الولادة
كانت محبوبة.
على الرغم من أنها كانت أبعد ما يكون عن المثالية، فقد أحبها الناس. كانت شارلوت في مراهقتها متهورة وعنيدة وغير تقليدية؛ لكن مقارنة بباقي أفراد عائلتها المتهتكين المنغمسين في الترف والملذات، كانت بسيطة وقريبة من العامة. أحب العامة استقلاليتها، التي ظهرت بوضوحٍ عندما تحدَّت أمر والدها بالزواج بملك هولندا المنتظَر، وكان رفضها يرجع جزئيًّا إلى أنها لم تستطع تحمُّل فكرة ترك إنجلترا. احترموها لأنها تزوجت عن حب، وأُعجبوا بظهورها سعيدة مع زوجها الأمير ليوبولد. وقد صلوا لأجل أن تصبح في يومٍ من الأيام ملكة ناضجة ومسئولة تشبه الملكة إليزابيث وليس جدها المسن الخرف، الملك جورج الثالث، الذي أضاع المستعمرات الأمريكية، أو والدها الأمير جورج الرابع الساعي وراء الملذات، الذي تولَّى الوصاية على العرش منذ عام ١٨١١ بسبب تدهور الحالة العقلية لجورج الثالث، ربما بسبب البرفيريا أو الاضطراب ثُنائي القُطْب.
حتى ذلك الوقت، كان حمل شارلوت صحيًّا وخاليًا من أي تعقيدات. وفي محاولة للحفاظ على صغر حجم الجنين لتسهيل عملية الولادة، سارت على نظام غذائي خاص، بالإضافة إلى إجراء فصدٍ على نحوٍ متقطع، وهي ممارسة كانت تُستخدم بوصفها علاجًا شافيًا لكثيرٍ من الأمراض. ومع اقتراب موعد الولادة وتجاوزه، تضاعفت صلوات الشعب. حاولت شارلوت أن تشغل نفسها وتمارس الرياضة قليلًا كل يوم، لكن كان من الصعب عليها ألا تشعر بالتوتر بشأن الولادة الوشيكة.
في قصر كليرمونت هاوس، بدأت انقباضات شارلوت في الساعة السابعة مساءً. وفقًا للسير ريتشارد كروفت، مُولِّد شارلوت (المعادل الذكوري للقابلة)، بحلول الساعة الحادية عشرة مساءً، كان عنق الرحم «بحجم نصف بنس» (نحو ٢٫٥ سنتيمتر). كان كروفت يأمل في ولادة سلسة وسريعة نسبيًّا، إلا إن المرحلة الأولى من المخاض — وهي الفترة من بداية الانقباضات إلى اتساع عنق الرحم بالكامل بمقدار عشرة سنتيمترات — تقدمت ببطء وبصورة غير منتظمة إلى حدٍّ ما. كانت انقباضات شارلوت، التي كانت تحدث كل ثماني دقائق إلى عشر تقريبًا، ضعيفة على نحوٍ ملحوظ. وبحلول الساعة الحادية عشرة صباحًا من اليوم التالي، كان عنق الرحم قد اتسع فقط إلى حجم «الكرونة البريطانية» (نحو ٣٫٥ سنتيمترات).
بدأ كروفت يشعر بالقلق. لم يستطع إنكار أن ولادة الأميرة لا تسير بسلاسة. قد يكون من الضروري استخدام الملقط لتسهيل الولادة، لكن على الرغم من كونه من أكثر المولِّدين الذين يحظون بالتقدير في إنجلترا، لم يشعر بالراحة في استخدام هذه الأداة. ومثل معظم المولِّدين في جيله، كان يفضِّل كثيرًا ترك الأمور تسير بشكلٍ طبيعي، ولم يكن يحبذ استخدام الملقط الذي فَقَدَ رواجه بسبب الضرر الذي يمكن أن يلحقه إذا استخدمته أيدٍ غير مدربة.
لكن تحسبًا لإمكانية أن تحتم الضرورة استخدام الملقط، أرسل كروفت في طلب المساعدة. فاستدعى الطبيب جون سيمز، الذي كان كروفت يعلم بمهارته في استخدام الملقط إذا لزم الأمر. وأخيرًا، في الساعة التاسعة مساءً، اتسع عنق الرحم بالكامل بعد ٢٦ ساعة من المخاض. لا بد أن كروفت قد شعر براحة كبيرة. فقد كان كل شيء يسير على ما يرام على كل حال. حافظت شارلوت على هدوئها ومعنوياتها المرتفعة. فكانت تنهض أحيانًا وتتجول في أنحاء غرفتها بخطوات صغيرة. وكان الأمير ليوبولد حاضرًا لتقديم الدعم العاطفي.
أما المرحلة الثانية من المخاض، وهي فترة تشتد فيها الانقباضات التي تشير إلى انتقال الجنين عبر قناة الولادة وولادته، فتستغرق عادة من ٢٠ دقيقة إلى ساعتين. لم ينطبق هذا المعيار على المرحلة الثانية لمخاض شارلوت. فقد تقدمت ببطء، واتَّسمت بانقباضات ضعيفة وغير منتظمة. مع مرور ساعة تلو الأخرى دون تحقيق تقدم يُذكر، تزايد قلق كروفت. ومع ذلك، لم يطلب قَطُّ من الدكتور سيمز الدخول إلى الغرفة واستخدام الملقط. نحو ظهر اليوم التالي، الخامس من نوفمبر، وبعد استغراق أكثر من ١٥ ساعة في المرحلة الثانية، خرجت من الرحم كمية قليلة من العِقْي، أو براز الجنين، ذي اللون الأخضر الداكن. وكانت هذه علامة مقلِقة على حدوث ضائقة جنينية، أو ربما حتى وفاة الجنين. كما أنها أثارت شبح العدوى المخيف.
وفي الساعة التاسعة مساءً، بعد ٥٠ ساعة استغرقها المخاض إجمالًا، وضعت الأميرة شارلوت ذكرًا ميتًا يزن تسعة أرطال. سارع كروفت وسيمز في الحال لمحاولة إنعاش الطفل بفركه بقوة والنفخ في أنفه، لكن دون جدوى. تلقَّت شارلوت النبأ بجَلد. ربما كانت منهكة للغاية إلى درجة أنها لم تستطع فعل شيء أكثر من مجرد الإيماء برأسها. فُجع الأمير ليوبولد لموت ابنه. وترك زوجته وتوجه إلى غرفة نومه، حيث تناول الأفيون لمساعدته على النوم.
أعد كروفت نفسه للمرحلة الثالثة من الولادة، وهي خروج المشيمة. كانت شارلوت في العموم بصحة جيدة وعلى ما يرام، إلا إنه بدأ يدرك أنه لا يزال هناك خطأ. كان رحمها لا يزال يتقلص على نحوٍ غير منتظم، ولم يستطع أن يشعر بنزول المشيمة كما ينبغي لها عادة. وفزع حين أدرك أن رحم الأميرة كان يتعرض لتقلصات مخصورة (شبيهة بالساعة الرملية)، حيث كان مركز الرحم يتقلص بصورة أقوى من أعلاه أو أسفله. والأسوأ من ذلك أن المشيمة كانت في النصف العلوي من الرحم. وقلل وجودها في هذا الموضع من احتمالات نزولها.
ثم، بعد ثلاثين دقيقة من الولادة، بدأت الأميرة تنزف.
مع تسرب الدم من قناة الولادة، واجه كروفت أزمة متكاملة الأركان، واضطر إلى اتخاذ قرار صعب. كان متمسكًا بالطرق التقليدية ولم يحبذ التدخل بالحيل أو الأدوات، إلا إن نزيف الرحم، سواء نتيجة للمشيمة المحتجزة أو تقلصات ما بعد الولادة الضعيفة، كان يمكن أن يتحوَّل بسرعة إلى كارثة تهدد الحياة. في تلك اللحظة اتفق كروفت وسيمز على أنهما ليس لديهما خيار سوى محاولة إزالة المشيمة يدويًّا.
تمكَّن كروفت من إدخال أصابعه في الرحم وتقشير المشيمة من جدار الرحم. وهو ما جعل شارلوت تصرخ من الألم. ترك كروفت المشيمة في المهبل كي يتخلص منها الجسم تدريجيًّا، وهي ممارسة كان يُعتقد عادة أنها تحفز تقلصات رحمية أقوى بمساعدة الجسم فسيولوجيًّا على إدراك أن الولادة قد تمت. مرَّت ٢٥ دقيقة ولم تخرج المشيمة من تلقاء نفسها بعد؛ لذا قرر كروفت إزالتها يدويًّا. عندما فعل ذلك، ازداد النزيف.
لم يكن بيده الكثير ليقوم به حيال ذلك. ولكن بعد ذلك، قبل أن يستسلم كروفت لليأس، تباطأ النزيف لحسن الحظ، ثم توقف.
بحلول ذلك الوقت، كان كروفت بلا شك قد أنهك من التوتر وعدم الراحة. والمدهش أن الأميرة كانت لا تزال تبدو طبيعية بشكل مطمئن، في ظل هذه الظروف. كان معدل ضربات قلبها ثابتًا. ولم تشكُ من الألم، حتى إنها تمكنت من تناول القليل من الطعام. على الرغم من كل ما حدث، بدا أن شارلوت ستكون بخير، على الرغم من أن فقدان الطفل ألقى بثقله على الجميع.
لكن عند منتصف الليل تقريبًا، تغير شيء. شكت شارلوت من الشعور بالإعياء وسماع صوت غناء في رأسها. حاولت النوم ولكنها ازدادت تململًا ونزقًا. ثم تقيأت. أعطاها كروفت القليل من صبغة الأفيون، على أمل أن يهدئ أعصابها. وفي غضون ساعة — أي في الساعات الأولى من صباح السادس من نوفمبر — بدأ نبض شارلوت في التسارع ثم أصبح غير منتظم. ثم شكت من ألم مبرح في البطن. بدأ كروفت وسيمز في إعطائها أي شيء يخطر ببالهما يمكن أن يكون له تأثير إيجابي. فأعطياها النبيذ والطعام والأفيون. وعملا على تدفئتها بزجاجات الماء الساخن.
تدهورت حالة شارلوت. أصيبت بالهذيان وبدأت تخرِّف. شكت من الشعور بضيق في صدرها وكانت تعاني من صعوبة في التنفس. وأصبح نبضها ضعيفًا وغير منتظم.
وفي الساعة الثانية ونصف صباحًا، تُوفيت.
القاتل الغامض
الولادة ليست مرضًا، ولكنها تقتل. سيكون من الصعب اعتبار أي كارثة طبية أخرى مساوية لها من حيث الأسى أو الحسرة. فالفقدان غير المتوقع لحياة واحدة، أو أحيانًا حياتين، في نفس اللحظة التي توشك فيها حياة جديدة على الخروج إلى الحياة، يبدو أمرًا لا يحتمَل تمامًا. ومع ذلك، وعلى مدى التاريخ البشري، عانى كثير من النساء وعائلاتهن من ذلك تحديدًا. فعلى مدى آلاف السنين، كانت الولادة السبب الرئيسي لوفاة الأم والجنين. وفي الدول النامية، لا تزال الولادة قاتلًا شائعًا. وعلى المستوى العالمي، تموت نحو ٣٠٠ ألف امرأة نتيجة أسبابٍ تتعلق بالحمل والولادة كل عام — أي أكثر من ٨٠٠ سيدة في اليوم — مع حدوث نحو ثلثَي الوفيات في أفريقيا، وخُمسها في جنوب آسيا. علاوة على ذلك، يرتفع خطر الإصابة والموت في أثناء الولادة نحو مائة مرة بالنسبة إلى الجنين مقارنة بالأم.
أما في العالم المتقدم، فلم تعد وفيات الأمهات في أثناء الولادة نادرة إلا في السبعين عامًا الأخيرة. قبل ذلك، لم يكن للنساء خيار سوى ربط الولادة بارتفاع احتمالية الوفاة أو حدوث عاهة مستديمة. ويشهد السجل التاريخي على هذه الحقيقة المروعة. ففي القرنين السابع عشر والثامن عشر في أمريكا، كان معدل وفاة الأمهات لكل حمل نحو ١ إلى ١٫٥ في المائة. وبما أن معظم النساء كن يلدن عدة أطفال، فإن معدل الخطورة على مدة حياة الأم اقترب على الأرجح من أربعة في المائة أو أكثر. حتى إن كتاب نصائح أمريكي يرجع إلى القرن السابع عشر أوصى النساء بالصلاة والتوبة والاستعداد لإمكانية الموت قبل حلول موعد ولادتهن. وكتبت المستوطِنات الأُوَل وصاياهن قبل الولادة. وملأت الأمهات في القرن التاسع عشر يومياتهن ورسائلهن بذكرياتٍ عن الألم الذي لا يطاق الذي واجهنه في المخاض والولادة.
في الحالات التي لم تكن فيها الولادة قاتلة، كان من الشائع أن تسبِّب تشوهات. وكان كثير من الإصابات المنهكة، التي تراوحت بين التمزقات العجانية وتدلي الرحم إلى فقدان القدرة على التحكم في التبول واختلال الوظيفة الجنسية والألم المزمن، يمكن أن يستمر مدى الحياة، ويخلف تأثيرات مدمرة على حياة النساء. وفي ظل غياب وسائل منع الحمل، لم يكن من غير المألوف أن تمر الأمهات بتجربة الحمل عشر مرات أو أكثر خلال حياتهن، وهو ما جعل كثيرات منهن يعشن في حالة شبه دائمة من الرعب المستمر. وكان هذا الخوف الرهيب يساوي بين النساء الغنيات والفقيرات، والمتعلمات وغير المتعلمات.
لماذا كانت الولادة قاتلة إلى هذا الحد؟ وكيف تغير ذلك؟
الإجابة عن هذين السؤالين تسلط الضوء على ما يمكن أن يكون القصة الأكثر مأساوية في تاريخ الطب. في أغلب الأحيان، كان الجواب عن السؤال الأول هو الأطباء أنفسهم، ولم يفشل الجواب الصادق عن السؤال الثاني في الكشف عن قرون من الأخطاء والعثرات والوفيات التي كان من الممكن تجنبها.
من عجيب المفارقات، فيما يبدو، أن التطور لم يتصور طريقة أفضل تحافظ بها الكائنات الأكثر ذكاءً على الكوكب على أنواعها. من منظور ميكانيكي، تبدو الصعوبة التي تنطوي عليها الولادة البشرية واضحة؛ إذ يصعب تمرير رأس إنسان كبير جدًّا عبر فتحة صغيرة جدًّا، وهي قناة الولادة. فالحوض البشري، مقارنة بتشريح الثدييات الأخرى، وخاصة الرئيسيات، يُعتبر ضيقًا. وهذه الخاصية تتيح لنا المشي منتصبين بسهولة، لكنها أيضًا تجعل الولادة مشكلة. فقناة الولادة لدى المرأة ضيقة إلى درجة أن رأس الجنين لا يمكن أن يعبرها بسلاسة إلا إذا استدار في أثناء العبور بحيث يكون القطر الأكبر للرأس مضاهيًا للقطر الأكبر للحوض، أي من الجانب للجانب (عرضيًّا) في الجزء العلوي من الحوض ومن الأمام إلى الخلف في الجزء السفلي من الحوض. والنهاية المثالية لهذا الدوران الدقيق هي أن يصبح وجه الجنين متجهًا إلى الأسفل في أثناء الولادة. كان سيصبح من الأسهل بكثير ولادة النسل من خلال حوض أوسع يسمح للأطفال بالنزول بسهولة، لكن ثمن هذه الراحة سيكون اتساع المسافة بين الوركين ومشية مقوسة الساقين كمشية الشمبانزي.
