواد المسرطنة. ولم يؤدِّ ظهورُ العلاج الجزيئي المُوجَّه إلى القضاء على كثير من السرطانات، وعلى الرغم من أن هذا التقدُّم أسفَر عن كثير من الاكتشافات المُلهِمة، فلا يزال العلاج الكيميائي، على كل عيوبه، العلاجَ الأساسيَّ لمعظم الأورام الخبيثة المتقدِّمة اليوم.
باختصار، ما زلنا بحاجة إلى أسلحة جديدة في حربنا على السرطان.
لحسن الحظ، بعض هذه الأسلحة متوفِّر لدينا الآن، وهي أدواتٌ تحمل في طياتها أملًا كبيرًا، على الرغم من أنها نبعَت من فكرة كانت محلَّ سخرية، واعتُبرَت لا تختلف كثيرًا عن الشعوذة لقرن تقريبًا.
الشعوَذة والجُرأة والأمَل
في عام ١٨٩١، كان الدكتور ويليام كولي جراحًا حديث التخرج في الثامنة والعشرين من عمره يزاول المهنة في مدينة نيويورك. وبوصفه أحد خريجي كلية الطب بجامعة هارفارد، كان تحقيقه النجاح المهني شبه مؤكد وفقًا لجميع المقاييس التقليدية آنذاك. ولكن كان مسار كولي المهني أبعد ما يكون عن التقدم والسلاسة. كانت واحدة من أوائل الحالات التي تعامل معها لفتاة جميلة ومفعمة بالحيوية في السابعة عشرة تدعى إليزابيث داشيل، ستلازمه لسنوات وتغير مسار حياته جذريًّا.
تأثَّر كولي بشدة بوفاة هذه الشابة، وعقَد العزم على دراسة الداء النادر الذي قتلَها. وبينما كان يبحثُ في سجلات مستشفاه عن مرضَى آخرين قد يكون لديهم النوع نفسه من السرطان، أثارت اهتمامَه حالةٌ لمهاجرٍ ألماني يبلغ من العمر ٣١ عامًا يُدعى فريد شتاين، الذي أُدخِل إلى المستشفى قبل سَبْع سنوات. كان شتاين مصابًا بورمٍ سرطانيٍّ كبيرٍ بحجم قبضة اليد كان ينمو على رقبته. على مدى ثلاثِ سنواتٍ تخلَّلها أربعُ عملياتٍ جراحية، حاول ويليام بول، الجرَّاح المعالج له، استئصال الورم بالكامل ولكنه فَشِل، واستمَر السرطانُ حتى اعتَبر بول حالة شتاين «مستعصية تمامًا». فلم يكن هناك المزيد يُمكِن القيام به من أجله.
بعد ذلك، بعد جراحته الأخيرة، أُصيب جرح شتاين بعدوى الحُمرة الشديدة بعد الجراحة (التي تُسبِّبها البكتيريا العقدية المقيحة). فأُصيب بحُمَّى عالية وبدا أقربَ إلى الموت من أي وقتٍ مضى. لكن حدث شيءٌ أشبه بمعجزة. في خضم إصابته بالعدوى، بدأَت بقايا وَرَمه في الانكماش. كانت الحُمَّى تزداد ثم تتراجع، وكلما ارتفعَت الحُمَّى، بدا أن وَرَمَه يلين وينكمش أكثر قليلًا. وبعد أكثر من أربعةِ أشهرٍ من المراقبة الدقيقة، زالت حُمَّى شتاين وأدرَك أطباؤه أن ورَمَه قد اختفى. لم يكن هناك أي أثَرٍ لأيِّ بقايا سرطانية.
لقد شُفِي شتاين … ولكن بماذا؟
لم يكن أحدٌ يعرف.
بدا أنه قد عالج نفسَه بنفسِه بطريقةٍ ما.
