المغامرة الأخيرة
كانت الساعة التاسعة من مساء اليوم الثاني من شهر أغسطس — أفظعُ أغسطس في تاريخ العالم. لربَّما ظنَّ المرء في ذلك الحين أنَّ لعنة الرَّبِّ تتهدَّدُ ذلك العالَم الفاسد؛ فلقد كان يملأ الهواءَ الخانقَ الراكدَ سكونٌ مَهيبٌ وشعورٌ بترقُّبٍ غامض. كانت الشمس قد غابتْ منذ فترة طويلة، لكن كان يمْتدُّ في أدنى الغرب البعيد شجٌّ قانٍ وكأنَّه جرحٌ مفتوح. كانت النجوم تتلألأ في الأعلى، وأضواء السُّفن تلتمِع فوق الخليج في الأسفل. وكان الألمانِيَّان الشهيران يقِفان بالقُرب من حاجزِ ممشى الحديقة الصخري، وخلفَهما ذلك المنزل المُمتد، المُنخفِضُ الارتفاع، ذو الجملون السابغ، وراحا ينظُران تحتَهما إلى امتداد الشاطئ الفسيح عند سفح المُنحدَر الطباشيري الضخم الذي حطَّ عليه فون بورك، كنسرٍ هائم، واتَّخَذه مَسكنًا له منذ أربع سنوات. كانا يقِفان ورأس أحدِهِما قريبٌ من رأس الآخَر، ويتحدَّثان بأصواتٍ خافتة هامسة، وكان طرَفا سيجارتَيْهما المُتوهِّجان يبدوان من أسفل وكأنَّهما عَينا شيطانٍ حقودٍ تشتعلان بلا لهبٍ وتُطلِقان الدُّخان وهو يُحدِّق في الظلام.
إنَّ فون بورك هذا رجل استثنائي؛ رجل لا يكاد يُضاهِيه رجلٌ بين عُمَلاء القيصر المُخلِصين جميعِهم. وقد كانتْ مَلَكاتُه هي ما زكَّاه في المقام الأول لتولِّي المهمة الإنجليزية؛ المهمَّة الأكثر أهميةً على الإطلاق بين نظيراتها، ولكنَّه منذ اضطلع بها أصبحتْ تلك المَلَكات أكثر وضوحًا بكثيرٍ للأشخاص الستة في العالم الذين كانوا يعرفون الحقيقة بالفعل. وكان مِن بين هؤلاء رفيقُه الحالي، البارون فون هيرلنج، السكرتير الأول للسفارة الألمانية في بريطانيا، الذي كانتْ سيارتُه الضخمة ماركة بنز، والتي تعمل بقوة ١٠٠ حصان، تُغلِق الطريقَ الريفيَّ وهي تنتظر كي تنطلِقَ بصاحبها وتُعيدَه إلى لندن.
قال السكرتير: «بقدْر ما أستطيع الحُكمَ على مجرى الأحداث، فمن المُحتمَل أنَّك ستعود إلى برلين خلال هذا الأسبوع، وأظنُّك ستندهِش من الحفاوة التي ستُستقبَل بها عندما تصِل إلى هناك عزيزي فون بورك. لقد اتَّفَق لي أنْ عرفتُ رأيَ الأوساط العُليا بخصوص عملك في هذا البلد.» كان السكرتير رجلًا ضخمًا، وكان داكنَ اللون عريضًا طويل القامة، يتحدَّث بطريقةٍ بطيئة ثقيلة، وكانتْ هي ذُخرَه الرئيسيَّ الذي يَعتمِد عليه في عمله السياسي.
ضحك فون بورك، وقال مُعقِّبًا: «ليس من العسير جدًّا أن تخدَعَهم، ولا يُمكن تخيُّل أُمَّةٍ أكثرَ إذْعانًا ولا سذاجةً منهم.»
قال الآخَر بحذَر: «لا أعرف هذا الذي تقوله. إنَّ لهم أساليبَ غريبةً ينبغي للمرء أن يتعلَّم كيف ينتبِه إليها؛ فسذاجتُهم الظاهرةُ هذه هي التي تنصِب الشَّرَك للدُّخَلاء؛ حيث يكون الانطباع الأول للمرء عنهم أنهم لُقمةٌ سائغةٌ تمامًا، ثم يصطدم فجأةً بشيءٍ بالِغِ الصَّلابة، وتعرف أنَّك بلغتَ الحدَّ وعليك أن تتكيَّف مع الحقيقة؛ فلدَيْهم، على سبيل المثال، تقاليدُهم الخاصَّةُ بأهل الجُزُر، والتي يتحتَّم الانتباه إليها.»
تنهَّد فون بورك كرجلٍ طالَ عَناؤه من أمرٍ ما وقال: «أتعني «قواعد السلوك الحسَن» والأشياء من هذا القبيل؟»
«بل أقصد التحيُّز البريطاني بكلِّ صُوَره الغريبة. يُمكنني على سبيل المثال أن أستشهِدَ بواحدٍ من أكثر أخطائي فداحةً؛ فأنا أمتلك تَرَفَ الحديث عن أخطائي الفادحة، لأنَّك تعلم جيدًا عن عملي ما يكفي لتُدرِك حجمَ نجاحاتي. حدث هذا عند مجيئي هنا أول مرة، عندما كنتُ مَدعوًّا لحضور اجتماعٍ في عطلة نهاية الأسبوع لدى أحد مُستشاري الحكومة بمنزله الريفي. لقد كان الحوار مُتهوِّرًا بصورةٍ مدهشة.»
أومأ فون بورك برأسه، وقال بطريقةٍ خالية من المشاعر: «لقد مررتُ بمثل هذا وأعرفه.»
«بالضبط، حسنٌ. وبطبيعة الحال أرسلتُ مُلخَّصًا بالمعلومات إلى برلين. ولسوء الحظِّ فإنَّ مستشارنا الطيِّب تُعوزه الحَصافةُ قليلًا في هذه الأمور، فذكر — في بثٍّ إذاعي — ما يُشير إلى أنَّه كان على علمٍ بما قيل في الاجتماع. وهذا، بالطبع، جعَلَ أصابعَ الاتهام تُشير إليَّ مباشرةً. ولا تتصوَّرُ مِقدارَ الأذى الذي لحِقَ بي بسببه. لمْ يكن في هؤلاء الإنجليز أيُّ شيءٍ يُشير إلى أنَّهم لُقمةٌ سائغةٌ في تلك المُناسَبة، أجزِم لك بهذا. لقد أمضيتُ عامَين وأنا أحاوِل محوَ هذا العار عنِّي. وأنت الآن، بتظاهُرِك بهذا المظهر الرياضي …»
«لا، لا، لا تُسمِّه تظاهُرًا؛ فالتظاهُر أمرٌ زائف، وما أفعله أنا طبيعيٌّ تمامًا. إنني رياضيٌّ بالفِطرة، وأنا أستمتع بهذا الأمر.»
«حسنٌ، هذا ما يجعل الأمر أكثرَ فاعلية. إنك تُسابِقُهم في الإبحار باليَخت، وتَخرُج معهم للصيد، وتلعَب البولو، وتُبارِيهم في كل لعبة، وقد فازتْ عربتُك ذات الأحصنة الأربعة بالجائزة في مسابقة أوليمبيا للفروسية، حتى إنني سمعتُ أنَّك بلغتَ إلى درجة مُمارسة لعبة المُلاكَمة مع صغار الضبَّاط. وما هي الثمرة من هذا؟ لا أحدَ يُعِيرك كثيرَ اهتمام؛ فأنتَ بالنسبة إليهم شابٌّ تنطبِق عليه هذه الأوصاف: شخصٌ محبوب يتمتَّع بروح رياضية، أو رجلٌ لطيفٌ جدًّا رغم كونه ألمانيًّا، أو رجل مُسرِفٌ في الشراب، أو مُرتاد الملاهي الليلية، أو ثريٌّ مُتبطِّل، أو رجلٌ طائش. ورغم ذلك فإنَّ منزلك الريفي الهادئ هذا هو مركز نِصف ما يحدُث في إنجلترا من الأذى، ومالِكُ الأرض الرياضي هو أدهى رجل استخبارات في أوروبا. عبقريٌّ، عزيزي فون بورك … عبقري!»
