السينما المصرية بين التأثير والتأثر
لا أعتقد بأي حالٍ أن الاقتباس شيءٌ مشينٌ، فقد أشرنا أن الاقتباس منتشرٌ في مختلف أنحاء العالم، وأن الظاهرة لم تتقلص يومًا، بل إنها في نشاطٍ دائم ما دام هناك اتصال متبادَل، في اتجاهٍ واحد، أو اتجاهات مختلفة بين السينمائيين والكتَّاب.
وهناك أسباب عديدة يمكن أن تؤدي بالسينما إلى الاقتباس بهذه الشراهة التي حدثت في السينما المصرية، منها بالطبع الانفتاح على ثقافات الدول الأخرى، ويكاد يكون الأمر واضحًا في كل السينما العالمية، فالمخرجون السينمائيون ليسوا منعزلين عن أدب وسينما الدول الغربية، وقد بدأ هذا الاتصال قبل صناعة السينما، وحتى المؤلفين الشباب الذين يعملون حاليًّا في السينما.
ومن هذه الأسباب أيضًا أن السينما المصرية في ربع القرن الأول من عمرها لم تجد أمامها أدبًا مصريًّا تقدمه إلا في أضيق الحدود؛ لذا التهمت الأفلام والروايات الأجنبية تمصيرًا واقتباسًا، وكان لديها العذر في تلك الفترة لقلة الأعمال الأدبية المصرية والعربية، ولم تقصر السينما المصرية — فيما بعد — في إخراج الأدب المصري سينمائيًّا، خاصةً أن هذه السينما يندر فيها المخرج المؤلف؛ بمعنى أن يكون هناك مخرج يؤلف أفلامه التي تحمل رؤيته الخاصة مثل ما يحدث في شتى أنحاء العالم. وإذا كان يوسف شاهين ويسري نصر الله قد مثَّلا استثناءً خاصًّا من هذه القاعدة في الأعوام الأخيرة، فإنهما مقلان في أعمالهما.
تعد الحركة الأدبية الإبداعية في مصر أقل نشاطًا قياسًا إلى التدفق السينمائي حتى بداية العَقد الحالي، وعليه يمكن أن تعتذر السينما المصرية في التجائها إلى الاقتباس، فقد فعلت السينما المصرية ما عليها في نقل أغلب الإبداع الأدبي للشاشة، فوجدت نفسها مع بداية الثمانينيات قد صورت أغلب ما كُتِبَ في الأدب المصري إلى السينما، أو ما يمكن نقله إلى الشاشة، خاصة الآداب التي تتضمن عنصر الحدوتة السينمائية، ولكن السينما المصرية قد أهملت روايات لها أهميتها، وكما فشل السينمائيون العالميون في نقل أعمالٍ أدبية لها أهميتها، فشل السينمائيون المصريون في نقل «سارة» للعقاد، و«هكذا خُلِقَت» لمحمد حسين هيكل، و«مِلِّيم الأكبر» لعادل كامل وغيرها. والغريب أنه في نفس السنوات التي تدفقت فيها الروايات العربية إلى الشاشة، تدفقت موجات الاقتباس من شتى أنحاء العالم، خاصةً إبان الستينيات ثم السبعينيات والثمانينيات، فانتقلت أغلب روايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس والسباعي ويوسف إدريس إلى الشاشة فضلًا عن أسماءٍ أخرى عديدة من أجيالٍ متعاقبة.
ومن أسباب لجوء السينما المصرية إلى الاقتباس هو الاستفادة من نجاح أفلامٍ ما بعينها في شتى أنحاء العالم، حيث إنها تحتوي على عناصر جذب يمكن نقلها إلى الأجواء المصرية، وسوف نرى أن أغلب الأفلام التي تم تمصيرها على مدى عمر السينما هي أفلام لقيت نجاحًا سواء عند عرضها في بلادها، أو في عرضها العالمي. وبالطبع عندما عرضت في مصر، وسوف نرى أن كتَّاب السينما المصرية قد تفننوا في البحث عن النصوص داخل دفاتر السينما العالمية القديمة والحديثة، ثم في الروايات الأدبية العالمية التي تضم عنصر الاقتباس، وبحث المخرجون في الدفاتر المتهالكة التي نسيها المتفرج المصري والعالمي.
ولو تصفحت حكايات الأفلام التي كتبها كتَّاب السيناريو مثل: فيصل ندا، ومحمد مصطفى سامي، وياسين إسماعيل ياسين، وبسيوني عثمان، فسوف تشم عبق الأجواء الغربية، وقد تتمكن من معرفة مصدر أو أكثر، لكن مهما بلغت فروسيتك فلن تصل إلى معرفة أسماء مصادر كل الأفلام، ولكن مع مرور الزمن، وعن طريق البحث أو المصادفة، سوف تكتشف أغلب هذه المصادر.
