الصدمات
توقع الجميع أن يفوز يوليسيس إس جرانت.
كان بطل الحرب الأهلية يطمح إلى العودة إلى منصب الرئاسة بعد فترة انقطاع عن المنصب خلال إدارة رذرفورد بي هايز، الذي استمر ولاية واحدة. لكن جرانت فشل. في الاقتراع السادس والثلاثين لأطول مؤتمر وطني للحزب الجمهوري في التاريخ، خرج إلى الساحة الحصان الأسود الذي فاز بالترشيح. كان اسمه جيمس إيه جارفيلد، ولم يكن يسعى حتى إلى الرئاسة في بداية المؤتمر. وُلد جارفيلد فقيرًا في ولاية أوهايو عام ١٨٣١، وارتقى كثيرًا ليصبح محاميًا، وعميدًا لإحدى الكليات، وجنرالًا في الحرب الأهلية، وعضوًا في الكونجرس. بعد هزيمة الديمقراطي وينفيلد هانكوك في الانتخابات الرئاسية عام ١٨٨٠، أصبح جارفيلد الرئيس العشرين، وكان يُنظر إليه بوصفه شخصية قادرة على توحيد الصفوف قد تفعل الكثير لتضميد جراح الأمة. في بداية العصر الذهبي، أكسبته قصة صعوده من الحضيض شعبية مذهلة.
بعد أن تولى جارفيلد زمام الحكم في مارس ١٨٨١، كان يأمل في تخطي واحد من أصعب التحديات في السياسة الأمريكية، ألا وهو إصلاح الخدمة المدنية. على مدى عقود، كان نظام المحسوبية يغذي شكلًا من أشكال الفساد القانوني؛ إذ كان السياسيون يكافئون أتباعهم الأكثر ولاءً بمناصب مرموقة ووظائف يسيرة لا تتطلب جهدًا كبيرًا. انضم جارفيلد إلى صفوف الإصلاحيين الذين آمنوا بضرورة شغل المناصب على أساس الجدارة. حتى الآن، ثبت أن مرض المحسوبية الخبيث يضرب بجذوره بعمق ولا يمكن اجتثاثه.
بعد ذلك، ومثل خلية سرطانية قادرة على التحوُّر للدفاع عن نفسها، تمكن نظام المحسوبية من توجيه ضربةٍ لجارفيلد، ذلك الرجل الذي شكَّل أكبر تهديد لبقاء هذا النظام. وقد تمكن من ذلك من خلال رجل واحد: تشارلز جيتو، وهو رجل مثقف ومتعلم لكنه نرجسي موهوم ومتعصب دينيًّا. كان جيتو مهووسًا بالحصول على المناصب. وفي الوقت الذي كان مسموحًا فيه لأي شخص بزيارة البيت الأبيض، بدأ يظهر بانتظام، ويضغط على سكرتير جارفيلد لتعيينه قنصلًا في باريس. وبعد أن باءت طلباته بالرفض عدة مرات، أُوغر صدر جيتو على جارفيلد ووضع خطة لاغتيال جارفيلد. كان على يقين من أن نائب الرئيس، تشيستر إيه آرثر، سيكون ممتنًّا له لأنه ساعده على الترقي بإزاحة جارفيلد من الساحة؛ ومن ثَم سيوليه أي منصب يرغب فيه عن طيب خاطر.
صرخ الرئيس: «رباه! ما هذا؟»
وفي الحال، أطلق جيتو النار مرة أخرى، وأصابت هذه الرصاصة ظهر جارفيلد. وسقط جارفيلد أرضًا.
اعتقد جميع الأطباء الحاضرين أن وفاة جارفيلد وشيكة. ولم يرَ أحد منهم أن الليل سيحل عليه. وعلى الرغم من أن العلاج الذي تلقاه جارفيلد لم يكن خارج نطاق معايير العلاج الطبي الأمريكية في عام ١٨٨١، كان كل شيء تقريبًا يتعلق بالعناية بجارفيلد في ذلك اليوم المشئوم غير صحيح. فحمله على مرتبة وصعود السلم عرَّضاه لخطر تفاقم إصابة الحبل الشوكي. ولم يكن إدخال الأصابع غير المغسولة في الجرح تصرفًا حكيمًا. كما أن فحص الجرح باستخدام مسابير صلبة وغير معقمة كان أمرًا مريعًا. كانت هذه الأخطاء مؤسفة للغاية؛ لأنه في عام ١٨٨١، كان أطباء جارفيلد على علم بممارسات التعقيم. كانوا قد قرءُوا عنها في الدوريات الطبية لسنوات وناقشوها في المؤتمرات. ولعب حادث إطلاق النار على جارفيلد دورًا كبيرًا في الكشف عن التكلفة الناجمة عن غطرسة الأطباء الأمريكيين وغرورهم ومقاومتهم للأفكار الجديدة.
ولكن على الرغم من الأخطاء التي ارتكبها الأطباء، كان جيمس جارفيلد رجلًا قوي الإرادة. فلم يُعرف عن ذلك الرجل القوي المتين البنية ذي التسعة والأربعين عامًا الفشل في أي شيء، ولم يكن لديه النية لتجربة الفشل آنذاك. فقد كان لديه الكثير والكثير ليعيش من أجله.
«حيلة يانكية»
ارتبط العلاج الناجع للإصابات الرضحية في العصور الحديثة بظهور تطورين جراحيين مهمين، ألا وهما: التخدير والتطهير. قبل ظهور هاتين التقنيتين، كانت العمليات الجراحية نادرة الحدوث نتيجة للألم وضعف احتمالات النجاة؛ فقد كان المرضى لا يستسلمون لسكين الجراح إلا في أصعب الظروف. وساهمت الطبيعة الدموية لعمل الجراحين وانعدام كفاءتهم بصورة عامة، في وصمهم بالحماقة وعدم الكفاءة قرونًا طويلة. كانت الجراحة تُعتبر مجرد حرفة لا أكثر، شأنها شأن الحدادة والنجارة. وكان أكثر الحرفيين المعروف عنهم العمل بأياديهم على جسم الإنسان هم الحلاقين؛ ربما لامتلاكهم الأدوات الحادة اللازمة للفصد وخلع الأسنان وبتر الأطراف في زمن الحرب. وفي القرن التاسع عشر، لم تشهد سمعة الجراحين أي تحسن ملحوظ عما كانت عليه في العصور الوسطى.
في منتصف القرن التاسع عشر، كانت مسارح العمليات مروعة. كان أشهر الجراحين يعملون في المستشفيات الجامعية الكبيرة، حيث كانت العمليات تُجرى للمرضى في قاعات أشبه بالمدرجات. في منتصف «مسرح» العمليات كانت هناك مساحة دائرية صغيرة من الأرض، عليها طاولة خشبية متهالكة وملطخة بالدماء من أثر العمليات العديدة التي أُجريت عليها. وحول هذه المساحة الدائرية، توجد صفوف متدرجة مكشوفة من المقاعد مرتَّبة في شكلٍ هلالي تمتد حتى عوارض السقف. تميَّز كثير من المسارح المقببة بوجود كوة أو نافذة في السقف تسمح بسقوط الضوء على طاولة العمليات عند الظهيرة. وحين لا تكون الشمس مشرقة، تُستَخدم مصابيح الغاز، وأحيانًا الكثير من الشموع، لإنارة ساحة العمليات. كانت الأرض تُغطَّى بطبقة سميكة من نشارة الخشب لامتصاص كميات غزيرة من الدم. لم يعتَد الجراحون غسل أيديهم. فلم يكن من المنطقي أن يغسل المرء يديه قبل إجراء عملية، وإذا حدث وغسلها، كان المنطقي أن يغسلها بعد الجراحة لا قبلها. وبالمثل، لم تكن الأدوات تُنظَّف، بل كانت تُستخدَم مرارًا وتكرارًا على مريض تلو الآخر.
كان أفضل الجراحين آنذاك هم الأسرع في إجراء العمليات؛ على الأقل ستكون التجربة المؤلمة التي يمر بها المرضى أثناء العملية الجراحية مختصرة. على سبيل المثال، اكتسب واحد من أشهر الجراحين في العالم، وهو روبرت ليستون من اسكتلندا، شهرته بالأساس بِناءً على سرعته. ففي أوج مسيرته المهنية في عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر، كان بإمكانه بتر الساق في أقل من ٣٠ ثانية. ووفقًا لأحد المؤرخين الطبيين: «كان وميض سكين [ليستون] يتبع بصوت المنشار على الفور بدرجة تجعل الإجراءَين شبه متزامنَين.» وفي بداية العمليات، كان يأمر جمهوره بزهو: «والآن يا سادة، احسبوا الوقت!»
كان لاستعجال ليستون عواقبه. ففي أثناء إحدى العمليات، عمل بسرعة كبيرة لدرجة أنه قطع خصية رجل أثناء بتر ساقه. كان كثير من مرضى ليستون يخشون الخضوع لجراحة على يده. فمثلًا، حبس رجل خائف يعاني من حصوة في المرارة نفسه في الحمام، واضطُر ليستون لكسر الباب وجره إلى مسرح العمليات. وقد تفهم ليستون، أكثر من أي شخص آخر، القيود التي يفرضها الألم على الجراحة. ويُحسب له أنه انتهز الفرصة لاحقًا لتحسينها.
وبهذا، فُتح الباب أمام عصر جديد في الجراحة.
«الرجل الوحيد الذي أدخل سكينًا في جسد الملكة»!
كان من بين الحضور الذين شهدوا العملية التاريخية التي أجراها ليستون طالبٌ يُدعى جوزيف ليستر. لم يكن أحد يعرف بذلك حينذاك، لكن هذا الشاب المتواضع سيصبح البطل الذي سيتغلب على العقبة الصعبة الأخرى للعمليات الجراحية، وهي العدوى. على الرغم من أن ظهور التخدير أعطى الجراحين مزيدًا من الوقت لإتمام عملياتهم، فإنه لم يسهم بأي شيء في تحسين معدلات نجاحها، أو ارتفاع معدل الوفيات بسبب العدوى بعد العملية الجراحية. ففي منتصف القرن التاسع عشر، كان نحو ٨٠ في المائة من العمليات ينتج عنها عدوى، كما أن نصف المرضى تقريبًا الذين خضعوا لعمليات جراحية كبيرة لقوا حتفهم. ومن عجيب المفارقات أن تطور التخدير زاد النتائج الجراحية سوءًا؛ لأنه مع إمكانية إجراء العمليات الجراحية الآن دون ألم، أصبح الجراحون أكثر جرأة وحاولوا إجراء مزيد من العمليات الأكثر تعقيدًا والأطول أمدًا. وكما هو متوقع، أدى هذا إلى زيادة حالات العدوى والوفاة بعد العمليات الجراحية.
نظرًا لأن ارتفاع معدلات العدوى في المستشفيات قد أسهم في إكسابها تلك السمعة غير المستحبة باعتبارها «منازل الموتى»، اختار معظم الأثرياء والموسرين إجراء العمليات الجراحية في منازلهم. في عام ١٨٦٩، كتب الجراح وطبيب التوليد جيمس يانج سيمبسون يقول: «إن فرص وفاة المريض الذي يوضع على طاولة العمليات في أحد مستشفياتنا الجراحية أكثر من فرص وفاة الجندي الإنجليزي في معركة واترلو.» أجرى سيمبسون دراسة مسحية واسعة النطاق على أكثر من ٤٠٠٠ عملية أُجريت في بريطانيا، كشفت أن ٤٠ في المائة من عمليات بتر الأطراف في المستشفيات أدت إلى الوفاة، في حين تُوفي ١٠ في المائة فقط من المرضى الذين خضعوا لعمليات بتر خارج المستشفيات. كانت حالات العدوى بعد العملية الجراحية محيرة وإشكالية لدرجة أن أحد مستشفيات فيلادلفيا توقفت عن إجراء العمليات في الفترة من يناير إلى مارس، وهي الفترة التي كان يُعتقَد أن تفشي الحُمرة فيها يكون أكثر شيوعًا. أرجع المناهضون لنظرية العدوى حدوث تلك العدوى إلى الوبالة أو «الهواء الفاسد»، الذي اعتقدوا أنه ينبعث من اللحم المتعفن في الجروح. وعندما فشلت عمليات التنظيف المكثفة والحجر الصحي الصارم للمرضى بعد العمليات الجراحية في وقف انتشار العدوى في بريطانيا، اعتُبرت بعض المستشفيات قذرة أو فاسدة بسبب الوبالة على نحو يتعذر علاجه، لدرجة أنها هُدمت عمدًا حتى يمكن بناء مستشفيات جديدة بهواء أنقى مكانها.