«إنك تُجامِلني أيُّها البارون، لكنني بكل تأكيد أستطيع الزَّعم بأنَّ سَنواتي الأربع التي قضيتُها في هذا البلد لمْ تكن عديمة الجدوى. أنا لمْ أُطلِعكَ من قبلُ قطُّ على مَخزني الصغير. هلَّا تتفضَّلُ بالدخول للحظات!»
كان باب غرفة المكتب يَفتَح مباشرةً على الشُّرفة، فدفعه فون بورك إلى الخلف، ثم، وهو يتقدَّم صديقَه، أطفأ مِفتاح المِصباح الكهربائي، بعد هذا أغلقَ الباب وراء الهيئة الضخمة التي كانتْ تسير خلفَه وراح يُسوِّي الستارة الكثيفة بحذَرٍ فوقَ النافذة ذات المشربية. ولمْ يُدِرْ وَجهَه الأسفَعَ المعقوفَ إلى ضيفِه إلَّا بعدما اتَّخذَ كلَّ هذه الاحتياطات وتمَّم عليها.
قال: «غادَر بعضُ أوراقي البيت، فعندما سافرتْ زوجتي وأسرتي أمس إلى ميناء فلاشنج أخذوا معهم الأوراق الأقلَّ أهمية. ولا بدَّ، بالطبع، أن أطلُب من السفارة الحمايةَ الجمركية من أجل بقيَّة الأوراق.»
«لقد أُدرِج اسمُك بالفعل بين أسماء حاشية القيصر الخاصة. لن تكون هناك صعوباتٌ بالنسبة إليك ولا لأمتعتك. وبالتأكيد من المُحتمَل ألَّا نُضطرَّ إلى الرحيل؛ فقد تتخلَّى بريطانيا عن فرنسا وتترُكها لتُواجِهَ مصيرَها. نحن مُتأكِّدون أنَّه لا تُوجَد معاهدةٌ مُلزِمة بينهما.»
«وبلجيكا؟»
«نعم، وبلجيكا هي الأخرى.»
هزَّ فون بورك رأسَه وقال: «لا أفهم كيف يُمكن لهذا أن يحدُث! فهناك معاهدة قاطِعة في حالة بلجيكا، ولن يُمكنها الخَلاص من عارٍ كهذا أبدًا.»
«لكنها على الأقل ستنعَم بالسلام في الوقت الحاضر.»
«لكن، وشرفها؟!»
«عن أيِّ شيءٍ تتحدَّث سيدي الكريم؟! إنَّنا نعيش في عصرٍ نفْعي. إنَّ الشرف من مَفاهيم القرون الوسطى، وعلاوةً على هذا فإنَّ إنجلترا غير مُستعدَّة. إنَّه أمرٌ لا يُصدَّق، ولكن حتى الخمسون مليونًا — قيمة ضريبة الحرب الاستثنائية التي فرضْناها، والتي قد يَعتقِد المرءُ أنَّها جَعلتْ غرَضَنا واضحًا وكأنَّنا أعلنَّاه على الصفحة الأولى لجريدة التايمز — لمْ تُوقِظْ هؤلاء الناسَ من هجْعَتِهم. أينما يَتوجَّه المرءُ يسمع سؤالًا، ومُهمَّتي أن أجِدَ له إجابة. وأينما يتوجَّه المرء كذلك يَجِد غضبًا، ومُهِمَّتي أن أُسكِّن هذا الغضب. ولكني أستطيع أن أؤكِّد لك أنَّه بقدْر ما يغيب من الأساسيات — تخزين الذخيرة، والتجهيز للهجوم بالغوَّاصات، والاستعداد لصناعة المواد الشديدة الانفجار — فما من شيء جاهز. فكيف يتسنَّى لإنجلترا دخول الحرب إذن؟ خاصةً وقد أعدَدْنا لها كئوس الحرب الأهلية المُرهِقة مع أيرلندا، وربَّات الانتقام الغاضبات، وما لا يعلمه إلَّا الربُّ ممَّا من شأنه أنْ يُبْقِيَها مهتمَّةً بشأنها الداخلي.»
«لكن يتوجَّب عليها أن تُفكِّر في مُستقبلها.»
«أوه، هذا أمرٌ آخَر. وأظنُّ أنَّه سوف يكون لدَينا خُطَطُنا الخاصة البالِغةُ الوضوح بخصوص إنجلترا في المُستقبَل، وأنَّ المعلومات التي لديك ستكون حيويةً جدًّا بالنسبة إلينا. سوف تقَع حربُنا اليوم أو غدًا مع الإنجليز؛ فإنْ كانوا يُفضِّلون ذلك اليومَ فإنَّنا مُستعدُّون تمامًا، وإن كان الغد فعلينا مع ذلك أن نكون أكثر استعدادًا. وأظنُّ أنَّهم في حال حاربوا جنبًا إلى جنبٍ مع قوات الحُلفاء فسيكونون أكثر حِكمةً ممَّا لو فعلوا ذلك دونهم، ولكن هذا شأنهم هُم. هذا الأسبوع هو أسبوع تحديد مصيرهم. لكن، لقد كنتَ تتحدَّثُ عن أوراقك.» كان السكرتيرُ يجلس على الأريكة وضوءُ الغرفة يلتمِع على رأسه الأصلع الضخم، بينما كان هو ينفُث دخان سيجارِه في استرخاء.
كان بالغرفة الرَّحبة التي يكسوها خشَب السنديان وتصطفُّ أرفُفُ الكتب على جُدرانِها، ستارةٌ مُعلقةٌ في رُكنها الأقصى. وعندما أُزيحتْ هذه الستارةُ أُزيحتْ عن خزينة ضخمة عليها إطارٌ من النُّحاس. انتزع فون بورك مِفتاحًا صغيرًا من سلسلة ساعته، وبعد مُحاولات كثيرة لفتح القُفل نجحَ في فتح الباب الثقيل.
قال وهو يُلوِّح بيده ويقِف وقفةً واثقة: «انظر!»
سطَع الضوءُ بقوة داخل الخزينة المفتوحة، وأخذ سكرتيرُ السفارة يُحدِّق باهتمامٍ عميقٍ إلى صفوف الأعيُن المُربَّعة المُستخدَمة لتصنيف الأوراق والمرصوصة داخل الخزينة. كانتْ كلُّ عينٍ تحمِل رُقعةً عليها عنوان، وبينما هو يرمقها راحتْ عيناه تقرآن سلسلةً طويلةً من العناوين من مثل «مخاضات الأنهار»، و«دفاعات الموانئ»، و«الطائرات»، و«أيرلندا»، و«مصر»، و«قواعد بورتسموث العسكرية البحرية»، و«بحر المانش»، و«مدينة روسايث الاسكتلندية»، وما لا حصر له من الأسماء الأخرى. وكان كلُّ قسمٍ من الخزينة مُكتظًّا بالأوراق والخُطط.
قال السكرتير: «يا للضخامة!» ووضع سيجارَه جانبًا وأخذ يُصفِّق برفقٍ بيدَيه البضَّتَين.
