المصادر الأمريكية في السينما المصرية
السينما الأمريكية هي الأم الرءوم للسينما في مصر.
إذن، فالهدف الأول هو البحث عن الحدوتة التي لا بد من فبركتها في أغلب الأحيان؛ كي يمكن للمقتبس أن يضع اسمه على الأفيشات كمؤلفٍ، وهو مرتاح البال والضمير أنه قام بعملية التأليف المطلوبة.
وإذا كانت السينما الأمريكية نفسها حين تقوم بإنتاج روايات مقتبسة أو مأخوذة عن أدبٍ غير أمريكي، فإنها تحرص على أن تدور بيئة هذه الآداب في منابعها الأصلية مثل ما فعلت مع الأدب الفرنسي والروسي والألماني والإيطالي، فإن السينما المصرية تقوم بنقل كل البيئات إلى بيئتها هي … وهي بذلك كمَن يضع طاقية الفلاح بدلًا من قبعة الخواجة، فتجيء صورته في الغالب ممسوخة مثيرة للسخرية.
قلنا إن السينما المصرية لم تأخذ عن الأدب الأمريكي مباشرة، لكن إذا كانت هناك علاقة بين السينما المصرية والأدب الأمريكي فهي علاقة غير مباشرة، بمعنى أن المقتبس ينظر إلى النص الأدبي من خلال تناوله سينمائيًّا، والأمثلة على ذلك واضحة؛ فأجواء فيلم «عيون لا تنام» لرأفت الميهي أقرب إلى الفيلم الذي أخرجه دلبرت مان، وقام ببطولته أنطوني بيركينز وصوفيا لورين عام ١٩٦٠م، عن أجواء مسرحية «رغبة تحت شجرة الدردار» ليوجين أونيل. وإذا كان رأفت الميهي قد نقل عالمه إلى ورشةٍ في منطقة بولاق أبو العلا وسط مدينة القاهرة، فإن كاتب السيناريو عبد الحي أديب قد ذهب بأبطاله إلى أجواء الصعيد ليقدم نفس الحدوتة في فيلم «فتوة الجبل».
ويقول سامي السلاموني في مجلة الإذاعة والتليفزيون تحت عنوان: «عجايب يا زمن … فعلًا» (١٢ / ١١ / ١٩٧٤م): «إن الفيلم المصري لا يلتقط من الفيلم الأمريكي — وبعد عشرين سنة كاملة — إلا الخيط الميلودرامي الذي استهلكته السينما المصرية في عشرات الأفلام؛ الابن الذي يبحث عن أمه، وفي النصف الأول من الفيلم يعاني حسن يوسف نفس الأزمة التي عاناها رشدي أباظة في فيلم «الطريق» عن رواية نجيب محفوظ، عندما كان يبحث عن أبيه المجهول، ولكن «عجائب يا زمن» يركز كثيرًا على خيطٍ واحد من القصة الأمريكية، وهو تفضيل الأب يحيى شاهين لابنه صلاح قابيل على ابنه الآخر حسن يوسف كنوعٍ من الانتقام من أمه الراقصة هند رستم، ولكن بينما يبدو كل شيء مدروسًا ومنطقيًّا في العلاقة المركبة بين هذه الشخصيات الثلاث، والتي تتراوح بين الحب والكراهية، فإن تسطيح هذه العلاقة في الفيلم المصري يحول موقف الأب من ابنه الأصغر إلى مجرد كراهية عنيفة مبالغ فيها، وقائمة على الضرب أحيانًا، بينما يضطرب الخيط الرئيسي الثاني تمامًا وهو علاقة الفتاة ميرفت أمين بالأخ الأكبر صلاح قابيل، الذي يطمع في الزواج منها، بينما تهجره فجأة لأنها تحب حسن يوسف، ويضيع تمامًا ملمح حيرة عواطفها تجاه هذا الأخ، كما قدمها إيليا كازان، والتي تتراوح بحساسيةٍ فائقة بين حبها الكامن له، وخوفها من جنونه وتمرده كما جسَّده العبقري جيمس دين الذي لا يمكن أن يتكرر.»
وقد أخرجت السينما المصرية نفس الرواية مرةً ثانية بعد ذلك بعامين تحت عنوان «ليل ورغبة» ليحيى العلمي، بدا بعيدًا أيضًا عن رواية شتاينبك وقريبًا من فيلم كازان. الغريب أن السينما المصرية لم تُعِر لأدب شتاينبك أي اهتمام، رغم أن روايته «عناقيد الغضب» يمكنها أن تتحول إلى موضوعٍ يدور في دنيا عمال التراحيل، لكن يبدو أن هذا الفيلم لم يصل إلى المهتمين بالواقعية بعد، فالرواية مترجمة إلى اللغة العربية ترجمة كاملة في أكثر من طبعة.
ولأن السينما المصرية لا تهتم في الكثير من الأحوال بتعميق الصراع الذي يدور في عالمٍ متشابك، فإن هذه العلاقات جاءت مسطحة عند ماجدة، التي نقلت أجواء الحرب الأهلية التي دارت في الفيلم الأمريكي إلى زمن وباء الكوليرا الذي اجتاح مصر عام ١٩٤٧م، ثم قيام ثورة يوليو، والعدوان الثلاثي عام ١٩٥٦م.
يهمنا أن نقول إن السينما المصرية تناولت كل النوعيات والألوان الدرامية المعروفة، من الكوميديا الموسيقية، إلى الفيلم البوليسي والتاريخي والاجتماعي، وفيلم المغامرات، وأفلام الغرب الأمريكي، وسوف نحاول التركيز على العلاقة بين كلٍّ من هذه الألوان وبين الفيلم المصري والأمريكي، مع الرجوع إلى النماذج الواضحة في كلٍّ منهما.
ذكرنا أن السينما المصرية تأثرت بموجة الأفلام الموسيقية والاستعراضية التي انتشرت في السينما الأمريكية، ابتداء من منتصف الثلاثينيات وارتفعت نسبتها في الأربعينيات والخمسينيات، ثم انحصرت بشكلٍ ملحوظ وبدأت تأخذ أنماطًا تختلف عن سابقتها. وإذا كانت موجة السينما الاستعراضية قد انتقلت تأثيراتها إلى السينما المصرية، حيث شهدت نفس مراحل الصعود والهبوط التي شهدتها السينما الأمريكية.
إلا أن أبرز مثالين نود أن نسوقهما هنا عن فيلمين تم إنتاجهما في النصف الأول من الستينيات:
أما فيلم «حب أحلى من حب» لحلمي رفلة ١٩٧٥م المأخوذ عن الفيلم الثاني، فقد قام أيضًا بتجريد حدوتة «صوت الموسيقى» من كل عناصر الإبهار … الخلفية الجميلة التي صُوِّرَ فيها فيلم وايز في ربوع جبال النمسا، والأغاني الشجية التي شَدَت بها جولي أندروز ومجموعة الأطفال، فضلًا عن التصوير المجسم والسِّينِراما، وخفة ظل المربية والأطفال.
وتتناول حدوتة «صوت الموسيقى» معاناة ماريا الراهبة الشابة التي تعشق الطبيعة، ولا تميل أن تظل حبيسة في الدير، فيوصي مجلس الراهبات بإرسالها إلى منزل الكابتن فون تراب، لتتولى رعاية أبنائه السبعة الذين لم تتحملهم أي مربية من قبل، وتنجح «ماريا» فيما فشلت فيه الأخريات، وتغير من أسلوب حياة الأطفال المتبايني الأعمار، فتشع البهجة في المنزل، وتتحول الأسرة كلها إلى أشهر فرقة غنائية في النمسا، وتقترب ماريا وجدانيًّا من الكابتن الذي ينفصل عن خطيبته ليتزوج منها، ثم يواجه بعد ذلك بعض المتاعب مع السلطات النازية.