يتمثل النصف الثاني من هذه المعادلة الصعبة في الرأس الضخم للطفل. يبدو أن امتلاك دماغ كبير محاط بجمجمة كبيرة هو الثمن الذي يتعيَّن علينا دفعه مقابل الحصول على لقب أذكى حيوانات الأرض. قد يكون حجم الرأس التشريحي هو العامل الحاسم في مدة الحمل البشري. بعد تسعة شهور، يصبح الرأس المتنامي ببساطة أكبر من أن يمر عبر قناة الولادة. وفي العصور الحديثة، أدى تحسين النظام الغذائي الذي تتبعه الأمهات إلى جعل رءوس الأجنة أكبر حجمًا مما كانت عليه في القرون الماضية، مما أسهم في تفاقم المشكلة. فقد أظهرت دراسة للمواليد في مستشفى بارز في دبلن أن متوسط وزن الرضع عند الولادة في عام ٢٠٠٠ كان سبعة أرطال وعشرة أوقيات؛ أي أكبر بنحو رطل كامل من متوسط الوزن في عام ١٩٥٠.
تؤدي القيود التشريحية التي تضع حدودًا لفترة الحمل إلى نتيجة مزعجة للغاية، وهي ولادة الأطفال البشريين غير مكتملي النمو بدرجة كبيرة. فنحن نكون ضعفاء وعديمي الحيلة حين نولد. فعلى عكس العجل الحديث الولادة الذي يخرج من الرحم يتعثَّر على قدميه ويبدأ في المشي حوله، أو الحوت الحديث الولادة الذي يبدأ في السباحة على الفور، نصل إلى الدنيا كائنات عديمة الفائدة لا تقدر حتى على رفع رءوسها. من منظور التطور الإنساني، كان سيصبح من الأفضل أن نولد بعد ذلك بأشهر، عندما نكون أكبر حجمًا وأقوى وربما قادرين على الزحف. لكننا لا نستطيع؛ لأن رءوسنا العاقلة الذكية كبيرة جدًّا وأحواض أمهاتنا صغيرة جدًّا. هذه هي الحقائق المنفرة التي تجعل الولادة صعبة، وأحيانًا قاتلة.
لقرون من الزمن، كانت فسيولوجيا الحمل والمخاض والولادة لغزًا، ولا سيما للرجال. فاعتقد البعض أن الأطفال ينمون بصورة كاملة في الرحم ليصبحوا نسخًا مصغرة من البالغين تكافح بهمة من أجل الخروج من الرحم، وكانت هذه إحدى طرق تفسير كيفية تمزق الأغشية. كان البعض الآخر يعتقد أن قذف الرجل للمني يتسبب في تكوين الطفل من دم الحيض لدى المرأة، أو أن السائل المنوي ينتج الشكل البشري الكامل بمفرده والمرأة مجرد وعاء لنموه. كانت هناك نظرية أخرى تقول إن البويضات التي تخرج من المبيض الأيمن تصبح ذكورًا، والبويضات من المبيض الأيسر تصبح إناثًا.
على امتداد معظم تاريخ البشرية، ساعدت النساء الكبريات سنًّا والأكثر خبرة الأمهات الجدد في الولادة. في أوروبا، أصبح يُطلق على هؤلاء المساعِدات «القابلات»، ومعظمهن لا يحصلن على تدريب رسمي. كانت القابلات غالبًا نساءً غير متعلمات بل أميات يساعدن بناتهن وصديقاتهن وجاراتهن. وكانت وظيفتهن تتجاوز أحيانًا توليد النساء؛ فبعضهن كنَّ يساعدن في توليد الحيوانات وتقديم الرعاية الطبية للأطفال، وإجراء عمليات الإجهاض. كما كن يُستدعَين لتأكيد العذرية أو تقييم الخصوبة أو تحديد هوية والد الطفل. على مدى قرون، استأثرت القابِلات بهذا المجال؛ لأنه لم يكن يُسمح للرجال بحضور عمليات الولادة. وفي عام ١٥٢٢، دفع الفضول طبيبًا ألمانيًّا إلى التسلل إلى غرفة ولادة امرأة متنكرًا في ملابس نسائية. لكن افتُضح أمره واعتُقل وأعدِم حرقًا على العمود. في العصور الوسطى التي كان يحكمها الطقوس والدين أكثر من المعرفة أو العلم، بدت الولادة معجزة مثلما بدت غامضة.
مع مرور الزمن، بدأ الرجال في الدخول إلى غرف الولادة، لكن هذه العملية ظلَّت بطيئة بسبب التقاليد الدينية والاجتماعية. ونظرًا إلى أن مشاهدة الرجال للأعضاء التناسلية الأنثوية كان يُعتبَر أمرًا غير لائق، كان الرجال المولِّدون غالبًا ما يحضرون عمليات الولادة معصوبي الأعين، ويحاولون مساعدة المرأة على الولادة بأيديهم عن طريق اللمس فقط. ثمة ممارسة أخرى تتمثَّل في ربط أحد طرفَي ملاءة ضخمة حول رقبة الرجل كمريلة، ومد الطرف الآخر لتغطية جسد الأم من أجل حجب رؤية المهبل تمامًا عن المولِّد. تضمنت التكتيكات الأخرى لتجنب أي سلوك غير لائق جعل الأم ترتدي معظم ملابسها تقريبًا في أثناء الوضع، وجعل المولِّد يشيح ببصره بعيدًا عن الأم طوال الوقت، أو العكس أحيانًا؛ أي جعل الممارس يتواصل بعينه مع الأم طوال الولادة حتى تضمن ألا يجول ببصره.
في إنجلترا، اخترعت عائلة فريدة من المولِّدين الناجحين أداة منحتهم الأفضلية على منافسيهم، وهي الملقط. يُنسب الفضل في اختراع هذه الأداة في الغالب إلى بيتر تشامبرلين «الأكبر»، الذي وُلد في عام ١٥٦٠، على الرغم من أنه من المحتمل أن يكون شقيقه الذي يحمل نفس الاسم، بيتر تشامبرلين «الأصغر»، هو من اخترعها، أو ساهم في تصميمها. كانت أداتهم، التي اختُرعت على الأرجح في الثمانينيات أو التسعينيات من القرن السادس عشر، تتألف في أول الأمر من ملعقتين بمقبضين طويلين، متصلين معًا بمفصلٍ مركزي، يمكن وضعهما في قناة الولادة على كلا جانبَي رأس الجنين للمساعدة في سحبه. أصبحت عائلة تشامبرلين ماهرة في استخدام الملقط للمساعدة في حالات الولادة المتعثرة، وذلك عندما يصعِّب حجم الطفل أو وضعه عبوره إلى قناة الولادة. في مثل هذه الحالات، كانت الممارسة النمطية هي قتل الجنين باستخدام الخطاطيف أو المسامير اللولبية أو ملاقط الضغط لثقب جمجمة الجنين أو سحقها وسحبها إلى الخارج، ممزقة إربًا على الأغلب، في محاولة لإنقاذ الأم. كان من شأن ملقط تشامبرلين إنقاذ حياة عدد لا يُحصى من الأمهات والأجنة.
لكنه لم يفعل، لأنهما قاما بفعلٍ ماكرٍ.
أبقوا الأمر سرًّا. لأجيال.
لمنع المنافسين من التعرف على الأداة التي كانت تساعدهم في استخراج الأطفال، تأكدت عائلة تشامبرلين من عدم السماح لأي شخص خارج العائلة برؤيتها. كانت الأداة تُنقل بواسطة عربة، في صندوق خشبي ثقيل ومزخرف يتطلب رجلين لرفعه وحمله إلى غرفة الولادة؛ وهو ما أعطى الانطباع الخاطئ بأن أداتهم قد تكون آلة كبيرة ومعقدة. وداخل الغرفة، كان جميع أفراد العائلة يُجبَرون على المغادرة وكانت الأم نفسها معصوبة العينين. وساعدت الملاءة المبسوطة بغرض الحفاظ على حياء الأم، على إخفاء الأداة السرية لتشامبرلين عن الأنظار أكثر. ولحجب الأصوات التي قد توفر دلائل على طابع أداتهم، أو ربما لتعزيز غموضهم، كانت عائلة تشامبرلين تقرع أجراسًا بالمطارق والسلاسل داخل الغرفة لخلق ضوضاء مشتِّتة للانتباه.
أصبحت عائلة تشامبرلين ثرية ومشهورة. وحضر بيتر الأكبر ولادات زوجتَي الملك جيمس الأول والملك تشارلز الأول. وبقي سر الملقط في العائلة أكثر من مائة عام، حيث ورثَّه بيتر الأصغر إلى ابنه الذي يُدعى بيتر أيضًا، ثم إلى هيو تشامبرلين، وهو ابن من الجيل التالي. وفي عام ١٦٧٠، حاول هيو تشامبرلين الاستفادة من سر العائلة بالسفر إلى فرنسا، بهدف بيعه لمولِّد مشهور يُدعى فرانسوا موريسو، أو للحكومة الفرنسية. لم يقبل أيٌّ منهما العرض، ويُعتقد أن هيو باع ملكية عائلته الفكرية للملقط في وقتٍ لاحقٍ إلى هولندي يُدعى روجر فان رونهويسن في عام ١٦٩٣، الذي أبقت عائلته أيضًا الأمر سرًّا عقودًا.
في النهاية، أصبح مفهوم الملقط معروفًا في القرن الثامن عشر، وبدأ كثير من الممارسين في إنتاجه وتجربته. في أربعينيات القرن الثامن عشر، عمل الطبيب البريطاني ويليام سميلي على تحسين تصميم الملقط عن طريق إضافة انحناء أكبر لنصلَي الملقط. كما استخدم «قفلًا إنجليزيًّا»، عزز القدرة على إدخال كل نصل على حِدة ثم تثبيتهما عند مفصل مركزي. عُرف عن سميلي حضوره الولادات وهو يرتدي فستانًا، ربما لتخفيف القلق لدى الأم، أو ربما لإخفاء أدواته تحت طيات ملابسه.
لم يكن استخدام الملقط الحل الناجع لكل الولادات المعقدة. كان من الممكن أن يكون أداة قيمة في الأيدي الماهرة، ولكن في الأيدي غير الماهرة، كان الملقط أداة خطيرة. فقد عانى كثير من الأطفال من إصابات خطيرة في الرأس والوجه، أو لقوا حتفهم نتيجة استخدام الملقط. كان من السهل أيضًا أن يتلف الملقط مهبل الأم وعنق الرحم والرحم. ومع ذلك، شاع استخدامه كثيرًا، ويرجع ذلك إلى حدٍّ كبير إلى أن الأداة ساعدت المولِّدين الذكور على سلب العمل من القابِلات الإناث اللاتي لم يستخدمنها. وفي الأوقات التي كان المولِّدون فيها مدفوعين بالغرور وعدم الصبر، كانوا يستخدمون الملقط مبكرًا ويسرفون في استخدامه. وكثيرًا ما ثبت ضرر ذلك على الأمهات. ظل التدريب الطبي على التوليد غير كافٍ بدرجة ملحوظة. حتى في القرن التاسع عشر، لم يكن غريبًا أن يتخرَّج الطلاب في كليات الطب دون أن يشهدوا ولادة حقيقية واحدة. فكان أي تدريب على استخدام الملقط يعتمد عادة على الدمى (أحيانًا ما كانت الدمية تزوَّد بحوض حقيقي مأخوذ من جثة)، أو الأجنة الميتة، أو الدمى القماشية المحشوة. ونتيجة لكون رؤية الأعضاء التناسلية الأنثوية من المحظورات، غالبًا ما كان الملقط يُستخدم دون النظر، مما كان يزيد من فرص الإصابة.
بحلول النصف الثاني من القرن الثامن عشر، أدَّت النتائج السيئة لعمليات التوليد بالملقط إلى تشويه سمعة كثير من أطباء التوليد والمجال الناشئ كله. فانتُقد الأطباء لتسرعهم الشديد في استخدام الملقط في الوقت الذي يكون فيه من الممكن أن تستمر الولادة على نحوٍ طبيعي إذا احتفظ الأطباء بصبرهم وانتظروا. وتلا ذلك ردة فعل عنيفة، وفَقدَ استخدام الملقط شعبيته. لم يتدرب الأطباء الجدد على استخدامه، وتعلموا كيف يسمحون للطبيعة بأن تأخذ مجراها في معظم الحالات. وكان هذا هو السائد في وقت حمل الأميرة شارلوت في عام ١٨١٧. كان السير ريتشارد كروفت، ومعظم المولِّدين المرموقين في ذلك العصر، يفضِّلون دائمًا المشاهدة والمراقبة على التدخل.
مأساة الولادة الثلاثية
من المحتمل أن تكون الأميرة شارلوت قد ماتت بسبب النزف. وبالإضافة إلى الدم الذي فقدته خلال المرحلة الثالثة من الولادة، كشف التشريح عن وجود جلطة دموية كبيرة في رحمها. ومن المحتمل أن يكون الانسداد الرئوي سببًا آخر للوفاة، وهو جلطة تعيق تدفق الدم إلى الرئة.
جاءت وفاة شارلوت صدمة للإمبراطورية البريطانية. وعلى حد تعبير السياسي البريطاني وعضو البرلمان هنري بروجهام، فُجعت البلاد «كما لو أن زلزالًا قد ضربها في جنح الليل … بدا الأمر حقًّا كما لو أن كل أسرة في بريطانيا العظمى فقدت ابنًا عزيزًا.» استمر الحداد العام أسابيع. فارتدى الرجال والنساء أشرطة سوداء على الأذرع. وأغلِقت المسارح والشركات والمحاكم. وأُلغيت المناسبات العامة وتوقفت حركة الشحن. في العصور الحديثة، وحدها وفاة ديانا أميرة ويلز في عام ١٩٩٧ هي التي من شأنها أن تقدِّم لنا دلالة على مدى انتشار مشاعر الأسى والحسرة؛ فقد أطلق الكثيرون على شارلوت لقب «أميرة الشعب» الأصلية. كانت فاجعة الأمير ليوبولد شديدة. ففي لحظة ساحقة واحدة، فقد زوجته المحبوبة، وابنه ووريثه، ولقبه الملكي بوصفه زوجًا لملكة، وجزءًا كبيرًا من ثروته؛ لأنه هو نفسه لم يكن ثريًّا في ذلك الوقت. وعلى الرغم من أنه أصبح فيما بعد ملكًا على بلجيكا، فلم يستعِد السعادة الغامرة التي عاشها خلال فترة زواجه من شارلوت التي امتدت إلى سنة ونصف السنة.
وُجِّهت انتقادات فورية إلى السير ريتشارد كروفت بوصفه مسئولًا عما حدث في أثناء الولادة، على الرغم من أن الأسرة الملكية سارعت بالثناء على رعايته للأميرة علانية. أُدين كروفت لعدم استخدامه الملقط خلال المرحلة الثانية الطويلة من عملية الوضع حينما اتضح بجلاء أن الولادة لا تمضي قُدمًا بانتظام. فلو أنه فعل ذلك، لربما عاش الطفل ونجت شارلوت. ووفقًا لتاريخ التوليد، أدت وفاة شارلوت إلى تجدُّد الاهتمام باستخدام الملقط، وهي حركة نمت واستمرت حتى القرن العشرين.
كان كروفت نفسه محطمًا وغير قادر على مسامحة نفسه بسبب وفاة الأميرة. فبعد ثلاثة أشهر، أشرف على ولادة أم أخرى بدأ مخاضها في التوقف، وذكَّرته بولادة شارلوت المشئومة. كانت أوجه الشبه أكثر من أن يتحمَّلها. وذهب كروفت إلى غرفة أخرى، وأطلق النار على نفسه في الرأس حتى قبل أن تضع المرأة حملها. وأدى انتحاره إلى تسمية هذه الواقعة المؤلمة في التاريخ البريطاني «مأساة الولادة الثلاثية»، بسبب وفاة الطفل والأم والمولِّد.