«وكلُّ ذلك في أربع سنواتٍ يا حضرة البارون. ليس هذا بالمَعرَض السيِّئ بالنسبة إلى مالك الأرض القروي المُسرِف في الشراب وركوب الخيل، لكنَّ جوهرةَ مجموعتي على وشْك الوصول، وها هو ذاك الإطار هناك على أتمِّ الاستعداد لاحتوائها.» وأشار بيده إلى مكانٍ كُتِبَ فوقَه «الإشارات البحرية».
«لكنَّ لدَيك ملفًّا جيدًا في هذا المكان بالفعل.»
«لقد أُوقِف العمل به وهي مُجرَّد أوراق لا قيمة لها. لقد تنبَّهَتْ قيادة الأسطول بطريقةٍ ما إلى الأمر وغيَّرتْ كلَّ الرُّموز التي فيه. كانتْ كارثة يا حضرة البارون — كانتْ أسوأ نكسة في حملتي كلِّها. ولكنْ بفضل دفتر شيكاتي والرجل الصالح أولتمنت سيكون كلُّ شيءٍ على ما يُرام في هذه الليلة.»
نظر البارون إلى ساعته وأطلق من حلقِه هتافًا يدلُّ على خَيبة أمله من أمرٍ ما.
قال: «حسنٌ، إنني حقًّا لا أستطيع الانتظار هنا أكثر من هذا. لك أن تتخيَّل أنَّ الأمور تتطوَّر الآن بمبنى السفارة في شارع كارلتن تيريس، وأنَّ علينا جميعًا أن نكون على مكاتبنا. كنتُ آمُلُ أن أتمكَّن من العودة إلى هناك بأخبار انتصارك العظيم. ألمْ يُحدِّد أولتمنت ساعةَ وصولِه؟»
قادمٌ الليلةَ بالتأكيد، ومعي الجديد من شَمْعات الإشعال.
«ماذا؟ شمعات الإشعال؟»
«نعم، إنَّه يتظاهَر بكونه خبيرًا في السيارات، وأنا لديَّ مَرأبٌ مليء بها. وكلُّ شيء مُحتمَل الحدوث نُسمِّيه في الشفرة التي بيننا باسم واحدةٍ من قِطَع الغيار. فإذا ما تكلَّم عن المِشعاع فهو يقصد سفينةً حربية، أو إذا ذكر مضخَّةَ الزَّيت فهي الطرَّادة، وهكذا. شمعات الإشعال هي الإشارات البحرية.»
قال السكرتير وهو يقرأ عنوان الرسالة: «مُرسَلة من ميناء بورتسموث في فترة الظهيرة. بالمُناسَبة، ماذا تُعطيه؟»
«خمسمائةَ جنيهٍ لهذه المهمَّة بالذات. وبالطبع فإنَّ له راتبًا كذلك.»
«الأشرار الجَشِعون. إنهم مُفيدون، خائنو أوطانِهم هؤلاء، ولكني أستكثِر عليهم أموالَهم المُلوَّثة بدم الخيانة.»
«أنا لا أستكثِر شيئًا على أولتمنت. إنَّه عاملٌ رائع، فإن كنتُ أدفعُ له جيدًا، فإنَّه على أقلِّ تقدير يفعل المطلوب منه، على حدِّ تعبيره هو. وعلاوةً على هذا فهو ليس خائنًا. إنني أؤكِّد لك أنَّ أشدَّ الأرستقراطيِّين الألمان ولاءً للقيصر وكُرهًا لبريطانيا، وأكثرهم إيمانًا بفكرة توحيد الشعوب الناطقة بالألمانية سياسيًّا، سوف يكون حمامةَ سلامٍ سخيفةً إذا ما قُورنَتْ مشاعرُه تِجاه إنجلترا بمشاعر ذلك الأيرلندي الأمريكي اللدود.»
«أوه! أيرلندي أمريكي!»
«لو سمِعتَه وهو يتكلَّم لَمَا شكَكْتَ في هذا. أؤكد لك أنَّني أحيانًا لا أكاد أفهم ما يقول. يبدو أنَّه أعلن الحرب على إنجليزية الملِك كما أعلنها على الملِك الإنجليزي. أيتوجَّب عليك الرحيلُ حقًّا؟ قد يصل إلى هنا في أي لحظة.»
«لا، اعذُرني؛ فلقد مكثتُ أكثر من الوقت المسموح لي بالفعل. سنَنتظِر مَجيئك مُبكِّرًا في الغد، وعندما تمرُّ بكِتاب الإشارات هذا عبرَ باب السفارة الصغير عند درَجات السلالم المُقابلة للنُّصب التذكاري لدُوق يورك سيُمكِنك وضع نهاية مُظفَّرة لسِجلِّ نشاطاتك في لندن. يا للهول! نبيذ التوكاي!» وأشار إلى زجاجةٍ مُحكَمةِ الإغلاق يَعلوها الغُبار موضوعة على صينية إلى جوار كأسين طويلتَين.
«أتسمح لي أن أُقدِّم لك كأسًا قبل ذهابك؟»
«لا، شُكرًا لك. لكن يبدو كأنَّها آثارُ حفلةٍ صاخبة.»
«إن أولتمنت يتمتَّع بذوقٍ عالٍ في اختيار الخمور، وقد أعجبه نبيذي هذا. إنه رجلٌ شديدُ الحساسية ويحتاج إلى تدليله بتلك الأشياء الصغيرة. ينبغي لي أن أدرُسَه، أجزِم لك بهذا.» تمشَّى الرُّجلان رويدًا حتى خرَجا إلى الشُّرفة ثانيةً، وفي موازاتها من ناحية طرفها الأقصى كانت السيارة الضخمة تهتزُّ وتُقرقر نتيجة تشغيل سائق البارون لها. قال السكرتير وهو يرتدي مِعطَفه الطويل: «هذه أضواء مدينة هاريتش، على ما أعتقد. كم تبدو كلها ساكنةً مُطمئنَّة. قد تسطعُ فيها أضواء من نوعٍ آخَر خلال هذا الأسبوع، وسيُصبِح الساحل الإنجليزي مكانًا أقلَّ هدوءًا! والسماء كذلك، ربما لن تكون هي الأخرى هادئةً كثيرًا إذا تحقَّق كلُّ ما يعِدُنا به الجنرال المُخلِص زيبلين. بالمُناسبة، مَن هذه؟»
لمْ يكن الضوء يسطع إلَّا من نافذةٍ واحدة خلفَهما؛ كان بداخلها مصباح، وكان بجوارِه سيدة مُسِنَّة لطيفة مُتورِّدة الوجه، تجلس أمام مِنضدة وتعتمِر قَلَنْسُوةً ريفية، وكانتْ مُنكفئة على قماشٍ تنسُجُه وتتوقَّف من آنٍ إلى آخَر كي تمسحَ بيدِها على رأسِ قِطَّةٍ سوداء كبيرة جالِسة على كرسيٍّ صغير إلى جوارها.
«إنها مارثا، الخادِمة الوحيدة التي بقيَتْ عندي.»
ضحك السكرتير.
قال: «تكاد — بانهِماكِها الكامل في شئونها الذاتية وهيئة النُّعاس المُريح هذه — تَصلُح لتجسيد بريطانيا. حسنٌ، إلى اللقاء فون بورك!» ووثبَ إلى داخل السيارة وهو يُشير بيده إلى صديقه إشارةً أخيرة، وبعد هُنَيْهةٍ انطلَق ضوء المصابيح الأمامية للسيارة في صورة مخروطَين ذهبيَّين يَشُقَّان ظُلمة الليل. واستلقى السكرتير على وسائد السيارة الفارهة وأفكارُه مشغولةٌ تمامًا بالمأساة الأوروبية الوشيكة الحدوث لدرجة أنَّه لمْ يَكدْ يُلاحِظ أنَّه بينما تدور عجلاتُ سيارته فوق شوارع القرية كادَتْ تدهَس سيارة فورد صغيرة قادمة بالاتِّجاه المُعاكس.