وعائلة «فون تراب» معروفة في تاريخ النمسا الحديث، وقد أنتجت السينما الأمريكية فيلمًا عن هذه العائلة عام ١٩٥٨م، قبل فيلم وايز. لكن شتان بين عالَمٍ رائع شاهدناه في الفيلم الأمريكي، ومثيله الممسوخ في الفيلم المصري.
فرفعت «محمود ياسين» يطلب لأسرته مربية من إحدى الجمعيات الخيرية كي تتولى رعاية أبنائه الخمسة الذين تعاملوا مع مربيتهم السابقة بشقاوة، وتتمكن ليلى (نجلاء فتحي) من ترويضهم وتحويلهم إلى صفها، ويشعر رفعت أن ليلى أقرب إلى الأم بالنسبة للأطفال، فيتزوجها بعد أن يهجر خطيبته الأرستقراطية. ويقول مجدي فهمي عن الفيلم بمجلة الشبكة (٣ أكتوبر ١٩٧٥م): «إن المقارنة بين الفيلمين كالمقارنة بين فندق «والدورف أستوريا» في أمريكا، وفندق «الكلوب الحسيني» في القاهرة، أو لعلها موجودة بصدقٍ في العبارة التي تقول: شتان ما بين الثريا والثرى، ففيلم وايز غني بأبطاله، غني بمناظره الساحرة المصورة في أجمل مواقع النمسا، غني بألحانه. أما عزيزنا «حب أحلى من حب» فهو مثل الفتاة الفقيرة المتواضعة التي تشترك مع أرملة كيندي وأوناسيس من بعيد في اسم جاكلين وحده.»
ومن الواضح أن الفيلم قد اهتم بعلاقة الحب التي هي أحلى من الحب، «وأغفل تمامًا البعد السياسي الذي وضعه وايز — حتى عند الحديث عن تفاصيل الحدوتة — ولا مانع أن يؤكد على حبٍّ آخر بين الابنة الكبرى وبين شابٍّ أخطأت معه … وقد حاول رفلة مزج الأغنية بفيلمه حين جعل الأطفال يتحركون في صورة أشبه بالدميات التي تغني في الحديقة، وبحث عمن يضيف إلى الفيلم بهجةً، فأضاف شخصيات أخرى مثل السائق والطباخ والخادمة، بينما جاءت الضحكات في فيلم وايز من الأطفال أنفسهم. وتحول الساعي الذي يحب الابنة الكبرى إلى بلطجي حاول أن يغرر بها. وقد ركز الفيلم على تطور العلاقة بين رفعت وليلى بأسلوبٍ غير مباشر.»
هذا الفيلم تم اقتباسه منذ فترةٍ قصيرة تحت عنوان «الدادة دودي» إخراج علي إدريس ٢٠٠٨م، ولكن الاقتباس لم يكن كاملًا، وتم استلهام روح النص فقط لتقوم اللصة التي صارت خادمة بتبني أبناء وبنات ضابط شرطة لا يزال في الخدمة.
وفي فيلم بيرسون نرى حكاية المطرب المشهور جون هوارد والمطربة الناشئة إستر هوفمان، يدعوها إلى بيته، يردد: «لم أكتب اسم امرأة من قبل على جدراني»، يتعمد أن يقدمها كمطربةٍ في حفلٍ عام، وتنجح في تقديم أغنيات رقيقة. تطلب منه أن يقلع عن الخمر. تتألم كأنثى وهي تراه نائمًا مع إحدى الصحفيات في سريرها. تقول له وهي تطرده: «يمكنك أن تفسد حياتك ولكنك لا يمكن أن تفسد حياتي» ويتصالحان، ثم يموت في حادث سيارة. تقول محدِّثةً شريط التسجيل وهو يغني إحدى أغنياته العاطفية: «أنت كاذب ثرثار أناني، لأنك وعدتني أنك لن تموت.»
وفي الفيلم الذي أخرجه جورج كيوكر، فإن المخرج الذي ارتبط بفنانة مشهورة، أصبحت نجمة مشهورة، يجد نفسه يعيش في الظل بعد أن أدمن الخمر، وكان ذلك سببًا في عزوف شركات الإنتاج عن التعامل معه، وكان الظل ثقيلًا عليه، وبدا نجاح زوجته ثقيلًا أيضًا على وجوده في الظل، فاختار أن يهرب من كل هذه المعاناة وينتحر. وهو في هذا الفيلم، جيمس ماسون، رجلٌ ناضج، لم يخن زوجته يومًا، ولم تضبط في سريره امرأة أخرى. أما هيوارد في فيلم بيرسون فهو مُنتشٍ بحب امرأةٍ له، وحب النساء المعجبات، فهو يلجأ إلى النساء وليس إلى الانتحار، بعد أن انحسرت الأضواء عنه كي تتجه إلى زوجته.
إذا كان لا يُشترط أن تتحول الأفلام الغنائية أو الاستعراضية إلى أفلامٍ ممصرة موسيقية، فإنه لا يمكن تحويل فيلم كوميدي إلى فيلمٍ تراجيدي مهما اختلفت أساليب المعالجة. وإذا كان شارلي شابلن قد تحول إلى إسماعيل ياسين في بعض الأفلام، وإذا كانت السينما المصرية قد استمدت المفارقات الكوميدية الأمريكية في أول الأمر، فإنها قد اقتبست أفلامًا كوميدية بأكملها دون النظر إلى ظاهرةٍ بعينها، فالعالم شغوف بالكوميديا الأمريكية ومتأثرٌ بها … وقد وجدت هذه الكوميديا نصيب الأسد على شاشات السينما المصرية منذ نشأتها وحتى الآن، وسوف نرى أن السينما المصرية قد شُغفت بالكوميديا القادمة من أنحاءٍ شتى من العالم، سواء في السينما الأمريكية، أو المسرح الفرنسي. وفي الكثير من الأحيان كانت أفلام الكوميديا الأمريكية بمثابة معالجاتٍ سينمائية لمسرحياتٍ عُرضت على خشبة المسرح ما لبثت السينما أن قامت بتقديمها.
يقول أحمد رأفت بهجت في دراسته عن الاقتباس في العدد ١٦ من مجلة الفنون: «كان إسماعيل ياسين بالفعل إنسانًا غلبانًا طحنته دائرة منتجي الحرب في السينما المصرية، واستُغل أبشع استغلال، وكانت النتيجة أن هوى هو والكوميديا إلى الحضيض.»
ورغم ذلك فإن مجموعة الأفلام المقتبسة التي بين أيدينا لإسماعيل ياسين قليلة قياسًا إلى تلك التي أداها نجوم كوميديا آخرون. وإذا كان نجيب الريحاني قد اقتبس مع بديع خيري العديد من المسرحيات الكوميدية الفرنسية، فإن علاقته بالكوميديا الأمريكية غير ملموسة بالمرة. ولعل من أبرز نجوم الكوميديا الذين أعادوا تجسيد شخصيات سبق ظهورها هو عادل إمام، فقد رأيناه يجسد أدوارًا أداها من قبلُ كلٌّ من: روبرت ردفورد، وكلارك جيبل، وإدوارد ج. روبنسون، وجورج سيجال، وروك هدسون، وجاك ليمون، ومايكل كين، وروبرت موريس، وإيدي ميرفي، ويول براينر وآل باتشينو.
وإذا حاولنا أن ندرس ظاهرة عادل إمام في السينما المقتبسة فإننا سنخرج بذلك عن إطار دراستنا؛ لأنها سينما مخرج وكاتب سيناريو، لكن عادلًا عمل في هذه الأفلام مع نيازي مصطفى، وسمير سيف، ومحمد عبد العزيز، وأحمد فؤاد … ولذا سوف نتناول عادل إمام من خلال المخرجين الذين اقتبسوا أفلامًا كوميدية، فلا نخرج كثيرًا عن إطار الدراسة.