أصبح ويليام كولي مهتمًّا حدَّ الاستغراق بسِجلَّات شتاين، التي أظهرَت شفاءً تلقائيًّا ليس له تفسيرٌ من سرطانٍ مميت. يبدو أن حُمَّى المريض العالية حفَّزَت هذا الشفاء، لكن كولي تساءل عمَّا إذا كان السرطان قد عاد لاحقًا. كان ذلك ممكنًا بالتأكيد. هل كان شتاين لا يزالُ على قيد الحياة؟ كان على كولي أن يعرف، ولكن للأسف، لم يكن عنوانُ شتاين الحالي مسجَّلًا. ولم تكن هناك طريقةٌ للعثور عليه.
في دلالةٍ واضحة على المثابرة الرائعة، بدأ كولي بالبحث عن شتاين بنفسه. كان يفعل ذلك في وقت فراغه، دون هَدْيٍ أو يقينٍ بأن فريد شتاين كان لا يزال على قيد الحياة. جاب كولي أحياء لاور إيست سايد، وأخذ يطرقُ الأبواب، ويطلبُ من المارة معلوماتٍ عنه. وراح يبحثُ لأسابيع.
وللغَرابة أنه قد عثَر عليه بعد ذلك.
عندما جاء كولي إلى شقَّة شتاين، وجدَه على قيد الحياة وبصحةٍ جيدة، عدا ندبة بارزة في الرقبة من جراحاته السابقة. أحضر كولي شتاين إلى ويليام بول، الذي أكَّد أن هذا هو نفسُ الرجل الذي أجرى له العمليات ونجا من سرطان في مراحله الأخيرة. أصبح كولي مقتنعًا بأن العَدْوى والحُمَّى اللتَين أصابتا شتاين كانتا المفتاح للتغلب على سرطانه، وظن (خطأً) أن البكتيريا قد تكون هاجمت الورم مباشرة.
عندئذٍ، بدأ كولي يفكر في حيلةٍ جديدةٍ جريئة، وهي العثور على مريضٍ آخر يعاني من الساركوما وإصابته «عمدًا» بالبكتيريا العقدية المقيحة لاستحثاث عَدْوى الحُمرة وإعادةِ العلاجِ نفسِه. وقد كتب في تقريرٍ لاحقٍ يقول: «بما أن الحُمرة … قد استطاعت معالجةَ حالةِ ساركوما مؤكَّدة … فقد بدا منطقيًّا أن نفترض أن هذا التأثير الحميد سيحدُث في حالةٍ مماثلة إذا أمكَن إحداثُ إصابة متعمدة بالحُمرة اصطناعيًّا.» كان اختياره لكلمة «حميد» غريبًا؛ لأنه لا يمكن أن يكون قد فَشِل في فهم مخاطر إصابة المرضى ببكتيريا قاتلة. وعلى الرغم من قَسَم الأطباء ﺑ «تجنب إحداث الضرر»، كان كولي يعتقد أن فكرته الشائنة يمكن اعتبارها خيارًا عقلانيًّا بالنسبة لمرضَى بائسينَ ميئوسٍ من شفائهم. وأصبح «عازمًا على تجربة التطعيمات في أول حالٍ مناسبة يعثُر عليها.»
لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى وجد كولي حالة. ففي مايو عام ١٨٩١، جاء رجلٌ إيطالي يبلغ من العمر ٣٥ عامًا، يُعرف في السجل الطبي فقط باسم «السيد زولا»، يطلب مساعدته. كان زولا يُعاني من ساركوما الرقبة في المرحلة الأخيرة. ووافق على السماح لكولي بحقنه بالبكتيريا من أربعة مختبراتٍ مختلفة. ما خيَّب أملَ كولي أن عملياتِ الحَقْن هذه لم تنجح في تحفيز الحمَّى الشديدة المطلوبة التي كان كولي يعتبرها أساسية لتجربته. ولم تُثبِت الحُقَن الإضافية التي تحتوي على بكتيريا أكثر ضراوة أيَّ جَدْوى أيضًا. طلَب كولي المُحبَط من زميلٍ له كان مسافرًا إلى أوروبا أن يزور روبرت كوخ في برلين، لمعرفة ما إذا كان أستاذُ علم الميكروبات الشهير مستعدًّا لتزويد كولي بعَيِّنتِه الأكثر فاعلية من البكتيريا المسبِّبة للحُمرة.