عندما غابتْ آخِرُ أضواء مصابيح السيارة في المدى تمشَّى فون بورك ببطءٍ حتى عاد إلى حُجرة المكتب. وبينما هو يسير لاحظَ أن مُدبِّرة منزله العجوز أطفأتْ مِصباحَها وأَوَتْ إلى الفِراش. لقد كان الصمت والعَتَمة المُخيِّمان على منزله الرَّحيب تجربةً جديدة عليه؛ إذ كانتْ أُسرتُه أسرةً كبيرة. ولكن كان يُخفِّفُ عنه أنْ يتذكَّر أنهم كانوا جميعًا في مأمن، وأنَّه — باستثناءِ تلك العجوز التي تخلَّفتْ عن الرحيل وبقيتْ في المطبخ — قد صار المكان بأسْرِه له وحدَه. كانتْ حُجرةُ مكتبِه تتطلَّبُ قدرًا لا بأس به من الترتيب، وقد جلسَ يفعل هذا بنفسه حتى توهَّج وَجهُه الوسيمُ الحادُّ الملامح حُمرةً من أثر حرارةِ الأوراقِ المُحترقة. كان بجوار مِنضدتِه حقيبةُ سفَرٍ جلدية، فراح يضَعُ فيها محتويات خزينته الثمينة بعنايةٍ وانتظام بالِغَين. ولكنه لمْ يَكَدْ يُباشِر هذا العمل حتى الْتَقطتْ أذُناه الحادَّتان أصواتَ سيارةٍ بعيدة. أطلق صيحةَ رضًا من توِّه، وحزمَ الحقيبة، ثم أغلق الخزينة وأمَّنها بالقُفل، ثم أسرع بالخروج إلى الشرفة. وقد خرج في تَوقيتٍ مُناسِب تمامًا ليرى أضواءَ سيارة صغيرة تتوقَّف عند بوابة المنزل. وهنا نزل منها راكبٌ وتقدَّم نحوَه مُسرعًا، بينما استرخى السائق — وكان رجلًا كهلًا قويَّ البِنية ذا شاربٍ أشيَب — وكأنه استسلَم لحلمٍ طويل من أحلام اليَقَظة.
تساءل فون بورك بلهفةٍ وهو يَحثُّ الخُطَى لاستقبال ضَيْفه: «هل كلُّ شيءٍ على ما يُرام؟»
ولإجابة هذا السؤال لوَّح الرجل بحزمة أوراقٍ بُنِّيةٍ صغيرة فوق رأسه بطريقةٍ تَنمُّ عن سعادة الانتصار.
وصاح قائلًا: «يُمكنك أن تُصافِحَني بحرارةٍ هذه الليلة سيِّدي. لقد نجحتُ أخيرًا.»
«الإشارات البحرية؟»
«تمامًا كما قلتُ في برقيَّتي، وأحضرتُها لك بحذافيرها، المُلوِّحة، والشفرة الضوئية، والإبراق اللاسلكي بطريقة ماركوني — لكن، نسخة فقط، وليس الأصل. لقد كان هذا خطيرًا جدًّا، ولكنها ما تتوقَّعه بالضبط، ويُمكنك المُراهَنة على ذلك.» ضرب الرجلَ الألمانيَّ على كتِفِه بطريقةٍ فظَّةٍ خاليةٍ من اللِّياقة نفَّرتِ الرَّجُلَ منه.
قال فون بورك: «تفضَّل بالدُّخول، إنني بمُفردي تمامًا في المنزل. وما كنتُ أنتظر سوى هذه. وبالطبع فإنَّ الحصول على نُسخة أفضلُ من الحصول على الأصل؛ فلو فُقِدَ الأصلُ لكانوا غيَّروا الإشارات برُمَّتها. هل أنتَ واثقٌ تمامًا من أمر هذه النُّسخة؟»
دخل الأيرلندي الأمريكي حُجرةَ المكتب وأخذ يُمدِّد أطرافَه الطويلة وهو جالس على الأريكة. كان رجلًا نحيلًا طويلَ القامة يُناهز عُمرُه الستين، وكان ذا وجهٍ واضح المعالم ولحيةِ تَيسٍ صغيرةٍ أضفتْ عليه الشَّبَهَ العام لرُسوم العمِّ سام الكاريكاتورية التي تُستخدَم رمزًا لأمريكا. كانَ يتدلَّى من جانب فمِه سيجارٌ قد دُخِّن نِصفُه وبلَّلَه الماء، فأوقد عودَ ثِقابٍ وهو جالسٌ وأعاد إشعالَه ثانيةً، وقال وهو ينظر حوله: «أتستعِدُّ للرحيل؟» ثم أردف قائلًا، عندما وقعتْ عيناه على الخزينة التي لمْ تعُدِ السِّتارة تحجبها: «ما هذا يا سيدي؟! لا تُخْبرني أنك تحتفِظ بأوراقك في هذه. أتفعل هذا؟»
«ولِمَ لا؟»
«يا إلهي، أفي شيءٍ غريبٍ سهل الفتْح مثل هذا! وهم يَعُدُّونك جاسوسًا؟! كيف هذا؟! إنَّ أيَّ لصٍّ حقير لَيَستطيع الولوج إليها بفتَّاحة عُلَب. لو كنتُ أعلم أنَّ أيًّا من خطاباتي كان سيُترَك غيرَ مُؤمَّنٍ في شيءٍ مثل هذا لكنتُ مُغفَّلًا إذنْ إن كتبتُ لك من الأساس.»
أجابَه فون بورك قائلًا: «إنَّ مُحاولةَ كسْر هذه الخزينة سوف تُرْبِك أيَّ لص، إنك لن تستطيع قطْع هذا المعدِن بأي وسيلة.»
«لكن، والقُفل؟»
«لا، إنه قُفل توافُقي مُزدوَج. أتعرِف ما معنى هذا؟»
قال الأمريكي: «ليس لديَّ أدنى فكرة.»
«حسنٌ، إنك تحتاج إلى كلمةٍ مُعينة ومجموعة من الأرقام كي تتمكَّن من فتح القُفل.» ونهَض من مكانه وأشار إلى قُرصٍ ذي إطارَين دائريَّين حول ثُقب المِفتاح، وقال: «هذا الإطار الخارجي من أجل الحروف، والداخلي من أجل الأرقام.»
«حسنٌ، حسنٌ، هذا جيد.»
«إذن، فحقيقة الأمر ليستْ بالسهولة التي كنتَ تظنُّها. لقد صنعتُ هذه الخزينة منذ أربع سنوات، وماذا تُراني اخترتُ من أجل الكلمة والأرقام السرية؟»
«هذا أصعبُ من أن أُدرِكه.»
«حسنٌ، لقد اخترتُ أغسطس لأجل الكلمة، و١٩١٤ من أجل الأرقام، وها نحن أولاء قد أدركْنا هذا التاريخ.»
بدتْ على وجه الأمريكي علاماتُ الدهشة والإعجاب.
قال: «يا إلهي! كان هذا عبقريًّا! لقد فعلتَها ببراعةٍ بالِغة.»
«نعم، لمْ تكن سوى قِلَّةٍ منَّا فقط تستطيع تخمين هذا التاريخ في تلك اللَّحظة بالتحديد. لكن، ها هو قد أتى، وأنا سأوقِف العمل غدًا صباحًا.»