ومن أهم الأدوار الأولى التي لعب بطولتها عادل إمام دوره في فيلم «البحث عن فضيحة» ١٩٧٣م لنيازي مصطفى، وهو مأخوذ عن فيلم «دليل الرجل المتزوج» الذي أخرجه جين كيلي عام ١٩٦٧م، وفيه رأينا والتر ماتاو ينصح صديقه الراغب في الزواج بنصائح عديدة، ويروي له قصصًا تتعلق بالزواج، لذا جاء الفيلم الأمريكي مليئًا باسكتشات قصيرة، فنحن أمام صديقين، يسعى أحدهما إلى الزواج من الحسناء منى، ويساعده زميله المهندس في الزواج فيشجعه أن يفعل مثل هذا وألا يكون مثل ذاك، وتصبح القصة ثانوية قياسًا إلى ما نراه من أمثلة … فهناك الرجل الذي يذهب لخطبة امرأة جميلة شاهدها مصادفة فيكون من نصيبه علقة ساخنة على يد زوجها. وآخرُ أوهم والد حبيبته أن هناك خطيئة ما بينهما، وعلى الأب أن يواري الفضيحة. والعائلتان اللتان تتشاجران ليلة حفل الزفاف. والطريف أنه لا يوجد أي تشابهٍ بين الحكايات التي في فيلم نيازي مصطفى والفيلم الأجنبي سوى المصير الذي آل إليه الصديق المستشار.
وقد تعلقت الحكايات التي قدمها جين كيلي كمخرج بالجنس والمشاكل الحسية التي يعاني منها رجل أمريكي متزوج، أما حكايات فيلم نيازي مصطفى فهي حول الرجل الشرقي بشكلٍ عام، المليء بالغيرة، وحب تملك المرأة، وعادات القبائل في الثأر وحضور الأفراح، وشرف البنت الذي يجب أن يلتئم بالزواج، وما إلى ذلك.
وقد قدم محمد عبد العزيز لعادل إمام مجموعة من الأفلام الكوميدية من أشهرها: «عصابة حمادة وتوتو»، «خلي بالك من جيرانك»، «انتخبوا الدكتور سليمان عبد الباسط»، «حنفي الأبهة» … وهي مقتبسة عن مصادر أمريكية.
أما «خلي بالك من جيرانك» فقد قام عادل إمام بدور الزوج الذي يقيم مع زوجته في الدور العلوي، فيواجه مشاكل لعلاقتهما الطيبة بالجيران، وهو نفس الدور الذي أداه روبرت ردفورد في «أقدام حافية في الحديقة» لجين ساكس عام ١٩٦٨م.
ورغم ذلك فليست هناك علاقة بين عنوان الفيلم العربي والفيلم الأمريكي الذي لم نرَ فيه أي اهتمام من الزوجة بالجيران، لكن اهتمام الزوجة بأمها وعريسها العجوز، شارل بواييه، قد دفع الزوج أن ينام في الحديقة العامة القريبة، ويتعرض للبرد والمتاعب.
وقد حاول الفيلم المصري الاستفادة من هذا التضارب، والمستويات الدرامية المتباينة مع كل هؤلاء الأبناء، فحاول العزف على نغمة تحديد النسل رغم أن الزوج هنا (رشدي أباظة) مهندس بترول يقيم في فيلا واسعة يمكنها أن تحتمل كل هذا العدد، كما استفاد من الفيلم الأمريكي في الصراع بين الأطفال في أول الأمر، ثم دفاع أحد أفراد الطرفين عن فتاة الطرف الآخر عندما يشاكسها شابٌّ في الشارع، والشعور بالانتماء إلى سقفٍ واحد حين يفد إليهم شخصٌ جديد يحمل الرقم ١٩، ولن أكون مغاليًا إذا قلت إن الفيلم المصري كان أكثر إضحاكًا من المصدر الأمريكي؛ وذلك لأن يوسف عوف المقتبس قد أجاد — كعادته — صناعة المفارقات الكوميدية بإتقان.
لا يمكن بالطبع نقل أجواء الأولمبياد إلى الفيلم المصري، لكن في الفيلم المصري نرى فريد شوقي الموظف القادم إلى القاهرة، وهو يبحث عن مسكنٍ فيعثر على شقة في حلوان، فيشارك الفتاة (نورا) مسكنها، وفيما بعد يأتي بمهندسٍ التقاه كي يقيم معهما في الشقة، على أن ينام فقط في نفس الساعات التي تغيب فيها الفتاة في عملها … ولا بد أن تحدث قصة حب، ولا بد أن يتخلى العجوز للصغيرين عن الشقة كي يتزوجا. ويمكن رؤية القصة نفسها أكثر من مرةٍ بأسماء «الظريف والشهم والطماع» إخراج نور الدمرداش ١٩٧١م، ثم بعد أربعين عامًا باسم «بيبو وبشير» إخراج مريم أبو عوف.
ولأن الكوميديا مواقف متناقضة، فإن بيلي وايلدر يملأ فيلمه بالمواقف الساخرة التي نراها تتكرر في الأفلام المصرية الثلاثة؛ فيجب أن تذهب الفتاة في النهاية إلى الموظف الصغير، وأن يطلِّق هذا الموظف العزوبية، وأن يعود المدير إلى بيته الذي هجره من أجل نزوةٍ عابرة.
لهذا الفيلم حكاية طريفة مع السينما الأمريكية ذاتها، فقد أعادت هذه السينما إخراجه مرةً أخرى عام ١٩٥٢م بنفس الحدوتة في أول فيلم قام ببطولته جاك ليمون، وكان يحمل نفس الاسم. إلا أنه بعد ذلك بعامين فكر ويليام وايلر في إعادة نفس الحكاية مع تفصيلاتٍ مغايرة في «أجازة رومانية»، فجعل بطلته الأميرة تهرب من قصرها باحثةً عن تجربةٍ عابرة، فتجد نفسها تقضي ليلةً في غرفةٍ ضيقة صغيرة، وفي اليوم التالي تعود إلى قصرها، وتنسى التجربة تمامًا. تومئ للصحفي برأسها امتنانًا عندما يأتي إليها في صباح اليوم التالي مع فوجٍ من الصحفيين. أما علاقة السينما المصرية بهذه الحكاية فقد بدت أكثر طرافة، فقد أخرج أنور وجدي فيلمه «ليلى بنت الأغنياء» عام ١٩٤٤م فيلمًا كبيرًا بالطبع … ويبدو أن حكاية الفيلم الأجنبي كانت مختصرة كثيرًا في رأي صانع الفيلم العربي، فراح يحشو النصف الثاني من الحكاية بالمزيد من الحواديت التي اعتادت عليها السينما المصرية، مثل زوجة الأب التي تطمع في أن تزوج ابنة زوجها من شخصٍ يستغل أموالها أحسن استغلال، وأن يقوم الصحفي بدور النبيل الذي يضحي بمشاعره العاطفية من أجل أن يوفر السعادة لحبيبته، وينجح في أن يجعل الأب ينفصل عن الزوجة الشرسة.
إلا أن عاطف سالم عندما سعى لإخراج «يوم من عمري» عام ١٩٦٢م قد رجع إلى فيلمي كابرا ووايلر معًا، وكان لا بد أن يجعل النهاية سعيدة بين الحبيبين، وألغى تمامًا فكرة الستار الذي وضعته كلوديت كولبرت بينها وبين الصحفي في الفندق؛ وذلك لأن الصحفي كان يسكن في القاهرة، ولديه أكثر من غرفة — وإن كانت ضيقة — مثل ما فعل جريجوري بيك مع الأميرة أودري هيبورن. عندما أخرج عبد المنعم شكري نفس الحدوتة في فيلمٍ ثالث عام ١٩٦٨م، عادة مرةً أخرى إلى فيلم كابرا. وهو نفس الفيلم الذي عاد إليه أحمد فؤاد مع «ليلة شتاء دافئة» لينقله المقتبس باللقطة والكادر دون أن يترك لإلهامه الاختيار في لقطةٍ واحدة. وقد استغرب الكثير من المشاهدين لهذا الفيلم، حين تابعوا فيلم كابرا على شاشة التليفزيون المصري إبان عرض الفيلم المصري على الشاشة.