ولقد تأثرت السينما بشكلٍ واضح بكل التيارات السينمائية التي حولها، وهي تأخذ من هذه التيارات البسيط منها، والذي يمكن تحويله إلى فيلمٍ يدرُّ نجاحًا تجاريًّا، وهي تبلور حكايات هذه الأفلام وتحيلها إلى هياكل هي في أغلب الأحيان خالية من الحياة. وسوف نرى أن السينما المصرية قد أخذت من مصادر بعينها؛ لأنها رأت فيها منبعًا لا يجدب تعجب المتفرج المصري السريع النسيان.
فإبان انتشار الميلودراما والفواجع اتجهت السينما إلى الكتب الفرنسية المليئة بهذه الحكايات، وعندما نجحت موجات السينما الاستعراضية والكوميديا الموسيقية في السينما الأمريكية، تحولت أغلب الأفلام المصرية إلى استعراضاتٍ تتباين جودتها، وأصبحت الرقصات مضاعفًا مشتركًا أصغر.
وبعد ذلك انتقلت موجة السينما التاريخية في الستينيات، ثم موجة أفلام العملاء السريين، وفي السبعينيات بدأت تبحث في الأفلام القديمة، ولم نرَ السينما المصرية تحاول أن تقتبس عملًا أدبيًّا عالميًّا تجريبيًّا، كما بدت منعزلة تمامًا عن كل الاتجاهات التجريبية الأوروبية، حتى جماعة السينما الجديدة مهتمة بالحدوتة في المقام الأول. وقد رأينا كيف تحول أبناء هذه الجماعة إلى أسرى لسينما الحواديت المبهرة، ورغم ذلك فقد شهدت السينما بعض المحاولات الجادة التي تسعى إلى كسر حدة الشكل المتعارف عليه في مصر، مثل «مومياء» شادي عبد السلام، و«اختيار» يوسف شاهين، ثم «عصفوره»، و«عودة الابن الضال»، و«إسكندرية ليه»، و«حدوتة مصرية»، ولكن كل هذه المحاولات لا تزال غريبة على المتفرج المصري الذي لم يتقبلها بسهولة.
وإذا كان تأثر السينما المصرية واضحًا بالحركات السينمائية العالمية التي تلقى نجاحًا تجاريًّا، فلا يمكن أن نتجاهل ما يسمى بالأفلام السياسية التي وجدت طريقها إلى الشاشة المصرية، تأثرًا بمثيلتها في إيطاليا وفرنسا في الستينيات، مما دفع السينمائيين المصريين إلى الاستفادة منها في صناعة أفلام تمالئ الحاكم تارة، أو تناقش وضعية سياسية معاصرة، ففي منتصف السبعينيات انتشرت ظاهرة ١٥ مايو، فظهرت عشرات الأفلام التي تندد بما يسمى بمراكز القوى، واصطلح نقادنا على تسميتها بسينما سياسية. أما «على مَن نطلق الرصاص» لكمال الشيخ فكان من ضمن الأفلام السياسية التي تناقش وضعية اجتماعية تدور في حين عرض الفيلم. وأغلب السينما السياسية يهتم بمناقشة القضايا المعاصرة لتاريخ تصوير الفيلم؛ لأن الحديث عن سياسة في الماضي هو نوع من التاريخ مهما كانت الإسقاطات، وقد يلجأ الفنان إلى هذا في حالة وجود صعوبات رقابية، مثل تلك التي واجهها السينمائيون الذين تعرضوا لسلبيات الانفتاح وكامب ديفيد في أفلامهم.
كما تأثرت السينما المصرية أيضًا بنظام النجومية في العالم، فكان عليها أن تبرز نجومها مثل ما تفعل شركات هوليود، ولا بد أن يكون هناك الشبيه المصري للنجم الأمريكي، فبدر لاما أشبه بفالنتينو، وإسماعيل ياسين أقرب إلى فرناندل، وأنور وجدي صورة قريبة من تايرون باور، والشحات مبروك أقرب إلى سلفتر ستالوني. ثم حاولت صنع طراز من المطربين والراقصين والاستعراضيين بديلًا عن المطرب الذي يغني أمام الميكروفون. ثم قدمت فيروز على غرار شيرلي تمبل، وقد تفوقت الطفلة المصرية في أفلامها القليلة بمراحل كثيرة عن زميلتها الأمريكية، ويعلم الله أي مصيرٍ كان يمكن أن يلحق بها لو ظهرت في السينما الهوليودية.