«حسنٌ، أظنُّ أنَّه سيتوجَّب عليك أن تجِد لي حلًّا أنا الآخَر؛ فلن أمكثَ في هذا البلد اللعين وحيدًا تمامًا هكذا؛ ففي غضون أسبوعٍ أو أقلَّ، فيما أرى، ستثُور ثائرةُ الإنجليز ويُكشِّرون عن أنياب غضبِهم، وأنا أُفضِّل أن أشاهِدَهم من الجهة الأخرى للبحر.»
«ولكنك مواطن أمريكي. أليس كذلك؟»
«حسنٌ، لقد كان جاك جيمس مواطنًا أمريكيًّا هو الآخَر، ولكنَّه برغم هذا يقضي مُدَّته في سجن بورتلاند. لن يتأثَّر شرطيٌّ بريطاني عندما تقول له إنك مُواطن أمريكي، وإنما سيقول لك: «إنَّه القانون والنظام الإنجليزي ها هنا.» وبالمُناسبة يا سيدي، وعلى ذِكر جاك جيمس، يبدو لي أنَّك لا تبذُل الكثيرَ لحماية رجالك.»
قال فون بورك بحِدَّة: «ماذا تقصد؟»
«حسنٌ، إنهم يعملون لدَيك. أليس كذلك؟ ومسئوليتك أن تتأكَّد أنَّهم لا يَسقُطون، ولكنهم يَسقُطون بالفعل. ومتى أنقذتَ أيًّا منهم من قبلُ؟ ها هو ذا جيمس …»
«لقد كانتْ غلطة جيمس، وأنت نفسك تعرِف هذا؛ لقد كان مُتشبِّثًا جدًّا بتلك المهمَّة.»
«كان جيمس مُغفَّلًا — أُقِرُّ لك بهذا. ثم سقطَ بعده هاليس.»
«كان الرجل قد أصابَه الخَبَل.»
«حسنٌ، لقد كان مُشوَّش الذِّهن قليلًا قبل اعتقالِه. وإنه لجديرٌ بدفْع الرجل إلى الجنون أنْ يكون مُضطرًّا لأداء مُهمَّةٍ من الصباح إلى المساء بين ما لا يُحصَى من الرجال المُستعدِّين جميعِهم لفَضْح أمرِه أمام الشرطة. لكن الآن ها هو ذا شتاينر …»
انتفَض فون بورك من مكانِه بعنفٍ، وتحوَّل وَجهُه المُتورِّد اللون إلى الشحوب قليلًا.
«ماذا حدَث لشتاينر؟»
«حسنٌ، لقد ألْقَوا القبضَ عليه، هذا كلُّ ما في الأمر. لقد شنُّوا غارةً على مَتجرِه بالأمس، وهو وكلُّ أوراقه الآن في سجن بورتسموث، وستُغادِر أنت بينما سيَبقَى عليه هو، ذلك المسكين، أن يَتحمَّل عنك المسئولية، وسيكون محظوظًا لو نجا بحياته؛ ولهذا أُرِيد أن أُبحِر بعيدًا عن هنا بِمُجرَّد أن تفعل أنت.»
كان فون بورك رَجُلًا قويًّا قادرًا على السيطرة على انفعالاته، لكن كان من السهل مُلاحَظة أنَّ الأخبار قد صدَمَتْه.
راح يُتمتِم: «كيف أَمكنَهم اكتشافُ أمر شتاينر؟ هذه أسوأُ مُصيبةٍ حدثتْ حتى الآن.»
«حسنٌ، قد يكون لدَيك مُصيبة أسوأ؛ فأنا أعتقِد أنهم ليسوا بعيدين عنِّي.»
«هل أنت جادٌّ فيما تقول؟»
«بكل تأكيد؛ فلقد خضعتْ مديرةُ الفندق الذي أُقيمُ فيه على طريق منطقة فراتن السكنية لبعض التحقيقات، وعندما سمعتُ بهذا أدركتُ أنَّه قد حان الوقت كي أُسرِع بالرحيل من هنا. ولكن ما أُريد أن أعرِفَه يا سيدي، هو كيف يعرِفُ رجال الشرطة هذه الأشياء؟ فشتاينر هو خامس رجل تَفقِده منذ تعاقدتُ على العمل معك، وأنا أعرف اسمَ السادس في حال لمْ أُسرِع في التصرُّف. كيف تُبرِّر ما يحدُث، ثم ألَا تَشعُر بالخِزي وأنت تَرَى رجالَك يتساقَطون بهذه الطريقة؟»
اصطبغ وجهُ فون بورك بحُمْرة قانية، وقال: «كيف تَجرؤ على الكلام بهذه الطريقة؟»
«لو لمْ أكن جريئًا على فِعل الأمور يا سيدي، لما كنتُ جديرًا بخِدمتك، ولكني سأُخبِرُك مُباشرةً بما يَجُول في خاطري. لقد سمعتُ أنه عندما ينتهي عميلٌ من مُهمَّتِه عند ساسَتِك الألمان فإنكم لا تَشعُرون بالأَسَى عندما تَرَونه يُقتَل.»
انتفَض فون بورك على قدَمَيه، وقال: «أتَجسُر على التلميح بأنَّني أُفَرِّط في عُملائي؟»
«لمْ أكن لأسمحَ لنفسي بهذا يا سيدي، لكنَّ ثَمَّةَ جاسوسًا أو خِيانة تحدُث في مكانٍ ما، ومن واجِبِك أنْ تكتشِفَها. وعلى أيِّ حالٍ فأنا لن أُخاطِر أكثر من هذا، ولن يُناسِبَني إلَّا هولندا الجميلة، وكلَّما أسرعت كان ذلك أفضل.»
كبح فون بورك غضَبَه، وقال: «إنَّ مُدَّة تحالُفنا أطول بكثيرٍ من أن نتشاجَر الآنَ ونحن في ذُروة انتِصارنا. لقد قُمتَ بعملٍ رائع وخاطرتَ كثيرًا، ولا أستطيع نِسيان هذا، تستطيع بالتأكيد أن تُسافِر لهولندا، ويُمكنك أن تُبحِرَ من مدينة روتردام إلى نيويورك، فلن يكون هناك وسيلة نقلٍ آمِنة أخرى بعد أسبوع من الآن. سآخُذُ هذا الكتاب وأضَعُه في الحقيبة مع البقية.»
أمْسَكَ الأمريكي الطرْدَ الصغيرَ في يده، ولكنَّه لمْ يُبدِ أيَّ استعدادٍ لتسلِيمِه، وتساءل قائلًا: «ماذا عن المُقابل؟»
«ماذا؟»
«الرشوة، المُكافأة، الخمسمائة جُنيه. لقد صار نائبُ الضابط بذيئًا جدًّا في المرَّات الأخيرة، واضْطُررْتُ إلى رشوته بمائة دولار أخرى، وإلَّا كانت الأمور تعقَّدتْ عليَّ وعليك. لقد قال لي: «لن أفعل هذا!» وكان جادًّا فيما يقول إلى أبعد الحدود، لكن الدولارات المائة الأخيرة أنجزَت المهمَّة. لقد كلَّفني الأمرُ مائتَي جُنيه منذ بدايته وحتى تمامِه؛ لذا فلن أُسلِّمَه على الأرجح قبل أن أحصل على المال.»
تبسَّم فون بورك ابتسامةً بها شيء من المرارة، وقال: «يبدو أنَّ ثِقتَك في نَزاهَتي ليستْ كبيرة؛ إنَّك تُريد المال قبل أن تُعطيَني الكتاب.»
«حسنٌ يا سيدي، إنه عمل.»