يتحدث «سنوات المستحيل» عن أسرة أستاذ الجامعة الوقور الذي يواجه العديد من المتاعب مع ابنته الكبرى التي تحب سكرتيرًا يعمل في مكتبه ولا يوافق على أن يتزوجا. ثم هناك ابنته الصغرى التي تتلقن فن الشقاوة على يد أختها الكبرى. بعد أن ينتهي الأب من حل مشاكل الكبرى ويزوجها من حبيبها الموظف الصغير، إذ بابنته الصغرى تدخل المنزل وبرفقتها أحد الشباب الهيبيين. وقد جسد فريد شوقي دور الأب، في فيلم «أنقذوا هذه العائلة» لحسن إبراهيم، المتزمت الذي يعمل من أجل مصلحة ابنته، لكنه يواجه العديد من المواقف المثيرة للإرباك والإضحاك. وكما أن الفيلم الأمريكي يدور داخل منزل أستاذ جامعي فخم به حمام سباحة، ووسائل الراحة العصرية، فإن الفيلم المصري يصور الأسرة البورجوازية التي تعاني من مشاكل الرفاهية في المقام الأول.
ومن بين هذه الأفلام هناك «أخي وصديقي سأقتلك» ﻟ «ياسين إسماعيل ياسين»، الذي تبدو حكايته غريبة أيضًا عن مجتمعنا، فهناك فنان يعاني الكثير من عدم رواج لوحاته، ويقترح عليه صديق له أن يعلن عن انتحاره حتى تصيبه الشهرة ويحدث قبول لأعماله … وبالفعل … إلا أن الفنان يفاجأ أن صديقه استولى على لوحاته وخطيبته استغلالًا لفكرة موته بدلًا من الاستفادة منها. وقد اقتبس المخرج هذا الفيلم عن فيلم يحمل عنوان «فن الحب» قام ببطولته جيمس جارنر عام ١٩٦٥م، وذكرت بعض أفيشات الفيلم أنه مقتبسٌ عن مسرحيةٍ لنيل سايمون، وليس عن الفيلم، رغم أن نص مسرحية سايمون يختلف كثيرًا عن الفيلم الأمريكي. وتجيء عدم مناسبة هذا النص في أنه حسب عرف الفن التشكيلي المصري لا يشهد جنون الشراء على لوحات الفنانين الذين يموتون مثلما يحدث في بلادٍ تُباع فيها لوحة واحدة بخمسين مليون دولار مثلًا.
وللكوميديا نصيب الأسد في قائمة الاقتباس عن المصادر الأمريكية، وقد عمل في هذه الأفلام مخرجون من كل الأجيال؛ مثل فطين عبد الوهاب الذي قدم العديد من أفلامه الكوميدية عن المصادر الأمريكية، من أبرزها: «نصف ساعة زواج»، «إشاعة حب».
وقد تغيرت بعض التفاصيل الدقيقة في الفيلم (إنتاج لبنان عام ١٩٧٤م)، فالزوجة هنا تعمل مذيعة في الإذاعة اللبنانية، وهي تقدم برنامجًا عن المرأة السعيدة التي عليها أن تحتفظ بزوجها، ولكنها تفشل أن تطبق مثل هذه النظريات على بيتها، فتفقده حتى رحيل الفتاة التي جاءت من السويد، ويحاول الزوج العودة إليها بلا جدوى. كما سنجد أن هناك الكثير من التغييرات في الفيلم الذي كتبه يوسف معاطي تحت عنوان «التجربة الدانماركية» عام ٢٠٠٦م.
أما إذا تناولنا الاقتباس عن الأفلام البوليسية، فسوف نجد الأمر يختلف في السينما المصرية، فإذا كانت السينما الأمريكية شغوفة كثيرًا بالأفلام البوليسية، فإن الكثير من السينما البوليسية غير ناجحة على المستوى التجاري الفني في العالم العربي بمثل نجاحها خارجه … خاصة أن الجريمة التي نشاهدها في السينما الأمريكية مصنوعة على الطريقة «اليانكية». وسوف نجد أن أكثر الأفلام البوليسية بعيد تمامًا عن البيئة المصرية، فقليلًا ما تنجح العقدة والحبكة البوليسية في جذب المتفرج المصري؛ فهو لا يميل أن تكون في مجتمعه بنفس الصورة التي تحدث في مجتمعاتٍ أخرى، لذا فيجب أن يكون الخير بيِّنًا والشر بيِّنًا، وإن لم يحدث هذا في الواقع. كما يجب كَسْو بعض المجرمين بسماتٍ إنسانية مثل ما سنرى في فيلمي «المشبوه» و«اللصوص» وأفلام أخرى عديدة … وإن كانت هذه السمة كادت أن تضيع تمامًا في الأفلام التي عُرضت في السنوات الأخيرة، كما سنرى، وخاصة في «الفتى الشرير» لمحمد عبد العزيز، و«الإمبراطور» و«الباشا» وكلاهما من إخراج طارق العريان.
ومن المعروف أن الأفلام البوليسية تأخذ عدة أشكال، فهي في غالبيتها تتضمن وجود ضابط شرطة أو مخبر سري، وإذا ما وجدت هذه الشخصية، فإن هنا جريمةً ما، عليه أن يحقق في أسبابها ودوافعها والبحث عن فاعلها. وفي الولايات المتحدة هناك ما يُسمى بالمفتش الخاص، وهو رجلٌ يعمل لحسابه لمساعدة زبائنه في حل بعض مشاكلهم الغامضة، كأن يبحث لأسرة عن سر اختفاء عائلها، أو عن شخص يهدد أمنها، وعندما يكون في الأمر جريمة قتل فإنه يتحول إلى رجلٍ ثانٍ؛ لأنه ليست لديه صلاحية التحقيق، وإنما هو شخصٌ مصنوع من أجل عملية التحري. وأغلب هذه الأفلام مأخوذة عن رواياتٍ أدبية شعبية لرايموند شاندلر وداشيل هاميت وإيرل ستانلي جاردنر وغيرهم.
أما النوع الآخر فهو حول أفلام تتم فيها المطاردات بين رجال الشرطة والمجرمين، وهي أفلام تعتمد على الحركة، ولكن هناك دائمًا شخصيات بوليسية.
وهذه الأفلام لكثرتها يصعب حصرها أو تقسيمها في الحديث عن السينما المصرية، حيث إنه لا يوجد في العالم العربي مفتش تحرٍّ مثل ما في أمريكا، وبالتالي فعند اقتباس الأفلام عن المفتشين الخصوصيين فإنها تبدو بالفعل وكأنها مستوردة.
أما أفلام المطاردات البوليسية، على اختلاف أنواعها، فقد يتلاءم بعضها مع البيئة العربية، وخاصة أنه مع دخول مصر عصر الانفتاح دخلت إلى المجتمع جرائم غريبة مستوردة، جاءت محمولة مع السلع المستوردة، والأفكار الغريبة عن هذا المجتمع.
وبعد خمسة عشر عامًا من ظهور فيلم نيلسون أقدمت السينما المصرية على إخراج فيلمين عن نفس الفيلم. وسوف نلاحظ ظاهرة غريبة؛ أن السيناريو متقاربٌ جدًّا في الفيلمين العربيين، حتى ليخال لك أن أحدهما مقتبسٌ عن الآخر وليس عن الأصل الأمريكي. ولأهمية هذا النموذج فسوف نتناوله بالتفصيل.