في خمسينيات القرن التاسع عشر، كان جوزيف ليستر أحد نجوم الجراحة الصاعدين بسرعة في إنجلترا في العصر الفيكتوري. فقد درس على يد الطبيب المشهور جيمس سيم في جامعة إدنبرة، ثم أصبح رئيس قسم الجراحة في مستشفى جلاسكو الملكي. طوال مسيرة ليستر المبكرة، كانت مشكلة انتقال عدوى الجروح إلى مجرى الدم لتسبب التسمم والوفاة تحيره. وقد جاء أحد الأمثلة على ملاحظاته الشخصية على النحو الآتي: «الساعة الحادية عشرة مساءً. ثمة استفهام. كيف تصل المادة السامة من الجرح إلى الأوردة؟ هل بسبب تقيح الجلطة في فتحات الأوردة المقطوعة، أم بسبب امتصاص المادة السامة من خلال الأوردة الدقيقة أو انتقالها إلى الجذوع الوريدية؟»
على الرغم من قضائه الكثير من الوقت في التفكير ووضع فرضيات حول هذه المشكلة، لم يتمكن ليستر من التوصل إلى حل. وذات صباح، قال لطلابه وهو يقف عند السرير الذي يرقد عليه مريض مصاب بكسر في الذراع: «ثمة ملاحظة شائعة، وهي أنه عند حدوث إصابة دون أن يحدث تلف أو جرح في الجلد، فإن المريض يتعافى دائمًا وذلك دون حدوث أي مرض شديد. في المقابل، دائمًا ما تؤدي الإصابات، حتى الطفيف منها، إلى عواقب وخيمة عند وجود جرح في الجلد. كيف هذا؟ الشخص الذي يستطيع تفسير هذه المشكلة سيحظى بشهرة خالدة.»
وجاءت لحظة التجلي لليستر في عام ١٨٦٤.
قرأ ليستر عن أبحاث لويس باستور حول التخمر واكتشاف الكائنات المجهرية، وأدرك أن هذه الميكروبات نفسها قد تكون مصدرًا للعدوى في الجروح. فشرع في إعادة اختبار تجارب باستور، وأصبح مقتنعًا بصحة الفكرة. كان أصحاب نظرية الوبالة محقين في أن العدوى يمكن أن تنتقل في الهواء، لكن الهواء لم يكن الجاني، بل الكائنات الدقيقة السابحة في الهواء. علاوة على ذلك، يمكن أن تنتقل الكائنات الدقيقة المسببة للعدوى لا عن طريق الهواء فحسب، بل أيضًا عن طريق الاتصال أو التلامس؛ إذ يمكنها الانتشار عن طريق أصابع الأطباء والأدوات. فكَّر ليستر في كيفية استخدام المواد المضادة للميكروبات لمكافحة هذه الكائنات. وفي مؤتمرٍ طبي، قال: «عندما قرأت البحث الأصلي لباستور قلت لنفسي: «كما يمكننا تدمير القمل في رأس طفل لديه قمل، باستخدام أدوية سامة لا تضر بفروة الرأس؛ أعتقد أنه يمكننا استخدام سموم على الجروح لتدمير البكتيريا دون إلحاق الضرر بالأنسجة الرخوة للمريض».»
كانت هذه «السموم»، المعروفة أيضًا باسم المطهرات، عادة محاليل كاوية، أو مستحضرات من النبيذ أو الكينين. لم تكن جديدة. وعلى الرغم من أنها غير فعالة إلى حد كبير، كانت توضع عادة على الجروح المصابة التي بدت تفرز كميات كبيرة من الصديد. كانت هناك درجة معينة من الصديد تعتبر مفيدة بالفعل، وتسمى «القيح الحميد»؛ لأنه كان يعتقد أنه يمثل جزءًا من الاستجابة الالتهابية الطبيعية خلال عملية الشفاء. ولكن عندما يصبح إنتاج الصديد غزيرًا أكثر مما ينبغي، كما في العدوى الشديدة أو المزمنة، كان الأطباء يعتبرون ذلك دلالة سلبية ويحاولون التصدي له بالمطهرات، لكن عادة لم يكن ذلك يجدي نفعًا في مثل هذه المرحلة المتأخرة.
ولكن ليستر فكر: ماذا لو استُخدمت المطهرات باعتبارها إجراءً وقائيًّا؟ ماذا لو استُخدمت لقتل الجراثيم قبل أن تتمكن من استيطان الجرح؟ هل يمكن أن يحول ذلك دون ازدهارها ويثبت أنه أكثر فائدة من استخدام المطهرات بعد أن تكون العدوى قد سيطرت بالفعل؟
اختبر ليستر العديد من أنواع المحاليل الكاوية. كانت بعض المحاليل خفيفة أكثر مما ينبغي، وكان البعض الآخر شديد السمية وألحق الضرر بالأنسجة الطبيعية، أو حتى يتسبب في تعزيز العدوى عن طريق تثبيط عملية الشفاء.
ثم توصل ليستر بالصدفة إلى خيار واعد للغاية.
تذكَّر أن المهندسين في مدينة كارلايل بدءُوا في استخدام حمض الكربوليك لتنظيف بالوعات الصرف الصحي والتخلص من الروائح الكريهة للمراعي المخصبة بروث الحيوانات. وقد لوحظ انخفاض في حالات تفشي الأمراض المعدية بين القطعان التي كانت ترعى في هذه الأراضي. واستنتج ليستر أن حمض الكربوليك قد يكون مطهرًا ممتازًا.
لكن في الوقت نفسه، كان ليستر يعلم أن الصبي سيظل معاقًا إلى الأبد إذا فقد إحدى ساقيه. وقرر ليستر أن يختبر قناعته بالتعقيم وحمض الكربوليك. وبدلًا من اللجوء للجراحة، بدأ بغسل الجرح بحمض الكربوليك لتنظيفه وعلى أمل أن يمنع ظهور العدوى. ثبَّت العظام، ثم غطى الجرح بمادة كالمعجون ووضع ضمادة من القصدير عليه للحيلولة دون تبخر حمض الكربوليك بسرعة. كان ليستر يصب المزيد من حمض الكربوليك على الضمادة كل يوم، وهو ما يتيح تشرُّب الضمادة له ووصوله للجرح. بعد أربعة أيام، أزال الضمادة الأولى وفحص الجرح. لم يكن هناك أثر لصديد أو عدوى، لكن حواف الجرح كانت حمراء. كان ليستر قلقًا من أن حمض الكربوليك كان كاويًا أكثر من اللازم؛ لذا خفف الخليط. وما جعله يتنفس الصعداء أن الجرح بدأ يتماثل للشفاء بنظافة بعد عدة أيام. وبعد ستة أسابيع، شُفيت ساق جيمس جرينليس تمامًا وخرج من المستشفى على قدميه.
مثلت التجربة انتصارًا عظيمًا.
بدأ ليستر في استخدام حمض الكربوليك وتجنب البتر، كلما أمكن. ومن بين أول عشرة مصابين بكسور مضاعفة عالجهم، تعافى ثمانية دون عدوى أو فقدان للطرف. ومقارنة بالممارسات والنتائج السابقة، كانت هذه معجزة.
لم يكد يمضي وقت طويل حتى توسع ليستر في استخدام مطهر حمض الكربوليك لعلاج الخراجات والجروح السطحية والشقوق الجراحية. في مثل هذه الحالات، انخفضت معدلات حدوث العدوى انخفاضًا هائلًا؛ ففي خلال تسعة شهور في الفترة بين ١٨٦٦ و١٨٦٧، لم تحدث حالة واحدة من الإنتان، أو الغرغرينا، أو الحُمرة في أقسام المستشفى الذي يعمل به ليستر. وفي رسالة إلى والده بتاريخ ٢٠ أكتوبر عام ١٨٦٧، كتب ليستر: «أنا الآن أجري عملية لإزالة ورم، وغيرها من العمليات، بشعورٍ مختلف تمامًا عما اعتدته في السابق؛ في الواقع، لقد أصبحت الجراحة شيئًا مختلفًا تمامًا.» قبل العمليات الجراحية، كانت جميع أدوات ليستر ويدا كل جراحٍ، وكل خيط جراحي، والضمادات التي توضع بعد العملية؛ تُغمس في حمض الكربوليك. وقد جعلته نجاحاته متلهفًا على نشر الطرق التي يتَّبعها إلى الآخرين حتى يمكن إنقاذ مزيد من الأرواح.
في عام ١٨٧١، أتيحت لليستر فرصة لفعل شيء سيُثبِت أنه أكثر قيمة من أي تقرير علمي في محاولته إقناع زملائه وعامة الناس بأن أسلوب التطهير الذي يتبعه يستحق الأفضلية، حين أجرى عملية جراحية للملكة فيكتوريا. كانت الملكة قد أصيبت بخراجٍ مؤلمٍ تحت إبطها. على الرغم من تورطه في صدامات دائمة مع الأقران الذين كانوا يشككون في طريقة التعقيم، ظل ليستر واحدًا من أكثر الجراحين موهبة وشهرة في الإمبراطورية. فاستُدعي إلى قلعة بالمورال في الرابع من سبتمبر عام ١٨٧١، ورأى على الفور أن حياة الملكة في خطر. كان من الضروري فتح الخراج وتصريف ما فيه. بعد تخدير الملكة بالكلوروفورم، أعدَّ ليستر المنطقة التي سيُجرى عليها الجراحة بالحمض الكربولي بعناية، وطلب من الطبيب الملكي رش حمض الكربوليك في الهواء طوال العملية، وأجرى الجراحة من دون مضاعفات. ونجت الملكة. ونتيجة ذلك، لاقت طريقة ليستر قبولًا أوسع بكثير. عند العودة إلى جامعة إدنبرة، حيث أصبح رئيسًا لقسم الجراحة، قال لطلابه: «أيها السادة، أنا الرجل الوحيد الذي أدخل سكينًا في جسد الملكة!»
مع الوقت، أثبتت النتائج قيمة أساليب ليستر. فقد رأى المزيد والمزيد من الجراحين في جميع أنحاء بريطانيا أن التعقيم قلَّل على نحوٍ ملحوظ من معدلات الإصابة بالعدوى. فأشار أحد تقييمات التقارير المنشورة في القرن التاسع عشر إلى أنه، قبل اعتماد مبادئ ليستر، تُوفي نحو ٥٠ في المائة من مرضى البتر، وبعد ذلك، انخفضت الوفيات إلى أقل من ١٠ في المائة. وفي عام ١٨٧٥، انطلق ليستر في جولة لإلقاء محاضرات عبر القارة. وفي كثير من مرات ظهوره في ألمانيا، لاقى حفاوة كبيرة بوصفه بطلًا وذلك لإنجازه المنقذ للأرواح. وفي عام ١٨٧٦، تلقَّى دعوة للتحدث في المؤتمر الطبي الدولي في فيلادلفيا، وهو اجتماع حضره نحو ٤٥٠ طبيبًا في المدينة التي كانت تستضيف معرض المئوية الأمريكية في الوقت نفسه.
في الولايات المتحدة، فوجئ ليستر بأن بعض الجراحين الأمريكيين كانوا أكثر رفضًا للتعقيم من زملائه البريطانيين في أي وقتٍ مضى. لم يكن على علمٍ بأن دعوته إلى فيلادلفيا من قِبَل الجراح البارز صامويل جروس كانت تهدف، جزئيًّا على الأقل، إلى التقليل من شأن التعقيم. كان جروس من أشد المعارضين لنظرية جرثومية المرض. بل إن كثيرًا من المستشفيات الأمريكية، وفيها مستشفى ماساتشوستس العام في بوسطن، حظرت طريقة ليستر، معتبرة أنها غير ضرورية، بل ضرب من الدجل. ويرجع ذلك إلى أن قلة قليلة جدًّا من الأطباء الأمريكيين هم فقط من اتخذوا القفزة الفكرية نحو التصديق بأن العدوى تحدث بسبب كائنات حية دقيقة وغير مرئية. في المؤتمر الطبي الدولي المنعقد في الرابع من سبتمبر عام ١٨٧٦، اضطر ليستر إلى الاستماع إلى كثير من الأطباء الأمريكيين وهم يوجِّهون هجومًا لاذعًا إلى التعقيم. فأخذوا يستخفون بنظرية جرثومية المرض واحدًا تلو الآخر. ووجَّه الجراح فرانك هاملتون، الذي ساعد فيما بعد في رعاية الرئيس جارفيلد عام ١٨٨١، إهانة إلى ليستر بقوله: «يبدو أن نسبة كبيرة من الجراحين الأمريكيين لم يعتمدوا هذه الممارسة. سواء كان ذلك بسبب عدم الثقة أو لأسباب أخرى لا أستطيع قولها.» وفي إهانة مباشرة للضيف المدعو، قال صامويل جروس: «الثقة التي يضعها أي جراح مستنير أو محنك على هذا الجانب من الأطلسي في العلاج المزعوم للبروفيسور ليستر ضئيلة، إن لم تكن معدومة.»
