الفصل الرابع والستون
ما أطوع الأمور لبنانك وهي في مستقر الحال،
وما أيسرها على التدبير، وهي في بدء تعينها؛
ثم ما أحطمها وأقلها صبرًا على الخطر،
وهي في هشاشة الضعف؛
بل ما أسرع تلاشيها وفنائها عن قيد الوجود!
وهي، بعدُ، أضأَل من خردلةٍ متناهية الصغر؛
أضأَل، حتى، من أن يصفها الوصف،
أو تلحظها العين؛
صُدَّ عنك الخطر،
قبل أن يحين بك الحين؛
واحزم أمرك،
قبل أن يتفرق بك شتات الحال؛
إن الشجرة السامقة،
تنبت من بذرة ضئيلة؛
والبناية الطالعة للسحاب
تتأسس على رمالٍ وحصى؛
وطريقًا مقداره ألف لي [= ألف ميل]،
يبدأ بخطوة واحدة؛
اصنع صنيعك الذي تحاد به الطبائع،
تفسد من صنيعك الأشياء؛
تسلط بسطوة قهرك فوق الرءوس،
تنحطم بك الأعناق،
وتبوء ببطلان؛
لذلك، لا يطيش قلب العاقل،
فلا يفشل سعيه؛
ثم إنه لا يقيد مراد النفس،
بما لا ينبغي له،
فلا يحزنك فقدٌ،
ولا يصيبه خسران،
قد نظرت فما رأيت أغرب ولا أعجب
من صنيع الناس وأفعالهم،
فما يكاد يبلغ بهم القصد منتهى الغاية،
حتى يخيب رجاؤهم؛
وما يكاد يتمُّ لهم مسعًى،
حتى تسقط حظوظهم؛
إن استدامة الحذر،
من البدء إلى الخاتمة،
وقاية من الخسران؛
ما كانت للعاقل أمنيةٌ،
سوى أن تزول عنه الأماني؛
وما سنحت له،
إلا رغبة الحيد عن كل الرغبات،
ولا تحصلت لديه معرفة،
إلا فيما زهد الناس فيه من العلوم،
ثم إنه يُصلح بعلمه،
كل ما أفسده الناس،
ومراده في كل ذلك،
تبصير معميات الأفهام،
كي تلحظ مدارج السنن الطبيعية،
التي تجري كل الأشياء بمقتضاها؛
فمَن وعى وأدرك
تبرَّأ من معاندة الطبائع.