ففي فيلم «المشبوه» لسمير سيف عام ١٩٨١م نرى اللص «ماهر» وهو يسرق إحدى الشقق تطارده الشرطة، وتدور مطاردة عنيفة بين ضابط الشرطة الشاب وبين اللص المحترف الخفيف الحركة، يصر الضابط أن يأتي بفريسته ويحاول اللص النفاذ بجلده، وفي النهاية فإنه يتمكن من الضابط ويهرب بعد أن أصابه في قدمه، وبعد أن تمكن من الاستيلاء على مسدس الضابط، وهذا المشهد غير موجود بالمرة في فيلم نيلسون، وإذا كان ماهر قد تعرف على العاهرة «بطة» أثناء هذا المشهد، فإن الأحداث في الفيلم الأمريكي تبدأ حين يصبح لإيدي فتاة صغيرة في الخامسة من عمرها تقريبًا.
ندرك منذ الوهلة الأولى الدوافع التي تدفع الضابط إلى البحث عن غريمه الذي سرق منه السلاح؛ «الضابط الذي لا يحافظ على سلاحه لا يستحق أن يمارس مهنته»، وتتحول المهمة من البحث عن مجرم هارب إلى قضيةٍ شخصية، فبينما يفتش ماهر عن بطة في الحانات، يبحث الضابط في أقسام الشرطة وسط المشهورين بسوابق الإجرام، وينجح ماهر في العثور على عاهرته الحسناء (سعاد حسني) التي تبدو شغوفة به … وتتبلور مشاعرهما بسرعة «أنا فعلًا خاطئة، وماهر حرامي، ولكن ربنا ينقذنا»، ويتزوج العاشقان ويعيشان سعيدين، بينما يفشل الضابط في العثور على ضالته المنشودة.
وهذا الزواج بين ماهر وبطة لم يستسغه الكثيرون من المحيطين بماهر؛ أخوه بيومي (سعيد صالح) الذي يعمل بالسرقة، الذي يشعر أن الزواج عثرة في استكمال طريق الإجرام «عهد عليَّ من هنا ورايح ما فيش لقمة حرام حتدخل بُقِّي»، وحين يحاول تناول أول لقمة حلال يجد نفسه مقبوضًا عليه إثر وشاية من زملائه القدامى؛ لقد اعترف حمودة الأقرع، أحد رفاقه، أنه شريكٌ لهم، وفي هذه المرة يكاد الضابط أن يكشف أمره، إلا أن رئيس هذا الأخير يحضر ويأمره بمغادرة المكان: «أنت أهملت عملك، وأهملت قضايا الناس وأصبحت تهتم بقضيتك أنت». وإذا كان ماهر قد استطاع أن ينجو من قبضة الضابط، إلا أن غضبه دفعه أن ينال من حمودة الأقرع ويفقأ عينه، فيُحكَم عليه بالسجن خمس سنوات، وعندما يخرج يجد ابنه قد كبر، وامرأته تعمل غسالة، فيقرر أن يبدأ مرحلةً جديدة … هذه المرحلة هي التي يبدأ عندها فيلم رالف نيلسون.
يخرج رجلٌ من البار ويدخل إلى محل في الحي الصيني ليسرق منه نقودًا ثم يقتل زوجة صاحب المحل، وقد يتبادر إلى المتفرج لأول وهلةٍ أن القاتل هو إيدي الذي يذهب مع زوجته كرستين (آن مرجريت) وابنته في اليوم التالي لرؤية اليخت الذي اشتراه أخيرًا، لكن إيدي لم يرتكب شيئًا، فقد أنكر الشاهد أي شبهٍ بين إيدي والقاتل، ورغم هذا فإن مايك فيدو ضابط المباحث يصر أن إيدي هو القاتل، فهو يحمل في داخله ضغينة تجاه إيدي، ويريد أن يوقع به في أقرب فرصة «لقد أطلق عليَّ الرصاص عام ١٩٥٦. إنه هو، أنا أعرف، فعل ذلك حين كان يسرق بنكًا، لم أرَ إلا عينيه اللتين أعرفهما جيدًا». هذه الجملة الحوارية التي رددها ضابط الشرطة في الفيلم الأمريكي حولها الفيلم المصري إلى معالجةٍ درامية كاملة، بل وأضاف عليها الكثير من الأحداث.
وإذا كان المفتش فيدو يعرف تمامًا أن خصمه رجلٌ شريف، وأنه ابتعد عن ممارسة الإجرام، فإن هذه العلاقة تنكشف ببطء في فيلم سمير سيف، فمنذ دخول ماهر إلى قسم الشرطة في بور سعيد للتوقيع الشهري، نكتشف أن الضابط قد نُقل إلى هناك للعمل كمعاون مباحث، ومن الوهلة الأولى يكشفه، ويأخذ في تعذيبه، ويهدده بأنه سوف يحوله إلى الطبيب الشرعي بعد أن فشل في استدراجه. أما فيدو فإنه يسعى إلى إيقاع إيدي للزج به في السجن مرةً أخرى، أو إجلاسه فوق المقعد الكهربي، وهو لا يطلب منه اعترافًا على قضيةٍ شخصية تخص الضابط كما فعل سمير سيف.
وإذا كان ماهر يشعر أن هناك فردة مقص تحاول الضغط على رقبته حين يتعرف عليه الضابط، ويرغب بذلك في ترك المدينة عائدًا إلى القاهرة، فإن الطرف الآخر من المقص الذي يبدو أكثر شراسة هو الشقيق بيومي، الذي تحول إلى أحد الأثرياء من عملياته المشبوهة. لقد جاء باحثًا عن أخيه مع مساعديه القدامى، كي يقوموا جميعًا بعملية سرقة جديدة، وذلك مثلما جاء جاك بالانس باحثًا عن أخيه في نيويورك ليقوما بسرقة سبائك البلاتين.
وإذا كانت كرستين قد لجأت للعمل في أحد المطاعم كي تخدم الزبائن، فإن إيدي لم يكن يعرف أن زوجته تعرض جسدها على الآخرين، مما يدفعه أن يذهب إلى المطعم وينهال على زوجته ضربًا، ويقرر أن ينضم لأخيه، وقد نفذ رالف نيلسون هذا المشهد بإتقان. أما عندما ذهب ماهر إلى الحانة ليرى امرأته ترقص «بلدي» أمام مجموعةٍ من السكارى، فقد نفذ المشهد بصورةٍ أقل إتقانًا. كما أن موقف الزوجة كرستين بعد هذا الحدث بدا أكثر التزامًا من موقف بطة، فهي تبكي بحرقةٍ ألَّا ينساق زوجها وراء أخيه في مشهدٍ أثبت أن آن مرجريت تتمتع بموهبةٍ رائعة في الأداء، بينما رأينا الأمور تعود عادية في الفيلم المصري، فبعد هذا الحدث يقرر ماهر أن يعود إلى الإجرام مرةً أخرى، فيوافق على القيام بالعملية التي يخطط لها أخوه بيومي. يسرقان مرتبات إحدى المؤسسات الاقتصادية أثناء عبور سيارة المؤسسة لأحد المزلقانات، وقد نفذ سمير سيف هذا المشهد بنفس التفاصيل الدقيقة التي نشرتها الصحف عن حادث سرقة مرتبات المقاولين العرب منذ سنوات، وذلك دون أن يلجأ المخرج إلى إسالة الدماء، بل إنه استخدم الخلاف بين اللصوص مثل ما فعل نيلسون في فيلمه. فبعد أن يموت بيومي إثر إصابته بطلقة، يتجه ماهر إلى الفندق الذي ينزل به أخوه في بورسعيد ومعه الحقيبة، وفي لقائه بالضابط في القسم يكتشف أنه قد بدأ في الرضاء عنه بعد أن شعر أنه قد حمله الكثير من المتاعب.
إذا كان نيلسون قد جعل بطله يموت في نهاية فيلمه فوق رصيف ميناء نيويورك، فإن سمير سيف أدرك أن موت ماهر، الذي يجسده عادل إمام، قد يصيب المشاهد بإحباط، رغم أن إيدي كان أكثر استقامة، ولم نره يرتكب جريمةً واحدة طيلة الفيلم سوى حادث سرقة البلاتين. وأذكر أن هذه المرة كانت الأولى، من بين العشرات، التي مات فيها آلان ديلون في أفلامه. وقد أكسب هذا الدورُ «ديلون» نجوميةً في أنحاء العالم.