وأخيرًا، أتيحت لليستر الفرصة لإلقاء محاضرة استمرت ثلاث ساعات للدفاع عن أساليبه، ولكنه فشل في استقطاب عدد كبير من الحاضرين. بعد ذلك، انطلق في جولة عبر البلاد، حيث سافر بالقطار إلى سان فرانسيسكو وعاد، وخلال رحلته تحدَّث في كليات الطب لنشر مبادئ التعقيم التي وضعها.
لسوء الحظ، بقي كثير من الحضور غير مقتنعين، وكان ذلك على حساب عددٍ لا يحصى من المرضى الأمريكيين.
رئيس أضناه المرض
بعد إطلاق الرصاص على الرئيس جيمس جارفيلد في محطة قطار بالتيمور وبوتوماك في واشنطن العاصمة، نُقل إلى البيت الأبيض في سيارة إسعاف تجرُّها الخيول. قام الدكتور ويلارد بليس، الذي أوكل لنفسه مسئولية رعاية الرئيس، بعزل جارفيلد في غرفة نوم في الطابق الثاني، حيث لم يُسمح لأحد بالدخول إلا بإذن بليس. وفي يوليو ١٨٨١، أي بعد خمس سنوات من زيارة جوزيف ليستر إلى الولايات المتحدة، ظل بليس معارضًا بشدة لأساليب التعقيم. طرد بليس جميع الأطباء الذين ساعدوا الرئيس في محطة القطار تقريبًا، طمعًا منه في الاستئثار بالشهرة والشرف المرتبطَين بكونه الطبيب المسئول عن الرئيس، حتى إنه منع طبيب أسرة جارفيلد، جيديديا هايد باكستر، من رؤية جارفيلد.
على الرغم من أن جارفيلد بدا على مشارف الموت بعد إطلاق الرصاص مباشرة، سرعان ما أصبح واضحًا أنه لم يكن على وشك الموت. فبحلول اليوم التالي، استقرت علاماته الحيوية، وكان قادرًا على الكلام على الرغم من أنه كان لا يزال يعاني من ألم شديد وغثيان متكرر. وعلى مدى الأيام العديدة التالية، أصبح بليس، الذي أمطر مريضه بالنبيذ وحقن المورفين اليومية، متفائلًا بأن جارفيلد قد يتعافى. أجرى بليس مقابلات كثيرة مع الصحافة، وأصدر العديد من البيانات حول حالة الرئيس يوميًّا. كان يظهر تفاؤلًا مستمرًّا في هذه البيانات باستمرار. فبعد بضعة أيام فقط من محاولة الاغتيال، قال بليس لأحد المراسلين: «أعتقد أنه لا يوجد ما يستدعي القلق … فالرئيس جارفيلد قطع شوطًا مدهشًا في العلاج … أعتقد أن إنقاذه بات شبه مؤكد.» وعلى نحوٍ لا يُصدَّق، نُقل عن بليس أيضًا قوله بجدية تامة: «إن لم أتمكن من إنقاذه، فلن يستطيع أحد آخر.»
ظل الرئيس صامدًا ثلاثة أسابيع، حتى إنه أظهر علامات على التحسن وعادت إليه شهيته وطلب تدخين سيجار، ولكن طلبه قوبل بالرفض. بعد ذلك، في الثالث والعشرين من يوليو، تبدَّلت حالة جارفيلد على نحوٍ مفاجئ. فقد خرج من الجرح تلقائيًّا قطعة عظم وبعض القطع الصغيرة من القماش التي كانت قد دخلت جسده بواسطة الرصاصة. ارتفعت حرارة جارفيلد إلى ١٠٤ درجات فهرنهايت. واكتُشف «كيس من الصديد» في ظهره. في ذلك الوقت، كان بليس قد طلب مساعدة اثنين من الجراحين البارزين، وهما ديفيد هايز أجنيو وفرانك هاملتون، اللذان قاما بدورهما بشق الجرح في الرابع والعشرين من يوليو وأدخلا أنبوب تصريف كبيرًا. وبعد يومين، فُحِص الجرح وصُرِّف وضُمِد مرة أخرى، وخلال هذا الإجراء أزيلت شظايا العظام التي بلغ طول إحداها بوصة.
في هذه الأثناء، ظل جارفيلد يضعف أكثر. وأدخِلت عدة أنابيب تصريف غير معقمة إلى تجويفه البطني وانتُزِعت على مدى عدة أيام. شق الطبيب أجنيو خراجًا آخر وصرَّف ما فيه في الثامن من أغسطس، معتقدًا في البداية أنه يتعامل مع عدوى تشكَّلت في تجويف تكوَّن بسبب مسار الرصاصة، لكنها في الواقع كانت ناجمة عن الفحوصات الاستكشافية العديدة والعميقة التي أجراها أطباء جارفيلد. ونتيجة لما عاناه جارفيلد من غثيان وقيء مستمرين، عانى من سوء التغذية والجفاف على نحوٍ متزايد. وانخفض وزنه من ٢١٠ أرطال إلى ١٣٥ رطلًا. لجأ بليس إلى محاولات لإمداده بالعناصر الغذائية عبر حقنة شرجية، حيث حقن خلطات من مرق اللحم البقري والحليب والويسكي وصفار البيض، وصبغة من الأفيون في مستقيم الرئيس، على أمل امتصاص الجسم بعض العناصر الغذائية.
ومع ذلك، كافح الرئيس من أجل البقاء. أظهر جارفيلد قوة الشخصية التي كانت عنوانًا لحياته؛ إذ ظل محتفظًا بروحه المرحة، وكثيرًا ما عبَّر عن امتنانه العميق لأولئك الذين يبذلون قصارى جهدهم لمساعدته. وتحمَّل عمليات أجنيو من دون شكوى. في بعض الأيام، بدت حالة جارفيلد مستقرة، حتى إنه كان يعرب عن تحسُّن طفيف في أحد الأعراض التي يعاني منها، لكن بشكلٍ عام، كان هناك تدهور تدريجي حاد. وبحلول الخامس والعشرين من أغسطس، لم تعد ملامح جارفيلد تحمل سوى طيفٍ من ملامحه القديمة. فقد أدى التهاب الغدة النكافية إلى شلل في نصف وجهه. وتفشَّت العدوى إلى درجة أن القيح كان ينساب بحرية من أذنه. وفي بعض الأحيان، كان يفقد الوعي، وبدأ يعاني من هلاوس.
في الثلاثين من أغسطس، أدخِل مسبار في الجرح الأصلي و«مُرِّر إلى أسفل بسهولة لمسافة ١٢ بوصة» في اتجاه الفخذ اليمنى. لو أدرك بليس أن هذا التجويف لم ينجم عن مسار الرصاصة، لم يكن ليسمح لهذه المعلومة أن تغيِّر رأيه حول موقع الرصاصة. وبينما استمرت الأمة في الصلاة وانتظار كل بيان يصدر عن المستجدات حول حالة الرئيس، تمكَّن جارفيلد من الصمود حتى نهاية أغسطس وبداية سبتمبر، على الرغم من أن الجميع، وفيهم هو نفسه، بدءُوا يدركون أن نجاته ستتطلب معجزة.
ظل جارفيلد أيامًا يصر إصرارًا متزايدًا على السماح له بترك الحدود الخانقة للبيت الأبيض. وفي الخامس من سبتمبر، نُقِل بالقطار إلى إلبرون، بولاية نيوجيرسي، حيث عمل ٢٠٠٠ شخص طوال الليل لتركيب مسار طوله ٣٢٠٠ قدم يمتد من محطة القطار إلى باب المنزل الساحلي الذي سيقيم فيه. وبعد مرور أسبوعين، في التاسع عشر من سبتمبر؛ أي بعد تسعة وسبعين يومًا من إطلاق النار عليه، تُوفي جارفيلد جراء إصابته بإنتان شديد.
كشف التشريح أن بليس ارتكب خطأً فادحًا بشأن موقع الرصاصة. فالرصاصة لم تستقر في الجانب الأيمن للرئيس، بل ارتدت إلى اليسار بعد أن أصابت إحدى ضلوع جارفيلد وثقبت الفقرة القطنية واستقرت على جانبه الأيسر، خلف البنكرياس، حيث عُثر على الرصاصة مغلَّفة بالأنسجة الليفية. وعُثر على عدة تجاويف ممتلئة بالقيح في البطن. بدا أن السبب المباشر للوفاة هو تمزق لتمدد في الشريان الطحالي. من الممكن أن تكون الرصاصة قد احتكَّت بالشريان الطحالي وأتلفته، أو يمكن أن يكون التمزق غير مرتبط بالرصاصة وناجمًا عن حالة الرئيس الطبية الخطيرة بصورة عامة، التي تفاقمت بسبب الإنتان وسوء التغذية والجفاف، وفشل كثير من الأعضاء.
درس المؤرخون الطبيون حالة جارفيلد لأكثر من قرن. اقترح البعض أسبابًا بديلة ساهمت في حدوث الوفاة، وفي ذلك النوبة القلبية والالتهاب الرئوي والتهاب المرارة. وبغض النظر عن السبب النهائي — ومن الممكن أن تكون هناك عوامل عديدة أفضت إلى هذه النتيجة — فالشيء الواضح أن العدوى الشديدة التي أصيب بها جارفيلد كانت عاملًا حاسمًا في وفاته. يتفق معظم مؤرخي الطب على أن جرح جارفيلد الناجم عن الرصاص لم يقتله، بل قتلته العدوى التي تسببت فيها الفحوصات المتكررة، المفتقرة إلى التعقيم، التي أجراها الأطباء. كان بليس وزملاؤه يعرفون باعتبارهم جراحين عسكريين محنكين، أن الرجال يمكن أن يعيشوا والرصاص مستقر في أجسادهم؛ وهو ما حدث لكثير من المحاربين القدامى في الحرب الأهلية. وبمجرد أن اتضح لهم أن العلامات الحيوية لجارفيلد مستقرة، لم يكن من المفترض أن يستحوذ البحث عن الرصاصة كل ذلك الاهتمام. وبتأمُّل ما حدث، كان من الأفضل ببساطة تغطية الجرح وتخفيف الألم والحفاظ على الترطيب، وتجنُّب أي تدخلات داخلية.
لا عجب في أن ويلارد بليس قد واجه انتقادات لاذعة على الأسلوب الذي اتَّبعه في أثناء رعاية الرئيس. فقد بدا ازدراؤه لتقنيات التعقيم وطريقته المتعجرفة والبيانات المفرطة في التفاؤل التي كان يصدرها للعامة تجسيدًا لكل أوجه القصور والتخلف التي اتسم بهما الطب الأمريكي وممارسوه. فقد كتب أحد الأطباء، وهو ناشر لدورية شعبية تُسمَّى «والشز ريتروسبكت»، أن بليس قد «ألقى بظلال الشك والريبة على الجراحة الأمريكية أكثر من أي وقت معروف في تاريخنا الطبي.» أصبح من الشائع أن نقول إن الدرس المستفاد من هذه القصة المؤسفة بأكملها هو ببساطة: «الجهل مقبرة».
انتشرت فكرة أن أطباء جارفيلد تسببوا في وفاته على نطاقٍ واسع، إلى درجة أن القاتل نفسه، تشارلز جيتو — الذي أنكر التهمة الموجهة ضده بداعي الجنون — ادعى أن طلقة البندقية لم تقتل الرئيس، بل قتله الإهمال الطبي. في بداية محاكمته، كتب جيتو في بيان يقول: «مات الجنرال جارفيلد بسبب الإهمال الطبي … وفقًا لأطبائه، لم تكن الرصاصة قاتلة. يجب أن يتحمَّل الأطباء الذين أساءوا علاجه عار وفاته، وليس المعتدي عليه. يجب أن يوجه إليهم الاتهام بقتل جيمس جارفيلد، وليس لي.» استغرقت هيئة المحلفين أقل من ساعة لإدانة جيتو، وذلك في السادس والعشرين من يناير من عام ١٨٨٢. وأعدِم شنقًا في الثلاثين من يونيو؛ أي قبل يومين من حلول الذكرى السنوية الأولى لإطلاق النار على جارفيلد.