استجاب كوخ للطلب. وأعاد صديقَ كولي إلى الوطن ومعه سُلالةٌ مميتة حقنَها كولي مباشرة في رقبة السيد زولا. وسرعانَ ما أُصيبَ زولا بالمرض الشديد؛ إذ ارتفعَت حرارته إلى ١٠٥ درجات فهرنهايت. وعلى الرغم من أن «العلاج» عرَّض حياة زولا للخطر بوضوح، فقد اكتشَف كولي بعد فترةٍ قصيرة تقلصًا ملحوظًا في حجم الورَم. وبعد أسبوعَين، شُفي زولا من العدوى واختفى ورمُه تمامًا.
فعلَها ويليام كولي. لقد عالج مريضًا عن طريقِ تحفيزِ حمى، مما أدَّى بطريقةٍ ما إلى تحفيز الجسم على التخلُّص من الورَم الخبيث.
كرَّس كولي جهدَه لتطوير ما كان يعتقد أنه اكتشافٌ جديدٌ مدهش. فجرَّب التطعيمات البكتيرية على عشراتٍ من مرضى السرطان، لكن النتائج كانت متباينة. فقد أظهَر أربعةُ مرضى استجابة إيجابية، لكن طريقتَه سرَّعَت بوفاة حالتَين. نظر كثيرٌ من الأطباء إلى نهج كولي بعين الشك، بل الاستهزاء؛ لأنهم اعتبروه غير مُثبَت، أو لأنهم لم يتمكَّنوا من تكرار نجاحاته المبلَّغ عنها بأنفسهم.
ومع ذلك، واصل كولي مسيرته. وفي عام ١٨٩٩، ابتكر مزيجًا من الكائنات الحية البكتيرية المقتولة بالحرارة أطلَق عليه «سم كولي»، الذي أصبح يُنتَج تجاريًّا بواسطة شركة «بارك، ديفيز أند كومباني». وعلى مدى عقود، عالج كولي المئات من المرضى بسُمه، بنتائجَ متباينة. ففي بعض الأحيان، تراجعَت الأورام، أو تحسَّنَت الأعراض، ولكن في أوقاتٍ أخرى يُصاب المرضى بعدوى عنيدة جعلَت حالتَهم أسوأ بكثير. بالمقارنة مع العلاجات التي يمكن التنبؤ بنتائجها مثل الإشعاع، ثم العلاج الكيميائي فيما بعدُ، بدت النتائج التي حقَّقها سُم كولي غير متسقة وغير موثوقة في نظر كثيرٍ من الأطباء. وعلى الرغم من أن كولي تحمَّل عقودًا من الانتقادات القاسية والازدراء، فإنه لم يتوقف أبدًا عن الترويج لطريقته. فقَد منتَجُه، الذي ظل متاحًا للبيع حتى عام ١٩٥٢، سُمعتَه على يد كلٍّ من إدارة الغذاء والدواء والجمعية الأمريكية للسرطان في الستينيات. وبعد عقود، زعَم تقييمٌ استرجاعيٌّ أنَّ كولي، على مدى مَسيرةٍ مِهنيةٍ استمرَّت ٤٠ عامًا، عالج أكثر من ألف مريضٍ مصابٍ بالسرطان بحُقنٍ بكتيرية، وأن ما يصل إلى ٥٠٠ من هؤلاء الأفراد شَهِدوا درجة معيَّنة على الأقل من تراجُع الوَرَم.
ظلَّت طريقةُ علاجِ كولي على مدى قرن بعد أبحاثه الأوليَّة تتأرجح بين القبول باعتبارها ممارسة طبية معتمدة وبين الرفض باعتبارها ضربًا من الشَّعوَذة، ولم تحتلَّ سوى مساحةٍ ضئيلةٍ على هامش التيار السائد في مجال طب الأورام. أما اليوم، فأصبح يُنظر إليه باعتباره صاحبَ رؤيةٍ وبصيرة، رجلًا كان يصيب المرضى بجرأة وتعمُّد لتحفيز أجهزتهم المناعية لمهاجمة السرطان، ربما دون علمٍ منه بذلك. ففي القرن العشرين، ساد الاعتقاد بأن الجهاز المناعي يتجاهل خلايا السرطان لأنه لا يمكنه التعرُّف عليها باعتبارها أجسامًا غريبة. وبدا أن هذا الافتراض بديهي؛ نظرًا لأن الخلايا الخبيثة تنبع من الخلايا السليمة.