كانت وفاة شارلوت تعني عدم وجود وريثٍ مؤهل في جيلها. وبدا محتملًا أن العرش سينتقل إلى دوق برونزويك، وهو صبي ضعيف العقل يبلغ من العمر ١٣ عامًا، وهو حفيد شقيقة الملك جورج الثالث. أدركت العائلة الملكية بقلقٍ أن سلالة هانوفر الآن في خطرٍ كبير. كانت هناك حاجة إلى وريث أكثر ملاءمة. وهو ما دفع كثيرًا من أعمام شارلوت إلى طرد عشيقاتهم على الفور، والبحث عن زيجات مناسبة. وخلال عام، تزوج ثلاثة منهم. تزوج الابن الرابع لجورج الثالث، إدوارد دوق كِنت، الأميرة فيكتوريا من ساكس-كوبورج-زالفيلد، التي تصادف أن كانت شقيقة الأمير ليوبولد. وبعد عام، أي في عام ١٨١٩، أنجبا ابنة. كان اسمها فيكتوريا.
تولَّت الملكة فيكتوريا العرش في عام ١٨٣٧، وحكمت لما يقرب من ٦٤ عامًا، وسُمي عصر كامل باسمها. لو عاشت شارلوت، كان من المحتمل ألا تُولَد فكتوريا أبدًا. وقد كتب المؤرخون عددًا لا يُحصى من الكتب التي تسرد حياة فيكتوريا وذريتها، من الأبناء والأحفاد الذين شغلوا عروش أوروبا وأثاروا أحداثًا ستؤدي إلى الحرب العالمية الأولى في القرن العشرين.
نبي في بلده
مع مرور القرن التاسع عشر، ظلَّت الولادة محفوفة بالمخاطر. لم يكن السبب الأكثر شيوعًا للوفاة وضعية المجيء المقعدي للجنين، أو تعثُّر الولادة، أو حتى النزيف. بل كان عدوى تصيب الرحم في أثناء الولادة أو بعدها بفترة قصيرة. وقد أُطلق على هذا القاتل اسم «حمى النفاس»، أو حمى ما بعد الولادة. تنشأ العدوى بشكل يبدو عفويًّا، بعد بضعة أيام من الولادات غير المعقدة. وبعدها تتدهور حالة الضحايا بسرعة مذهلة. وعلى حد وصف المؤرخ إيرفاين لودون: «يمكن أن تلد امرأة يوم الاثنين، وتكون سعيدة وبصحة جيدة مع وليدها، وفي يوم الثلاثاء، تُصاب بالحمى والإعياء، وبحلول مساء الأربعاء تصاب بالهذيان وتعاني من التهاب البريتون يوم الخميس، وتموت يوم الجمعة أو السبت.» كانت هذه ميتة مؤلمة. فعندما تنتقل العدوى إلى الجهاز العصبي المركزي، كان التهاب السحايا يؤدي إلى عدم اتزان عقلي ونوبات هيستيرية، وتشنجات، وفقدان للوعي.
في العقود التي سبقت اكتشافات باستور وكوخ، لم يكن أحدٌ يعلم السبب في وفاة هؤلاء النسوة. كان البعض يعتقد أن العدوى ناجمة عن حليب الثدي الفاسد داخل الأم. وألقى البعض الآخر باللوم على الإمساك أو الشخصية المفرطة في القلق. وحاول من يرجعون السبب إلى الوبالة تحسين الصرف الصحي وفرض الحجر الصحي عبثًا. تضمنت التكتيكات الفاشلة الأخرى طلاء جدران المستشفى من جديد، وتبديل الأسرَّة والأغطية، وتبخير العنابر بالدخان أو شكل من أشكال غاز الكلور. كان من الممكن أن يحرق الأطباء ملابسهم بعد وقوع سلسلة من وفيات حمى النفاس. وأخضع آخرون المريضات لعددٍ لا يُحصى من العلاجات، وفي ذلك الدش المهبلي والمليِّنات والحقن الشرجية والكينين، وحلاقة شعر العانة. كان البعض يعتقد أن أفضل علاج هو تهوية أعضاء التناسل الأنثوية وتعريضها للهواء النقي؛ لذا كانوا يجعلون النساء يستلقين في أسرَّة فوق أسطح المستشفيات.
ثم في عام ١٨٤٧، أدرك طبيب مجري شغوف بعمله وغريب الأطوار في الثامنة والعشرين من عمره، يُدعى إجناز سيميلفايس، أمرًا مدهشًا. فقد اكتشف أن الأطباء، وفيهم هو نفسه، كانوا مسئولين عن قتل هؤلاء الأمهات.
كان سيميلفايس يعمل ضمن الطاقم الطبي لمستشفى فيينا للولادة، أكبر مستشفى للولادة في العالم، وهي مؤسسة ضخمة كانت تعتني بنحو ٨٠٠٠ مريضة في السنة (في المقابل، كانت أكبر مستشفيات الولادة في بوسطن ولندن تعتني بنحو ٢٠٠ إلى ٣٠٠ مريضة فقط في السنة). أصبح هذا المستشفى، الذي كان مكلَّفًا بتقديم الرعاية للنساء الفقيرات وغير المتزوجات في المدينة، مركزًا مرموقًا للتدريب في مجال التوليد بسبب وجود عددٍ وفيرٍ من الأمهات في مرحلة المخاض كي يتدرب عليهن المتدربون. قُسِّمت عنابر الولادة إلى عيادتَين. أُسند العمل في العيادة الأولى إلى طلاب الطب والأطباء مثل سيميلفايس. وكانت العيادة الثانية تحت إشراف القابِلات. وكانت العيادتان تستقبلان الأمهات بالتناوب.
في وقت وصول سيميلفايس في عام ١٨٤٦، كانت هناك ظاهرة معروفة ومحيِّرة في المستشفى: كان معدل الوفيات بسبب حمى النفاس يبلغ نحو ١١ في المائة في عيادة الأطباء، في حين كان أقل من ٣ في المائة في عيادة القابِلات. وفي بعض الأشهر، كان معدل الوفيات يرتفع في العيادة الأولى إلى أكثر من ١٨ في المائة؛ أي إن واحدة من كل خمس نساء تقريبًا تحت رعاية الأطباء كانت تموت. وبما أن هذا الفارق بين العيادتين كان أمرًا معروفًا، كانت الأمهات تفضِّلن بشدة دخول عيادة القابلات. وفي بعض الأحيان، كانت النساء يتوسَّلن لكيلا يُدخَلن إلى عيادة الأطباء. ونظرًا إلى أن تحويل التسجيل من عيادة إلى أخرى كان يتم في الساعة الرابعة عصر كل يوم، كان كثير من المريضات يؤجلن وصولهن لضمان التسجيل في عيادة القابلات، ما أدى إلى ولادة بعضهن في الخارج؛ في الشارع أو في العربات، أو على درج المستشفى، أو في الممرات.
راقب سيميلفايس كل هذا بقلقٍ متزايد. ورأى خوف الأمهات عند وصولهن إلى عيادته: «كانت هناك أدلة وفيرة على خوفهن من القسم الأول. فكانت تحدث عدة مشاهد تفطر القلب عندما كانت المريضات يكتشفن أنهن دخلن القسم الأول بالخطأ. كن يركعن، ويعتصرن أيديهن ويتوسَّلن لكي يُسمح لهن بالانصراف … لأنهن كن يعتقدن أن تدخل الطبيب كان دائمًا مقدمة للموت.» لم يكن يعرف لماذا كانت الأمهات أكثر عرضة للموت في عيادة الأطباء بأكثر من ثلاثة أضعاف. كان مندهشًا حين وجد أن حتى الأمهات اللاتي وضعن في الشارع كان لديهن احتمالية أقل بكثيرٍ للإصابة بحمى النفاس مقارنة بالمريضات في قسمه.
وفي هذا الصدد، كتب يقول: «بالنسبة إليَّ، بدا منطقيًّا أن تصاب المريضات اللاتي وضعن في الشارع بالمرض على الأقل بنفس القدر الذي تتعرض به النساء اللاتي وضعن في العيادة … ما الذي حمى أولئك اللاتي وضعن خارج العيادة من هذه التأثيرات المعدية المجهولة المدمرة؟»
بدأ سيميلفايس في جمع البيانات حول العيادتين ليرى إمكانية معرفة السبب وراء هذا الفارق في معدلات الوفيات. كانت المريضات في كلا القسمين يأكلن الطعام نفسه، وينمن على الأغطية نفسها، ويتعرضن لنفس درجة الحرارة والمناخ. اعتقد أن الاكتظاظ قد يؤدي إلى حالات أكثر من الحمى، لكن عيادة القابلات كانت دائمًا الأكثر اكتظاظًا. ولا يمكن أن يكون الهواء الفاسد هو السبب؛ إذ كانت العيادتان تشتركان في غرفة الانتظار، وكانت المريضات جميعهن تستنشقن الهواء نفسه. فحص سيميلفايس الممارسات الدينية للمريضات؛ حتى إنه طلب من الكاهن الذي يؤدي المراسم والطقوس الأخيرة قبل الموت تغيير مساره المعتاد عبر الأقسام، ولكنه لم يجد شيئًا يفسر اختلاف النتائج. اضطر إلى استنتاج أن هناك فارقًا واحدًا رئيسًا بين العيادتين، ألا وهو: أن إحداهما كان يعمل بها الأطباء وطلاب الطب، والأخرى تعمل بها القابلات.
ولكن كيف يمكن لهذا تفسير موت مريضات أكثر تحت رعاية الأطباء؟
وبعد سنة من التحقيق والبحث، عثر سيميلفايس أخيرًا على الإجابة.
في عام ١٨٤٧، أصيب صديق سيميلفايس وزميله جاكوب كوليتشكا بجرحٍ في إصبعه عن طريق مشرط طالب طب في أثناء التشريح. أصيب الجرح بعدوى، وأصيب كوليتشكا بتعفن الدم ومات. راجع سيميلفايس تقرير التشريح الخاص بصديقه بقلبٍ مفطور، وأدرك أن الحالات المرضية التي أصابت أعضاء كوليتشكا الداخلية كان شبه مطابق للاختلالات التي أصابت النساء اللاتي توفين من حمى النفاس؛ فقد وجد التهاب البريتون نفسه، والتهاب التأمور، وداء الجنبة (البطانة المحيطة بالرئتين)، والتهاب السحايا الذي وجده لدى كثير من الأمهات المتوفيات. بدأ يشك في أن صديقه قد أصيب بنفس مسبِّب المرض المشئوم الذي أصيبت به النساء الحوامل. فقد أصيب كوليتشكا بجرحٍ في أثناء التشريح، فهل يمكن أن تكون الجسيمات الخطرة من الجثة قد دخلت إلى الجرح وقتلته؟
عندما خطرت هذه الفكرة بذهن سيميلفايس، أدرك برعبٍ متزايدٍ أن الشيء الوحيد الذي كان يقوم به طلاب الطب والأطباء من العيادة الأولى بانتظامٍ كان التشريح في المستشفى. في الواقع، كان عدد هائل من عمليات التشريح يجرى؛ لأن القواعد الحكومية كانت تقضي بأن كل مريضٍ يموت في المستشفى لا بد من تشريحه. كان الأطباء والطلاب يتنقلون ذهابًا وإيابًا بين عمليات التشريح وعمليات الولادة عدة مرات في اليوم، ولم يكن أحد يغسل يديه.
بالتزام لا هوادة فيه، أجرى سيميلفايس تغييرات فورية لمكافحة هذه الجسيمات الجيفية. فجعل كل طبيب يغسل يديه في الجير المكلور، وهو محلول يشبه المُبيِّض، قبل إجراء عمليات التشريح وبعدها. وجاءت النتائج المفيدة سريعًا. فسرعان ما انخفض معدل الوفيات في العيادة الأولى إلى أقل من اثنين في المائة. وكان هذا إنجازًا مدهشًا. وقد حرص سيميلفايس على إخبار كل من سمع بإنجازه بأن ذلك سينقذ عددًا لا يُحصى من الأرواح في أقسام الولادة في جميع أنحاء أوروبا بلا شك.
ولكن هذا لم يحدث.
لسوء الحظ، اعتبر معظم الأطباء نظرية سيميلفايس سخيفة وساذجة. كان من المهين للأطباء، بوصفهم سادة متعلمين، أن يرى أي شخص أن أيديهم غير نظيفة. بدا مستحيلًا أن تسبِّب أشياء غير مرئية في الجثث حمى النفاس، وكان غسل اليدين عدة مرات في اليوم في محاليل كاوية أمرًا مزعجًا ومرهقًا. ورأى المعارضون أن المرض ربما نتج عن أسباب مختلفة كثيرة، مثل التلوث البرازي في أثناء الولادة، أو الهواء الفاسد الناتج عن الصرف الصحي، أو سوء التهوية، أو «الحليب الفاسد» من الأم، وهي فكرة أُطلِق عليها «نظرية نقيلة الحليب». وأرجع أحد الأطباء حمى النفاس إلى ضيق التنورات النسائية الداخلية التي تتسبب في تراكم البراز ليسمم الدم. بدا أن معظمهم راضون عن تقبُّل وفيات الأمهات باعتبارها أمرًا بيد الرب، ومن المستحيل أن يكون للإنسان سيطرة عليه.
على الرغم من أن بعض الأصدقاء والزملاء دعموا سيميلفايس، بل ساعدوا في نشر نظريته في المؤتمرات الطبية وفي المقالات، كان الساخرون منها من أطباء التوليد في فيينا وعواصم أوروبية أخرى أكثر، وأحيانًا ما كانوا يتجاهلونها. بدأ سيميلفايس يشعر بإحباطٍ متزايد. فبعد أن شهد الانخفاض الهائل في حمى النفاس في عيادته، اعتبر أنه من غير المعقول ألا يتبنى الآخرون الممارسات نفسها. وبدأ هوسه بنظرية لا تلقى شعبية في إزعاج كثير من زملائه، ولا سيما الأطباء الأكبر سنًّا مثل مديره المباشر في المستشفى. فكثيرًا ما كان سيميلفايس يدخل في جدالات حادة عندما يختلف الآخرون معه، وأصبح شخصية منبوذة على نحوٍ متزايد. وفي عام ١٨٤٩، رُفض تجديد تعيينه في المستشفى.
انتقل إلى منصبٍ متواضعٍ في مستشفى مجتمعي في بودابست، حيث أدت ممارساته في تطهير اليدين مرة أخرى إلى انخفاضٍ مدهشٍ في معدل الوفيات؛ إذ تراجعت الوفيات بسبب حمى النفاس إلى أقل من واحد في المائة. وفي عام ١٨٥٥، تقلَّد منصبًا أرفع؛ إذ أصبح أستاذًا لطب التوليد في جامعة بيست، لكن عجزه المستمر عن إقناع مزيد من الزملاء بمزايا طرقه أغضبه. وعلى الرغم من أنه تأخر كثيرًا في الكتابة في الدوريات الطبية للدفاع عن أفكاره، فقد نشر مقالًا أخيرًا في عام ١٨٥٨، أعقبه في عام ١٨٦١ بكتابٍ بعنوان «مسبِّبات حمى النفاس ومفهومها والوقاية منها». لسوء الحظ، كُتب جزء كبير من هذا البحث الضخم بأسلوبٍ ضعيف؛ إذ جاء مسهبًا ومتحذلقًا. وشكَّل جزء كبير منه هجومًا حادًّا على أعدائه ومنتقديه. فلم يقرأه سوى قِلة. وبعد أن كتب بعض من قرءُوه مراجعات نقدية سلبية، بدأ سيميلفايس يوجِّه رسائل عدائية صريحة إلى أطباء التوليد الرائدين في جميع أنحاء أوروبا، متهمًا إياهم بالإهمال الطبي ووصل إلى حد القول إنهم قتلة للأمهات الشابات. ووصف أطباء آخرين بأنهم «جهلاء»، وكتب تصريحات مثل «أشهد عليكم أمام الرب بأنكم قتلة.»
في الملحمة الطويلة والمأساوية لتاريخ الولادة، تُعتبر قصة سيميلفايس من بين أكثر القصص المفطرة للقلب؛ بسبب الطريقة التي عُومِل بها، ولأنه كان على حق. وأفضى عدم الاعتراف بفاعلية طرقه إلى عقودٍ من الجهل المستمر ومئات الآلاف من وفيات الأمهات في جميع أنحاء العالم، استمرت حتى القرن العشرين. وفي غياب سيميلفايس، ارتفع معدل وفيات الأمهات في مستشفاه في جامعة بيست ستة أضعاف، من واحد إلى ستة في المائة.