وعلى الرغم من أن فترة رئاسة جارفيلد كانت قصيرة، إذ استمرت ستة أشهر، فإن تداعيات اغتياله كانت مؤثرة. فقد أقدم تشيستر إيه آرثر، الذي كان كثيرون يسخرون منه باعتباره أداة سياسية، على متابعة إصلاحات الخدمة المدنية التي أقرَّها جارفيلد، والتي تُوجت بقانون بندلتون لإصلاح الخدمة المدنية عام ١٨٨٣. على الصعيد الطبي، ساعدت أزمة رعاية جارفيلد الأطباء الأمريكيين على الاعتراف بأهمية تقنية التعقيم أخيرًا، وهي خطوة مهمة انبلج معها فجر الابتكار الجراحي الأمريكي، بقيادة رواد مثل ويليام هالستيد. وعلى الرغم من أن الأمريكيين اعتمدوا أساليب ليستر متأخرًا، أصبح السبيل ممهدًا أمام الولايات المتحدة لتصبح مركزًا للتقدم الجراحي في القرن العشرين بمجرد اعتمادها.
معركة بين إمداد الدم والجمال
يزخر القرن العشرون بقصص التقدم الطبي الذي حققه أطباء متفردون عانوا طويلًا، وتمكَّنوا بالذكاء والمصادفة والمثابرة من إحراز تقدم مدهش في مكافحة أكثر الأمراض فتكًا بالبشرية، وفي ذلك أمراض القلب والسكري والأمراض المعدية والسرطان. لكن تخصُّص جراحة الصدمات مختلف. في هذا المجال، لم يتمخض التقدم في الغالب عن سنوات البحث الدءوب، أو لحظات التجلي والإلهام التي جاءت في وقتها، أو التنظيم الأفضل، أو المتمردين الأذكياء الذين شطوا عن القواعد والمألوف. ثمة عامل واحد فقط أدى إلى التطورات الأكثر إثارة في علاج الصدمات.
الحرب.
خلفت الحربان العالميتان الكارثيتان قدرًا ودرجة من الصدمات تضاءلت أمامها الصدمات التي نجمت عن النزاعات البشرية السابقة. لكن لم تكن جميع الإصابات جديدة. فكما هو الحال في الحروب السابقة، أصيب الجنود بجروحٍ ناجمة عن الرصاص، والطعن، والنزف، والكسور. واستفاد هؤلاء الضحايا من عقود من التحسينات التي لا يمكن إنكارها، وإن كانت بطيئة، في كلٍّ من تصنيف الإصابات وفقًا لخطورتها، وتقنيات الجراحة وسرعة الرعاية ومكافحة العدوى، وكلها تطورات كانت ستتحقق في النهاية في الطب المدني، ولكن بوتيرة أبطأ. إن ما أورثته الحروب العالمية حقًّا للأطباء هو الفرصة لمواجهة أنواع جديدة ورهيبة من الإصابات التي لم يسبق لهم مواجهتها على نطاق واسع. وفي تاريخ تلك الفترة تأكيد لصحة المقولة الدارجة: «الرابح الوحيد في الحرب هو الطب».
كانت هيمنة حرب الخنادق في الحرب العالمية الأولى مسئولة إلى حدٍّ كبير عن التحدي الطبي المريع الجديد الذي نجم عن هذا الصراع، ألا وهو إصابات الوجه المشوِّهة البشعة التي نالت عشرات الآلاف من الجانبين. فالجنود الذين قد يطلون برءوسهم من فوق متراس، أو يخاطرون بإلقاء نظرة سريعة على المنطقة المحرمة المشتركة بين الطرفين المتحاربين، كانوا لا يعرضون سوى وجوههم لنيران العدو والقصف المدفعي العنيف الذي يملأ الهواء بشظايا معدنية حادة يمكن أن تمزق اللحم والعظام في لحظة. كانت محطات علاج المصابين تعج برجال كُسرت فكوكهم أو فقدوا عظام خدودهم. وفقَدَ آخرون أفواههم أو أنوفهم أو أعينهم. وفي بعض الأحيان، كانت الوجوه بالكامل تتعرض لإطلاق النار أو الحرق بدرجة يتعذَّر معها التعرف على الأشخاص. أظهر فحص ٤٨ ألفًا من سجلات ضحايا الجيش البريطاني أن ١٦ في المائة أصيبوا بجروحٍ في الوجه والرأس والعنق. كان الجراحون يتمتعون بخبرة ضئيلة تكاد تكون منعدمة في علاج مثل هذه الإصابات. ولكن في بعض الأحيان، كان هؤلاء الرجال المشوَّهون ينعمون، رغم ذلك، بصحة جيدة، ولا يعانون من إصابات أخرى. فكان الناجون يُنقَلون إلى المستشفيات في إنجلترا، ويمكن التنبؤ بأن يعيشوا حياة طويلة. وقد ثبت في كثير من الأحيان أن وجوههم المشوَّهة كانت أكثر تقييدًا لهم من فقدان أحد الأطراف أو فقدان القدرة على المشي. هكذا كان الوضع إلى أن أخذ جراح من نيوزيلندا على عاتقه مهمة الرصد والتعلم والابتكار، والمساعدة في إنشاء تخصص جراحي جديد كليًّا.
في عام ١٩١٤؛ أي في بداية الحرب العالمية الأولى، كان هارولد جيليز البالغ من العمر ٣٢ عامًا طبيب أنف وأذن وحنجرة — كان جراحًا متخصصًا في الأذن والأنف والحنجرة على وجه التحديد — في لندن. درس جيليز، الذي يعود منشؤه إلى بلدة دندين الصغيرة الواقعة على ساحل جنوب شرق جزيرة نيوزيلندا الجنوبية، الطب في كمبريدج، وكان في طريقه إلى تأسيس عيادة خاصة ناجحة. بعد غزو ألمانيا لفرنسا، تطوع للانضمام إلى الصليب الأحمر والفيلق الطبي بالجيش الملكي البريطاني. وسرعان ما أرسِل إلى فرنسا بصفته جرَّاحًا عامًّا، وكُلِّف بالإشراف على طبيب أسنان فرنسي أمريكي يُدعى تشارلز فالادير.
نظرًا إلى أن فالادير كان مجرد طبيب أسنان، لم يكن لديه رخصة لإجراء عمليات جراحية دون العمل تحت إشراف جراح معتمد مثل جيليز، ولكن سرعان ما أصبح واضحًا أن الجيش في أمس الحاجة إلى مهارات فالادير في التعامل مع الجروح في الجزء السفلي من الوجه. وبالفعل، بدأ الجنود الذين عانوا من جروح وجهية شديدة في التوافد على محطات الإسعاف بأعدادٍ كبيرة. حاول فالادير قدر الإمكان تضميد جروحهم، مجرِّبًا زراعة الأنسجة الذاتية وتطعيم العظام. لم يكن جيليز قد رأى شيئًا مثل هذا من قبل، وكان منبهرًا.
ونظرًا إلى اقتناع جيليز بالحاجة الشديدة إلى طرقٍ جديدة للتعامل مع الإصابات الوجهية، سافر إلى باريس لمراقبة جراح فرنسي يُدعى هيبوليت مورستين، اشتهر بإجراء العمليات التجميلية. كان جيليز مندهشًا، وكتب لاحقًا: «وقفت مذهولًا وهو يزيل نصف وجه مشوَّه بفعل ورم سرطاني شنيع، ثم أخذ سديلة جلدية من الرقبة ببراعة، لا لإعادة بناء الوجنة وحدها، بل لبناء جانب الأنف والشفة أيضًا … كان أكثر شيء مثير رأيته على الإطلاق. وقعت في حب المهنة على الفور.» أصبح جيليز مقتنعًا بأن الجيش البريطاني يحتاج إلى شخص مثل مورستين، وقرر أن يكون هو ذلك الشخص. في يناير عام ١٩١٦، عاد إلى إنجلترا وحصل على موافقة بتشكيل وحدة طبية بها ٢٠٠ سرير للإصابات الوجهية في مستشفى كمبريدج العسكري، في ألدرشوت. وبدأ في تعيين جراحين وأطباء أسنان من جميع أنحاء المملكة المتحدة. ولترويج وحدته، اشترى رزمة من ملصقات وسم الأمتعة، ووضع عليها عنوان المستشفى، وأرسلها إلى محطات علاج المصابين في فرنسا. وخلال بضعة أسابيع، بدأ الجنود المصابون يصلون وقد ثُبت على زيهم العسكري ملصقات الأمتعة التي أرسلها جيليز.
في الأول من يوليو عام ١٩١٦، نشبت واحدة من كبرى المعارك وأكثرها دموية في التاريخ العالمي، وهي «معركة السوم». استمرت هذه المعركة حتى نوفمبر، وأسفرت عن وقوع أكثر من مليون ضحية، كان من بينها أكثر من ٣٠٠ ألف حالة وفاة. في اليوم الأول وحده، تكبَّد الجيش البريطاني ٦٠ ألف إصابة، بينهم ٢١ ألف قتيل. وسرعان ما استقبل مستشفى هارولد جيليز ٢٠٠٠ رجل مصاب بتشوهات رهيبة. في رسالة إلى زميل له، كتب جيليز لاحقًا: «كانت هناك جروح أسوأ بكثير من أي شيء قد صادفناه من قبل. رجال فقدوا نصف وجوههم؛ ورجال أصيبوا بحروق وتشوهات إلى درجة جعلتهم أشبه بالحيوانات.» لم يواجه أي جراح بريطاني شيئًا كهذا من قبل.
شرع جيليز في العمل. كان يعلم أنه ليس من الحكمة محاولة إغلاق الجروح الوجهية الكبيرة في البداية؛ إذ إن شد الجلد المحيط أكثر من اللازم لتغطية فجوات كبيرة كان يؤدي إلى تشويه رهيب وتندب وتقلصات جلدية. وجد جيليز فجوات في المواضع التي يُفترض أن تكون فيها الأنوف والخدود والأفواه والجفون. لذا كان من الضروري الحصول على أنسجة جديدة وجلد جديد لملء هذه الفجوات وسدها.
ولكن كيف؟
كان الحل هو نقله من مكان آخر.
استخدم جيليز الطرق القديمة، وجرَّب طرقًا جديدة، لنقل الأنسجة إلى الوجه وحوله باستخدام السدائل الجلدية وأجزاء صغيرة من الغضروف وعظام مأخوذة من الضلوع، أو قصبة الساق، أو العرف الحرقفي في الحوض. كانت السمة التي تقيِّد أي سديلة جلدية هي إمدادها من الدم. لم يكن مجديًا نقل قطعة من الجلد دون الحفاظ على مصدر دم كافٍ لإبقائها على قيد الحياة. فكان من المستحيل قص قطعة كبيرة من الجلد من أحد أجزاء الجسم وخياطتها ببساطة في الوجه؛ إذ إن عدم وجود إمدادات من الدم لتغذية هذه الرقعة كان من شأنه أن يتسبَّب في موتها مثل قطعة من العشب تجف في الشمس قبل أن تتمكن من تكوين جذور. لذا، كان على جيليز قص السدائل الجلدية بطريقة تحافظ على تروية دموية مستمرة. وقد فعل ذلك عن طريق الإبقاء دائمًا على جزء من السديلة متصلًا بالجسم. فإذا قص ثلاثة جوانب من قطعة مستطيلة، وأبقى الجانب الرابع متصلًا بالجسم كمفصلة، فستظل الرقعة بالكامل حية وتتغذى بالدم.
لإعادة بناء الأنف، على سبيل المثال، كان في إمكان جيليز نقل سديلة جلدية إلى الأسفل من الجبهة وتغطية الموضع المانح للسديلة باستخدام سديلة تقديمية. في حالات فقدان الأنف بالكامل، كان من الممكن البدء بزرع قطعة صغيرة من غضروف على شكل مثلث يشبه الأنف تحت الجبهة، والانتظار عدة أسابيع كي تتحد الرقعة مع الأنسجة المحيطة. في ذلك الوقت، يبرز من جبهة المريض نتوء على شكل أنف. فيما بعد يصبح «الأنف» الجديد جزءًا من سديلة حُرِّكت في شكل دائري نحو الموضع الصحيح. وقد تُجرى عمليات جراحية لاحقة لتهذيب الأنسجة الزائدة، من المنخارين، وتهذيب شكل الأنف لتحسين المظهر الجمالي.