لكن هذا ليس صحيحًا بالضرورة.
مستقبل العلاج المناعي
يُعرف المجال الفرعي لعلم الأورام الذي بدأه ويليام كولي الآن بالعلاج المناعي للسرطان. ويُعرَّف عمومًا بأنه أيُّ وسيلة يُسخَّر بها الجهاز المناعي لعلاج السرطان، وقد أصبح ذلك ممكنًا بفضل حقيقة أن خلايا السرطان، مثل معظم الخلايا، تعرض بروتيناتٍ فريدة، أو مولِّدات ضد، على سطحها، تتعرَّض بدَورها لبيئتها الخارجية، ويُمكِن أن ترتبط ببروتيناتٍ أخرى مثل الأجسام المضادة. بينما يُمكِن لخلايا السرطان أن تتحوَّر وتُطوِّر القدرة على الإفلات من عقاقير العلاج الكيميائي، إلا إنها لا يمكنها الهروب من الجهاز المناعي المحفز تحفيزًا صحيحًا، والذي يمكنه أن يتطوَّر ويتكيَّف للتعامل مع تهديد الأعداء المختلفين، مثلما تفعَل الخلايا السرطانية. وهذه الحقيقة المهمة هي التي تجعل العلاجَ المناعيَّ حلًّا جذَّابًا للغاية للسرطان.
غير أن أفكار كولي لم تبزغ من وراء ظلال التجاهل حتى منتصف السبعينيات، حين أحياها الدكتور ستيفن روزنبرج، رئيس قسم الجراحة بالمعهد الوطني للسرطان. في قصة تُشبِه قصةَ كولي على نحوٍ غريب، التقى روزنبرج، حين كان جرَّاحًا مقيمًا شابًّا يبلغ من العمر ٢٨ عامًا، بمريضٍ تعافى تعافيًا مدهشًا وغير مفهومٍ من السرطان. كان قد تم تجهيز المريض، الذي كان يُدعى جيمس دي أنجلو، لإجراء عمليةٍ جراحيةٍ لاستئصال المرارة على يد روزنبرج، لكن روزنبرج لاحظ أن دي أنجلو كان يُعاني من سرطان المعدة النقيلي في مراحله الأخيرة قبل ١١ عامًا؛ أي في عام ١٩٥٨، واختفى على نحوٍ تعذَّر فهمُه بعد عَدْوى خطيرة أصابته بعد العملية. أجرى روزنبرج عملية استئصال المرارة دون أي مضاعفاتٍ لدي أنجلو وفحَص بعنايةٍ الكبدَ والبطنَ اللذيَن كشفَت السجلَّات أنهما كانا ممتلئَين بأورامٍ متناثرة في عام ١٩٥٨. لكن روزنبرج لم يتمكَّن من العثور على أي أثَرٍ للسرطان.
وكما حدَث مع كولي، استحوذت قصة الرجل الذي اختفى سرطانُه من تلقاء نفسه على تفكير روزنبرج. لكن كان هناك فرقٌ بين هذَين الطبيبَين اللذَين يفصل بينهما نحو ٨٠ عامًا؛ فعلى عكس كولي، كان روزنبرج يفهم الجهاز المناعي. كان روزنبرج يعتقد أن الجهاز المناعي يمتلك خلايا تائية يمكنها التعرف على خلايا الورَم باعتبارها أجسامًا غريبة وقتلها، لكن كل ورَم كان فريدًا جدًّا؛ إذ يعجُّ بخلايا خبيثة تظهر مستضدَّاتٍ جديدة؛ لدرجة أنه كان يندُر وجود خلايا تائية نَشِطة كافية لإتمام المهمة. في المعركة بين السرطان والجهاز المناعي، كان السرطان يتمتَّع بجيش يضُم مليارات الجنود الأقوياء، بينما كان الجهاز المناعي يملك عددًا قليلًا نسبيًّا من الجنود ممثَّلين في الخلايا التائية. دفعَت هذه الفرضية روزنبرج للتفكير في طريقةِ علاجٍ جديدة. كانت خطته تتمثل في استخدام سيتوكين يُسمَّى إنترلوكين ٢ — الذي يعزِّز نموَّ الخلايا التائية — لتعزيز نشاط الخلايا التائية لدى المريض. استطاع إعطاء المرضى الإنترلوكين ٢ مباشرة، أو استخلاص خلاياهم التائية، واستخدام الإنتركولين ٢ لمضاعفتها ملايينَ المرَّات في مُختبَر، وإعادة حَقْنها في الجسم لتوفيرِ تدفُّقٍ هائل من التعزيزات لقلب مسار الحرب ضد السرطان.