واليوم، يُعتبَر سيميلفايس نبيًّا لم يلقَ التقدير الواجب في حياته، لكنه أثبت أنه ذو بصيرة وعلى صواب. فكُرِّم في جميع أنحاء العالم باعتباره «منقذ الأمهات»، وظهر مصطلح «منعكس سيميلفايس» الذي يشير إلى رفض الأفكار العلمية الجديدة التي تتعارض مع الأفكار والممارسات التقليدية الراسخة. لم يُتحقَّق من صحة نظريته إلى أن اكتشف لويس باستور الميكروبات، ولكن حتى ذلك الحين، فشل جيلان آخران من أطباء التوليد في الالتزام بالممارسات الصحية الصارمة، واستمرت كارثة حمى النفاس حتى ظهور زمرة السلفوناميدات من المضادات الحيوية في الثلاثينيات. فشل كثير من الأطباء في إدراك الحقيقة أو الاعتراف بها، وهي أنهم هم أنفسهم كانوا الخطر الأكبر على النساء الحوامل. كان من الممكن أن يكون عدد كبير من مرضاهم بحالة أفضل دون أي مساعدة طبية على الإطلاق.
بيتسي، وأناركا، ولوسي
قدَّم إجناز سيميلفايس إسهامَه في مجال صحة المرأة قبل أن يكون العالَم جاهزًا له، ولكن ليس كل مُبتكِر في القرن التاسع عشر قد تعرَّض للتجاهُل. كان من أحد الأطباء الذين حَظِيَت اكتشافاتُهم بإشادة كبيرة هو الدكتور جيه ماريون سيمز، من ولاية ألاباما. كان سيمز هو الصورة المعكوسة لسيميلفايس. فبينما تعرَّض سيميلفايس للسخرية في حياته وحَظِي بالتكريم بعد وفاته، حقَّق سيمز شهرة وثروة كبيرتَين خلال حياته، ولكنه اليوم يتعرَّض للتحقير والشَّتم من قِبل الكثيرين. إنه واحدٌ من الشخصيات الأكثر جدلًا في تاريخ الطب.
لماذا؟
لأنَّ الاكتشافاتِ التي قامَ بها، التي استفادَت منها النساء منذُ ذلك الحين، جاءت من التجارِب على الأمريكيين السود المُستعبَدين.
في عام ١٨٤٥، كان سيمز جرَّاحًا مرموقًا يعمل في مونتجمري في ولاية ألاباما. لم يكُن من الغريب أن يُحضِر الأسياد المالكون للعبيد عبيدَهم إليه للعلاج، غالبًا لعلاج مشكلاتٍ نسائية؛ لأن النساء المستعبَدات كن يُقدَّرن لقُدرتهن على الإنجاب. كانت الإصابة بالناسور مشكلة شائعة ومدمِّرة للنساء بعد الولادة، وهي عبارةٌ عن وصلاتٍ غيرِ طبيعيةٍ بين جزأَين من الجسم بين المهبل والمثانة أو المستقيم. في ذلك الوقت قبل ظهور العمليات القيصرية أو أدوية حفز التقلُّصات وتسريع الولادة، كانت الولادة أحيانًا تستمرُّ أيامًا. وكان من الممكن أن يتسبَّب الدفعُ المستمرُّ والتقلُّصات في تمزيق جدار المهبل. وكانت المشكلة الأكثر شيوعًا أن الضغط المستمِر لرأس الطفل كان يسحَق الأوعية الدموية الرقيقة لقناة الولادة، مما أدَّى إلى مناطقَ من نقصِ التروية الدموية وفيما بعد النخر مع تحلُّل الأنسجة. ونظرًا لأن المثانة والمهبل والمستقيم أعضاءٌ مُتجاوِرة بإحكام في قاع الحوض، كان يُمكِن أن تؤدِّي هذه الإصاباتُ إلى ناسورٍ «مثاني مهبلي»، وهي وصلةٌ بين المهبل والمثانة، وناسورٍ «مستقيمي مهبلي» بين المهبل والمستقيم.
كانت النواسير التي تشمل الجهاز التناسلي مُوهنة للغاية؛ إذ ينتج عنها تصريفٌ مستمرٌّ للبول أو البراز من فتحة المهبل. لم يكن لدى النساء القدرة على التحكُّم في هذه الإفرازات. وكان السلَس المصحوب برائحةٍ كريهة، والغازات، والشعور بعدم الراحة، يؤدِّي إلى العزلة الاجتماعية واختلال الوظيفة الجنسية والمهبلية والعَدْوى والحَرَج. وقد وصَف جرَّاحٌ يُدعَى فينياس ميلر كولوك هذه الحالة في اجتماع للجمعية الطبية لولاية جورجيا في عام ١٨٥٧ على النحو الآتي:
المرأة المسكينة [التي تُعاني من ناسورٍ مثانيٍّ مهبلي] أصبحَت الآن في حالةٍ يُرثَى لها بشدة، وأمامَ حالتها تتضاءل معظمُ الأمراض الجسدية الأخرى وتُصبِح تافهة. فالبول الذي يدخُل إلى المهبل بمجرَّد إفرازه، يُلهِب بطانتَه المخاطية ويَكْشطها … ويتقطَّر باستمرار على فخذَيها، ويهيِّج الجلد بخواصِّه الحارقة، ويُبقي ملابسَها مبلَّلة باستمرار، ويُطلِق رائحتَه المميزة بلا توقُّف.
في البداية، لم يكُن لدى ماريون سيمز أيُّ اهتمامٍ بمثل هذه الحالات النسائية. فقد كان كثيرٌ من الأطباء في القرن التاسع عشر يعتبرون فحصَ الأعضاء التناسُلية للإناث أمرًا مهينًا أو لا يليقُ بهم، اعتقادًا منهم بأن السادةَ المتعلمين لا ينبغي لهم القيام بعملٍ كانت تقوم به القابلاتُ الأميات. في سيرته الذاتية، كتب سيمز: «إذا كان هناك شيءٌ أكرهه، فهو فَحصُ أعضاءِ الحوضِ الأنثوي.» لم يكُن لديه أيُّ اهتمامٍ بكَسرِ المحظورات، أو حلِّ الألغاز المرتبطة بتشريحِ النساء.
ولكن ذاتَ يومٍ جاءَت امرأةٌ بيضاءُ تُدعى السيدة ميريل إلى سيمز بعد أن ألمَّت بها إصابةٌ في عَظْمة العجُز، أو العُصعُص، بعد أن سقطَت من فَوقِ حصان. شكَت من ألَم في الظهر وضغطٍ شديد على المثانة والمستقيم. لك أن تتخيَّل استنكافَ سيمز وهو يستعدُّ لفَحصِها على مضَض. استخدم أصابعَه لفَحصِ مهبلها وأدركَ أن الرَّحمَ مقلوب؛ أي كان مقلوبًا جزئيًّا من الخارج للداخل. وفي محاولةٍ لتصحيحِ هذا، جعل المريضة تنحَني وتستند إلى يدَيها وركبتَيها، مع خفض رأسها نحو الأرض وإبقاء الحوض مرتفعًا. وبينما كان مهبلُها في هذا الوضع المقلوب نوعًا ما، أدخل إصبعَين في المهبل، لكنه لم يستطع أن يتحسَّس الرحمَ أو أيَّ شيء يُمكِنه الضغطُ عليه. أخذ يفتِّش ويحرِّك أصابعَه في دوائرَ بلا هدف، غيرَ متأكِّد من أنه يحقِّق أيَّ شيء.
ثم، فجأة، قالت السيدة ميريل: «يا إلهي، أشعُر بالارتياحِ يا دكتور.»
اعترَت سيمز الدهشة. لم يكن لديه أيُّ فكرة عما فعلَه لإحداث هذا الشفاء، ولكنه خلص إلى أن الضغط الذي أحدثه والهواء الذي أدخلَه أثناء محاولته اليدوية قد أجبَر الرحم على تصحيح وضعه بنفسه. شعَرَت المريضة بتحسُّنٍ كبيرٍ وأرجعَت الفضلَ لسيمز في شفائها. ولكن كان هناك شيءٌ أغرب في هذا اللقاء الفريد. فقد جعلَه الفحصُ يُدرِك لأول مرة أنه ربما يكونُ من الممكِن إجراءُ فَحصٍ كامل للمهبل من الداخل ورؤيته بوضوح. بالنسبة له، كانت هذه منطقة مجهولة لم تُكتشَف بعدُ. واستنتج أنه ما دام من الممكِن الوصولُ إلى داخل المهبل، فلا يُوجَد سببٌ يحول دون جعله موقعًا للجراحات المفيدة للمساعدة في تصحيح الاضطرابات أو الإصابات التشريحية.
وما لبث سيمز أن استلهَم الفكرة حتى اخترعَ واحدًا من أقدَم المناظيرِ المهبلية باستخدام مِلعقةٍ من القَصدير، وأحيانًا كان يستخدم مرآة لتوجيه ضوءِ الشمسِ إلى داخل المهبل لزيادة الرؤية. وباستخدام منظاره لفَحصِ امرأةٍ تعاني من الناسور، رأى عُنقَ الرحم لأول مرة. وقد كتب لاحقًا واصفًا دهشتَه يقول:
رأيتُ كل شيء، رأيتُ ما لم يرَه إنسانٌ من قبلُ. كان الناسور واضحًا وضوحَ الأنف على الوجه … لقد أمكن رؤيةُ جدرانِ المهبل تُغلَق في كل الاتجاهات؛ كان عُنقُ الرحم واضحًا ومحدَّدًا، وحتى الإفرازات من العُنق أمكَن رؤيتُها كدمعةٍ تلمَع في العين، واضحة ومحدَّدة وجليَّة إلى أقصى درجة ممكنة. وفي الحال قلتُ، «لماذا لا يُمكِن علاج هذه الأمور؟»
وعقَد العزم على أن يفعل ذلك وشرَع في العمل بجِد. وبين عامَي ١٨٤٥ و١٨٤٩، أجرَى تجاربَ باستخدام طرقٍ مختلفةٍ للخياطة داخل المهبل، وانحصَرَت جلُّ تجاربه تقريبًا فيما لا يقلُّ عن عَشْر من النساءِ المستعبَدات اللاتي لم يكُن لهن أيُّ رأيٍ في علاجهن. فقد كان سيمز يُبرِم اتفاقًا مع أسيادهن، يقضي بإطعام وإيواء المستعبَدات دون أي تكلفةٍ على أسيادهن.
أجرى سيمز مُعظَم العمليات الجراحية على ثلاثِ نساءٍ عُرفن في التاريخ بأسماء بيتسي وأناركا ولوسي. خضَعَت المريضاتُ الثلاثُ لعملياتٍ متعدِّدة بمرور الوقت بدون تخدير؛ ويرجعُ ذلك جزئيًّا إلى أن استخدام التخدير لم يكن ممارسة شائعة آنذاك، لكن ربما يرجعُ أيضًا إلى الاعتقاد السائد بقوةٍ بأن الأشخاص ذَوي البشرة السمراء لا يشعُرون بالألَم بشدة مثل ذَوي البشَرة البيضاء. خضَعَت أناركا لما لا يقلُّ عن ٣٠ عمليةَ خياطةٍ لإصلاح ناسورها بينما كان سيمز يعمل على تحسين تقنيته. في البداية، كانت خيوط الحرير التي يستخدمُها عادة ما تسبِّب العدوى أو الالتهاب. ولتَدارُك هذا، بدأ في استخدام خيوطٍ فضيةٍ رفيعةٍ جدًّا بدلًا من الخيوط الحريرية. كما استخدم القسَاطر لتحويل تدفُّق البَول بعيدًا عن مواضعِ إغلاقِ الجروحِ حتى تلتئم تمامًا.
أدرك سيمز أنه قد قدَّم إسهامًا مهمًّا في مجال الطب، فنشر تقريرًا يستعرض فيه أساليبَه في عام ١٨٥٢، وبدأ في توسيع نطاق عمله من خلال إجراء عمليات الناسور للنساء ذوات البشرة البيضاء أيضًا. وانتقل إلى مدينة نيويورك حيث أسَّس مستشفى ويمنز في عام ١٨٥٥. كان ينشُر كثيرًا، وأصبح ثريًّا، وتقلَّد رئاسة الجمعية الطبية الأمريكية. وخلال الحرب الأهلية، شدَّ الرحال إلى أوروبا لأن تعاطُفه مع الجنوبيين كان سيَضُر بمكانته المهنية في نيويورك. وأثناء تجوُّله عبر العواصم الأوروبية، زار كُليات الطب واستعرَض جراحاتِ الناسور. وفي عام ١٨٦٣، عالَج زوجة الإمبراطور نابليون الثالث، الإمبراطورة أوجيني من الناسور، مما زاد من شُهرته وحوَّله إلى أحد مشاهير الطب. ولما مات لَقِي تبجيلًا باعتباره صاحبَ فَضلٍ على النساء في الصحف والخطب الرسمية. وشُيدَت له تماثيلُ في حديقة سنترال بارك وعلى أراضي مبنى المجلس التشريعي لولاية كارولاينا الجنوبية، الولاية التي وُلد فيها. واليوم، يُعَد ماريون سيمز «الأب الروحي لعلم أمراض النساء».
غير أنَّ حقيقةَ أن التطوُّراتِ التي جاء بها كان منشَؤها استغلالَه للنساء المستعبَدات ذوات البشرة السمراء جعَل منه شخصية مثيرة للجدل. فمنذ سبعينيات القرن العشرين، هاجمَه كثيرٌ من المؤرخين والصحفيين والنشطاء. وتعرَّض لانتقادات بسبب سعيه إلى الشهرة والثروة، ومعاملته للرقيق كحيوانات تجارِب، وامتناعِه عن استخدام التخدير. وفي عام ٢٠١٧، كان تمثالُه في نيويورك مسرحًا للاحتجاجات، وأُزيل في عام ٢٠١٨.
في الوقت نفسه، بذَل مؤرخون وكُتاب آخرون قصارى جهدهم لتقييم إرث سيمز وفقًا للسياق الذي عاش فيه. فيُشيرون إلى أنه في زمن سيمز، كان من الطبيعي تجربة علاجات طبية جديدة على العبيد. على سبيل المثال، اختبَر توماس جيفرسون لقاح الجدري على ٢٠٠ عبد عام ١٨٠١، قبل أن يُجرِّبه على عائلته وجيرانه البيض. وفي الوقت الذي رفَض فيه كثيرٌ من الأطباء علاجَ المرضى من ذَوي البشرة السمراء، قدَّم سيمز خدمة قيمة، ووفقًا لكثير من الروايات، كان يهتم حقًّا بالنساء اللاتي عالجهن. كان الناسور المهبلي من الأمراض الرهيبة التي تَرغَب أي امرأة في الشفاء منها، وفي أواخر أربعينيات القرن التاسع عشر لم يكُن التخدير يُستخدَم على نطاقٍ واسع بغض النظر عن عرق المريض.
في خطابٍ له ألقاه في اجتماع لأكاديمية الطب في نيويورك، وجَّه سيمز الشُّكر علانية للنساء المستعبَدات قائلًا: «إن العالَم مَدينٌ للشجاعة التي لا تُقهر لهؤلاء النسوة اللاتي طالت معاناتُهن، بنتائج هذه الجهود الدءوبة أكثر من أي ظرفٍ آخر. فلو أنهنَّ تخاذَلْن، لظلَّت المرأةُ تُعاني من الإصابات المروِّعة الناجمة عن الولادة المطولة …» وقد كتب في سيرته الذاتية أنه عندما أُصيب بالإحباط وأوقَف عمله، كانت النساءُ المُستعبَدات «يُطالبنه بإلحاح» بالاستمرار، بل ساعَدْن في عملياته الجراحية لأنهن أيضًا كُن يأملن أن تُساعِد أساليبُ سيمز في شفائهن.