ونظرًا إلى عدم وجود إصابتين متماثلتين، عادة ما كان جيليز وزملاؤه يضطرون إلى الارتجال. ففي حالة مريض فقد شفتيه في انفجار قذيفة، أحضر هنري بيكريل، مساعد جيليز، سديلة من الجبهة تضمنت خط الشعر، بحيث يستمر نمو الشعر فوق الشفة العليا ويصبح شاربًا لإخفاء الندوب الكبيرة أدناه. ونظرًا إلى وجود قيود واضحة على مدى شد السديلة الجلدية أو تحريكها، غالبًا ما يتطلب علاج الجروح الخطيرة العديد من العمليات الجراحية المخطط لها بعناية تامة على مدى شهور أو سنوات، تتجاوز العشرين أحيانًا.
أدى تدفق أعداد مهولة من ضحايا معركة السوم لإقناع جيليز وآخرين بالحاجة إلى وجود منشأة أكبر لتلبية احتياجات الجيش. وفي أغسطس عام ١٩١٧، افتُتح مستشفى كامل مخصص لجراحات الوجه والجراحات الترميمية، وهو مستشفى الملكة في سيدكوب، في كينت. وفي الفترة بين ١٩١٧ و١٩٢١، أُجريت ١١٧٥٢ عملية ﻟ ٨٧٤٩ مريضًا في مستشفى الملكة. وهناك، استحدث جيليز نهجًا متعدد التخصصات. ضم فريقه أطباء، واختصاصيي تخدير، واختصاصيي أشعة، وأطباء أسنان، وصناع أقنعة، ومصورين، ورسامًا يدعى هنري تونكس، وهو جراح سابق غيَّر مهنته ورسم كثيرًا من مرضى جيليز قبل العمليات الجراحية وبعدها. دفعت الجروح المروعة التي تعرض لها أحد المرضى، وهو البحار المتمكن ويلي فيكاريدج البالغ من العمر ٢٠ عامًا، جيليز إلى تطوير واحد من أهم إسهاماته في الجراحة، وهي السديلة العنقية الأنبوبية.
أصيب فيكاريدج بحروقٍ شديدة جراء انفجار في معركة يوتلاند، أكبر معركة بحرية في الحرب. في أثناء فحصه لفيكاريدج، أشار جيليز إلى أن «هذا البحار المسكين أصبح مثيرًا للاشمئزاز بشكلٍ بشعٍ، وكان شبه عاجز بسبب الحروق الرهيبة … فبالإضافة إلى حروق الوجه الكلية … احترقت الأذنان والرقبة. وأصيبت اليدان بتشوهات مخيفة.» ونظرًا إلى تعرُّض وجه فيكاريدج ورقبته بالكامل لأضرار بالغة، لم يكن هناك مكان سهل يمكن من خلاله سحب الجلد لإعادة بناء الوجه. كان الخيار الوحيد أمام جيليز هو محاولة عمل سديلة جلدية من مسافة أبعد، وهي الجزء العلوي من الصدر. ترك جيليز إحدى حواف السديلة متصلة بالصدر للحفاظ على إمداد الدم، وخطَّط لربط الطرف الآخر بوجه المريض. وبينما كان يرفع السديلة، لاحظ أن جوانبها تميل بطبيعتها إلى الانحناء نحو الداخل. فأوحى له ذلك بفكرة. ماذا لو ضم جوانب السديلة لتكوين أنبوب؟ فهذا من شأنه الإبقاء على الجانب الداخلي من السديلة سليمًا ورطبًا ومحميًّا من الهواء الخارجي. وبمجرد أن يتجذَّر جلد الوجه، يمكنه بعد ذلك فصل السديلة عن الصدر، وبسط الأنبوب، واستخدام الجلد على الوجه لإعادة بناء الأنف.
وهذا بالضبط ما فعله. في حالات أخرى، أخذ الجلد من الذراع إلى الوجه. فتحت السديلة العنقية الأنبوبية الأبواب أمام إمكانيات جديدة مذهلة في الجراحة الترميمية، وهو ما زاد من حجم السدائل الجلدية الصالحة للاستخدام والمسافة التي يمكن أن تقطعها. كان جيليز يخترع تخصصًا جراحيًّا جديدًا من دون أن يدرك ذلك تمامًا، واليوم من اللائق أن يتذكره الناس باعتباره «رائد الجراحة التجميلية في العصر الحديث». كان من أشهر أقوال جيليز هي ملاحظته بأن «الجراحة التجميلية هي معركة مستمرة بين إمداد الدم والجمال.»
بعد الحرب، افتتح جيليز عيادة خاصة، وألَّف كتابًا مهمًّا عن الجراحة التجميلية، وعمل على تقديم التقنيات التي طورها من خلال إلقاء محاضرات في الخارج. وقد حصل على لقب الفروسية نظير إسهاماته خلال الحرب في عام ١٩٣٠. ولم يخطر بباله أن أوروبا سرعان ما ستغرق في صراع آخر أكبر، وهو الصراع الذي سيختبر بشدة حدود التخصص الذي كان رائدًا فيه.
محاكمة بالنار
الحادي والثلاثون من أغسطس لعام ١٩٤٠
جنوب شرق إنجلترا، سلاح الجو الملكي البريطاني في كينلي
كان الطيار في سلاح الجو الملكي توم جليف البالغ من العمر ٣١ عامًا قلقًا. فنظرًا إلى تعيينه في فرقة احتياط الطوارئ للسرب ٢٥٣، توقف عن أداء المهام الجوية في الوقت الذي كان فيه معظم رفاقه يشاركون في مواجهة قاذفات القنابل الخاصة بسلاح الجو الألماني التي تعبر القنال. في ذلك الوقت، كان جليف يحصي مقاتلات الهوريكان البريطانية العائدة بقلق ويراقب الأصدقاء. تضررت عدة طائرات بشدة؛ إذ دخلت المجموعة في اشتباك خطير مع الألمان. ما أثار فزع جليف أن قائد السرب هارولد مورلي ستار لم يعُد. كان ستار زميلًا مرحًا وطيارًا محبوبًا وموهوبًا، لم يتخاذل قَطُّ عن وضع الواجب في مقدمة أولوياته. تزايد قلق جليف. كان يأمل في أن يكون ستار قد هبط بطريقة ما في مكان آمن. بحث جليف عن الضابط القائد للقاعدة، الذي أبلغه بالخبر المروع.
لقد قفز ستار من طائرته وكان يهبط بالمظلة عندما أطلق مقاتل ألماني النار عليه وقتله.
كان جليف مُحطَّمًا. وكان غاضبًا. وقال في معرض تذكره للواقعة: «عدت إلى نقطة الانتشار، ونقلت الخبر إلى السرب. لا شيء يمكن أن يصف مشاعرهم … بلغ الغضب منهم ذروته … ولم يعد هناك حدود لتصميمهم على تحطيم القوات الألمانية الهمجية.»
بعد ذلك، أصبح توم جليف قائد السرب. وكان يستحق المنصب؛ إذ كان بالفعل أحد الأبطال البارزين، ونُسب إليه الفضل في إسقاط خمس طائرات من طراز مِسرشميت مي ١٠٩، وطائرة من طراز يونكرز يو ٨٨. بعد أقل من ساعتين، كان الأمر بالاستعداد للإقلاع يدوي في أرجاء القاعدة. كانت مجموعة كبيرة من قاذفات العدو تتجه نحو مطار بيجين هيل. انطلق جليف نحو مقاتلته هوكر هوريكان وسلك المدرج وارتفع في السماء. وبينما كان السرب يتسابق نحو بيجين هيل، كانت الشمس مشرقة والسماء زرقاء فاتحة وصافية.
وفجأة، رأى جليف أسطولًا من قاذفات يونكرز يو ٨٨ التابعة للعدو تطير فوقه. فارتفع وسد الفجوة بسرعة. في مروره الأول، استهدف القاذفة الخامسة من الأمام، وأطلق النار بجميع مدافعه الثمانية، وكانت من طراز كولت براونينج، المثبتة على الجناح. وتجنبًا للتصادم، هبط بسرعة، ثم ارتفع مرة أخرى لمهاجمة قاذفة اليونكرز الثالثة في الصف، وضرب المحرك الأيسر للقاذفة، الذي بدأ في إخراج دخان. ثم وضع نصب عينيه قاذفة القنابل الرئيسية، التي كانت على وشك أن تبدأ القصف، ولكنه في تلك اللحظة سمع «نقرًا معدنيًّا يخترق ضجيج محركي»، على حد قوله. كانت إحدى رصاصات العدو قد ضربت خزان الوقود الموجود في جذر الجناح الأيمن. شعر جليف بوميض حرارة مفاجئ، ونظر إلى أسفل. وقد تذكر لاحقًا: «انبعثت فوهة طويلة من اللهب من جذر الجناح الأيمن الأجوف، وتلوى لأعلى على طول الجانب الأيسر لقمرة القيادة ثم عبر إلى الجانب الآخر نحو كتفي اليمنى.» حاول أن يهز الطائرة ثم يبطئ حركتها، على أمل أن هذا قد يطفئ النار بطريقة ما، لكن النيران ازدادت. كانت الكابينة «كمركز شعلة اللحام … كان الجلد ينسلخ عن معصمي ويدي اليمنى بالفعل، وبدأت يدي اليسرى في التقرح.»
كان عليه أن يخرج.
فكَّ جليف حزامه ومزَّق خوذته. في تلك اللحظة أصبحت الحرارة لا تطاق، والألم مبرحًا. كان جسده بأكمله تقريبًا مشتعلًا. حاول أن ينهض من مقعده لكنه لم يجد القوة لذلك. كان في حالة من الهلع، وكانت فرصته الوحيدة هي فتح غطاء قمرة القيادة ثم دحرجة الطائرة، مما يسمح له بالسقوط. وأرجع غطاء قمرة القيادة إلى الخلف.
ثم ومض بريق يعمي الأبصار وبدت طائرته كأنها تنفجر.
قُذف جليف بعيدًا مع الانفجار. ووجد نفسه يسقط عبر الفراغ، ويتشقلب عشوائيًّا. تمكَّن من سحب حبل فتح المظلة، فانفتحت مظلته وانجرف إلى الأرض.
عندما هبط في حقل مفتوح، أخذ يترنَّح. وعند تفقُّد إصاباته لأول مرة، رأى أن بنطاله قد احترق تمامًا باستثناء بعض القِطع الصغيرة التي كانت مغطاة بحزام المظلة. في مذكراته، تذكر جليف: «كان الجلد على ساقي اليمنى، من أعلى الفخذ إلى أعلى الكاحل مباشرة، قد ارتفع وانسدل على ساقي مثل بناطيل الجولف الواسعة … التفَّ فوق كل كاحل سوار من جلد غير محترق؛ فقد حالت جواربي، التي كانت متجعدة دائمًا، دون احتراقه كما ينبغي … كان الجلد من معصمَي ويدي يتدلى مرتخيًا كأكياس ورقية.»
لا بد أن عامل المزرعة الذي وجد جليف قد فُزع لدى رؤيته. فقد كان الجلد الذي يغطي رأس جليف وعنقه وذراعيه محترقًا بشدة ومنسلخًا. كان قد فقد أنفه تقريبًا، وضاقت فتحتا عينيه وأصبحتا مجرد شقَّين رفيعين. وضع عامل المزرعة جليف على ظهره وحمله إلى المزرعة، حيث وضعته زوجة المزارع على السرير في أفضل غرفة نوم لديهم. كان كل ما في وسع جليف فعله هو الاعتذار الشديد عن تلويث شراشفهم النظيفة الجميلة.