«حسنٌ، لك ما طلبت.» وجلس أمام المِنضدة وكتب شيكًا مَصرفيًّا بسرعة، ثم قطَعَه من دفتر الشيكات، لكنَّه أحجَمَ عن تسليمه لرفيقه، وقال: «ولكن، يا سيِّد أولتمنت، ما دامتْ علاقتنا ستكون على هذا النحو، فلستُ أدْرِي لِمَ ينبغي عليَّ أن أثِقَ بك أكثر مِمَّا تَثِقُ بي؟» ثم قال وهو ينظُر من فوق كتِفه للأمريكي الذي خلفه: «هل تفهم ما أرمي إليه؟ ها هو ذا الشيك فوق المِنضدة، وأنا أُطالِب بحقِّي في فحص هذا الطَّرْد قبل أن تأخُذَ المال.»
ناوَلَه الأمريكي إيَّاه دون أن ينطِقَ بكلمة، وأخذَ فون بورك يَحُلُّ من على الطَّرْد خيطًا مُلتفًّا وغلافَين ورقيَّين، ثم جلس بُرهةً يُحدِّق في كتابٍ أزرقَ صغير أمامَه وقد استولى عليه الصمت والذهول. كان مكتوبًا على الغلاف بأحرفٍ ذهبية «دليل عَملي لتربية النحل». لمْ تطُلِ النظرةُ الساخِطةُ التي ألقاها الجاسوس الخبير على هذه الكتابة الغريبة التي لا تمُتُّ بصِلةٍ لما تَوقَّعه لأكثر من لحظةٍ واحدة. أمَّا في اللحظة التي تلتْها فقد أمسكَتْ مُؤخَّرَ عنقِه قبضةٌ من حديد، ووُضِعتْ أمام وجهه الذي يتلوَّى من الألم إسفنجةٌ مُشبَّعةٌ بمُخدِّر الكلوروفورم.
قال السيد شيرلوك هولمز وهو يَمدُّ يدَه بزجاجة نبيذ التوكاي الفخم: «كأسًا أخرى يا واطسون!»
فدفع السائقُ الضخمُ الجِسمِ الذي كان جالسًا بقُرب المِنضدة كأسَه للأمام في شيءٍ من اللهفة.
وقال: «إنه نبيذ جيد يا هولمز.»
«إنه نبيذ رائع يا واطسون. لقد أكَّد لي صاحبُنا المُستلقِي على الأريكة أنَّه من قَبْو خمور الإمبراطور فرانز جوزيف المُميَّز بقصر شينبرون. لكن أستأذِنك أن تفتح النافذة؛ إنَّ غاز الكلوروفورم يفسد حاسَّة التذوُّق.»
كانت الخزينةُ مفتوحةً قليلًا، وكان هولمز يُخرِج منها ملفًّا تِلْوَ الآخَر وهو واقفٌ أمامَها فيتفحَّصه سريعًا ثم يَضَعُه بطريقةٍ منظَّمة في حقيبة فون بورك. وكان الألماني يَغطُّ في النوم فوق الأريكة وقد طُوِّقَ عَضُداه بشريطٍ جِلديٍّ وطُوِّقتْ قدَماه بشريطٍ آخَر.
«لسنا في عجلةٍ من أمْرِنا يا واطسون؛ فلن يُعكِّرَ صفوَنا شيء. هلَّا تضربُ الجرس من فضلك؟ فلا أحدَ في المنزل غيرُ العجوز مارثا، التي أدَّتْ دَورَها بطريقةٍ تستحقُّ الإعجاب. لقد أتيتُ بها للعمل هنا في بداية اضطلاعي بالمهمَّة. آه يا مارثا، سيُسعِدك أنْ تعلَمِي أن كلَّ شيء قد أصبح على ما يُرام.»
ظهرَت السيدة العجوز اللطيفة عند مَدخل الحُجرة، وانحنَتِ احترامًا للسيد هولمز وهي تبتسِم، ولكنها رمقَتِ الشخصَ المُلقَى على الأريكة بشيءٍ من القلق.
«لا بأس يا مارثا، لمْ يَتعرَّض للأذى على الإطلاق.»
«أنا سعيدة بهذا يا سيد هولمز. لقد كان في عيْنَيْ نفسه سيدًا صالحًا، وقد أرادَ منِّي أنْ أذهب مع زوجته إلى ألمانيا بالأمس، ولكن لمْ يكن هذا ليُناسِب خُططَك. أليس كذلك يا سيدي؟»
«بلى يا مارثا، بكل تأكيد؛ فلقد كنتُ أشعُر بالاطمئنان طِيلة وجودك هنا. لقد طال انتظارُنا قليلًا لإشارتك الليلة.»
«كان هذا بسبب السكرتير يا سيدي.»
«أعرف هذا؛ فقد مرَّتْ سيارتُه بجوار سيارتنا.»
«لقد ظننتُ أنَّه ما كان سيُغادِرُ مُطلقًا، وكنتُ أعرف يا سيدي أنَّه لم يكن يُناسِب خططك أن تَجِدَه هنا.»
«لم يكن ليُناسبني بالفعل. حسنٌ، فما تسبَّبَ هذا في أكثر من أنَّنا انتظَرنا مُدةَ نصف ساعة تقريبًا حتى رأيتُ ضوءَ مِصباحك وهو يَنطفئ وعلمتُ أنَّ المكان قد أصبح آمِنًا. تَستطيعين إخباري بما لدَيكِ غدًا في لندن يا مارثا، في فندق كليردج.»
«طوْعَ أمرك يا سيدي.»
«أعتقِد أنكِ أعددتِ كلَّ ما يلزم للرَّحيل.»
«نعم يا سيدي، لقد أرسلَ سبعة خطاباتٍ اليوم بالبريد، وعندي عناوينها كالمُعتاد.»
«جيد جدًّا يا مارثا، سوف أُلْقِي عليها نظرة في الغد. تُصبِحين على خير.» وعندما توارتِ السيدة العجوز تابعَ هولمز قائلًا: «هذه الأوراق ليستْ بالِغةَ الأهمية؛ لأنَّ المعلومات التي بها قد أُرسلتْ بالطبع إلى الحكومة الألمانية منذ مُدَّة طويلة. هذه هي الأوراق الأصلية التي ما كانتْ لتخرُج بطريقةٍ آمِنة خارج الدولة.»
«إذن، فليس لها أهمية.»
«ينبغي ألَّا يصِل بي الغُلوُّ إلى قولِ شيءٍ كهذا يا واطسون؛ فعلى الأقلِّ سيعرِف رجالُنا من خلالها ما الذي انكشَفَ للعدوِّ من معلومات وما الذي لم ينكشِف بعدُ. أستطيع القولَ إنَّ عددًا لا بأس به من هذه الأوراق قد جاءهم من خلالي، ولستُ في حاجةٍ لأُضيف أيضًا أنَّها بكامِلها غير صحيحة، وسوف يُضفي البهجةَ على سنوات عمري الأخيرة أن أرى سفينةً حربية ألمانية تجتاز مَضيقَ سولنت استنادًا للخرائط المُفخَّخة التي زوَّدْتُهم بها، لكنك يا واطسون، (وتوقَّف هولمز عن العمل وأمسكَ بكَتِف صديقِه القديم) إنَّني لم أعرِف عنك الكثير بعدُ، ماذا فعلتْ بك الأيام؟ إنك ما تزال تحتفِظ بمظهر الطفل المَرِح كسابق عهدك.»
«أنا أشعُر أنَّني أصغَر بعشرين سنةً يا هولمز؛ فقليلًا ما شعرتُ بهذا القدْر من السعادة الذي شعرتُ به عندما تسلَّمتُ برقِيَّتَك التي تدعوني فيها لمُقابلتك بالسيارة في مدينة هاريدج. لكنك يا هولمز قد تَغيَّرتَ بصورةٍ طفيفة جدًّا — باستثناء لِحية التَّيس الرَّهيبة هذه.»