على مدى أربع سنوات، من ١٩٨٠ إلى ١٩٨٤، باءت أفكار روزنبرج بالفشل. فقد عالج ٦٦ مريضًا. ولم يَجنِ أيٌّ منهم نفعًا من العلاج؛ إذ تُوفُّوا جميعًا. ثم في نوفمبر ١٩٨٤، عالج مجندة في البحرية تُدعى ليندا تايلور كانت تعاني من سرطان الجلد النقيلي في المراحل الأخيرة. حتى إن ملفَّها الطبي لصق عليه عبارة «على وشك الموت». أنمى روزنبرج ملياراتٍ من الخلايا التائية الخاصة بتايلور في مختبر، وحقَنَها مرة أخرى في مجرى دمها، إلى جانب حَقنِها بجرعاتٍ أعلى من المعتاد من الإنترلوكين ٢ مرارًا وتكرارًا، على أمل أن يستحثَّ جهازَها المناعيَّ على الدخول في حالة من النشاط المُفرِط.
ونجحَت الطريقة.
وعلى مدى أربعة أشهر، تقلَّصَت أورام تايلور، ثم اختفَت.
نجاح روزنبرج جعل منه شخصية طبية شهيرة خلال فترةٍ وجيزة. فظهر على غِلاف مجلَّة «نيوزويك» وأصبح واحدًا من «أكثر ٢٥ شخصية مثيرة للاهتمام لعام ١٩٨٥» حسب مجلة «بيبول». ولكن على الرغم من هذه الضجَّة، كان نجاحُه في علاج المرضى اللاحقين متباينًا. لم يعالج السرطان، لكنه أكد مبدأً مهمًّا، وهو أن الخلايا التائية الموجودة في الجهاز المناعي يمكن أن تُساعدَ في هزيمته. ولكن ذلك لا يحدُث في كل الأوقات. وكان يبدو أنه لا يحدُث دون حقن مليارات الخلايا على سبيل التعزيز. إذا كانت الخلايا التائية يُمكِنها التعرُّف على بعض خلايا السرطان باعتبارها أجسامًا غريبة، فلماذا لا تفعل ذلك طَوالَ الوقت؟ أو على الأقل في أغلب الأحيان؟ كان لا يزال هناك مزيدٌ من الأمور الواجب معرفتها وفهمُها حول كيفية إفلات السرطان من الجهاز المناعي.
سرعان ما تلا ذلك مزيدٌ من النجاح.
طوَّر العلماءُ طريقة لتصميم خلايا تائية تحتوي على مستقبِلاتٍ سطحية يمكنها التعرُّف الدقيق على المستضدات الظاهرة على سطح خلايا الورم الفريدة لدى كل مريض. الأمر أشبه بصنعِ قنبلةٍ ذكية موجَّهة بالليزر للقضاء على خلايا السرطان بأقل الأضرار الجانبية. يتطلب ذلك إدخال تعليماتٍ جينيةٍ جديدة إلى الخلايا التائية (باستخدام فيروساتٍ غير ممرضة باعتبارها وسيلةَ نقل) لحث الخلايا التائية على إنتاج بروتينٍ مصمم يُسمَّى «مستقبِل المستضدات الكيميري أو الخيمري» (كار). يُطلَق على هذه المستقبِلات «خيمرية»، وتعني خليطًا؛ لأنها مزيج من جزأَين؛ الجزء الأول عبارة عن جسمٍ مضاد (الجزء الذي يتعرَّف على المستضدات الورمية)، والآخر عبارة عن بروتينٍ مستقبِل للخلايا التائية. يُطلَق على ذلك الآن «العلاج بمستقبِلات المُستضدَّات الخيمرية للخلايا التائية (أو كار-تي)».
