قبل أن تتوقف عن القراءة
خلال الفترة التي كنت أقوم فيها بإعداد الطبعة الأولى من هذا الكتاب، تمكنت من رؤية أكثر من عشرين فيلمًا مصريًّا، وفوجئت أن نصف هذه الأفلام، تقريبًا، مقتبسٌ بصورةٍ أو بأخرى، وفي مقدمة القائمة المنشورة مع الكتاب أشرنا إلى أن هذه القائمة تتسع يومًا وراء يوم، وكانت تضم مصادر ١٨٠ فيلمًا، وبعد أربعة أعوام من نشر الكتاب وجدت نفسي أمام كل هذه القائمة المنشورة مع الطبعة الرابعة، بعد أن أصابتني وسوسة من أجل اكتشاف المزيد من المصادر الأجنبية للأفلام المصرية، الجديدة أو القديمة على حدٍّ سواء، فاتساع هذه القائمة المنشورة يكشف إلى أي حدٍّ شُغفت السينما المصرية باقتباس حواديت أفلامها من مصادر متنوعة من كافة أنحاء العالم.
(١) لماذا يفعلون ذلك؟
لا نريد أن نُدين الإبداع الأدبي في مصر، وهو الملهم في الأفلام غير المقتبسة عن نصوصٍ أجنبية، فالأدب المصري قد قطع شوطًا كبيرًا، وخاصة إبداع الأدباء الشباب، قياسًا إلى ما قدمه المخرجون الشباب في السينما، الذين بدوا شغوفين بالاقتباس مثل ما فعلت كل الأجيال السابقة عليهم. حتى الأدب الذي اتجه إليه هؤلاء المخرجون الشباب، فهو أدب يعتمد على الحدوتة المبهرة ويغازل اهتمامات هذه السينما بدوره، ويهتم بأن يغذي هذه السينما بحواديت متكررة.
وفي السنوات الأخيرة تقلصت علاقة هؤلاء السينمائيين بالأدب، بشكلٍ واضح، وبقيت نفس العلاقة الأزلية مع النصوص الأجنبية، رغم أن الإبداع الأدبي في مصر يمكنه أن يصنع كمًّا متميزًا من الأفلام تعيد إلينا سنوات الازدهار في الخمسينيات والستينيات.
قبل أن تتوقف عن قراءة هذا الكتاب، إذا كنت قد قرأته بالفعل، فإننا نشير إلى أنه إذا كانت هناك، يومًا ما، طبعة جديدة، (الطبعة الأولى عام ١٩٨٦م)، سوف تكون القائمة مضاعفة. وليس هذا نوعًا من النظرة التشاؤمية، بل هذا هو الواقع، ولا أعتقد أنني يمكن أن أشاهد طبعاتٍ جديدة، فقد اقتربْتُ من السبعين، والْتَهَمَ السكري الكثير من جسدي وبصري.
إذن فلن أنتظر طبعةً جديدة من هذا الكتاب، كي أرى إلى أي حدٍّ تضخمت ظاهرة الاقتباس في السينما المصرية. وبالنظر إلى القائمة الموجودة في الصفحات الأخيرة من الكتاب، فسوف نتأكد أن الظاهرة لم تتضخم بل استفحلت أكثر مما كنت أتخيل، وكما نرى فإنه رغم أنوفنا فالمسيرة سوف تستمر.
(٢) خارج السياق
في الهاتف وبكل غضبٍ سبَّني المخرج بأمي ووضع السماعة، دون أن يجيب على سؤالي حول مصادر أفلامه، وقام كاتب سيناريو بسبِّ الدين لأهلي عندما وجدني مصرًّا أنه اقتبس فيلمًا أمريكيًّا وحوَّله إلى أربعة أفلامٍ مصرية، وقال عني مخرج كبير راحل إنني «طلَّعت السينمائيين المصريين حرامية أفلام.» وتحملت من أجل مشروعي الكبير الذي لم أتوقف في البحث عنه يومًا، أن أتعرف على مصادر قصص الأفلام التي نراها، وقد وصل بي الهاجس في أحد المؤتمرات أنني قلت للمخرج القادم من إحدى الدول المنشقة عن الاتحاد السوفييتي أن فيلمه مأخوذ من فيلمٍ بريطاني عن رواية لنابوكوف، فضحك بخبث.