وقد ركز الفيلمان المصري والأمريكي على الأبعاد الاجتماعية التي تضغط على مجرمٍ تائب كي تعيده مرةً أخرى إلى الجريمة، فلوك القاتل يقول: «أمثالك وأمثالي يُحكم عليهم بالإعدام، أما الرءوس المدبرة فيُحكم عليها بأشهرٍ فقط.» أما بطة فهي عاهرة تائبة، يعمل زوجها في بيع الملابس الداخلية أمام أحد محلات الانفتاح، وكما عملت غسالة لفترةٍ فإنها ترقص في البارات سعيًا وراء مساعدة زوجها وأسرتها.
لا يمكن أن نقول إن فيلم «اللصوص» الذي ظهر في نفس العام ١٩٨١م مأخوذٌ عن الفيلم الأمريكي، بل إنه نسخة باهتة ساذجة من فيلم سمير سيف، ولا داعي لأن نتحدث عن حكاية حسن في فيلم تيسير عبود، وإلا سنجد أنفسنا نكرر نفس السطور السابقة. وقد تغيرت بعض التفصيلات الساذجة، منها أن الرصاصة التي أصيب بها الضابط يومًا قد قتلت منه جانب الرجولة؛ ولذا فإنه يريد أن يرد الصاع لحسن بأكثر منه، إلا أن الضابط يفاجأ أن «حسن» مصابٌ بالسرطان في رئته، فيتعاطف معه ويدافع عنه، بينما يدفع هذا المرض حسن أن يشترك في عملية سرقة محل المجوهرات، وينجح في فتح الخزانة ثم يموت تحت وابل رصاص الشرطة.
وقد أضاف الفيلم المصري أحداثًا واهية مثل الاستعانة بنجوم كوميديا سعيًا وراء بعث البهجة في أجواءٍ قاتمة.
نفس الفشل التجاري والفني قابله فيلما «هروب» لحسن رضا و«السجينتان» لأحمد النحاس ١٩٨٦م المأخوذان عن «حطمت قيودي» لستانلي كرامر، وهو ليس فيلمًا بوليسيًّا بالمعنى المألوف، رغم أن هناك ضابط شرطة يسعى للإمساك بسجينين هربا من السجن، أحدهما زنجي خفيف الظل، والآخر أبيض. ويدور الفيلم الأمريكي في البراري وفي أجواءٍ مفتوحة؛ المطر الشديد الذي يوقع بهما في حفرةٍ لا مخرج منها، والقطار الذاهب بهما إلى الحرية. والصراع الاجتماعي بين البيض والزنوج ممثلًا في شخصيتي سيدني بواتييه وتوني كيرتس، هذا الصراع لم يُكسب الفيلم أجواءً بوليسية … لكن الفيلمين المصريين يهتمان بمطاردة اثنين من المجرمين، لكلٍّ منهما ماضٍ وسمات تختلف، ولا يربطهما سوى القيد الحديدي الذي يخنق سواعدهما. وهما يدخلان قريةً في ليلٍ كئيب في «هروب»، ويحب الأصغر (يوسف شعبان) أرملةً تقوم بمساعدتهما مثل ما حدث في فيلم كرامر.
أما في فيلم «السجينتان» فإننا أمام نفس القصة مع اختلاف أن الهاربين فتاتان؛ إحداهما ذات ماض، والثانية بريئة، تمران بنفس الظروف. وإذا كان السجين الأصغر في فيلم حسن رضا قد أحب أرملةً من القرية، فإن الفتاة البريئة (إلهام شاهين) تحب أرمل، وتتقرب إلى طفله، وهو الذي يساعدها في كشف براءتها.
وهناك رجل من الاستخبارات الأمريكية يسعى إلى معرفة سرها، ويحاول أن يكشف سر الثروة التي تركها زوجها، والمرأة في حالة هلع ولهاث دائمين … وتجد هناك مَن يحميها. وقد جسدت نيللي هذه الشخصية في فيلم «عصابة الشيطان». وتحول مكتب السفارة الأمريكية في باريس إلى قسم شرطة في القاهرة، لكن روح المطاردة لم تتغير، فهي أيضًا نفس الأرملة وخلفها أشرار ورجل مشبوه في أجواءٍ مليئة بالغموض والإثارة. ولم يحقق فيلم حسام أي صدق قياسًا إلى الفيلم الأمريكي، ليس فقط فيما يتعلق بجاذبية الممثلين، ولكن في جو الإثارة الذي صنعه دونن، وشغفه بالطبيعة الخلابة بين سويسرا وفرنسا.
وفي الطائرة يتم القبض عليه. وكما نرى فإن الفيلم غريب على المجتمع المصري؛ فالزوج رجلٌ إرهابي في فيلم ستون، أما الشخصية العربية فهي لم تكن تميل إلى الإرهاب بهذه الصورة، ولا تسعى لأن تصعد إلى طائرة لتقتل مَن فيها بسبب مشاعر الغيرة. ومن المعروف أن وجود دوريس داي قد ساعد على اكتساب الفيلم حيوية، حيث لم يَخْلُ الفيلم من مشاهد البهجة التي تتمتع بها هذه الشخصية.
وفي الفيلمين نجد أنفسنا أمام الشخص الذي يعمل في التهريب والمخدرات، مما يساعده أن ينتقل إلى أعلى مصاف المجتمع. وهو مجرم لا ينسى قط مسألة الشرف، فهو يقتل صديقه وشريكه لأنه ارتبط بأخته. وفي فيلم دي بالما كانت المسألة تتعلق بالشرف، وبأن هناك إحساسًا ما عاطفيًّا يُكنُّه توني ناحية أخته.
وقد امتلأ الفيلمان بمشاهد متعددة من العنف الذي يسبب صدمةً لنفس المشاهد، وفي الفيلم الأمريكي لم يود توني أن يفجر سيارة منافسه لأن بها أطفالًا، وقد خلا الفيلم العربي من مثل هذا المشهد؛ فتوني يتراجع عن قتل الأطفال، أما بطل الفيلم المصري فلا يتوانى أن يفعل أي شيء من أجل جمع المال.
أما فيلم «الإمبراطور» لطارق العريان عام ١٩٩٠م فهو نسخة مطابقة للفيلم الأمريكي مع بعض التغييرات الخفيفة، حيث يعمل زينهم وإبراهيم بعد الإفراج عنهما مع تاجر المخدرات سليم، وينطلق الاثنان في عالم المخدرات، فيرتفعان اجتماعيًّا، ويتزوج زينهم من حياة عشيقة سليم، لكنه يعاني من ضعفه الجنسي معها، ويقتل صديقه إبراهيم متصورًا أن شيئًا ما بينه وبين حياة … والفيلم مليء بالدم والعنف مثل فيلم دي بالما، وكان هذا سبب نجاحه الهائل، وبدا الفارق هنا بين اقتباسٍ وآخر من نفس المصدر.
من المعروف أن السينما الأمريكية شغوفة بشكلٍ حاد بنقل الأعمال الأدبية الأمريكية وغير الأمريكية إلى الشاشة، والمعروف أن أغلب الأدب العلمي المميز قد وجد طريقه إلى استوديوهات هوليود … وكما سعت الولايات المتحدة إلى استقطاب أشهر أعلام الفكر العالمي ومنحتهم الجنسية الأمريكية، فإن استوديوهات هوليود قد تعاقدت مع أغلب هؤلاء الأدباء ليكتبوا سيناريوهات العديد من الأفلام، ومن هؤلاء مثلًا: جون شتاينبك وسكوت فيتزجيرالد، وإرنست هيمنجواي وليليان هيلمان.