واليوم، يُمكِن إرسالُ عينة دم من المريض إلى مختَبر، وفي غضون أسبوعَين يمكن للمختبر تحليل الجينوم الخاص بالخلية السرطانية، وتحديد بروتينٍ سطحي فريد، وتحديد تسلسُل الحمض النووي المطلوب لتصنيع هذا البروتين. يحمل ناقلُ الفيروس الحمضَ النووي إلى الخلايا التائية، التي تُنتِج بعد ذلك مستقبلاتِ المستضدات الخيمرية القادرة على استهداف خلايا السرطان. بعد ذلك، تُحقن خلايا «كار-تي» التائية المعدَّلة، التي تنمو في المختبر حتى يصل عددُها إلى مليارات، مرة أخرى في جسم المريض حيث تستهدف الورم وتدمِّره. وُصفَت خلايا «كار-تي» بأنها «دواءٌ حي»، نظرًا لقدرتها على التضاعُف والبقاء في مجرى الدم لسنوات، ومهاجمة خلايا الورم إذا عادت وأظهرَت المستضدات نفسها، مما يحافظ على فترة الهدأة لأجلٍ غير مسمًّى.
حظيَت تجربة سريرية للعلاج بخلايا «كار-تي» التائية باهتمام كبير على الصعيد الوطني في عام ٢٠١٢ حين شُفيت واحدة من أوائل الحالات التي أُجريت عليها التجربة، وكانت لفتاة صغيرة مريضة للغاية تُدعى إميلي وايتهيد تبلغ من العمر ست سنوات وتعاني من سرطان الدم المزمن، وتلقت العلاج على يد الدكتور كارل جون في جامعة بنسلفانيا. أُجريت مقابلة مع إميلي ووالديها في برنامج «جود مورنينج أمريكا» وقُدِّمت قصتها في فيلم وثائقي لكين بيرنز عن السرطان. وفي عام ٢٠١٧، أُتيح عقاران بتقنية «كار-تي» معتمدان من إدارة الغذاء والدواء، وهما كيمرايا (تيساجينليكلوسيل) لعلاج سرطان الدم اللمفاوي الحاد، ويسكارتا (أكسيكابتاجين سيلوليوسيل) لعلاج لمفوما الخلايا البائية الكبيرة المنتشرة.
عودة جيمي إلى الوطن
في عام ١٩٩٧، فتحت كارين كامينجز، وهي امرأة تعمل في مكتب تطوير صندوق جيمي، مظروفًا يحتوي على تبرع ورسالة. كانت الرسالة من امرأة تُدعى فيليس كلاوسون، ادَّعت أن إينار جوستافسون، «جيمي» الأصلي، كان شقيقها البالغ من العمر ٦١ عامًا. كان الجميع في معهد دانا فاربر للسرطان يعتقدون أن جيمي قد مات منذ فترة طويلة، كما حدث لمعظم الأطفال المصابين بالسرطان. اتصلت كامينجز بكلاوسون لمعرفة المزيد. وبعد ذلك بقليل، اتصل جوستافسون بكامينجز، وترك رسالة صوتية بدأت بعبارة «جيمي يتحدث. سمعت أنك تبحثين عني.»