نجح ماريون سيمز في النهاية، ولكن قُوبل تاريخُ عمله بالكامل واعتماده على ممارسات الاستعباد البغيضة بالتجاهُل أو التهوين لفترةٍ طويلةٍ جدًّا. لكن الأمر لم يعُد كذلك الآن. ففي عام ٢٠٢١، شُيدَت تماثيل لأناركا وبيتسي ولوسي في نصب تذكاري يحمل اسم «أمهات أمراض النساء» في مونتجمري، بولاية ألاباما.
«مخدِّر» جديد
بالرغم من أن أطبَّاء التوليد في منتصف القرن التاسع عشر تجاهَلوا دون حكمة توصياتِ إجناز سيميلفايس للحَدِّ من تفشِّي حمى النفاس، كان تبنيهم للتخدير لتخفيف آلام المخَاضِ أكثَر نجاحًا إلى حدٍّ ما. كان ظهور الإيثر، الذي اكتُشف في أمريكا عام ١٨٤٢، وقُدِّم علنًا لأول مرة على يد ويليام مورتون عام ١٨٤٦، بمثابة لحظة فاصلة في تاريخ الطب. لكن الإيثر لم يكن مثاليًّا. فقد كان مهيِّجًا للفم والممرَّات الأنفية. وكانت رائحتُه كريهة، وغالبًا ما كانت تسبِّب الغثيان. كما كان يُمكِن أن يسبِّب التهاب الرئة وتندُّبها. والأسوأ من ذلك كله أنه كان قابلًا للاشتعال. وقد جعل هذا من الإيثر خطرًا دائمًا في عصر استخدَم فيه الجرَّاحون مصابيحَ الغازِ للإضاءة. علاوة على ذلك، في مجال التوليد، أدَّت الحاجة إلى استمرار التخدير على مدى عدَّةِ ساعاتٍ إلى تعقيد استخدام الإيثر. فقد تطلَّب الأمرُ كثيرًا من الجهد لنقل عدة زجاجات كبيرة من الإيثر إلى المنازل العائلية، أو صعود العديد من درَجات السُّلم في المباني السكنية الحضَرية، من أجل توصيله للأمهات في حالة المخاض.
شرَع طبيب توليد اسكتلندي يُدعى جيمس يانج سيمبسون في البحث عن بديل أفضل. جرَّب سيمبسون استنشاق العديد من المواد الكيميائية بنفسه، أي شيء يُعتقد أنه قد يجعل الحيوانات أو البشر يشعُرون بالدُّوار، أو فاقدين للوعي، أو غير شاعرين بالألَم. أوصاه صيدليٌّ بأن يجرِّب الكلوروفورم، وهو مادة كيميائية سائلة بلا لون وذات رائحة فاكهية لطيفة، اختُرع في عام ١٨٣١ وجُرِّب باعتباره علاجًا للرَّبو. وفي مساء الرابع من نوفمبر ١٨٤٧، استنشَق سيمبسون واثنان من أصدقائه الكلوروفورم في غرفة الطعام في منزل سيمبسون. فشَعَر جميعُهم بدوار أوَّلي ومزاج مبتهج. ضَحِكوا وتحدَّثوا بسعادةٍ لفَترة. وبعد ذلك، كان الشيء التالي الذي عرفوه أنهم في صباح اليوم التالي. كانوا جميعًا قد سقطوا أرضًا، فاقدين الوعي لساعات.
كان سيمبسون محظوظًا للغاية. فمن الممكن أن يكون للكلوروفورم تأثير خطير عند استخدامه بكمياتٍ زائدة. ولو أنَّه استنشَق منه قَدْرًا أكبر مما ينبغي، لكان من المُمكِن أن يقتله، وحينئذٍ كان من الممكن أن تُعتبَر هذه المادة الكيميائية سامَّة لدرجة أنها لا تصلُح للاستخدام البشري. وفي الوقت نفسه، لو كان سيمبسون قد تناول مقدارًا قليلًا جدًّا، لما أحدَث أيَّ تأثير، وكان سيتجه لتجربة موادَّ أخرى. في النهاية، أدرك أنه وجَد شيئًا أكثر ملاءمة من الإيثر لتخفيف آلام المخاض؛ فقد كان الكلوروفورم رخيصًا، وسهل النقل وغير قابل للاشتعال، وسهل الاستخدام.
بعد بضعة أيام أخرى من التجارِب باستخدام الكلوروفورم، شعر سيمبسون أنه مستعد لتجربته لأول مرة على أم تضع طفلها. كانت المريضة امرأة تستعد لإنجاب طفلها الثاني. سكب نصف ملعقة صغيرة من السائل على منديل من القماش ووضع القماش المبلَّل فوق فم المرأة وأنفها. وأخذ يُكرِّر ذلك مرارًا حتى نامت. وتمَّت الولادة بسلاسة. وعندما استيقظَت الأم، كانت في حالة من الدهشة. ونتيجة لفرحتها، أطلقَت على طفلها اسم «أنيستيزيا» (بمعنى فقدان الإحساس أو الخدَر).
وعلى الرغم من نجاح سيمبسون، لم يُعتمَد التقدم الذي أحرزه بسرعة من جانب العديد من زملائه. فقد اعتبروا التخدير في الولادة خطيرًا وغير ضروري؛ ففي النهاية، كانت الولادة جزءًا طبيعيًّا وفسيولوجيًّا من الحياة، وليست مرضًا. وكان من بين المعارضين الرئيسيين كنيسة إنجلترا. فقد عارض القادة الدينيون التخدير بشدة؛ لأنه ورد في الكتاب المقدَّس أنه يتعيَّن على النساء تجربة الألم في الولادة. يقول سفر التكوين ٣:١٦: «وقال للمرأة: تكثيرًا أُكثِّر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادًا.» حتى إن بعض الأطباء الذكور المتعجرفين ادَّعَوا أن النساء اللاتي لا يستطعن تحمُّل آلام الولادة لن يكُنَّ بالإيثار الكافي الذي يجعل منهن أمهات صالحات. وترسخت مثل هذه المواقف عَبْر قرونٍ من الذكورية. في عام ١٥٩١، طلبَت امرأة تُدعى يوفام ماكالين من قابلتها تخفيف ألم الولادة عن طريق إعطائها دواءً يخفِّف الألم. فأمر الملك جيمس السادس بحرق ماكالين حية لطلبها شيئًا اعتُبر مُنافيًا لتعاليم الكتاب المقدَّس، كما عُوقبَت قابلتها أيضًا بالإعدام بتهمة الشعوذة.
أشار سيمبسون، ردًّا على منتقديه الدينيين، إلى أن الرب قد خدَّر آدم عندما أخذ ضلعه لخلق حواء. كما نشر سيمبسون كتيبًا بعنوان «الرد على الاعتراضات الدينية المقدمة ضد استخدام وسائل التخدير في التوليد والجراحة». وفيه، استشهد بيعقوب ٤:١٧، الذي نص على أن الامتناع عن فعل شيء يعرف المرء أنه حسن يُعد خطيئة.
استمر الجدل سنوات، دون أن يتمكَّن سيمبسون وأنصاره من الحصول على قَبول واسع النطاق لاستخدام التخدير في التوليد. وما زاد الطين بلَّة هو موتُ بعض المريضات اللاتي أُعطِين كمية زائدة من الكلوروفورم في بعض الأحيان، مما عزَّز فكرة أن التخدير في الولادة مخاطرة بلا داعٍ. تساءل الأطباء الذين كانوا على استعداد لتجربته عن الجرعة اللازمة أو عدد المرات اللازمة لإعطاء الدواء. إلى أي درجة يجب أن يقل المقدار الذي يتناوله الطفل مقارنة بالبالغ؟ كم يجب أن يكون تركيز خليط الكلوروفورم؟ ما مقدار تشبُّع المنديل؟ لم يكن الأطباء المبادِرون باستخدام التخدير مثل سيمبسون دقيقين في استخدامهم الدواء. وقد وصف أحد الأطباء طريقته على هذا النحو: «أجعل الأم الحامل تمسك كأسًا يمتلئ الجزء السفلي منها بالقطن ويُصب فوقه الكلوروفورم، ثم أطلب منها رفعَها وتقريبَها من أنفها. وعندما تفقد يداها ثباتهما وتسقط الكأس بعيدًا عن الأنف، أعرفُ أنها نائمةٌ بدرجة كافية لإراحتها وأستمرُّ في تسريع الولادة.»
ساعدَت الأبحاث المُضنِية التي قام بها جون سنو، الطبيب الذي سيُشتهَر بتحديد أحد آبار لندن باعتبارها مصدر تفشي الكوليرا في لندن في عام ١٨٥٤، في إقناع المشكِّكين. سعى سنو لدراسة تأثيرات الكلوروفورم دراسة أكثر دقة ووضع معايير محددة لاستعماله. وأدرك أن الكلوروفورم كان أقوى بكثير من الإيثر، وعمل على جعل الكلوروفورم أكثر أمانًا من خلال فحص تأثيره الفسيولوجي عند إعطائه بجرعات مختلفة وعن طريق صنع جداول للجرعات. وجد أنه في حالة عدم الحذر، من السهل أن يُدفع بالمريض من مجرد فقدان الوعي إلى توقف التنفس والموت. كان لوزن الجسم تأثير على تحديد الجرعة المناسبة بالتأكيد، ولكن كانت هناك عوامل متقلبة كمستوى القلق لها تأثير أيضًا. فيمكن للمريضات المصابات بالقلق الإطاحة بالتوقعات إذا تنفسن بسرعة مفرطة، أو أحيانًا العكس؛ أي إذا حبست المريضة الخائفة أنفاسها ثم تنفَّست بعمق شديد، فقد تستنشق جرعة عالية جدًّا من الكلوروفورم تؤدي إلى توقف التنفس ونبض القلب. تصدى سنو لهذه التحديات وصنع بخاخًا من النحاس لإعطاء الدواء بطريقة معيارية وقابلة للقياس. وبينما كان سيمبسون غالبًا ما يشرع في التخدير في المرحلة الأولى من المخاض، وهو ما يُبقي النساء غير واعيات لساعات، أدرك سنو أن إعطاء الكلوروفورم في وقت مبكر جدًّا من شأنه أن يُبطئ الانقباضات. فاستخدم جرعات أقل من سيمبسون وبدأ التخدير في المرحلة الثانية من المخاض، عندما يكون وصول الطفل وشيكًا.
سينتشر التخدير أثناء عمليات التوليد في نهاية المطاف، لا لشيء سوى أن النساء طالَبن به؛ إذ كان خوفهن من الألم أثناء الولادة يحتل المرتبة الثانية بعد خوفهن من الموت. وساهمت الرعاية الناجحة لمريضة مشهورة في إقناع الجمهور بأن التخدير آمن وفعَّال. فقد لعبت الملكة فيكتوريا مرة أخرى دور المريضة النموذجية (بعد مساعدة جوزيف ليستر في إثبات قيمة التعقيم)، وساعدت جون سنو عن طريق دعوته لاستخدام التخدير خلال ولادتها الثامنة، ولادة الأمير ليوبولد، الذي سُمي على اسم عم فيكتوريا المفضَّل، ليوبولد ملك بلجيكا وأرمل الأميرة شارلوت.
في السابع من أبريل ١٨٥٣، عندما دخلت فيكتوريا المرحلة الثانية من المخاض، جعلها سنو تستنشق كمية صغيرة من الكلوروفورم مع كل انقباضة على مدى ٥٣ دقيقة في المجمل. ساعد الكلوروفورم على تخفيف ألم الملكة لكنه لم يسبب لها فقدان الوعي بالكامل. وبعد ولادة سلسة وبلا ألم، أعربت الملكة عن سعادتها ﺑ «الكلوروفورم المبارك». كذلك استخدم سنو التخدير مع الملكة في حملها التاسع والأخير، خلال ولادة الأميرة بياتريس، في عام ١٨٥٧. وسرعان ما بدأ النبلاء والعامة يبحثون عن المخدِّر، الذي أصبح معروفًا ﺑ «مخدِّر الملكة».
عالم الرجال
شهدت نهاية القرن التاسع عشر بداية لتحوُّلين هائلين في الرعاية التوليدية، وهما التحوُّل من القابلات إلى أطباء التوليد الذكور، والتحوُّل من الولادة في المنزل إلى الولادة في المستشفيات. كان هذان التحوُّلان مرتبطَين ارتباطًا وثيقًا. ففي حين كان معظم الأطباء الذكور في السابق يعتبرون التوليد شيئًا لا يليق بهم، بدأ كثيرون يُدرِكون أن المجال، بما يوفِّره من قاعدة مستمرَّة ومتكرِّرة من العملاء، يُمكِن أن يكون إضافة مربحة لممارساتهم. لم يكُن من الصعب على الرجال الإطاحة بالنساء ليصبحوا مقدِّمي الخدمة المفضَّلين. ففي نهاية الأمر كان الأطباء الذكور وحدَهم من يمكنهم أداء إجراءات طبية مثل الفَصد، أو إعطاء أدوية مثل الأفيون، أو استخدام أدوات مثل الملقط. كذلك روَّج الأطباء، الذين بدَءوا يفهمون أخيرًا الأسرار الفسيولوجية للتناسل والرحم والولادة، لفكرة أن الحمل أشبه بحالة مرضية تتطلب الرعاية الطبية وليست مجرد جزء طبيعي من الحياة. فبدأت الأمهات، تحت إغراء وعود تخفيف الألم والرعاية الأفضل المزعومة، بالتحوُّل إلى الأطباء على نحو متزايد. وبحلول بداية القرن العشرين، خسرت القابلات نصف أعمالهن لصالح الأطباء وأصبح عملهن مقصورًا على توليد أطفال الفقراء. وبحلول عام ١٩٣٠، كانت القابلات تولد ١٥ في المائة فقط من الأطفال في أمريكا.
إن هذا التغيير الهائل في مجال الرعاية التوليدية لم يُفِد الأمهات في شيء. بل ثبت أنه ضار. فلم يكُن الأطباء مدرَّبين تدريبًا جيدًا في مجال التوليد، كما أن المستشفيات ظلَّت مراكز للعدوى. كانت التدخلات الطبية عادة ضارة وليست نافعة. فقد أدى الفصد إلى انخفاض أكسجة الجنين، وأبطأت المواد المخدِّرة الانقباضات، كما أدى سوء استخدام الملقط إلى إصابة الطفل والأم بجروح. كان الأطباء أكثر عرضة من القابلات لتمزيق أغشية المرأة لتسريع الولادة، أو إجراء بضع الفرج، أو نَشر العدوى بسبب احتكاكهم المتكرر بالمرضى. ولكي يتجنب الأطباء توريط أنفسهم أو تشويه سمعتهم، غالبًا ما كانوا يقلِّلون من الإبلاغ عن الوفيات الناجمة عن حمى النفاس، وكان من السهل استخدام تشخيصات مثل التهاب البريتون، أو «تسمم الدم»، أو السل، أو «التهاب الأمعاء» عوضًا عن ذلك.
في عام ١٩٢٠، أسفرت ثماني ولادات من كل ١٠٠٠ ولادة في الولايات المتحدة عن وفاة الأم، وهو معدَّل يقترب من ١ في المائة. أدان التاريخ مجال طب التوليد خلال الخمسين عامًا التي أعقبت ظهور التعقيم في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وكانت إدانة مستحقة. فقد كانت عشرات الآلاف من الأمهات الأمريكيات، وكثير من الأمهات في جميع أنحاء العالم، يمُتن كل عام بسبب عدوى كان يمكن تجنبها. ففي العقد الممتد من ١٩٢٠ إلى ١٩٢٩، تُوفِّيَت ما يزيد على ٢٥٠ ألف امرأة أمريكية أثناء الولادة، ومن المحتمَل أن يكون نصفُهن قد تُوفِّين بسبب الإنتان النفاسي. شملت الأسباب الأخرى للوفاة النزيف والانسداد الرئوي، وعمليات الإجهاض غير المتقنة، وعمليات الولادة القيصرية وأحيانًا التخدير الزائد. وبسبب ممارسات التوليد «الحديثة» والتحوُّل إلى الولادة في المستشفى، كانت الولادة في الواقع أكثر أمانًا للأمهات الأمريكيات في عام ١٨٠٠ مقارنة بعام ١٩٣٠.