عندما تتجاوز الحروق ٣٠ في المائة من إجمالي مساحة الجلد، فمن المحتمل أن تكون قاتلة. وقد احترق أكثر من ٥٠ في المائة من جسد توم جليف. كان واحدًا ضمن مئات الطيارين في سلاح الجو الملكي في معركة بريطانيا، وضمن آلاف المشاركين في الحرب ممن عانوا من حروق شديدة نتيجة حرائق قمرة القيادة، وكانت هذه حالة شائعة جدًّا حتى صارت تعرف باسم «حروق الطيار». نُقِل جليف أولًا إلى مستشفى أوربينجتون العام، حيث استخدم الحمالون عربة يدوية لإدخاله إلى مبنى المستشفى. غطى الأطباء جلده المتفحم بمحلول الجنتيانا البنفسجي (المسة الزرقاء) وحمض التانيك ومواد كيميائية كان يُعتقد أنها تمنع العدوى وتعزز نمو الأنسجة، إلا إنها كانت في الواقع تعرقل عملية الشفاء في حالات الحروق الشديدة مثل حروق جليف. علاوة على ذلك، لم تكن ضمادات الشاش الجافة التي استخدِمت لتغطية جلده مفيدة؛ فقد كانت تعلق بجروحه، وهو ما أدى إلى نزع مزيدٍ من الجلد كلما أزيلت واستُبدلت.
عندما رأت زوجة جليف زوجها لأول مرة، كانت تتمتع بما يكفي من رباطة الجأش لتقول: «ماذا كنت تفعل بنفسك يا عزيزي؟»
أجابها: «تشاجرت مع ألماني.»
عانى جليف لأسابيع من الألم الناجم عن حروقه، التي أصيبت بالعدوى. وفي أواخر أكتوبر عام ١٩٤٠، نُقِل إلى وحدة الحروق المتخصصة في مستشفى الملكة فيكتوريا في إيست جرينستيد. وهناك قابل «المايسترو».
التحريك التدريجي للسدائل
كان «المايسترو» وهو جراح نيوزيلندي يُدعى أرشيبالد ماكيندو تربطه صلة قرابة بعيدة بهارولد جيليز. كان ماكيندو شغوفًا وعنيدًا وسريع الغضب وذكيًّا. بعد أن تلقى تدريبًا في مجال جراحات البطن في مستشفى مايو كلينيك في مينيسوتا، ارتحل ماكيندو إلى بريطانيا في عام ١٩٣٠. تحت تأثير جيليز، انجذب نحو مجال جراحة التجميل الناشئ. بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية في سبتمبر ١٩٣٩، عيِّن ماكيندو مديرًا لمستشفى الملكة فيكتوريا في إيست جرينستيد، الذي يقع على بُعد نحو ٤٠ ميلًا جنوب لندن، وأصبح المركز الرئيسي لرعاية الجرحى من سلاح الجو الملكي.
على عكس تجربة جيليز في الحرب العالمية الأولى، حين كانت الإصابات الوجهية الناجمة عن الرصاص والشظايا تشكِّل تحديًا جديدًا، وجد ماكيندو نفسه يواجه مشكلة مختلفة، وهي الحروق الشديدة. في إنجلترا خلال الحرب، نجا نحو ٤٥٠٠ طيار من طياري الحلفاء من حرائق الطائرات من خلال الهبوط الاضطراري أو القفز بالمظلات. وقد عانى ٨٠ في المائة من هؤلاء الرجال من حروق الوجه واليدين. وخلال معركة بريطانيا، كان معظم مرضى ماكيندو طيارين مقاتلين، ولكن في وقتٍ لاحقٍ من الحرب امتلأ مستشفاه بجرحى من طواقم القاذفات.
في بداية الاشتباكات، كان الأطباء لدى قوات الحلفاء والمحور يجهلون إلى حد كبير العلاج الفعَّال للحروق. وقد قدم ماكيندو كثيرًا من الابتكارات. لتنظيف جروح الجنود وتطهيرها، تخلى عن العلاج القديم بحمض التانيك، وبدلًا من ذلك وضع الرجال في حمامات مالحة دافئة؛ إذ لوحظ أن الطيارين المصابين بحروق الذين سقطوا في مياه القنال الإنجليزي المالحة أصيبوا بعدوى أقل، وكانت حالة الجلد لديهم أفضل ممن قفزوا بالمظلات على الأرض. في حمامات الملح، كان الرجال قادرين على تحريك مفاصلهم بحرية، مما ساعد على تقليل التشنجات والندوب، وكانت الضمادات تطفو ببساطة منفصلة عن الجلد المصاب من دون أن تسبب إصابات. بعد الحمامات، كان الرجال يُجفَّفون بالوقوف عراة أمام مصابيح حرارية كبيرة، لأن التجفيف بالمناشف سيكون قاسيًا على الجلد. نُثرت السلفوناميدات على جروحهم، وبدلًا من الشاش الجاف، غُطيت ضماداتهم بالفازلين حتى لا تلتصق بالجلد الهش الذي يتعافى وتمزقه.
بعد ذلك، واجه ماكيندو المهمة الشاقة المتمثلة في إعادة بناء وجوه الرجال المحترقة حروقًا رهيبة. كان هذا تحديًا هائلًا. فعلى عكس جيليز، الذي كان لديه في كثير من الأحيان مساحات من الجلد السليم في أجزاء قريبة من الوجه أو الرقبة أو الصدر، كان لدى العديد من الطيارين الذين يعالجهم ماكيندو حروق طالت أكثر من نصف مساحة جلدهم. كيف يمكن تطعيم الجلد على الوجه إذا لم يكن هناك جلد صالح في متناول اليد؟
عندئذٍ، طوَّر ماكيندو السديلة العنقية الأنبوبية التي ابتكرها جيليز عما كانت عليه من قبل. بالنسبة إلى الطيار الذي يكون أقرب جلد سليم (وليِّن بما يكفي أيضًا كي يُستخدم في الوجه) لديه في الفخذ، كان ماكيندو يستطيع رفع سديلة جلدية من الفخذ وتثبيتها في الذراع أولًا. وباستخدام طريقة جيليز الأساسية، كان يقص ثلاثة أطراف من سديلة جلدية كبيرة (مع الحفاظ على حافة واحدة متصلة بالجسم مثل باب مصيدة متصل بمفصلة للحفاظ على إمداد الدم للسديلة)، ويغلفها داخل أنبوب لحماية الجانب السفلي، ويخيط الطرف الحر في جيب يُصنع من خلال شق في الذراع. خلال فترة التعافي التي تستغرق عدة أسابيع، كانت ساق المريض مربوطة بذراعه بهذا الوضع غير الطبيعي. بعد تكوين إمداد الدم للسديلة في الذراع، يمكن لماكيندو قطع السديلة في الفخذ، وتدوير هذا الطرف إلى أعلى نحو الوجه. وقد عُرِفت هذه التقنية، التي تعتمد على تحريك سديلة جلدية أنبوبية إلى أعلى الجسم تدريجيًّا طرفًا تلو الآخر، بالتحريك التدريجي للسديلة أو «رقصة الفالس» (إذ تعتمد رقصة الفالس على الحركات التدريجية المتسلسلة).
في أي وقت، كان يمكن رؤية عدة رجال في مستشفى الملكة فيكتوريا في أوضاع ملتوية؛ إذ تكون رءوسهم منحنية إلى أسفل ومائلة بزاوية، ويكون الأنف متصلًا بالذراع بواسطة أنبوب من الجلد. وأخيرًا، بعد أن تُزوَّد السديلة الموصولة بالوجه بإمدادات الدم الكافية، يمكن قص السديلة من عند الذراع، واستخدامها للمساعدة في إعادة بناء الوجه.
عندما وصل توم جليف إلى جناح ماكيندو رقم ثلاثة في مستشفى الملكة فيكتوريا، دخل في حمام الملح، وشعر لأول مرة منذ أسابيع بأنه لا يعاني أي ألم. راقب ضماداته تطفو بعيدًا، واستمتع بشعور تحريك ذراعيه وساقيه. أعيد تضميد حروقه باستخدام لفائف مغطاة بالفازلين التي كانت تُرش كل ساعتين بالسائل بواسطة مرشة للحفاظ على رطوبة جلده. في بداية دخول جليف المستشفى، زار الجناح السير ستافورد كريبس، وزير إنتاج الطائرات. وعندما التقى جليف ورأى وجهه بإصاباته الشنيعة، الذي كان خاليًا من الجلد جزئيًّا ويُظهر العظام المكشوفة، فَقَدَ كريبس الوعي وسقط أرضًا. لن ينسى مثل هؤلاء الزوار أبدًا المشاهد غير الطبيعية في قسم ماكيندو في المستشفى.
تذكر جليف: «ذات يوم، تجوَّل المايسترو في الجناح والتقيت به لأول مرة. كان يقف بجواري ينظر إليَّ من خلال تلك النظارات ذات الإطار القرني بنظرة صافية صادقة لم أرَها في عينَي أي رجل آخر من قبل. كانت تمد المرء بالقوة على الفور. كان يساورك شعور غريزي بأن هذا الرجل لن يخدعك. قيَّم وجهي، ثم قال إن أول طعوم وجهية أحتاج إليها هي الجفنان، العلوي والسفلي … «ستُغطى عيناك لمدة أسبوع. لن يعجبك ذلك، لكن الأمر يستحق العناء».» وأضاف جليف: «كانت الطريقة التي قال بها ذلك كافية. جعلتني أصدقه. شعرت كأنني رجل تحطمت سفينته، وظل يطفو في البحر ساعاتٍ إلى أن جاءه طوق النجاة فجأة.»
في يناير ١٩٤١، بعد أسابيع من إعادة بناء الجفنَين لجليف بنجاح، جاءه ماكيندو مرة أخرى. وصرح هذه المرة قائلًا: «أنت في حاجة إلى أنف جديد. ما رأيك في ذلك؟»
أجاب جليف: «سأفعل أي شيء تقترحه.»
في اليوم نفسه، حُلق كل الشعر الموجود في النصف الأمامي من رأس جليف بحيث يتمكَّن ماكيندو من أخذ ما يكفي من الأنسجة لعمل سديلة جبهية وإعادة بناء أنف جليف. في المجمل، كان جليف سيخضع إلى ١٠ عمليات على الأقل في الفترة بين ١٩٤٠ و١٩٥٣. وخلال هذه الفترة، تمكَّن من العودة إلى سلاح الجو الملكي، لا بوصفه طيارًا بل قائدًا على الأرض.
في الوقت نفسه، جاءت جهود ماكيندو في غرفة العمليات مصحوبة بجانبٍ مبتكرٍ آخر من برنامجه العلاجي، وهو جانب غير جراحي تمامًا، ألا وهو إدراك أن الصحة النفسية للمريض لا تقل أهمية عن صحته الجسدية. وجد العديد من الرجال، الذين راودهم شعور طبيعي بالأسى إزاء جروحهم الفظيعة ومظهرهم البشع، صعوبة في الاستمرار، وفكر كثيرون منهم في الانتحار. أوضح ماكيندو لصديقٍ ذات مرة: «تخيل شعورهم … تجد أحدهم يرقص عشية يوم الجمعة في ملهى ليلي مع فتاة جميلة، وبعد ظهيرة السبت يتحول إلى جمرة محترقة … دقيقة واحدة حوَّلته من زير نساء إلى كائن مثير للشفقة، وهذا أمر يفوق الاحتمال.»
اعتمد ماكيندو أيضًا على تعاطف سكان شرق جرينستيد لمساعدة مرضاه على إعادة التكيف مع الحياة المدنية. حين كان المرضى يجازفون بدخول البلدة، بذل السكان قصارى جهدهم لاستيعابهم. فأزالت المطاعم والحانات جميع المرايا. ودَعت العائلات الطيارين إلى منازلهم لتناول الشاي، وسرعان ما أصبحت البلدة تُعرف باسم «البلدة التي لم تحدق إلى أحد قط». لم يكن غريبًا أن ترى رجالًا تتدلى من وجوههم سدائل عنقية أنبوبية في الحانات أو دور السينما، أو يلعبون مباراة كرة قدم في الأماكن العامة. في ذلك الوقت، أصبحت إيست جرينستيد تُعرَف بالطريقة التي تعتني فيها بالجرحى من محاربي سلاح الجو الملكي البريطاني. وقد سلط مقال نُشر في نوفمبر ١٩٤٣ في مجلة «ريدرز دايجست» الضوء على الدور الفريد الذي تلعبه البلدة: «حين ترى واحدًا من هؤلاء الشباب لأول مرة، سيشحب وجهك وتتقلص معدتك … لكن سكان إيست جرينستيد الطيبين يُوقِفون هؤلاء الشباب في الشارع ويتحدثون إليهم … حتى الأطفال لا يحدقون إليهم. فارتعادة واحدة واضحة قد تهدم أسابيع من العمل المضني في مستشفى الملكة فيكتوريا. لذا فإن الشاب ذا الحروق الأبشع يلقى الترحيب الأكبر في إيست جرينستيد. فعلاج وجهه مهمة المستشفى، لكن منحه الرغبة في الحياة مهمة بين أيدي أهل البلدة.»