قال هولمز، وهو يُداعِب خُصلة شعره الصغيرة: «هذه هي التَّضحيات التي يَبذُلُها المرء من أجل وطنه يا واطسون، لن يزيد الأمرُ في مُقبل الأيام على كونه ذِكرى كريهة، ولا شكَّ أنَّني عندما أحْلِق شعري وأقوم ببعض التغييرات الظاهرية الأُخرى فسأظْهَر من جديد في فندق كليردج في الغد كما كنتُ قبل هذه اللعبة الأمريكية — أستميحك عُذرًا يا واطسون، يبدو أن مَنْهَل لُغتي قد تدنَّس بصورةٍ دائمة — أقصد قبل أن تُتاح لي مهمَّة الجاسوس الأمريكي هذه.»
«ولكنَّك كُنتَ قد تقاعدتَ يا هولمز، وسمِعْنا أنَّك كنتَ تحيا حياة النُّسَّاك بين نَحْلِك وكُتُبك في مزرعةٍ صغيرة فوق سلسلة تلال ذا ساوث داونز.»
«بالضبط يا واطسون، وها هي ذي ثمرة راحتي المُترَفة، رائعتي الفنية في السنوات الأخيرة!» وتناوَلَ المُجلَّدَ من على المِنضدة وقرأ العنوان كاملًا بصوتٍ مَسموع، «دليل عملي لتربية النحل، مع بعض المُلاحظات حول عُزلة الملِكة»، «وحدي أنا فعلتُها، فانظُر إلى ثمرة ليالي التأمُّل وأيام الكدِّ عندما كنتُ أُراقِب الجماعات العامِلة الصغيرة مِثلما كنتُ أراقب عالَمَ المُجرمين في لندن من قبل.»
«لكنْ كيفَ عُدتَ للعمل مرة أخرى؟»
«آه! لطالما اندهشتُ أنا نفسي من الأمر، فلو كان وزير الخارجية وحدَه لاستطعتُ الصمودَ أمام طلبه، ولكن عندما تكرَّم رئيسُ الوزراء هو الآخَر بزيارة بيتي المُتواضِع …! الحقيقة يا واطسون هي أنَّ هذا الرجل الذي فوق الأريكة كان مُفيدًا جدًّا لشعبِنا؛ لمْ يكن يُضاهِيه أحد، لقد كانت الأمور تسُوءُ من قبل، ولمْ يعلمْ أحدٌ لِمَ كانتْ تسُوء، وكان يُشتَبَه في العُملاء السِّرِّيِّين أو حتى يُقبَضُ عليهم، ولكن كان هناك شواهد على وجود قوَّة مركزية قوية ومُتخفِّية. وكان ضروريًّا حتمًا أن يُكشفَ أمرُ هذه القوة، وقد تعرَّضتُ لضغطٍ كبير كي أتولَّى التحقيق في هذه القضية. لقد كلَّفتْني هذه المهمةُ سنتَين يا واطسون، ولكنهما لم تَكونا خاليتَين من الإثارة؛ فعندما أقول لك إنني بدأتُ رحلتي من شيكاجو، ثم تخرَّجتُ في جمعية سِرِّيَّة أيرلندية في مدينة بافالو، ثم تسبَّبتُ في متاعبَ خطيرة لهيئة الشُّرطة بمدينة سكيبرين، ثم أخيرًا، وبسبب هذا كله جَذبتُ انتباهَ أحدِ عُملاء فون بورك الثانويِّين، والذي زكَّاني بدَوْرِه عند فون بورك على أنَّني رجلٌ مُناسِب للعمل معهم، ستُدرِك أنَّ الأمر كان مُعقَّدًا. أصبحتُ منذ ذلك الحين مَوضِعَ ثقةِ الرجل، وهو أمر لم يمْنَع مُعظم خُططه من أن تفشلَ بطريقةٍ غامضة ولم يمنع خمسةً من أفضل عُملائه من أن يُزجَّ بهم في السجن؛ لقد كنتُ أراقِبهم يا واطسون، ثم أحصُدهم عندما يَنضجون للحصاد. حسنٌ يا سيدي، آمُلُ ألَّا تكون أكثرَهم سُوءًا!»
هذا التعليق الأخير كان مُوجَّهًا لفون بورك نفسه، الذي راح يستمع إلى كلام هولمز في هدوء وهو مُتَّكئ على الأريكة بعد كثيرٍ من الأنفاس اللاهِثة وكثيرٍ من الطَّرف بعينَيه. ولكنَّه عندما استمع لهذا الكلام انفجَرَ في سيلٍ غاضبٍ من الشتائم بلُغتِه الألمانية، ووجهُه يتشنَّج من شدَّة انفعاله، ولكنَّ هولمز أكمل فحْصَه السريع للمُستندات بينما كان أسيرُه يُواصِل اللَّعن والسباب.
وعندما صمتَ فون بورك نتيجةً للإعياء الشديد قال هولمز: «برغم أنَّ الألمانيةَ لغةٌ غير موسيقية، فهي الأكثر قُدرةً على التعبير بين جميع اللُّغات.» ثم أضاف بعد أن نظر بإمعان إلى حافَةِ ورقةٍ شفَّافة وقبل أن يضَعَها في الحقيبة: «مرحى! مرحى! يجدُر بهذه أن تضَع طيرًا آخَر في القفص؛ لمْ أكن أعرف أن الصرَّاف وَغْدٌ هكذا، رغم أنَّني ظللتُ أراقِبه مُدةً طويلة. لقد تسببتَ في قدرٍ هائل من المتاعِب يا سيد فون بورك.»
رفع الأسيرُ جِسمَه على الأريكة بشيء من المَشقَّة وهو يُحدِّق في مُعتقِلِه بمزيجٍ غريبٍ من الدهشةِ والكراهية، وقال بتثاقُل: «سوف أنتقِمُ منك يا أولتمنت، لو كلَّفني الأمرُ حياتي كلَّها، سوف أنتقِم منك!»
قال هولمز: «الأغنية القديمة الحلوة، كم مرَّة سمعتها في غابِر الأيام! لقد كانت الأنشودة المُفضَّلة عند البروفيسور الراحل موريارتي، وكان الكولونيل سباستيان موران يُحِبُّ الدندَنة بها كذلك، ولكنِّي ما زلتُ حيًّا برغم هذا، وأُربِّي النحل على تِلال ذا ساوث داونز.»
فصرَخ الألماني وهو يُحاول التملُّص من قيوده والرغبة في القتل تُطِلُّ من عينَيه الغاضبتَين: «سُحقًا لك أيها الخائن المزدوج!»
قال هولمز وهو يبتسم: «لا، لا، ليس الأمر بهذا السُّوء؛ فمن المؤكَّد أنَّه تبيَّن لك من كلامي أنَّه لا وجود في الحقيقة للسيد أولتمنت ابن مدينة شيكاجو. لقد استخدمتُه ولكنَّه اختفى.»
«من أنت إذن؟»
«صدِّقني ليس مُهمًّا مَن أنا، ولكن بما أنَّه يبدو أنَّ الأمر يُثير اهتمامَك يا سيد فون بورك، فإنني أستطيع أن أقول لك إنَّ هذا ليس أول عهدي بأفراد عائلتك. لقد قمتُ بقدْرٍ لا بأس به من المهام في ألمانيا فيما مضى، وربَّما يكونُ اسمي مألوفًا لديك.»
قال الرجل البروسي بصرامة: «أتمنَّى لو أعرفه.»
«لقد كنتُ أنا من تسبَّب في الانفصال بين آيرين وملك منطقة بوهيميا عندما كان عمُّك هاينريك هو المبعوث المَلَكي، وكنتُ أنا أيضًا من أَنقَذ خَالَك الأكبر الكونت فون أند زو كرافينشتاين من الموت على يد كلوبمان عضو الحركة العدَمية، وكنتُ أنا …»
فاعتدل فون بورك جالسًا وقد استولتْ عليه الدهشة، وصاح قائلًا: «ليس هناك غير رجلٍ واحد.»