وشتاينبك حالة سينمائية هامة، فقد تعاون مع إيليا كازان في كتابة «فيفا زاباتا»، كما كتب «شرق عدن» عن روايته الشهيرة. وتكشف هذه الحالة، فيما يتعلق بالاقتباس، أن السينما المصرية حين تبحث عن النص الأمريكي كفيلمٍ، مهما كان مصدره الأدبي، فسوف نرى أن الفيلم المأخوذ عن هذه الرواية هو حالة اقتباس من فيلم كازان مباشرة، وليس عن رواية شتاينبك، حيث إن الرواية لم تترجم قط إلى اللغة العربية.
كما حدث هذا فيما يتعلق بأفلامٍ أخرى مشهورة مأخوذة عن روايات مثل «لوليتا» لفلادمير نابوكوف و«جاتسبي العظيم» لسكوت فيتزجيرالد. بينما بدت السينما جاهلة تمامًا بالروايات التي لم ترَ الشاشةُ بعدُ نورَها؛ مثل بعض إبداع كلٍّ من ترومان كابوت وهنري ميلر، ونورمان مايلر.
أي إن العلاقة العضوية بين السينما الأمريكية والسينما المصرية هي علاقة شريانية تستمد منها غذاءها وطعامها ودماءها. وإذا كانت الروايات الأدبية قد تم مسخ بعضها عند نقلها من النصوص الأدبية إلى السينما، فإن عملية مسخ أخرى قد تمت عند تمصير هذه الأفلام.
وإذا بدأنا برواية «شرق عدن» فسوف نرى الصراع بين إيدي وأخيه يأخذ نفس الملامح، وله نفس العمق؛ فأمه امرأة عاهرة تعمل في الأماكن المشبوهة، ولذا فإن أباه يكرهه، ويفضل أخاه الآخر عليه، مما يدفع إيدي أن يتحول إلى إنسانٍ شرير شرس عدواني، يسعى إلى امتلاك حبيبة أخيه وإيقاعها في حبائله، ثم دَفْع أخيه إلى الجنون، أو إلى أن يلتحق بالجيش كي يتخلص منه، وذلك بعد أن خوت ساحة الصراع لهما عقب وفاة الأب.
ولا يلتقط الفيلم المصري سوى الحدوتة، فإذا كان كازان هو أحد المشغوفين بنقل الأدب والمسرح إلى الشاشة فإنه أيضًا أديب له رواياته. غير أن حسن الإمام عندما أخرج هذا الفيلم تحت عنوان «عجايب يا زمن» ١٩٧٥م مسخ النص السينمائي، وأيضًا الأدبي.
ويركز الفيلم المصري على خطٍّ واحد من ثلاثة خطوط اهتم بها فيلم كازان، وهو التأكيد على العلاقة بين الأب وابنه الذي يكرهه انتقامًا من أمه الراقصة، وتبلغ هذه الكراهية حدًّا عنيفًا مبالغًا فيه إلى حد الضرب. أما الخط الثاني فهو العلاقة بين الأخ وحبيبته، فالفتاة تحب الشاب بلا سبب، وتنفصل عن خطيبها أيضًا دون سبب. بينما ركز كازان على العلاقة المتوترة لدى الفتاة التي تخاف من عقوق الفتى نتيجة هذه الإهانات التي يواجهها في عالمٍ ماجن قاسٍ من أبيه. وهذا الفتى يبحث عن أمه التي يحبها، ويعرف أنها عاهرة أو راقصة عند حسن الإمام. وإذا كان الأب قد مات كمدًا في فيلم كازان، فإن حسن الإمام يسعى إلى عقد نوعٍ من المصالحة بين جميع أفراد الأسرة كي تعود المياه إلى مجاريها.
أما «لوليتا» لنابوكوف فهي إحدى الروايات القليلة للكاتب التي عرفت طريقها إلى الشاشة، وقد أخرجها ستانلي كوبريك عام ١٩٦٢م في أقل أفلامه تميزًا، وهو مخرج اعتمد في جميع أفلامه على الغوص في النصوص الأدبية. وقد تُرجمت هذه الرواية ترجمات متعددة متباينة إلى اللغة العربية. ولكن عيني محمد راضي كانتا على الفيلم وهو يقدم الرواية تحت اسم: «أنا وابنتي والحب» عام ١٩٧٣م، وأهمية عقدة لوليتا أنها عن علاقةٍ غير متكافئة بين مراهقة قوية الحس وبين زوج أمها الذي يكبرها في السن، وهي فتاة متقلبة، يقتتل الرجال من أجلها. وفي السجن يتحدث زوج أمها، وحبيبها، عنها قائلًا: «لوليتا ضياء حياتي، نيران ملكاتي، خطيئتي، لوليتا ينطقها طرف لساني على ثلاث حركات، قصيرة وطويلة، ثلاث حركات أصر خلالها على أسناني وأنا أنطق لو لي تا.»
وترمز الأم البدينة، التي جسدتها شيلي وِنترز، إلى بلادة الحس، ولكنها في الفيلم العربي تتحول إلى أنثى جسدتها هند رستم التي تلتقي برجلٍ تتزوجه دون أن تعرف أنه يسعى إلى التقرب من ابنتها سحر، ليستغل هذه المشاعر كي يتزوجها ويبقى إلى جانبها، بحجة أنه يجب رعاية سحر، وهي فتاة تخطت سنوات المراهقة بكثير، والأم لا تعرف حقيقة مشاعر ابنتها في الرواية، لكنها تعرف عن طريق المذكرات التي دوَّنها عشيق ابنتها، فلا تفعل شيئًا سوى أن تطلب منه مغادرة المكان.
وهذا التسطيح في العلاقة أفسد الفيلم، فهمبرت يهيم بابنة زوجته، وسرعان ما تبادله المشاعر، وتسعى إلى التخلص من أمها، بل إنها تسعى إلى إذلال حبيبها حين تهجره إلى رجلٍ آخر، مما يدفعه إلى ارتكاب جريمة قتل من أجل الاحتفاظ بها، لكن حبل المشنقة ينتظره. ومثل هذه العلاقة والمشاعر المركبة يكاد يخلو منها تمامًا الفيلم المصري، رغم أن الموضوع تقليدي ويمكن معالجته في جميع البيئات البشرية.
وحول تجربتها في هذا الفيلم تحدثت هند رستم (نشرة المركز القومي للسينما) قائلة: «أحبذ تحويل الأفلام الأجنبية إلى مسرحياتٍ مصرية … ولكن في السينما لا يكون هذا التحويل جيدًا أو مقنعًا.»
«لم أكن أعرف أن الفيلم مأخوذ عن أصلٍ أجنبي، فأنا لم أرَ الفيلم، والمؤلف أقنعني أنه مختلف عن الفيلم الأصلي، وأن لوليتا لها خط مختلف تمامًا عن فيلم راضي.»
إذن فمن اعتراف الممثلة التي قامت ببطولة الفيلم نرى أن السينما المصرية تأخذ مصادرها عن أفلامٍ أخرى وليس عن رواياتٍ مكتوبة. أما بشير الديك فقد صرح لي أنه استمد فيلم «الرغبة» لمحمد خان عام ١٩٨١م من رواية «جاتسبي العظيم» المنشورة في روايات الهلال، وليس عن الفيلم الذي أخرجه جاك كلايتون عام ١٩٧٣م، وهو لا يختلف كثيرًا عن الرواية، حيث يتحول جاتسبي الثري إلى رجل أعمال يحاول أن يستعيد بأمواله، ومن خلال تعتيمٍ شديد على ماضيه، حبيبته التي لا تحس بمشاعره نحوها. إنها تسكن قصرًا فاخرًا مجاورًا للقصر الذي اشتراه حديثًا، يحاول لفت أنظارها، وعندما ترتبط به تفاجَأ بعجزه الجنسي، وتعامله ببرودٍ شديد، وتذهب إلى رجلٍ آخر بعد أن تدفعه إلى الموت. وتدور أحداث الرواية على لسان شخص تحول في فيلم خان إلى سكرتيرة حسناء — جسدتها إيمان — تلعب دورًا حساسًا حينما تحاول إيقاظ مشاعر الرجل الذي تحبه. أما هالة (مديحة كامل) فقد أبقاها السيناريو العربي امرأة جامدة الحس، وإن كانت أقل شرًّا، كما أن نهاية جابر هي انتحاره، وليست الموت على يد عامل البنزين مثل ما حدث في رواية فيتزجيرالد.