كما سعت في فترةٍ من الفترات إلى نقل بعض أجزاء سينما الغرب إلى السينما المصرية؛ مثل ما حدث في «فيفا زلاطا»، وسار أحدهم وراء أسطورة الكونت دراكيولا المصري كي يكشف عن وضعيةٍ اجتماعية مصرية، وخلا الفيلم من أجواء الإثارة والتخويف، وامتلأ بمرارةٍ ممزوجة بالكوميديا، فلم يعجب المتفرج. ومن الأمثلة الواضحة في التأثر بالسينما الهوليودية ظهور أفلام من طراز «رضا بوند»، و«العميل ٧٧»، و«الجاسوس»، وكلها حاولت الاستفادة من نجاح موجة أفلام جيمس بوند.
وسعت السينما المصرية إلى الاستفادة — أيضًا — من النجاحات التي حققتها بعض الأفلام الهندية التي صُورت أجزاء منها خارج الهند، فهاجرت الكاميرا المصرية خلال السبعينيات والثمانينيات إلى بعض دول العالم مثل: أستراليا والولايات المتحدة وأوروبا، فصورت الأماكن السياحية في هذه البلاد، التي بدت منفصلة تمامًا عن حدوتة الفيلم، عدا أفلامٍ قليلة من طراز «الصعود إلى الهاوية».
ومن بين التأثيرات التي حدثت، استعانة شركات الإنتاج المصرية — خاصة شركة فلمنتاج — ببعض العاملين في الحقل السينمائي العالمي من مخرجين وممثلين، للعمل في أفلام مصرية الإنتاج مثل: فريتز كرامب وأندرو مارتون. كما اتجهت السينما المصرية إلى الاشتراك في إنتاج بعض الأفلام الإيطالية مثل «كريم ابن الشيخ» و«ابن كليوباترا» و«أبو الهول الزجاجي» وغيرها.
وهي كلها أفلام تدور في إطارٍ تاريخي باهت، وتحاول تصوير مصر على أنها بلد الأهرامات وأبي الهول والمعابد الأثرية، كما أن قيمتها الفنية لا تُذكر، وقد فشلت كل هذه الأفلام فنيًّا وتجاريًّا، سواء داخل مصر أو إيطاليا، ولم يحدث أن أُنتج فيلم يتمتع بقيمةٍ فنية تُذكر، أو حتى يتناول الوجود الحضاري لمصر بصورته الواقعية.
وتتعدد أشكال التأثر في السينما المصرية بالموجات العالمية مثل ظاهرة الإعادة — كما ذكرنا — ثم ظهور الثنائيات. وظاهرة الإعادة موجودة بشكل واضح في السينما الأمريكية منذ عصر السينما الناطقة، فسعت أولًا إلى إعادة أشهر أفلامها ناطقة في أول الأمر، ثم ملونة ثانية، ثم في إنتاج أضخم، ووُجدت هذه الظاهرة في السينما المصرية منذ نشأتها، لكنها أصبحت ظاهرة ملحوظة في السبعينيات والثمانينيات، فقد تخصصت نجلاء فتحي في إعادة الأفلام التي قدمتها من قبل فاتن حمامة مثل: «بين الأطلال» و«أيامنا الحلوة». وتمت إعادة أفلام مثل: «الطريق» و«اللص والكلاب» و«سمارة». ومن الملاحظ أن الأفلام المعادة الإنتاج في السينما كان أغلبها نُسخًا باهتة قياسًا إلى الأصل. ولم يكن الحال بأفضل بالنسبة للأفلام المعاد إنتاجها في مصر. ومثل هذا الاتجاه يوضح إلى أي مدى أفلست السينما العالمية في العثور على نصوصٍ جديدة مناسبة تجذب الجمهور، فاعتمدت على إعادة نصوصها القديمة. وقد دفع هذا بالسينما الأمريكية أن تنتج أفلامًا تكمل بعضها، وهي ظاهرة لم تنتشر كثيرًا — حتى الآن — في السينما المصرية، وقد ظهرت بوادرها الأولى في نهاية الخمسينيات مع «سمارة» و«عفريت سمارة»، وفي الثمانينيات مع «الانتقام لرجب» بعد «رجب فوق صفيح ساخن». وبعد فيلم «عفوًا أيها القانون» هناك «التحدي» لإيناس الدغيدي. وفي التسعينيات هناك «بخيت وعديلة ٢»، و«هالو أمريكا» الذي جرى إعداده وقت الطبعة الثالثة من هذا الكتاب. وقد انتشرت هذه الظاهرة فيما بعد ومن أشهر أفلامها ثلاثية «عمر وسلمى».