قال هولمز: «بالضبط.»
أخذَ فون بورك يتأوَّه ثم هوى من جديد على الأريكة، وصاح قائلًا: «ومُعظَم هذه المعلومات التي جاءتْ من خلالك، ما قِيمتُها؟ ما الذي فعلتُه؟! لقد قُضي عليَّ إلى الأبد!»
قال هولمز: «إنَّها بالطبع غير صحيحة نوعًا ما، وستحتاج إلى بعض الفحْص، ولمْ يَعُد وقتُك يتَّسِع للتأكُّد من صحتها، وربَّما سيَجِد قائد بَحريَّتكم أنَّ الأسلحة الجديدة أكبر قليلًا مِمَّا يتوقَّع، أو ربما وَجَدَ السُّفن الحربية أسرع نوعًا ما.»
أطبقَ فون بورك على حلقِه في يأس.
«هناك الكثير من التفاصيل الأخرى التي سوف تتكشَّف، بلا شك، في الوقت المُناسب. لكنك تتمتَّع بميزةٍ نادرًا جدًّا ما تتوافَر في أيِّ ألماني يا سيد فون بورك؛ أنت رجل ذو رُوح رياضية، ولن تُكِنَّ لي أيَّ ضَغينةٍ عندما تُدرِك أنَّك أنتَ نفسَك قد خُدعتَ أخيرًا وأنتَ الذي خَدعْتَ الكثيرين. وبرغم كلِّ شيء، فقد بذلتَ وُسعَك من أجل بلدك، وأنا بذلتُ وسعي من أجل بلدي، ولا أرى أنَّ هناك ما هو طبيعيٌّ أكثر من هذا. أليس كذلك؟» ثم تابع هولمز كلامَه بنبرةٍ لمْ تخرَج عن إطار الرِّفق وهو يضَعُ يدَه على كتِف الرجل الخائر القوى: «وعلاوةً على ذلك، فإنَّ هذا أفضل من أن تقَعَ في يدَيْ خَصمٍ غير شريف. هذه الأوراق جاهزة الآن يا واطسون. وإذا سمحتَ بمُساعَدَتي على حمل أسيرِنا هذا فأظن أننا سنستطيع بَدء رحلتنا إلى لندن في الحال.»
لمْ يكن نقْل فون بورك من مكانه بالمهمَّة السهلة؛ فقد كان رَجُلًا قويًّا ومتهوِّرًا، لكن في نهاية الأمر، أمسك الصديقان بذراعيه وقاداه ببطءٍ شديدٍ عبر ممشى الحديقة التي كان يسير فوقها منذ ساعاتٍ قليلة فقط بثقةٍ وفخرٍ كبيرين وهو يَستقبِل التَّهاني من الدبلوماسي الشهير. وبعد مُقاومةٍ ضعيفة أخيرة رُفع، وهو ما يزال مُكبَّلَ اليدَين والقدمَين، إلى الكرسي الإضافي في السيارة الصغيرة. وحُشرتْ حقيبته الثمينة بجواره.
قال هولمز بعد الانتهاء من التجهيزات الأخيرة: «أنا متأكِّد أنك مرتاح بالقدْر الذي تسمح به الظروف للراحة. هل سأُتَّهم بتجاوُز حدود اللياقة إذا أشعلتُ سيجارًا ووضعتُه بين شَفتَيك؟»
لكنَّ كلَّ المُجاملات ضُيِّعت سُدًى على الألماني الغاضب، وراح يقول: «أظنُّك تُدرِك يا سيد شيرلوك هولمز أنَّه لو كانتْ حكومتك تُؤيِّدك في تَصرُّفك هذا فسيُعَدُّ ذلك عُدوانًا حربيًّا.»
قال هولمز وهو ينقُر على الحقيبة: «وماذا عن حكومتك أنت وهذا التصرُّف كله؟»
«إنك شخصٌ عاديٌّ، وليس لدَيك صلاحية لاعتِقالي. إن هذا العمل بكامله مُتجاوِزٌ للحدود وغير قانوني قطعًا.»
قال هولمز: «أؤيِّدك تمامًا.»
«اختِطاف أحد الرَّعايا الألمان.»
«وسرقة مُستنداته الخاصة.»
«حسنٌ، أنت تُدركُ موقِفَك، أنتَ وشريكك هذا، ولو صرختُ لطلَب النَّجِدة ونحن نمرُّ في القرية …»
«يا عزيزي، لو أنك فعلتَ أيَّ شيءٍ بهذه الحماقة فمن المُمكن أن تتسبَّبَ في زيادة عدد اللافتات المحدودة في قريتنا، والتي لا تُوجَد إلَّا على فُندقَين فقط، بحيث تُضاف لافتةٌ جديدةٌ تحمل اسم «البروسي المَشنوق». إنَّ الرَّجُلَ الإنجليزيَّ رجلٌ صبور، لكنَّ مِزاجَه في الوقت الراهن هائجٌ قليلًا، ويُستحسَن ألَّا تُبالغَ في اختبار مدى صبره. كلَّا يا سيد فون بورك، سوف تأتي معنا بطريقةٍ هادئةٍ مُتَّزِنة إلى شرطة سكوتلانديارد، حيثُ يُمكنك أن تُرسِل إلى صديقك، البارون فون هيرلينج، وترى إنْ كان ما يزال بوسعك — رغم ما حدَث — أن تُدرك المكانَ الذي حَجزَه لك بين حاشيةِ السُّفراء. أمَّا بالنسبة إليك يا واطسون، فإنك، كما أرى، قادمٌ معنا للِّحاقِ بعملِك السابق، فلن تكون لندن بعيدةً عن طريقك. قِف معي هنا فوق الشُّرفة؛ فقد يكون هذا هو آخِر حديثٍ هادئٍ يُمكننا أن نَحظى به.»
تحدَّثَ الصديقان معًا حديثًا حميميًّا لبضع دقائق تذاكرا فيها أيامَ الماضي مرةً أخرى، بينما كان أسيرُهُما يتلوَّى دون جدوى كيما يَحُلَّ القيودَ التي تشلُّ حركته، وعندما كانا عائدين إلى السيارة أشار هولمز إلى البحر الذي يُضيئه نورُ القمر، وهزَّ رأسه المُتأمِّل وكأنَّما الْتَمعتْ فيه فِكرةٌ ما، وقال: «هناك ريحٌ قادِمة من الشَّرق يا واطسون.»
«لا أظنُّ ذلك يا هولمز؛ إنَّ الجوَّ دافئ جدًّا.»
«واطسون، أيُّها العجوز الطيب! إنك النقطة الوحيدة الثابتة في دَهْرٍ مُتغيِّر. هناك ريحٌ قادمة من الشرق برغم ما تقول، ريحٌ لمْ يَهُبَّ مِثلُها على إنجلترا من قبلُ قطُّ. ستكون ريحًا صَرصرًا عنيفةً يا واطسون، وقد يَذوِي كثيرون مِنَّا أمامَ عصْفِها. لكنها برغم ذلك ريحُ الربِّ، وعندما تسكن العاصفةُ سوف تنعمُ بضوء الشمس أرضٌ أفضلُ من هذه وأكثرُ نقاءً وقوة. أدِر سيارتك يا واطسون؛ فقد حان وقتُ رحيلنا. ومعي شيكٌ بخمسمائة جنيه يَنبغي أن يُصرَف مُبكِّرًا؛ فالرجل الذي حرَّره يستطيع أن يُوقِفه لو أنَّه أُتيح له ذلك.»