التقت كامينجز بجوستافسون وزارت منزله في منطقة نيو سويدن، بولاية مين. وهناك، أظهر لها جوستافسون الزي الذي أعطاه له لاعبو بوسطن بريفز في المستشفى. تحدث عن البرنامج الإذاعي المصيري في عام ١٩٤٨ الذي أطلق بنجاح «صندوق جيمي»، وتذكر الرحلات الطويلة إلى بوسطن من أجل العلاج وزيارات المتابعة. كان جوستافسون قد كبر وأصبح طوله خمس أقدام وست بوصات، وتزوج من حبيبته في المدرسة الثانوية، وأنجب ثلاث بنات، وأسس شركة مقاولات ناجحة. وعندما غادر فريق بريفز بوسطن إلى مدينة ميلووكي في عام ١٩٥٣، تحول ولاؤه إلى ريد سوكس.
في عام ١٩٩٨، الْتقى رالف إدواردز، المذيع السابق لبرنامج «تروث أور كونسيكونسيز»، بجوستافسون شخصيًّا في مباراة في ملعب فنواي بارك، حيث احتُفل بالذكرى الخمسين للبث. عندما سأله مراسل صحيفة «بوسطن جلوب» عن شعوره المتوقع إزاء الحفاوة الشديدة التي سيقابله بها الجمهور حتمًا، أجاب: «لقد جربت هذا الشعور من قبل. فعلوا ذلك من أجلي في مباراة بريفز في عام ٤٨، ولوحت بيدي للجمهور.» عُيِّن جوستافسون رئيسًا فخريًّا لصندوق جيمي في عام ١٩٩٩. وتوفي إثر سكتة دماغية في عام ٢٠٠١، عن عمر ناهز ٦٥ عامًا.
•••
منذ إعلان الحرب على السرطان في عام ١٩٧١، أُنفِق أكثر من ١٠٠ مليار دولار على أبحاث السرطان والوقاية منه. وصلت وفيات السرطان إلى ذروتها في عام ١٩٩١ وظلت تتناقص منذ ذلك الحين. ومن التسعينيات إلى العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، انخفضت وفيات سرطان الثدي بنسبة ٢٥ في المائة، وانخفضت وفيات سرطان القولون بنسبة ٤٥ في المائة، وانخفضت وفيات سرطان البروستاتا بنسبة ٦٨ في المائة. ويبلغ معدل البقاء على قيد الحياة لمدة خمس سنوات لجميع الأورام السرطانية مجتمعة الآن حوالي ٦٧ في المائة.
وعلى الرغم من أن المعركة لا تزال مستمرة، فإن تاريخ مجال طب الأورام يعكس كثيرًا من الإنجازات الرائعة. وتشمل الأورام السرطانية التي كانت في السابق قاتلة لا محالة وباتت الآن قابلة للشفاء اللوكيميا وسرطان الخصية ولمفوما هودجكين. وتحول كثير من الأورام السرطانية الأخرى إلى أمراض مزمنة يمكن التعامل معها ولا تمنع المرضى من عيش حياة كاملة، أو ليس لها سوى تأثير طفيف على أعمارهم الافتراضية. تنقذ الجهود المبذولة من أجل الوقاية، لا سيما الجهود المتعلقة بالإقلاع عن التدخين، أرواحًا لا تُعد ولا تُحصى. لم يوضح الباحثون الأساس الجزيئي المعقَّد للسرطان فحسب، بل أوضحوا أيضًا وسائل توظيف أسلحة جديدة من تخصص علمي آخر، وهو علم المناعة. في العقود القادمة، من الممكن تصور فحص السرطان بواسطة اختبار دم بسيط. إذا عُثر على أي خلل، يمكن تقديم علاجات وقائية لمنع تكوُّن السرطان من البداية.
المستقبل مشرق، وعلى الرغم من أننا قد لا نجد أبدًا رصاصة سحرية تشفي جميع السرطانات، فسيعيش أناس أكثر وأكثر حياة أطول وأفضل على الرغم من تشخيصهم بالسرطان. وفي حين أن كثيرًا من الإنجازات التي تحققت في العقود الأولى لأبحاث السرطان كانت نتيجة الصدفة أو أساليب التجربة والخطأ، تمضي التطورات الحالية قدمًا بقدر أكبر من التصميم والمنهجية، مما يمنحنا الثقة في أن بوسعنا الآن، أكثر من أي وقت مضى، القول عن قناعة بأن هزيمة السرطان أمر لا مفر منه وأنه مجرد مسألة وقت.