خارج السياق هو عنوان المقدمة اليوم لهذا الكتاب الأغرب في كل المكتبة السينمائية في العالم، وأنا الذي وصل بي الهوس إلى أنني اكتشفت أصول أفلامٍ لا يمكن لأحدٍ أن يتصور أنها غير مصرية، إنه الأمر الذي يجعلني أدقق في موضوع الفيلم قبل أن أصل إلى مصدره، ومدى التشابه أو التطابق بين الفيلم، وعمل آخر عالمي؛ سواء نص أدبي أو مسرحي أو سينمائي، قبل تسجيل الاسم في القائمة، بدافع الحماية للنص المقارن قبل إلقاء التهمة عليه أنه مأخوذٌ من نصٍّ آخر. لكن المشكلة كانت كبيرة، فقد اكتشفت أن مَن كتبوا أغلب الأفلام المصرية هم أكبر أصحاب الاقتباسات أو السرقات، كما تشاء لك التسمية، وأنهم نقلوا الاقتباس بين المسرح والسينما والدراما الإذاعية والتلفزيونية، ونقلوا هذه الظاهرة معهم إلى السينما في سوريا ولبنان وتركيا عندما عملوا هناك، حيث صار الأمر الطبيعي والمألوف ألا يكتب المؤلف اسم المصدر، حتى يأتي مَن يعرف ويصرخ في الهواء. كان هناك تشويه متعمد لدى البعض أن يكتب، كنوعٍ من التفضل، اسم مصدر مختلف تمامًا ليس له علاقة بالبيانات التي على الفيلم، يعني يكتب أي اسم، وفي زمن الويكيبيديا والجوجل عليك أن تبحث، وسوف تجد هذه الأسماء. لقد جاء زمن لم يتوقعه الكتَّاب، ففي صفحة كل فيلم تجد الأصول مذكورة، وساعدنا هذا الأمر في بحثنا، وعليك أن تقرأ قائمة الأفلام المصرية فقط في نهاية الكتاب، وتمنيت كثيرًا أن أستكمل القائمة بالأفلام التي اقتبسوها للسينما في البلاد المذكورة.
الغريب أنني في بداية حياتي بالقاهرة، كدت أن أصبح واحدًا من المنضمين إلى ورش كتَّاب سيناريو مشهورين، وطلب مني أحدهم أن ألخص له قصص أفلام من مجلاتٍ فرنسية تحكي موضوعات الأفلام بشكلٍ تفصيلي، ولكنني لم أكن أعرف الظاهرة وأتيت له بفيلمٍ كوميدي لم ينتبه إليه أحد، وما لبث أن أخبرني أن الفيلم المقتبس عن نفس المصدر سيُعرض خلال أسابيع في دور العرض، وهرعت بلا عودة إلى هذا النوع من العمل الذي كان ينتظرني.
في الويكيبيديا، ومن خلال مواقع الأفلام بالاشتراك الشهري، رحت أبحث عن قصص أفلام شبيهة لبعض أفلامنا، أو العكس، وفي الفترة الأخيرة أقمت معسكرًا طوال ساعات الليل والنهار للمشاهدة، وقابلت العجب العجاب، الأمر لا يقتصر على كتَّاب السيناريو، بل يصل إلى رواياتٍ شهيرة لأدباء نعرفهم، وهو يمس تواريخهم التي لا نعرفها، ومن هنا تأتي الصدمة، وكنت قد عرفت يومًا أن رواية «ملك الحديد» للفرنسي جورج أونيه تم تحويلها ٤ مرات، منها مرة عن قصة لأستاذٍ كبير اعتاد أن ينهل من النصوص العالمية دون أن يذكر ذلك.
إنه أمرٌ خارج السياق فعلًا.
مَن يمنحني القوة لدخول تلك المغارات؟
القراءة والمشاهدة بلا توقف.