حصل أرشيبالد ماكيندو فيما بعد على لقب الفروسية من الملكة. وفي عام ١٩٥٨، أي قبل وفاته بسنتين عن عمر ناهز ٥٩ عامًا، اعترف بمدى التقدم في مجال الجراحة التجميلية في خطابٍ وجَّهه إلى الكلية الملكية للجراحين: «ها قد وصلنا الآن إلى الوقت الذي … يمكننا فيه خلال مدة زمنية معقولة خلق النظام من الفوضى، وتشكيل وجه لا يثير الشفقة أو الرعب. وبذلك يمكننا إعادة روح مفقودة إلى الحياة الطبيعية.» أصبح ماكيندو المدني الوحيد الذي حظي بشرف الدفن في كنيسة سانت كليمنت دانيس الخاصة بسلاح الجو الملكي البريطاني في لندن.
تخطي العقبات
في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، دأب الجراحون على تحسين ما أحدثه ماكيندو من تقدُّم خلال الحرب دون كلال. في زمن ماكيندو، كانت فكرة أخذ سدائل كبيرة من الجلد وفصلها عن الجسم بالكامل، وزراعتها في مواضع أخرى ضربًا من الخيال العلمي. ربما كان قادرًا على زراعة قطع صغيرة جدًّا من الجلد لإعادة بناء جفنَي مريض، على سبيل المثال؛ لأن القطع الصغيرة من الجلد المزروع قد تعيد بسرعة بناء تدفق كافٍ من الدم للبقاء على قيد الحياة؛ لكن ما يُعرف باسم «السديلة الحرة» كان مستحيلًا. فلم يخطر ببال أي جراح طريقة يمكن من خلالها إعادة توصيل جميع الأوعية الدموية التي لا تُحصى تحت رقعة مستطيلة كبيرة من الجلد في الموضع المتلقي قبل أن تموت السديلة الجلدية بسبب نقص الإمداد الدموي.
بعد ذلك، أدرك الجراحون أنه لا يتعين عليهم ذلك. في السبعينيات والثمانينيات، استخدم الجراح الأسترالي إيان تايلور صبغة غير منفذة للإشعاع لدراسة الأوعية الدموية تحت الجلد لأكثر من ٢٠٠٠ جثة، وأدرك أن نمط الأوعية الدموية التي تغذي الجلد ليس متجانسًا ولا عشوائيًّا. بدلًا من ذلك، ثمة شرايين «مصدر» رئيسية تعمل على تروية مناطق معينة من الجلد باستمرار. تمتد من هذه الأوعية الدموية الجذعية الكبيرة أوعية دموية أصغر تتفرع بدورها إلى ما لا نهاية إلى أوعية أصغر إلى أن يتقلص حجمها لتصل إلى مستوى الشعيرات الدموية المجهرية. كتب تايلور في مقاله الرائد: «الجسم كأحجية للصور المقطوعة ثلاثية الأبعاد مكونة من كتلٍ مركبة من الأنسجة، تتغذَّى بواسطة شرايين مصدر محددة بالاسم.» وأدرك أن إبقاء قطعة كاملة من الجلد المزروع على قيد الحياة لا يتطلب سوى سرعة التعرف على الشريان والوريد المصدرين الحيويَّين في موقع الترقيع وإعادة توصيلهما. بمجرد العثور على الشريان والوريد الصحيحين، أمكن الحفاظ على سديلة كبيرة من الجلد والأنسجة على قيد الحياة عن طريق توصيل اثنين فقط من الأوعية الدموية بنظيريهما. وهذه الوحدات من الأنسجة التي تغذيها أنماط متسقة من الجمل الوعائية تسمى «وحدات وعائية» أو أنجيوسومات.
لكن حتى هذه الأوعية الجذعية الحيوية غالبًا ما كانت دقيقة جدًّا، وأحيانًا تكاد تكون رقيقة كالمعكرونة الشعيرية الرفيعة. فكيف تمكَّن الجراحون من إعادة توصيلها؟
كانت إمكانية ربط طرفَي وعاءَين دمويَّين رقيقين وحساسين (بأي حجم) دائمًا تعتبر تحديًا. فالتوصيل الناجح لا بد ألا يكون محكمًا فحسب، بل يجب أن يتم بطريقة تحافظ على تدفُّق الدم بشكلٍ سلسٍ تمامًا، خشية حدوث اضطراب لا داعي إليه، ويعزز تكوين جلطات الدم. سيغيِّر الجراح الذي اكتشف طريقة لتحقيق هذا مستقبل الجراحة إلى الأبد. وكان اسمه أليكسيس كاريل.
في عام ١٨٩٤، كان كاريل طالبًا في كلية الطب في مدينة ليون الفرنسية. في ذلك العام، كان سادي كارنو رئيس فرنسا يزور المدينة عندما سدَّد إليه أناركي إيطالي طعنة في البطن على الملأ. قطع الخنجر الوريد البابي لكارنو، وهو وعاء رئيسي تحت الكبد، ومات متأثرًا بالنزيف على طاولة العمليات. كان لهذا الحدث أثرٌ دائمٌ على كاريل، الذي أدرك أنه إذا استطاع الجراحون العثور على طريقة لإعادة توصيل الأوعية الدموية، فقد يؤدي ذلك إلى إنقاذ كثير من الأرواح.
عمل كاريل، الذي كانت عائلته تملك مصنعًا للدانتيل، على إعداد نفسه لمواجهة التحدي المتمثِّل في ربط الأوعية الدموية من خلال تعلُّم مهارات الخياطة الدقيقة أولًا على يد أحد معلمي التطريز. فأصبح خبيرًا في استخدام الإبر الصغيرة وخيوط الحرير الرفيعة حتى إنه، حسبما ورد عنه، كان في إمكانه عمل ٥٠٠ غرزة متطابقة على قطعة صغيرة من ورق السجائر. وسرعان ما اتجه إلى إجراء تجارب لخياطة الأوعية الدموية معًا في الكلاب.
أدى ظهور المجهر الجراحي إلى تعزيز قدرة الجراحين على توصيل أوعية دموية أصغر وأصغر بدرجة كبيرة في النصف الثاني من القرن العشرين. وقد أتاح ذلك لكلٍّ من جراحي الأوعية الدموية والقلب والصدر والتجميل تحقيق إنجازات لم يملك أسلافهم سوى أن يحلموا بها. وسرعان ما أعطى مفهوم الأنجيوسوم، الذي قدمه تايلور، الجراحين القدرة على نقل السدائل الحرة الكبيرة عبر جميع أنحاء الجسم، مما أدى إلى تقدُّم مذهل في الجراحة الترميمية. وأدى هذا التقدم في النهاية، وربما كان ذلك أمرًا محتومًا، إلى إنجاز مدهش، ألا وهو زراعة وجه كامل.
في مارس ٢٠١١، في مستشفى بريجهام أند ويمينز في بوسطن، قاد الجراح التجميلي بوهدان بوماهاتش فريقًا أجرى أول عملية زراعة وجه كامل في الولايات المتحدة. كان المتلقي هو دالاس وينز، وهو رجل من تكساس كان يساعد في طلاء أحد جدران كنيسته وذلك في عام ٢٠٠٨. عندما اصطدم وينز عن طريق الخطأ بخط كهرباء قريب عالي الجهد، لامس السلك جبينه وصُعِق بالكهرباء. وفي الحال مُحيت معالم وجه وينز.
بعد ٢٢ عملية جراحية وأشهر من التعافي، غُطي الجزء الأمامي من رأس وينز بقناعٍ جلدي موحد بلا ملامح أُخِذ من ظهره وزُرِع في وجهه. لم يكن هناك وجه على الإطلاق. كان قد فَقَدَ عينيه وأنفه وشفتيه تمامًا؛ فكان فمه مجرد شق يمكنه من خلاله الشرب من خلال ماصة. ومن دون شفتيه، كان من الصعب عليه الاحتفاظ بالطعام في فمه. وعلى الرغم من أنه أصيب بعمًى دائم، كان لا يزال في إمكانه سماع شهقات الآخرين المصدومة عند رؤيته، أو الصمت المفاجئ عندما يدخل إحدى الغرف، وهو ما كان أسوأ. غير أن وينز استطاع من خلال هذه التجارب الحفاظ على موقف إيجابي لا يُصدَّق. وجعلته شخصيته المتفائلة دون غيره مرشحًا مناسبًا لجراحة تجريبية وربما تحويلية. بعد لقاء الدكتور بوماهاتش، قرر وينز في النهاية إجراء عملية زراعة وجه من أجل ابنته سكارليت ذات الأربع السنوات. فقد أراد أن تراه بوجه. وقال في مقابلة معه: «لم أتحمَّل فكرة أن تكبر وتُطرح عليها أسئلة على غرار، «لماذا يبدو والدك مختلفًا؟» والتعامل مع ذلك طوال سنوات طفولتها.»
كيف يتعامل الطبيب مع أفراد عائلة المتبرع لمناقشة نقل وجه قريبهم الحبيب إلى إنسان آخر؟ في تلك اللحظات الصعبة، عندما يكون المتبرع ميتًا دماغيًّا، قد يشرح الطبيب كيف يمكن أن يؤدي الوجه إلى تحسين حياة شخص آخر تحسينًا جذريًّا. ستعرف العائلة أنه عند زراعة الوجه للمتلقي، لن يبدو مثل المتبرع على الإطلاق في الشكل؛ لأن الوجه سيتغيَّر عندما يندمج مع الأنسجة والهيكل العظمي الفريد للمتلقي.
ثمة اعتبار أخلاقي أساسي آخر وهو ما إذا كان من الضروري أن يُفرض على المتلقين، في الحالات غير الحرجة، تناول الأدوية المثبطة للمناعة، اللازمة لمنع رفض الزرع، لبقية حياتهم، حال وجود احتمال أن تقصر هذه الأدوية من أعمارهم.
حققت جراحة وينز نجاحًا مدوِّيًا. لو عاصر الرواد أمثال هارولد جيليز وأرشيبالد ماكيندو هذا الإنجاز لوجدوه مدهشًا حقًّا. فقد بدا الوجه الذي حصل عليه وينز أكثر آدمية بكثير من النسيج عديم الملامح الذي كان موجودًا، واستعاد وظائف الأعصاب المهمة التي سمحت له بالابتسام والعبوس والشعور بقبلات ابنته مرة أخرى. حتى إنه استعاد حاسة الشم. واليوم، أصبح في إمكانه الدخول إلى أي مطعم، وهو يرتدي النظارات الشمسية، دون أن يلاحظه الغرباء أو يحدقوا فيه. وعندما سُئل في مقابلة عن الرسالة التي سيود أن يوجهها إلى عائلة المتبرع المجهول، قال وينز: «لن أعرف من أين أبدأ. ما فعلوه منحني حياة جديدة.»
قرن مختلف، رئيس مختلف
في الثلاثين من مارس عام ١٩٨١، أي بعد مرور مائة عام تقريبًا على حادث إطلاق النار على جيمس جارفيلد، خرج الرئيس رونالد ريجان من فندق هيلتون في واشنطن العاصمة في الساعة الثانية وخمس وعشرين دقيقة مساءً، بعد إلقاء خطاب أمام اتحاد نقابات العمال. وفي أثناء سيره مسافة ٣٠ قدمًا من باب الفندق إلى سيارته الليموزين، صرخ أحد الصحفيين: «السيد الرئيس»، والتفت ريجان، رافعًا ذراعه ليحيِّي الحشد الذي تجمَّع خلف الحواجز الأمنية، على بُعد نحو ١٥ قدمًا. في هذه اللحظة، أسرع جون هينكلي، الطالب البالغ من العمر ٢٥ عامًا الذي لم يكمل دراسته الجامعية ولديه تاريخ من المرض العقلي، بإطلاق ست طلقات بسرعة في اتجاه ريجان بمسدس عيار ٠,٢٢.