ومع ذلك، سعت أعداد متزايدة من النساء للحصول على رعاية أطباء التوليد الذكور في المستشفيات. أحب الأطباء وجود جميع مريضاتهم في مكان واحد؛ إذ وفَّر ذلك قدْرًا كبيرًا من الوقت وأتاح لهم رعاية مزيد من المريضات. وأدَّت هذه الظروف إلى ظهور حقيقة مفاجئة، ألا وهي أن النساء الثريات كُن أكثر عُرضة للوفاة أثناء الولادة من النساء الفقيرات؛ لأن الفقيرات لم يكن بوسعهن دفع رسوم المستشفى وعادة ما يلدن في المنزل. بعد أن انزعجَت الدكتورة سارة جوزفين بيكر، وهي المسئولة المرموقة في وزارة الصحة في مدينة نيويورك، من تزايد معدل وفيات الأمهات أثناء الولادة، كتبَت في عام ١٩٢٧ تقول: «تقترب الولايات المتحدة اليوم على نحو خطير من أن تصبح الدولة الأقل أمانًا في العالم بالنسبة للمرأة الحامل فيما يتعلَّق بفرصة نجاتها أثناء الولادة.»
لاقى ادِّعاء بيكر تأييدًا فيما بعد في دراسة صادمة نُشرَت عام ١٩٣٣ تحت عنوان «وفيات الأمهات في مدينة نيويورك»، أكَّدَت بوضوح لا لبس فيه على أن معظم وفيات الأمهات والأجنة ناتجة عن سوء الرعاية الطبية. وأوضح التقرير أنه على مدى ثلاث سنوات، كان من الممكن تجنُّب ٦٥,٨ في المائة من وفَيات الأمهات في المدينة، والتي تزيد على ٢٠٠٠ حالة وفاة «لو تلقَّين الرعاية الطبية المناسبة في جميع الجوانب.» كشفت الدراسة أيضًا أن ٢٤,٣ في المائة من النساء خضعن إلى «تدخل جراحي» أثناء الولادة (وفي ذلك عمليات الولادة باستخدام المِلقَط) في حين قُدِّر أن خمسة في المائة فقط كُنَّ في حاجة إلى ذلك، كما أن النساء اللاتي خضعن إلى هذه التدخلات كن أكثر عرضة للوفاة بخمس مرات. ووفقًا للمؤرخة جوديث ليفيت، التي قدَّرَت معدَّلات حالات الحمل المتعدد (لا سيما في المجتمعات الفقيرة ومجتمعات المهاجرين)، كان من المتوقع أن تموت واحدة من كل ٣٠ امرأة أثناء الولادة خلال سنوات الإنجاب في أوائل القرن العشرين.
لم يتمكَّن المراقبون المحايدون من إنكار أن طب التوليد كان يتراجع إلى الوراء تراجُعًا كبيرًا. لكن ينبغي ألا يُفسَّر تاريخ هذه الحقبة الزمنية على أنه يعني ضمنيًّا أن القابلاتِ كُنَّ أكثر معرفة أو مهارة من أطباء التوليد، لكن يُمكِن تفسيره بأن ذلك الوقت كانت فيه مخاطر التدخُّل تفوق منافعه؛ ونظرًا إلى أن احتمال تدخُّل الأطباء كان أكبر، تأثَّرَت نتائجهم سلبًا. وقد لجأ كثير من أطباء التوليد المذعورين إلى الدوريات الطبية لانتقاد مجالهم وشجب سوء الرعاية التي تتلقاها النساء الحوامل الأمريكيات.
أخيرًا، مكَّن ظهور المضادَّات الحيوية في الثلاثينيات الأطباء من هزيمة العدو الذي لم يتمكَّنوا من التغلُّب عليه من خلال النظافة البسيطة وغسل اليدَين. فانخفضَت حالات العدوى القاتلة بين الأمهات وزاد معدَّل الولادات في المستشفيات. وأخيرًا، تحقَّقَت الوعود بأن يكون المستشفى مكانًا أكثر أمانًا وراحة لإنجاب طفل. ففي عام ١٩٤٠، وضعَت ٥٥ في المائة من الأمهات الأمريكيات في المستشفيات. وبحلول عام ١٩٥٠، ارتفعَت هذه النسبة إلى ٨٨ في المائة، وأصبحَت تقترب من ١٠٠ في المائة في عام ١٩٦٠. وهكذا انتهى عصر ولادة الأطفال في المنزل، في وجود العائلة والقابلة المحلية. ومنذ ذلك الحين، أصبحَت القاعدة أن تتم الولادة في غُرف المستشفيات ذات الطابع الطبي الرسمي المجرد من العواطف الشخصية، حيث تتوفَّر مسكِّنات الألم والرعاية المتقدمة.
•••
تمكَّن الطب الحديث من تحويل ملحمة مأساوية استمرت لقرون من الجهل وانعدام الكفاءة والغطرسة في مجال التوليد إلى قصة نجاح. ففي منتصف القرن العشرين، انخفض معدَّل وفَيات الأمهات. وأدَّى استخدام القفَّازات النظيفة إلى تقليل انتقال العَدْوى. واستُخدم عقار أرجومترين لتقليص الرحم والحد من النزيف، فيما أنقذَت عملياتُ نقل الدم حياة الأمهات اللاتي ينزفن بغزارة. أصبح هرمون الأوكسيتوسين الاصطناعي (المنبِّه لعضلات الرحم) شائعًا لتحفيز الولادة أو التعامل مع الولادة المتعسِّرة. وجعل التخدير فوق الجافية الولادة أكثر راحة. كذلك أدَّى الانتشار الواسع لاستخدام موانع الحمل إلى تقليل الحمل غير المرغوب فيه وعمليات الإجهاض غير الآمن التي لا تخضع لإشراف طبي، والتي تُعَد أحد العوامل الأساسية المساهمة في معدَّلات الوفَيات.
لعل أهم تقدُّم تحقَّق على الإطلاق هو تطوير الفحص الجنيني بالموجات فوق الصوتية، الذي أتاح للأطباء مراقبة نمو الجنين وتأكيد العمر الحَمْلي، والتحقُّق من عدد الأجنة. كما أظهر موقع المشيمة ووضع الجنين، وهي معلومات تُفيد في التخطيط لولادات أكثر أمانًا. يعود أصل تقنية الموجات فوق الصوتية إلى السونار — وهو اختصار لمصطلح إنجليزي معناه السَّبْر بالصدى — الذي طُوِّر لأول مرة بعد غرق السفينة تايتانيك باعتباره وسيلة لاكتشاف الجبال الجليدية المغمورة، وجرى تحسينه خلال الحرب العالمية الأولى لاصطياد الغواصات. خلال الحرب العالمية الثانية، خدم الاسكتلندي إيان دونالد، الذي أصبح طبيب توليد فيما بعد، في القيادة الساحلية البريطانية، حيث تعلَّم كيفية استخدام السونار. وأصبح دونالد رائدًا في استخدام الموجات فوق الصوتية في الحمل؛ حيث نشر ورقة بحثية رائدة حول الموضوع في عام ١٩٥٨. وقد قال ذات مرة موضحًا: «لا يُوجَد اختلاف كبير بين الجنين في الرحم والغوَّاصة في البحر. فالأمر لا يحتاج إلا إلى تحسين.»
تضمَّنَت أقدم ممارسة لفحص الجنين بالموجات فوق الصوتية وضع الأمهات في أحواض مملوءة بالماء، لكن اكتشاف أن الجل القابل للذوبان في الماء يمكن أن ينقل الموجات الصوتية بالكفاءة نفسها جعل الإجراء أبسط كثيرًا. وبدأ الاهتمام يتحوَّل من صحة الأم إلى صحة الجنين، في ظل التطوُّرات التي طرأَت على صعيد مراقبة الحمل وتشخيصه وعلاجه، مما أدى إلى ظهور تخصُّص طبي جديد هو طبُّ الأم والجنين.
ولكن على الرغم من هذه التطوُّرات، كان لا يزال هناك تراجع مُحبِط أسهم في تذكير الجميع بأن الولادة دائمًا خطيرة وليست شيئًا يمكن الاستخفافُ به. كان استخدام الأشعة السينية أثناء الحمل مثالًا على الضرر غير المقصود. فعلى مدى عقود، تعرَّضَت النساء الحوامل للأشعة السينية للتحقُّق من نمو الجنين، إلى أن اكتُشف أخيرًا في الخمسينيات أن الإشعاع يمكِنه أن يسبِّب سرطانَ الدم للأطفال.
وكان الأسوأَ من ذلك بكثير واقعتان مأساويتان لا يمكِن نسيانُهما، أظهرا أن بعض «الفتوحات» الطبية العظيمة لا تكمُن في اكتشاف علاجات جديدة، بل في إدراك الأضرار الهائلة التي يمكِن أن تؤدِّي آثارها البغيضة إلى عواقب مدمِّرة وطويلة الأمد.
قنبلة بيولوجية موقوتة
سيظل الدواء المعروف باسم ثنائي إيثيل الستيلبسترول (والمعروف أيضًا بدي إي إس، أو الستيلبسترول) مصنفًا ضمن أفظع الكوارث العلاجية المنشأ والكوارث الدوائية الأكثر انتشارًا في التاريخ إلى الأبد. كان الستيلبسترول، الذي كان يُوصَف في الفترة من ١٩٣٨ وحتى ١٩٧١، شكلًا اصطناعيًّا من الإستروجين، يُقال إنه كان يقلِّل من خطر الإجهاض والولادة المبكِّرة. ولكن المادة العلمية التي تدعم هذا كانت شحيحة؛ فقد أشار معظم المؤيدين إلى دراسة أجراها فريق بحثي في بوسطن ربطَت الستيلبسترول بتأثيرات مفيدة. وفي عام ١٩٤٧، أقرَّت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية رسميًّا الستيلبسترول للنساء الحوامل وأصبَح استخدامُه شائعًا. سعت شركاتُ الأدوية الساعية لزيادة أرباحها إلى الترويج للستيلبسترول باعتباره مكملًا صحيًّا للحمل، يضمَن زيادةَ فُرص الأمهات في إنجاب أطفال أصحَّاء وأقوياء. وزِّع الستيلبسترول تحت عشرات من أسماء المنتجات حتى إنه وُضِع في الفيتامينات الجنينية والكريمات واللبوس المهبلي، لدرجة أن كثيرًا من النساء لم يَدْرين حتى أنهُن يتناولنه. مع زيادة شعبية الستيلبسترول، كانت بعض الأمهات يتناولن مقدار الإستروجين الذي يحصُلن عليه طَوالَ حياتهن خلال تسعة أشهر فقط، وكأنهن يتناوَلْن جرعة يومية تُعادِل مخزون تسعة شهور من حبوب منع الحمل.
ولكن كانت هناك علاماتٌ مبكِّرة على وجود مشكلة، مثل التقارير التي تشير إلى أن الجرعات المستمرة والعالية من الإستروجين تسبِّب الأمراض للحيوانات. وفَشِل العلماء الذين حاولوا تَكرار النتائج الإيجابية التي حصلَت عليها دراسة بوسطن الأولى في القيام بذلك. وفي أوائل عام ١٩٥٣، خلصت دراسة أجرتها جامعة شيكاغو شملت أكثر من ٢٠٠٠ مريض — تضمَّنَت مجموعة ضابطة تتلقى الأدوية الوهمية — إلى أن الستيلبسترول لا يقدِّم أي فائدة (إحدى نقاط ضعف دراسة جامعة بوسطن هو أنها لم تشمل مجموعة ضابطة). أظهرَت ثلاث تجارب سريرية أخرى أيضًا عدم وجود دليل على فاعلية الستيلبسترول. ومع ذلك، استمر الأطباء في وصف الستيلبسترول. وأصرَّت كثير من الأمهات الحوامل على تناوله، رغبة منهن في القيام بكل ما هو ممكن لضمان نتيجة إيجابية واعتقادًا منهن أن هذا الدواء المستخدم على نطاق واسع لا يمكن أن يسبِّب أي ضرر.
بعد ذلك، في أواخر الستينيات، بدأت ترِد إلى عيادات الأطباء حالات من السرطان الغُدِّي النادر في المهبل. عادة ما تحدث سرطانات المهبل للنساء المسنَّات، ولكن هذه الأورام السرطانية حدثَت للمريضات الشابات والمراهقات، اللاتي لم يكُن الطمث قد بدأ عند بعضهن بعد. لم يتمكَّن أحد من فهم سبب حدوث ذلك للفتيات الصغيرات، حتى سألت والدة إحداهن طبيبًا عما إذا كان من المحتمَل أن يكون لذلك علاقة بتناولها الستيلبسترول أثناء حملها بابنتها. قرَّر هذا الطبيب، ويُدعى آرثر هيربست، أن يتعمَّق في البحث. وأكَّدَت الدراسة التي أجراها عام ١٩٧١، ونُشرت في دورية «نيو إنجلاند أوف ميديسين»، وجود رابط بين تعرُّض الرحم للستيلبسترول وسرطان المهبل. واليوم نعلم أن الستيلبسترول هو مادة كيميائية تسبِّب اختلال الغدد الصماء، وتغير مستويات الهرمونات أثناء التطور الجنيني، وهو ما يؤدي إلى تأثيرات غير مؤكَّدة وسلبية. في عصر شهد تطورات طبية مدهشة في جميع التخصصات، أبرز هذا الاكتشاف الفظيع والمذل جهل الأطباء بكثير من أسرار الجسم.
على الفور، حظرت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية استخدام عقار دي إي إس بسرعة، إلا أنه كان من المستحيل تجاهُل حقيقة وجوب إخضاع العقار لمزيد من الفحص والدراسة في أوائل الخمسينيات، عندما بدأَت الدراساتُ تُناقِض الصورة الوردية التي أرادت شركات الأدوية أن يصدِّقها الجمهور. وكانت عواقب هذا الإغفال شديدة. فغالبًا ما كان علاج السرطان الغُدِّي في المهبل يقتضي استئصال الرحم وإزالة المهبل. أما النساء اللاتي لم يظهر عليهن أدلة على إصابتهن بالمرض، فكان عليهن الخضوع لفحوصات متكررة لسرطان المهبل، وسيطَر عليهن الشعور بالخوف والقلق من أن يُصَبن بالمرض يومًا ما. أثارت أخبار الآثار الضارة للدي إي إس الذعر بين النساء في جميع أنحاء البلاد. وسارعَت الفتيات للتواصُل مع أمهاتهن على الفور للسؤال عما إذا كُنَّ قد تعرَّضن للدي إي إس في الرحم. وفي كثير من الأحيان، انتاب هؤلاء النسوة الرعب حين اكتشفن أن أمهاتهن لا يتذكَّرن أو غير متأكِّدات مما إذا كُنَّ تناولن الدواء. وتشير التقديرات إلى تعرُّض ما يقرب من خمسة إلى ١٠ ملايين من الأمهات والأجنة الأمريكية للدي إي إس أثناء الحمل.