وإذا كانت السينما العالمية قد أثرت في بعضها البعض، فإننا سوف نرى أن السينما المصرية قد تأثرت في المقام الأول؛ بمعنى أنها قد أخذت فقط، ولم تؤثر في أي حركةٍ سينمائية عالمية، مثلما أثرت السينما الإيطالية أو الفرنسية أو الأمريكية كلٌّ منها في الأخرى. وحركة التأثير الوحيدة التي يمكن إدراجها بالنسبة للسينما المصرية هي مدى تأثيرها في المنطقة المحدودة المجاورة لها. والغريب أن السينما لا تزال في بدايتها في هذه الدول، وهناك بلاد عربية لم تظهر فيها أي صناعة سينما حتى الآن.
ولأننا بصدد اختيار جانب واحد من جوانب السينما المقارنة، وهو الاقتباس أو التمصير، فقد وجدنا أن الكتابة حول هذا الموضوع تشكل أمرًا بالغ التعقيد؛ لأن الحصول على المعلومات يتطلب مشاهدة كل الأفلام المصرية تقريبًا، ومشاهدة الكثير من المصادر المتنوعة التي أخذت عنها هذه الأفلام المقتبسة، سواء كانت أفلامًا أو نصوصًا من الأدب العالمي العظيم، فهناك أفلام مأخوذة مباشرة من الأدب العالمي الأقل أهمية وشهرة؛ يتضح المثال الأول في روايات دوستويفسكي التي عالجها حسام الدين مصطفى، أما المثال الثاني فمنه رواية «شجرة اللبلاب» لكاتبةٍ تُدعى ماري ستيوارت التي استمدتها السينما المصرية في فيلم «الزائرة» لبركات.
ويحتار الباحث وهو يسعى لاختيار منهج البحث في تناول موضوع المصادر الأجنبية للسينما المصرية، فهل نتابع هذه المصادر منذ نشأة السينما المصرية وحتى اليوم، وذلك من خلال المتابعة التاريخية؟ أو نتناول اتجاه الاقتباس لدى مخرجين اشتهروا بالعمل في أفلام مقتبسة مثل: حسن الإمام، وهنري بركات، وحلمي رفلة، وسمير سيف، وتيسير عبود، وبيتر ميمي؟ لقد وجدنا أن الطريقة التاريخية يعيبها أن الناقد مهما بلغت لديه كمية المراجع، وهي نادرة جدًّا في هذا المضمار، فإنه سيواجَه بالعديد من أمور التعتيم، وسوف يصعب الرجوع إلى كل الأفلام التي تم اقتباسها وإيجاد مصادرها الأساسية أو بعض المراجع حولها، وبالتالي فإن الجدول لن يكون كاملًا بالمرة إلا بعد سنواتٍ طويلة لا تنتهي من البحث. كما أن البلد المقتبس عنه الفيلم يشكل عائقًا؛ بمعنى أننا سنكتب مرةً فرنسا وأمريكا و…
أما الكتابة عن المخرجين الذين اشتهروا بالاقتباس، فمن الصعب تناولهم؛ لأن معظم المخرجين — إن لم يكن الجميع — قد اقتبسوا أفلامهم في مراحل متباينة من حياتهم، كما أن بعضًا ممن اشتهروا بالاقتباس ابتعدوا لفترةٍ طويلة عنه، وبعضهم عاد إليه، وانفسخ الآخر عنه تمامًا مثل ما حدث مع يوسف شاهين.
وعليه فإننا سنتناول موضوع الاقتباس من الناحية الجغرافية؛ أي من خلال بلد المصدر المأخوذ عنه الفيلم، وسوف نجد أن هناك سماتٍ مشتركةً في هذا التناول، فعن السينما الأمريكية، دون الأدب، اقتبست السينما المصرية وخاصة في السنوات الأخيرة، وعن الأدب الفرنسي أكثر من السينما الفرنسية استمدت السينما في بلادنا مصادرها، وعن الرواية والأدب الإنجليزي والروسي والألماني استمدت نفس السينما حكاياتها، وهذا ما سنتناوله في فصول الكتاب القادمة.
وإذا كنا نرى أن بعض الأفلام المصرية هي في الأصل أفلام «أجنبية» ناطقة باللغة العربية، ويمثلها فنانون عرب ويخرجها عرب، فإن القارئ سوف يلاحظ أننا لم ندخل في حساباتنا الأفلام غير المصرية الإنتاج مثل: «فندق السعادة» و«الأستاذ أيوب» و«الزائرة»، وهي إنتاج لبناني. وسوف نحاول إيجاد علاقة التوازن بين النص السينمائي العربي والمصدر الأجنبي في الفصول القادمة. ومن المهم الرجوع إلى القائمة المنشورة في نهاية الكتاب الذي بين يديك، فهي حصيلة أكثر من أربعين عامًا من البحث المتواصل الممزوج بالقراءة والمشاهدة، وهي لن تكتمل أبدًا.