لم تصب أيٌّ من الطلقات الهدف. فقد أصابت الرصاصة الأولى السكرتير الصحفي جيمس برادي في الرأس. وأصابت الثانية ضابط الشرطة توماس ديلاهانتي في العنق. وأصابت الثالثة مبنى على الجهة المقابلة من الشارع. وأصابت الرابعة عميل الخدمة السرية تيم مكارثي في البطن. واصطدمت الخامسة والسادسة بجانب الليموزين وارتدَّتا عنها. بعد ارتداد الطلقة السادسة عن السيارة أصابت ريجان في الجزء الأيسر من الجذع في اللحظة التي كان فيها عميل الخدمة السرية جيري بار يدفعه إلى الداخل عبر الباب الخلفي للسيارة. داخل الليموزين، لم يدرك ريجان أو بار أن الرئيس قد أصيب بالرصاص. اعتقد ريجان، الذي كان يشعر بألمٍ شديدٍ في صدره، أن بار كسر له ضلعًا حين وقع فوقه بقوة في المقعد الخلفي. عندما بدأ ريجان يسعل دمًا، قال: «أنت لم تكسر لي ضلعًا فحسب، أعتقد أن الضلع اخترقت رئتي.»
وجَّه بار الليموزين صوب مستشفى جامعة جورج واشنطن القريب. في قسم الطوارئ، أصرَّ ريجان في البداية على المشي بمفرده، ولكنه سرعان ما عانى من ألمٍ في الصدر وصعوبة شديدة في التنفس. فسقط على إحدى ركبتيه، وكان لا بد من مساعدته للدخول إلى جناح الإصابات. كان شكل الرئيس شاحبًا. كان هناك دم في فمه، وكان ضغط الدم الانقباضي لديه ٨٠ مليمترًا زئبقًا (المستوى الطبيعي ١٢٠ مليمترًا زئبقًا). عندما أزيلت عنه ملابسه بالكامل، اكتُشف أخيرًا أنه أصيب بطلقٍ ناري؛ فقد عُثِر على جرحٍ ناتج عن دخول الرصاصة بطول ١٫٥ سنتيمتر تحت الإبط الأيسر بين الضلع الرابعة والخامسة. لم يُعثر على جرح الخروج. ولم يسمع أي أصوات تدل على التنفس في الرئة اليسرى.
وبسرعة، اتُّخذ قرار بإجراء جراحة طارئة للرئيس. وقبل بدء العملية، رفع ريجان قناع الأكسجين ومازح أحد جراحيه، قائلًا: «آمل أن تكون جمهوريًّا.» ردَّ الجراح، الذي كان ديمقراطيًّا صريحًا، قائلًا: «نحن جميعًا اليوم جمهوريون يا سيدي الرئيس.»
سهَّلت عملية شق للجانب الأيسر من الصدر عملية الوصول إلى صدر ريجان. وأزيل نصف لتر من الدم غير المصرَّف. وبمساعدة أشعة سينية أخرى أجريت في أثناء العملية، حُدِّد موقع الرصاصة، واستُخرجت من خلال شقٍّ صغيرٍ في الرئة. واكتُشف أن الرصاصة ارتدت من أعلى إحدى الضلوع، واجتازت عرض الرئة اليسرى كاملًا، لتستقر على بُعد بوصة واحدة فقط من القلب.
استغرقت العملية بالكامل ساعتين و٤٠ دقيقة. لعب نقل الدم دورًا مهمًّا في علاج الرئيس؛ فمنذ إطلاق الرصاص حتى إتمام الجراحة، خسر أكثر من نصف إجمالي حجم دمه. في وقتٍ لاحقٍ من تلك الليلة، استفاق ريجان، الدائم الفكاهة، ولكنه كان موصلًا بأنابيب تنفس في وحدة العناية المركزة، وكتب رسالة إلى موظفيه تقول: «هل أنا ميت؟»
سُمح لريجان بالخروج من المستشفى بعد ١٢ يومًا. وكان الفضل في تعافيه تمامًا في سن السبعين للتطورات الطبية الحديثة العديدة التي تجاوزت خيال أطباء جيمس جارفيلد. كان ريجان أول رئيس في التاريخ ينجو بعد إطلاق النار عليه وهو في منصبه.
أما جون هينكلي، فقد ارتكب محاولة الاغتيال على أمل أن يبهر المشهد الممثلة جودي فوستر، المرأة التي افتتن بها وكان يطاردها سنوات. وفي يونيو عام ١٩٨٢، وُجد هينكلي غير مذنب بداعي إصابته بالجنون. وأُطلِق على حادث إطلاق النار «أعظم تعبير عن الحب في تاريخ العالم.» وفي عام ٢٠١٦، أطلِق سراحه من إحدى المنشآت المؤسسية للرعاية النفسية ليعيش مع والدته، على أن يخضع للإشراف القضائي والتقييمات النفسية الدورية. وفي يونيو ٢٠٢٢، رُفِعت جميع القيود المفروضة على هينكلي، ومُنح الحرية الكاملة وغير المشروطة في سن السابعة والستين.
أصيب السكرتير الصحفي جيمس برادي بإعاقة دائمة نتيجة إصابته في الدماغ، وتُوفي عام ٢٠١٤. وشُفي عميل الخدمة السرية تيم مكارثي من جرحه، كما أصيب ضابط الشرطة توماس ديلاهانتي بتلفٍ دائم في أعصاب ذراعه اليسرى، وهي إعاقة أجبرته على التقاعد المبكر.
قرن من التقدم الطبي كان من شأنه أن يجعل جرح ريجان، الذي كان أسوأ بكثيرٍ من جرح جارفيلد، مجرد حاشية في مطلع إدارة رئاسية طويلة ومهمَّة. لم يعُد يخفى عن الجراحين آليات عمل الجسم الداخلية، ولا يجهلون موقع المواد الغريبة. ولم تعُد العمليات لعبة حظ مميتة يموت فيها عدد لا يُحصى من المرضى بسبب العدوى.
«عربات الإسعاف الطائرة»
عكست الرعاية الحديثة في غرفة الطوارئ التي تلقَّاها الرئيس ريجان التقدم التكنولوجي والقيم المجتمعية، شمل ذلك مبادئ فرز الإصابات والأخلاقيات، التي ورثناها من مصدر فريد، ألا وهو: الطب العسكري. يُنسب الفضل الأكبر إلى كبير جراحي نابليون، دومينيك جان لاري، في تعزيز العلاج السريع للجروح التي تحدث في ساحة المعركة وإرساء ممارسات ومبادئ جديدة تُعتبَر معيارية اليوم. في تسعينيات القرن الثامن عشر، شعر لاري بالفزع عندما رأى نقص الرعاية المقدمة إلى الجنود الجرحى، الذين كانوا يُتركون عمومًا في الميدان حتى تنتهي المعركة، وهو ما كان يحدث غالبًا بعد أكثر من ٢٤ ساعة من إصابتهم. ولاحظ أن احتمالات بقاء مثل هؤلاء الضحايا على قيد الحياة أقل بكثير من الجنود الذين كانوا يُعالَجون في وقت أسرع من ذلك.
واليوم، أدَّى التقدم الهائل في الطب العسكري إلى زيادة احتمالات بقاء الجنود الجرحى على قيد الحياة إلى حدٍّ كبير، وكثيرًا ما كانت العلاجات في ساحة المعركة بمنزلة الحاضنة التي تُختَبر فيها المعايير الجديدة للرعاية الطبية من أجل الطب المدني ويثبت فاعليتها. في القرن العشرين، استفاد الجنود المصابون أقصى استفادة من تطوير الجراحة المعقمة والمضادات الحيوية والسوائل الوريدية وعمليات نقل الدم والنقل السريع بالمروحيات والمستشفيات الجراحية العسكرية المتنقلة. وشهدت حروب القرن الحادي والعشرين في العراق وأفغانستان وحدات جراحية منتشرة في المقدمة، مكلَّفة بالحفاظ على استقرار حالة الجنود المصابين بجروحٍ خطيرة من خلال «جراحة السيطرة على الأضرار» التي كان الهدف منها كسب الوقت حتى يمكن التجهيز لنقل المصابين إلى مراكز طبية أكثر تقدمًا. ضمَّت أطقم المروحيات التابعة للجيش ممرضات رعاية حرجة مدربات على دعم الحياة المتقدم. وفي حين أُبقي على الجنود المصابين في حرب فيتنام في فيتنام إلى أن تستقر حالتهم بدرجة كافية لنقلهم جوًّا، أجلت القوات الجوية في أفغانستان الجنود بسرعة أكبر باستخدام طائرات شحن ضخمة من طراز سي-١٧ مجهزة ﺑ «وحدات عناية مركزة طائرة»، تضم طاقمًا طبيًّا على درجة عالية من التدريب لعلاج المرضى المصابين بجروحٍ خطيرة في طريقهم إلى قواعدهم في ألمانيا أو الولايات المتحدة. كان معدل الوفيات على متن الطائرة لهؤلاء المرضى المنقولين منخفضًا على نحوٍ لا يصدق؛ إذ لم يتجاوز ٠٫٢٥٪.
بفضل هذه الجهود والموارد، لم يكن من الغريب نقل جندي جريح في منطقة نائية من أفغانستان إلى مركز والتر ريد الطبي العسكري في الولايات المتحدة لإجراء عملية جراحية في غضون ٤٨ إلى ٧٢ ساعة. ولولاها، كان من الممكن أن يصبح الآلاف من الجنود، الذين لا يزالون على قيد الحياة اليوم، في عداد الموتى في الحروب الماضية، وساهمت الضرورة العسكرية في إحداث تطورات، لا في العلاج الجراحي فقط، بل أيضًا في مجموعة واسعة من المجالات المهمة، وفي ذلك رعاية الصحة العقلية وتطوير الأطراف الاصطناعية والتطبيب عن بُعد، وتجديد الأنسجة.
تبشِّر التكنولوجيا، أكثر من أي عامل آخر، بإحداث ثورة فيما نعتبره أوجه قصور في رعاية الإصابات الناتجة عن الصدمات اليوم. وبالفعل، يجري استخدام الخلايا الجذعية لزراعة أعضاء اصطناعية تحل محل الأعضاء المصابة. وقد أجريت أول عملية زرع اصطناعية حيوية ناجحة في عام ٢٠٠٨، عندما زُرع جزء من القصبة الهوائية من الخلايا الجذعية للمتلقي، وأصبح مشبعًا بالأوعية الدموية على نحوٍ صحيحٍ ودُمج بواسطة الجسم. غالبًا ما يتطلب إنتاج مثل هذه الأعضاء في المختبر سقالات تعطي العضو الشكل الأساسي وتحتوي على فراغات صغيرة تشبه الشبكة يمكن للخلايا الجذعية أن تعيش فيها وتنمو. قد تكون هذه السقالات مصنوعة من مادة بروتينية قابلة للتحلل الحيوي، مثل الكولاجين أو الإيلاستين أو الجليكوزامينوجليكان؛ أو يمكن أن تتكوَّن من مواد غير قابلة للتحلل الحيوي ومتوافقة حيويًّا، مثل السيليكون أو البلاستيك المطبوع الثلاثي الأبعاد المصنوع بالحجم والشكل الدقيقين للعضو الأصلي للمتلقي. وقد استُخدمت مثل هذه الطرق لإنماء أعضاء اصطناعية، مثل الجلد والعظام والأذن والمثانة والأوعية الدموية وحتى أنسجة القلب العاملة. إن التقدم في مجال هندسة الأنسجة ينعش الآمال في مستقبلٍ يمكن فيه زراعة الأعضاء الاصطناعية، وفي ذلك الكبد والكلى والقلب والبنكرياس، في المختبر باستخدام خلايا المريض الخاصة، مما يخفف من تحديات الرفض المناعي وندرة الأعضاء.
سنعيش دومًا في عالمٍ تشكِّل فيه الإصابات المؤلمة تهديدًا للصحة. يومًا ما، عندما تُشفى أمراض مثل أمراض القلب والسكري والسرطان، أو تصبح أمراضًا مزمنة يمكن التحكم فيها ولا تنقص العمر، سيظل الجراحون يجرون عمليات جراحية للجنود الجرحى وضحايا الطلقات النارية والناجين من حوادث السيارات، والأطفال المصابين في الملعب. سيستفيد هؤلاء المرضى من قرن ونصف قرن من التقدم في الجراحة والتخدير والتعقيم والتصوير التشخيصي، وعندما يكون الضرر شديدًا للغاية أو تفشل الأعضاء، سيستفيدون من عمليات زراعة الأعضاء وهندسة الأنسجة وطرق التجديد التي تحل محل ما تضرر بكفاءة. تسلِّط القصة الطويلة والمثيرة لتطور جراحة الإصابات الضوء على ذكاء الأطباء المبتكرين ومرضاهم الشجعان. فهؤلاء معًا يجسدون مثالًا مشرقًا لانتصار الروح الإنسانية، ولا تزال تضحياتهم تخدمنا جميعًا.