بعد ذلك، في الوقت الذي بدا فيه أن مأساة الدي إي إس لا يمكن أن تتفاقم أكثر، تفاقمت بالفعل. فأصبح واضحًا فيما بعد أن النساء اللاتي تناولَت أمهاتهن الدواء، واللاتي عُرِفن باسم «بنات الدي إي إس»، كُنَّ أكثر عُرضة لخطر الإصابة بمجموعة واسعة من المشكلات الطبية الأخرى، وفي ذلك سرطان الثدي وسرطان عنق الرحم. وعانت بعضُهن من تشوُّهات في أجهزتهنَّ التناسلية، مما أدى إلى ارتفاع معدَّلات الولادة المبكِّرة والحمل خارج الرحم وقصور عُنق الرحم والإجهاض. ونتج عن ذلك أن كثيرًا من بنات دي إي إس أصبحْن عقيمات وغير قادرات على الإنجاب. واليوم، تشير بعض الدراسات إلى زيادة احتمالية إصابة «أبناء دي إي إس» بتشوُّهات في الخصيتين، وأن «أحفاد دي إي إس» قد يكونُون عُرضة لخطر العقم أو السرطان؛ لأن الدراسات الحيوانية تشير إلى أن الدي إي إس يمكن أن يسبِّب تغيُّراتٍ في الحمض النووي قابلة لأن تُورَّث.
على مدى ثمانية عشر عامًا بعد أن أثبتت دراسة أُجريت في عام ١٩٥٣ أن الدي إي إس غير فعال، واصلت شركات الأدوية بيعه وتسويقه للملايين. واليوم، يطلق كثير من الناس على الدي إي إس اسم «القنبلة البيولوجية الموقوتة»، ولا تزال النساء في جميع أنحاء العالم يتساءلن عما إذا كان الدواء قد أضر، أو سيضر، بصحتهن بصورة لم ندركها أو نفهمها بعد.
دواء «أعجوبة»
في أعقاب فضيحة دواء دي إي إس ظهرت مأساة أخرى، لكن نهايتها كانت أوفر حظًّا إلى حد ما في الولايات المتحدة. في عام ١٩٦٠، كانت الطبيبة فرانسيس كيلسي، البالغة من العمر ٤٦ عامًا والحاصلة على درجة الدكتوراه، موظفة جديدة في إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، التي كانت آنذاك هيئة أصغر بكثير مما هي عليه اليوم. كانت واحدة من سبعة أطباء متفرغين فقط مسئولين عن تقييم سلامة الأدوية التي تتطلب الحصول على الموافقة كي تُطرَح في السوق. كانت إحدى أولى مهام كيلسي دواءً يطلق عليه اسم ثاليدومايد، وهو دواء مسكن شاع استخدامه في الخارج لعلاج الغثيان الصباحي الحاد الذي يحدث في الثلث الأول من الحمل.
قدمت شركة «ريتشاردسون ميريل»، الشركة الأمريكية المصنعة للثاليدومايد، طلبًا إلى إدارة الغذاء والدواء الأمريكية في سبتمبر ١٩٦٠ وتوقعت موافقة سريعة. فقد كان استخدام الدواء اعتُمد بالفعل في أوروبا وكندا على أي حال، حتى إنه كان متاحًا بدون وصفة طبية في ألمانيا الغربية. لكن كيلسي لم تشعر بأن البيانات المقدمة كافية لإثبات أن الثاليدومايد آمن. فقد وجدت هي والصيدلاني والكيميائي بإدارة الغذاء والدواء اللذان راجعا الطلب أن بيانات السمية المقدمة غير كافية، وأن الدراسات الحيوانية تفتقر إلى التوثيق الجيد، وأن مدة التجربة السريرية غير كافية. رفضت كيلسي إعطاء موافقة روتينية وأمرت الشركة بتقديم مزيد من المعلومات. وأعربت عن مخاوفها بشأن التقارير التي تشير إلى أن الدواء يسبب اعتلال الأعصاب الطرفية (الضعف، أو التنميل، أو الوخز المؤلم في الذراعين والساقين)، وأرادت أيضًا المزيد من الأدلة على أنه لا يضر الجنين عند تناول النساء الحوامل له.
نشبت معركة استمرت ١٤ شهرًا، كان طرفاها الأساسيان كيلسي والدكتور جوزيف موراي كبير ممثلي شركة «ريتشاردسون ميريل»، من خلال الرسائل والاجتماعات والمكالمات الهاتفية. تواصلت الشركة مع كيلسي وقسمها داخل الإدارة أكثر من ٥٠ مرة لتعزيز مصالحها؛ يتضح من هذا الكم من محاولات التواصل مدى الضغط الذي حاول موراي ممارسته على كيلسي لتسريع الموافقة على الدواء. أكد موراي مرارًا وتكرارًا حاجة شركته إلى بدء التسويق وتجهيز الثاليدومايد من أجل توزيعه؛ إذ كان دواءً «أعجوبة» في النهاية. بدا أنه يعتبر كيلسي مجرد موظفة بيروقراطية متطفلة ومتصيدة للأخطاء، وأن أسئلتها وطلباتها مبالغ فيها وغير معقولة. كان يأمل أن تتمكن الشركة ببساطة من تعديل التحذيرات على ملصق الدواء للتعامل مع بعض مخاوف كيلسي.
أشارت كيلسي مرارًا إلى نقص البيانات العلمية المقدمة في طلب الثاليدومايد. فلم تكن ادعاءات الشركة عن الدواء مدعومة بدراسات سريرية قوية. بل إن طلبهم المقدم أبرز العشرات من تقارير الأطباء، وكانت في الأساس شهادات من ممارسين أثنوا على الدواء وآثاره. ونظرًا لأن الثاليدومايد كان مسكِّنًا وليس دواءً منقذًا للحياة، شعرت كيلسي أن السلامة العامة تقتضي أعلى مستوًى من الإثبات على أنه لا يسبب آثارًا جانبية خطيرة، وكتبت تقول: «أي تفاعلات غير مرغوب فيها لن تغتفر.» حاولت الإدارة التنفيذية للشركة تجاوز كيلسي، ولكن رؤساء كيلسي دعموا رفضها لمحاولات الضغط عليها من أجل الموافقة على دواء لم تكن مقتنعة بسلامته. واستمرت في التوصية بإجراء مزيد من الدراسات للحصول على مزيد من البيانات، ورفضت طلباتهم المتكررة ست مرات.
وقد جعل هذا العزم الذي لم يتزعزع من فرانسيس كيلسي بطلة.
في نوفمبر ١٩٦١، ظهرت تقارير من أوروبا عن ولادة أطفال بأطراف قصيرة تشبه زعانف الأسماك بدلًا من الذراعين والساقين، وهي حالة تسمى «تفقم الأطراف»، أو «أطراف الفقمة». وتأكد أن الثاليدومايد يعبر الحاجز المشيمي ويسبب تشوهات خِلْقية شديدة. وبحظر استخدام الدواء في أمريكا، تمكنت كيلسي بمفردها تقريبًا من الحيلولة دون ظهور آلاف الحالات. يقدر أن ما يصل إلى ١٠٠ ألف جنين تعرضوا للثاليدومايد في جميع أنحاء العالم، وكثير من حالات الحمل هذه أفضت إلى الإجهاض أو ولادة أطفال ماتوا بعد ولادتهم بقليل. نجا نحو ١٠ آلاف طفل وعانوا من إعاقة جسدية موهنة. وفي الولايات المتحدة، كان هناك فقط ١٧ حالة من تفقم الأطراف، نجمت جميعًا عن حصول بعض الأمهات على عينات من الدواء من أطبائهن واستعمالها دون تصريح أو حصولهن على الثاليدومايد في الخارج.
طريق اللاعودة
التغيرات التي حدثت في مجال التوليد عميقة. فقبل أقل من قرن، كان الآباء يصلون من أجل حصولهم على طفل سليم معافًى ولكنهم كانوا يتقبلون وفاة الأم والجنين باعتبارها حقائق اعتيادية من حقائق الحياة. واليوم، أصبحت وفيات الأمهات والأجنة منخفضة جدًّا لدرجة أن معظم الآباء يذهبون إلى المستشفى وهم يتوقعون تمامًا العودة إلى المنزل بحوزتهم طفل سليم معافًى. لقد أصبح طب حديثي الولادة وعلاجات العناية المركزة للأطفال حديثي الولادة متقدمة لدرجة أنه أصبح من الشائع أن ينجو الأطفال المبتسرون الذين يولدون في الأسبوع الرابع والعشرين من الحمل.
أسهمت الولادة القيصرية، التي أصبحت الآن عملية آمنة وروتينية للغاية، كثيرًا في إنقاذ الأرواح في حالات الضائقة الجنينية وعسر الولادة. ما كان في السابق عملية تؤدي دائمًا إلى وفاة الأم وتجرى فقط باعتبارها محاولة يائسة في اللحظات الأخيرة لإنقاذ حياة الجنين، أصبحت الآن طريقة مفضلة للولادة لكثير من المريضات. في عام ١٩٦٥، كانت نسبة ٤٫٥ في المائة من الولادات في الولايات المتحدة تتم عن طريق العملية القيصرية؛ واليوم تصل نسبة العمليات القيصرية إلى نحو ٣٢ في المائة. وهي أكثر شعبية في بلدان مثل البرازيل؛ حيث تصل نسبة العمليات القيصرية إلى نحو ٥٥ في المائة إجمالًا، وتصل إلى ٨٤ في المائة في المستشفيات الخاصة.
تخطت قدرات الجراحين الآن نطاق الإجراءات الروتينية مثل العمليات القيصرية. ففي كل يوم تجرى عمليات داخل الرحم كل يوم لمعالجة الأمراض الجنينية قبل الولادة. يمكن تحقيق ذلك عن طريق تقنيات جراحية محدودة باستخدام المناظير الطبية والمناظير الجنينية، أو عن طريق الجراحة الجنينية المفتوحة التي تجرى خلالها العملية على الجنين مباشرة من خلال شق صغير في الرحم. وتتضمن الحالات التي تعالج عادة بواسطة الجراحة الجنينية السنسنة المشقوقة والفتق الحجابي الخلقي وأمراض القلب الخلقية.
في الوقت الحالي، تتناول النساء اللاتي يخضعن للإخصاب في المختبر أدوية لتحفيز مبايضهن على إطلاق بويضات أكثر من المعتاد. تلقح عدة بويضات، وهو ما يطرح تساؤلات أخلاقية معقدة حول عدد الأجنة التي يجب غرسها في الرحم، وما يجب القيام به فيما يتعلق بالأجنة غير المستخدمة، التي يمكن التبرع بها لأغراض بحثية أو لزوجين آخرين عاجزين عن الإنجاب، أو تجميدها وتخزينها إلى أجل غير مسمًّى، أو تدميرها. ومنذ عام ١٩٧٨، ولد أكثر من ثمانية ملايين طفل عن طريق الإخصاب في المختبر. وقد أدى التقدم السريع لتقنيات الإنجاب المساعدة إلى ظهور أسواق جديدة تمامًا تشمل بنوك الحيوانات المنوية، وعمليات التبرع بالبويضات، وتأجير الأرحام، وتخزين الأجنة لفترات طويلة.
أثبت الإخصاب في المختبر بعدة طرق أنه عامل محفز حوَّل انتباه العامة إلى ما هو أبعد من هدف الحفاظ على حياة الأم، وحتى ما هو أبعد من هدف إنجاب أطفال أصحاء، إلى الهدف المستقبلي الأكثر عصرية وهو إنجاب أطفال مثاليين. إن توجيه النتائج الإنجابية الطبيعية ليس جديدًا. ففي كل يوم، تجبر الاختبارات الطبية الجنينية بعض الأمهات على الخضوع لإجراءات تشخيصية أكثر توغلًا، مثل فحص عينات من السائل الأمينوسي أو الخملات المشيمية، التي توفر معلومات جينية جنينية لتشخيص اضطرابات حادة مثل تثلث الصبغي ١٣ أو تثلث الصبغي ١٨. عادة ما يموت الرضع الذين يعانون من هذه الاضطرابات في غضون فترة تتراوح بين أيام وأشهر بعد الولادة، مما يدفع كثيرًا من الأزواج الذين ينتظرون مولودًا إلى خيار الإجهاض. ويعمد نحو ثلثي الآباء الذين ينتظرون مولودًا ويكتشفون أن جنينهم يعاني من تثلث الصبغي ٢١ أو متلازمة داون، وهو اضطراب جيني أقل حدة، إلى إجهاض أجنتهم أيضًا.
يزيد الإخصاب في المختبر من القدرة على انتقاء الجنين. فنظرًا إلى أن الإخصاب في المختبر ينتج عنه عدد من البويضات المخصبة يفوق حاجة الزوجين، أصبح بإمكان الآباء الآن فحص أجنتهم جينيًّا واختيار الأجنة التي ستزرع، وتكون هذه هي الأجنة التي ستحصل فرصة حياة أفضل. في الحالات التي يحمل فيها أحد الآباء طفرة جينية لمرض أحادي الجين (يسببه جين غير طبيعي واحد) مثل التليف الكيسي أو داء هنتنجتون، يمكن للأطباء اختيار الأجنة التي لا تحمل الجين المسبب للمرض، مما يضمن تجنيب الطفل الإصابة به. ويطلق على هذه الأساليب اسم «التشخيص الجيني قبل الزرع».
على الرغم من أن قلة قليلة قد تعترض على استخدام تقنية «التشخيص الجيني قبل الزرع» لتحقيق هذه الأهداف، فإن ثمة جدلًا أكبر يحيط بإمكانية استخدام هذه التقنية عندما تكون الفوائد الطبية أقل حسمًا، أو عندما يحتمل أن يكون الهدف هو اختيار سمات بشرية مرغوبة وغير مرتبطة بالأمراض. معظم الأمراض ليست أحادية الجين؛ بل متعددة الجينات، أو تسببها جينات كثيرة متنوعة. ونتيجة لذلك، يتعلم العلماء الآن ربط تجميعات من الجينات باحتمالية الإصابة بحالات مختلفة، وفي ذلك أمراض القلب والسرطان والسكري، واضطرابات الصحة العقلية مثل مرض آلزهايمر. والآن، تقدم كثير من الشركات الربحية اختبارات جينية تفضي إلى ما يطلق عليه اختبار «درجة المخاطر المتعددة الجينات»، وأعلنت عن قدرتها على استخدام هذه الدرجات أو الأرقام لفحص الأجنة للكشف عن سمات مثل قصر القامة والإعاقات الذهنية والقدرات المعرفية. ونواجه الآن إمكانية أن يتيح اختبار تقييم درجة المخاطر المتعددة الجينات، بالاشتراك مع تقنية التشخيص الجيني قبل الزرع، للوالدين تحديد مدى ميل الجنين للإصابة بمرض ما، وأيضًا احتمالية امتلاكه كثيرًا من الصفات الجسدية والعقلية.
إذا أصبح الوالدان قادرين على انتقاء أطفالهما عمدًا ليكونوا أكثر صحة وذكاءً، أو ربما حتى أقوى وأجمل، فكيف سيؤثر ذلك على مجتمعنا؟ كيف يمكن أن يودي هذا لتفاقم الفوارق الصحية بين الأغنياء والفقراء؟
هؤلاء الذين يعتقدون أن هذه الممارسات ستكون جزءًا من المستقبل البعيد هم في الحقيقة مخطئون. فقد بدأ ذلك يحدث بالفعل.
في عام ٢٠٢١، عرف العالم أن أول جنين اختير لحصوله على درجة محسنة في اختبار درجة المخاطر المتعددة الجينات قد ولِد بالفعل، في عام ٢٠٢٠. استخدم الأب، وهو طبيب أعصاب من كارولاينا الشمالية، الإخصاب في المختبر لإنتاج ١٦ جنينًا، وقع الاختيار من بينها على ستة للخضوع لاختبارات جينية تجريها شركة تدعى «جينوميك بريديكشن». كان الجنين الذي اختير للزرع هو الذي أظهر اختبار درجة المخاطر المتعددة الجينات له احتمالية أقل للإصابة بأمراض القلب والسكري والسرطان عند البلوغ. وفي حلقة نقاشية لشركة «جينوميك بريديكشن» عبر الإنترنت في أبريل ٢٠٢١، أوضح الأب أنه يعتقد أن الوالدَين تقع على عاتقهما مسئولية تقديم أفضل فرصة لحياة صحية لأطفالهم. وأوضح في مقابلة أُجريت لاحقًا أن «جزءًا من هذا الواجب يتمثل في التأكد من تجنب الأمراض؛ فهذا هو السبب الذي يجعلنا نعطي التطعيمات.» ويعتبر أن تقنية التشخيص الجيني قبل الزرع واختبار درجة المخاطر المتعددة الجينات لهما قدرة هائلة على الحد من الأمراض البشرية، بما يترتب على ذلك من «فوائد مضاعفة» عبر الأجيال.
يشك كثير من العلماء في القيمة التنبئية الحقيقية لدرجات المخاطر المتعددة الجينات التي تجريها الشركات الخاصة، لكن ربما تكون هناك قلة تشكك في أن هذه التكنولوجيا ستصبح أكثر نضجًا وشعبية مع مرور الوقت. أما في الوقت الحالي، فإن بشائرها ومخاطرها مثيرة لحماس البعض، ومروعة للآخرين. يجادل المؤيدون والمعارضون حول الفوائد المحتملة مقابل المخاطر مثل اختيار صفات غير مرغوب فيها عن طريق الخطأ، وتغيير التركيبة السكانية الطبيعية اصطناعيًّا، وخلق عالم أقل تعاطفًا يُقلَّل فيه من قيمة الصفات التي تعتبر أقل استحسانًا ومن ثَم تتضاءل. ولأكثر من عقد من الزمن، لعبت هذه القضايا المعقدة أيضًا دورًا في الجدل الأخلاقي الأكبر المحيط بمعجزة تكنولوجية أخرى، ألا وهي القدرة على تعديل الجينوم البشري من خلال تعديل الحمض النووي باستخدام تقنية كريسبر كاس ٩.
في عام ٢٠١٢، ابتكرت العالمتان جينيفر دودنا وإيمانويل شاربنتييه أداة قوية لتعديل الجينات باستخدام تقنية كريسبر. كان الباحثون السابقون قد حددوا أجزاءً تكرارية وعنقودية من الحمض النووي البكتيري، عرفت باسم كريسبر، ووجد أنها تشكل آلية دفاع بكتيرية ضد الفيروسات التي هاجمت البكتيريا منذ قديم الأزل. أتاحت تسلسلات كريسبر هذه للبكتيريا التعرف على الحمض النووي للفيروسات المهاجمة وإزالته ودمجه مع مادتها الوراثية، وهو شكل من التكيف سمح لها بتذكر الفيروسات التي هاجمتها في الماضي وشن هجوم مضاد عليها. بدا الأمر وكأن البكتيريا قد طورت شكلًا من أشكال المناعة ضد الفيروسات. من خلال دراسة هذه العملية، سخَّرت دودنا وشاربنتييه المكونات الجزيئية نفسها من أجل تحديد موضع تسلسلات محددة من الحمض النووي في جينوم الكائن الحي واستهدافها. كاس ٩ هو بروتين إنزيمي يقطع شريط الحمض النووي بحيث يمكن إزالة الطفرات غير المرغوب فيها، كما يمكن استبدالها لتحل محلها نسخ طبيعية من جين معين. وقد أحدثت تكنولوجيا التحرير الجيني هذه تحولًا في مجال العلاج الجيني الناشئ، وعجلت من حاجة المجتمع لمواجهة المسائل الأخلاقية المتعلقة بتصميم «أطفال حسب الطلب».
إلى أي مدًى يجب أن تذهب البشرية في سعيها للقضاء على المرض والإعاقة؟
بدلًا من مجرد «انتقاء» أفضل الأجنة عبر التشخيص الجيني قبل الزرع، علينا الآن التفكير في أمر أكثر أهمية، وهو القدرة على «تصميم» أفضل الأجنة باستخدام التعديل الجيني كريسبر كاس ٩. وفي هذا المقام، قد تفتح طرق القضاء على الأمراض الباب بسهولة أمام التعديل الجيني في المستقبل لأغراض غير علاجية مثل تعزيز القوة أو الذكاء أو الجمال لدى البشر. وتعج المقالات حول هذه الموضوعات باستعارات تشير إلى بلوغ المنحدرات الزلقة أو فتح صندوق باندورا. لم تعد الأحداث الدستوبية لروايات مثل رواية «عالم جديد رائع» لألدوس هكسلي، أو أفلام مثل «جاتاكا»، التي تنقسم فيها المجتمعات إلى أشخاص معززين جينيًّا وأشخاص غير معززين، تبدو بعيدة المنال.
في البداية، عارضت قلة من الأشخاص استخدام تكنولوجيا التعديل الجيني لعلاج الأمراض التي تسببها طفرة واحدة من خلال الجهود المبذولة لاستبدال الجين غير الطبيعي واستخدام نسخة طبيعية من ذلك الجين. وقد استُخدمت هذه الاستراتيجية لعلاج حالات مثل التهاب الشبكية الصباغي وفقر الدم المنجلي، ويمكن استخدامها في المستقبل لعلاج أمراض مثل داء هنتنجتون، وضمور العضلات الدوتشيني (مرض دوتشين) أو التليف الكيسي. ولكن بما أن معظم الأمراض لا تعزى إلى طفرة في جين واحد فقط، سرعان ما أصبحت أفضل طريقة للتعامل معها محفوفة بمعضلات أخلاقية. لنأخذ، على سبيل المثال، جينًا يبدو أنه مرتبط بزيادة فرص الإصابة بالقلق والاكتئاب والإدمان على الكحول. ليس كل من يحمل هذا الجين سيتأثر سلبًا. فهل يتعين على الآباء تصحيح هذا الجين أو استئصاله من جينوم الجنين؟ من يحق له تحديد الحالات أو الحالات المحتملة التي تستحق «العلاج» أو التعديل؟
في الوقت نفسه، استحوذ على اهتمام الجمهور تطور أكثر جدلًا، له القدرة على تغيير الجينوم البشري إلى الأبد.
تدور أكثر النقاشات البيولوجية إلحاحًا في وقتنا الحالي حول قدرتنا على إجراء تعديلات جينية، لا في الخلايا «الجسمية» البسيطة فحسب، بل أيضًا في خلايا «الخط الجرثومي» (الخلايا الجنسية) التي ستمرر التغييرات الجينية إلى نسل الفرد إلى الأبد. يطلق على معظم خلايا الجسم خلايا جسمية، ويشمل ذلك خلايا الجلد والعضلات والأعصاب، على سبيل المثال. لن يؤثر استخدام كريسبر كاس ٩ لتصحيح طفرة جينية في خلية جسمية لعلاج مرض إلا على المريض نفسه، وسيختفي التغيير الجينومي عندما يموت هذا المريض يومًا ما.
في المقابل، لا يوجد سوى نوعين فقط من خلايا الخط الجرثومي؛ البويضات والحيوانات المنوية. هذه هي الخلايا التناسلية التي ينتقل من خلالها حمضنا النووي إلى نسلنا. إذا كان لأحد استخدام التعديل الجيني لتغيير الحمض النووي للبويضات أو الحيوانات المنوية، أو الأجنة الأحادية الخلية المعروفة باسم الزيجوت (اللاقحة)، فإن هذه الخلايا قد تصبح فيما بعد بشرًا سينتقل جينومهم المعدل إلى نسلهم إلى الأبد. ومن ثَم، يمكن أن يؤدي استخدام كريسبر كاس لتعديل جينوم خلية جرثومية إلى تغيير الجينوم البشري إلى الأبد والتنوع الجيني لنوعنا.
ولهذا السبب، لا يقل تطوير كريسبر كاس ٩ أهمية عن انشطار الذرة. فقد أدى الأخير إلى العصر النووي ومنح البشرية القدرة على تدمير نفسها بالأسلحة النووية. وبالمثل، للتحرير الجيني القدرة على تغيير الإنسانية كما نعرفها. يمكن استخدام كريسبر كاس ٩ حتى لدمج الحمض النووي البشري مع الحمض النووي الحيواني لتصميم كائنات خيمرية، ويمكن للمؤيدين طرح هذا الأمر باعتباره طريقة لإنتاج الأعضاء البشرية القابلة للزرع بكميات كبيرة. من المرعب التفكير في هذه الاحتمالات التي لا تحصى، وفهمنا لتكنولوجيا التعديل لا يزال في مهده. وعلى الرغم من دقتها الشديدة، تقوم طرق كريسبر أحيانًا بقص الحمض النووي في أماكن لا يتوقعها الباحثون، أو قد تسبب تغييرات جينية غير مقصودة لا تظهر على المدى القريب. قد نعتقد أن تعديلًا جينيًّا معينًا مفيد، فقط لنعرف فيما بعد أنه غير جينومنا بطريقة غير متوقعة وضارة.
وإذا افترضنا أننا نسكن عالمًا يجرى فيه التعديل الجيني بطريقة آمنة وروتينية لا تشوبها شائبة، فمن سيكون له القرار فيما يتعلق بتحديد الخصائص البشرية التي تعتبر طبيعية أو غير طبيعية؟ بمجرد تحديد ذلك، سيكون هناك ضغط متزايد على الآباء لضمان استفادة أطفالهم من تجميع الصفات المواتية، واستبعاد الصفات غير المواتية. وقد حذر بيان موقف صادر عن الجمعية الأمريكية لعلم الوراثة البشرية من «أننا بتصنيفنا لبعض الأفراد وسماتهم باعتبارها «غير ملائمة»، إنما نتعرض لخسارة جماعية لإنسانيتنا.» وصرح فرانسيس كولينز، المدير السابق للمعهد الوطني للصحة، في عام ٢٠١٥: «لقد كان التطور يعمل على تحسين الجينوم البشري على مدى ٣٫٨٥ مليار سنة. فهل نعتقد حقًّا أن مجموعة صغيرة من البشر الذين يتلاعبون بالجينوم البشري يمكنهم تحقيق نتائج أفضل دون أن تكون هناك أي عواقب غير مقصودة؟»
إن ما نتأمله أقل ما يقال عنه إنه تغيير للتطور نفسه.
لا عجب في أن نحو ٧٥ دولة، من ضمنها الولايات المتحدة، تحظر التجارب التي تجرى لتغيير الخلايا الجرثومية من أجل إنتاج أطفال معدلين وراثيًّا. ولكن مثلما تخشى القوى العظمى في العالم من قيام الدول المارقة بتطوير الأسلحة النووية، يخشى العلماء الذين يتمتعون بحس المسئولية أولئك الذين قد ينتهكون المعايير الدولية أو الحدود المتعلقة بتجارب الخط الجرثومي. فإذا مضى علماء دولة ما قدمًا في ذلك، فقد يصبح من الصعب على العلماء الدوليين أن يمتنعوا عن القيام بذلك خوفًا من التخلف عن ذلك السباق الأشبه بسباق للتسلح بالعلاجات الجينية.
هناك بالفعل قلق من أن تكون هذه الدولة المارقة هي الصين.
في عام ٢٠١٥، حاول الباحثون في جامعة صن يات-سين في جوانجزو استخدام كريسبر كاس لتعديل جين يسبب بيتا ثالاسيميا، وهو اضطراب دم وراثي، في خمسة وثمانين جنينًا حصلوا عليهم من عيادة للإخصاب في المختبر. أثار هذا الفعل المقلق انزعاج المجتمع الدولي. والأسوأ من ذلك أنه قد أكد مخاوف العلماء؛ لأن التجربة كانت فاشلة وأدت إلى كثير من الأخطاء الجينية. فقد وجد أن أربعة أجنة فقط هم من حصلوا على التعديل الجيني المطلوب. واحتوى نحو ثلث الأجنة التي خضعت للاختبار على تغييرات جينية غير مقصودة، بعضها قد يؤثر على التطور الطبيعي للإنسان. تم إيقاف تجارب المختبر، لكن كان من السهل على كثير من العلماء معرفة أين يمكن تحسين التقنيات المستخدمة وجعلها أكثر فاعلية. وتزايدت مخاوف العلماء الغربيين من احتمالية أن يتجاهل باحثون صينيون آخرون القواعد الدولية وقد يصممون يومًا ما إنسانًا معدلًا جينيًّا.
ما أثلج صدر كثير من المراقبين توقيع مجموعة من أكثر من مائة عالم صيني على رسالة توبيخ إلى جيانكوي، وكذا الأكاديمية الصينية للعلوم الطبية. بعد شهرين، أقالت الجامعة جيانكوي، وفي ديسمبر ٢٠١٩، أُدين في محكمة صينية وحُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات بتهمة إجراء «ممارسة طبية غير قانونية». ونتيجة لإدانته بالسعي وراء «الشهرة والربح»، تم تغريمه ثلاثة ملايين يوان (٤٣٠ ألف دولار أمريكي)، ومنعه نهائيًّا من إجراء أبحاث في مجال التكاثر البشري، ومنعه من التقدم بطلب للحصول على تمويل للأبحاث في المستقبل. وهذه الأحداث تعطي بعض الأمل في أن الصين ستكون فاعلًا دوليًّا على قدر المسئولية في مجال البحث الطبي الحيوي.
لكن المارد خرج من القمقم، والآن ستواجه البشرية أحد أكبر اختباراتها. يجب الاعتراف بأن هناك بعض الأشخاص لا يهابون التطورات في مجال تعديل جينات الخلايا الجرثومية. ويعد مرض هنتنجتون، الذي يسبِّب تدهورًا عصابيًّا تدريجيًّا يصاحبه عجز شديد في القدرات الجسدية والعقلية قبل منتصف العمر، هدفًا رئيسًا للعلاج المستقبلي عبر تعديل كريسبر في الخلايا الجسدية. لكن هذا سيساعد المرضى فرادى. فإذا كان من الممكن القضاء تمامًا على مرض هنتنجتون من على وجه الأرض باستخدام تعديل الخط الجرثومي، بحيث لا يصاب أي طفل به مرة أخرى، فقد يقول كثيرون: لماذا لا نفعل ذلك؟ نحن اليوم نحتفل بالقضاء على الجدري وقرب القضاء تمامًا على شلل الأطفال، فهل سيكون هذا مختلفًا بأي حال؟ في الواقع، يذهب البعض إلى أنه من غير الأخلاقي التوقف عن إجراء التجارب على الخلايا الجرثومية، أو عدم القيام بكل ما هو ممكن لتخفيف معاناة البشر والأمراض.
ربما تكون هناك قلة يعتقدون أنه لن يسمح للهندسة الوراثية للبشر بالمضي قدمًا أبدًا. لكنها على الأرجح ستمضي، أولًا لمكافحة الأمراض الشديدة، وربما في وقت لاحق لأغراض غير علاجية بطرق قد تثير مخاوفنا في الوقت الحالي. يحث كثير من العلماء المرموقين على الحذر الشديد واعتماد الإرشادات المتفق عليها دوليًّا على نطاق واسع، ولكنهم لا يرون أن تجارب الخط الجرثومي يجب أن تحظر تمامًا. ومع تطور العلم وتوسع القدرات، يجب أن تظل الهيئات العلمية والتنظيمية يقظة، وواعية دائمًا لمخاطر التغييرات الجينية غير المقصودة، والتأثير السلبي على تنوع الجينوم البشري.
كم من الوقت يفصلنا عن العيش في مجتمع يسمح للوالدين بتعديل الأجنة لتصبح مقاومة للأمراض أو أقل عرضة للإصابة بالسرطان أو السكري أو أمراض القلب؟
كم من الوقت يفصلنا عن دفع المال لجعل أطفالنا أطول أو أكثر ذكاءً؟
الوقت كفيل بإخبارنا. لا يوجد شيء آخر في عتاد الأطباء يقربهم أكثر من دور الرب غير هذا. لا يزال هذا المجال جديدًا، والتداعيات الأخلاقية والاجتماعية عميقة. ومن بين جميع التطورات المفصلة في هذا الكتاب، من المحتمل أن يكون تأثير التعديل الجيني على البشرية هو الأكثر ديمومة. فلديه القدرة على أن يكون أعظم اكتشاف طبي على مر العصور. كما أنه يهدد بتغيير النوع البشري إلى الأبد. لن يكون السؤال عما إذا كان هذا ممكنًا. فهو كذلك. السؤال هو كيف سنسمح له بالحدوث.