وأهمية هذا النص في السينما هو رومانسية الموقف والسلوك من جاتسبي في مقابل جحود المرأة التي يهواها. فقد تحولت هالة في الفيلم المصري إلى أمٍّ تحب زوجها، لذا تطلب من جابر أن يتركها لشأنها. لكن ديزي، عند فيتزجيرالد، تنساق وراء نزواتها وتستمر غارقة فيها، حتى بعد أن أنهت الرواية أحداثها، فهي لم تكلف نفسها حتى إرسال برقية عزاء في الرجل الذي أحبها ومات من أجل أخطائها.
هذه نماذج من الأدب الأمريكي، وخاصة الروايات التي تحولت إلى سينما هوليودية. أما عن المسرح فقد كانت العلاقة الأصل، حيث إن أكثر النصوص المسرحية التي اقتُبست في مصر قد تمت ترجمتها في طبعاتٍ شعبية إلى اللغة العربية، كما أنها ظهرت بدورها في أفلامٍ سينمائية أمريكية، مثل مسرحيات تينسي ويليامز وآرثر ميلر، ويوجين أونيل وغيرهم.
وأهمية هذه المسرحيات جميعها أنها تناقش القضايا الحساسة بين الرجل والمرأة من خلال أفكارٍ متطورة وعميقة لكاتبٍ له رأي ثاقب في هذه الأمور.
وقد نجح سمير سيف، مثلًا، في الخروج من الأجواء المغلقة التي صنعها ريتشارد بروكس حول بريك الذي افتُضح أمر علاقته المريبة بصديقه السكير، فلجأ إلى الخمر وزاد من إفراط الشرب، بينما تحاول زوجته فرض سيطرتها عليه. أما والده المصاب بالسرطان فإنه لا يعرف نهايته الوشيكة، بينما يسعى ابنه أن يوهم نفسه أنه سيعوض بثروة أبيه ما فاته من فرص المتعة في الحياة، ولكن أخاه الأكبر وزوجته يسعيان إلى منافسته في الثروة القادمة.
وأهمية هذه التجربة أن النصوص السينمائية المأخوذة عن مسرحيات تحاول الالتزام بالمكان قدر الإمكان، وتكثيف الحوار إلى أكبر قدرٍ ممكن، فيشعر المشاهد أنه في مسرحيةٍ مصورة للتلفاز بدون جمهورٍ يعلق أو يصفق. وقد خرجت السينما المصرية عن هذه الحدود بأن وسعت في دائرة الحكاية، وفصلت فيها كي تخرج من الغرف المغلقة قدر الإمكان، مثل وقائع الرحلة التي تقوم بها الأسرة إلى الطبيعة، وفي آخر هذه الرحلة يتم علاج الزوج من المرض النفسي الذي يعاني منه، بعد أن كانت علاقته بصديقه سببًا لوجود حاجز بينه وبين زوجته. كما لجأ الفيلم إلى تصوير وقائع من ماضي حياة الزوج، حين كان لاعب كرة مشهور، وتعرف على زوجته الحسناء في أحد شوارع مدينة الإسكندرية الجانبية.
فيلم «قطة على صفيح ساخن» مليء بالحوار المسرحي، رغم أن ممثلي الأدوار الرئيسية بول نيومان وإليزابيث تايلور، قد حاولا الخروج من دائرة التمثيل المسرحي التقليدي. أما التجربة التي كتبها رفيق الصبان لمعالجة هذا العمل الدرامي، فقد حاول فيها قدر الإمكان الخروج من أسر المكان بزيادة القدر المسموح به من الكلام عن الجنس والحب، وقد كرر نفس التجربة في فيلم «الزمار» ١٩٨٥م المأخوذ عن مسرحية «هبوط أورفيوس»، فراح يصور بيئةً صعيدية تمامًا أشبه بأجواء الجنوب الأمريكي الذي دارت فيه أحداث المسرحية، وذلك من خلال طالب متمرد يهرب من المدينة بعد أن تعقبته الشرطة في إحدى المظاهرات، ويصل إلى إحدى القرى الصعيدية. إنه فنانٌ يجيد قرض شعر العامية، فيصبح صديقًا للعمال القادمين من الترحيلة، يؤازرهم ويبدع من أجلهم، ويقبل العمل صبيًّا في محل بقالة، ويصبح عينًا شاهدة على ما يحدث دون أن يحاول إثارة قلاقل حوله. فزوجة البقال تعارض أن يعمل الشاعر الغريب في حانوته، لكن الغريب يصبح قريبًا من قلوب الناس، ويهتم بحكاية امرأة ثرية تعيش أيضًا غريبة في هذا العالم، إنها أرملةٌ وحيدة صُدمت في موت زوجها الذي كانت تحبه، وعندما يقع الشاعر في هواها يخوض معركةً اجتماعية نفسية كبيرة، لإزالة حواجز الخوف بينه وبين أهل القرية، وبينه وبين حبيبته، كما ينزع الخوف بينها وبين نفسها.
وقد أخرجت السينما الأمريكية هذه المسرحية في فيلم حققه ديلبرت مان عام ١٩٥٨م، وقامت ببطولته صوفيا لورين. ويهمنا هنا المقارنة تفصيلًا بين النصين لأهمية التجربة.
نقل رأفت الميهي أحداث فيلمه «عيون لا تنام» إلى قلب مدينة القاهرة، حيث تدور الأحداث كلها من خلال محاسن (مديحة كامل) الفتاة الفقيرة صاحبة الماضي الغامض، التي تقبل الزواج من رجلٍ يكبرها سنًّا حتى تستريح من عناء غسيل ملاءات المستشفيات. تردد أن أباها قتل أمها لأنه عندما وَدَّ أن يضاجعها يومًا وجدها قد تناولت بصلًا، وقد مات هذا الأب في سجنه. وتنتقل الفتاة إلى بيت العجوز لتستمر في حالة الضنك، فالزوج شرس، يمكنه أن يضرب إخوته الثلاثة لأنهم خرجوا ليلة فرحه بالسيارة فاستهلكوها. أما كابوت الأب في مسرحية أونيل فهو عجوز دفع أبناءه إلى ارتكاب الجريمة، وجعل اثنين منهم يهربان إلى كاليفورنيا من أجل العمل، وهو رجل لا يعرف الحب ولا الرحمة، صارمٌ عنيد يدفع أبناءه كمَن يدفع أبقاره لتعمل بمشقةٍ؛ كي يتمكن أن يصنع لنفسه مزرعةً ويبني منزلًا.
وتُقبل محاسن على هذه الحياة بروحٍ راضية، وعقب الزواج تسعى إلى لمِّ شمل الأسرة، إنها تعرف أن قسوة زوجها على أشقائه بسبب عجزه فوق الفراش؛ لذا سعى لضربهم كي يؤكد لامرأته أنه لا يقل رجولةً عن هؤلاء الشباب الصغار.
وفي مسرحية أونيل لا نرى العروس إلا في نهاية الفصل الأول، حين يفاجأ الأبناء الذين يتحدثون عن ميراث أمهم بأن أباهم يعود ومعه امرأة تفيض بالحيوية، ممتلئة الجسم، في الخامسة والثلاثين من عمرها، ليعلن للجميع أنها زوجته. في هذه الليلة يقرر الولدان سيمون وبيتر أن يرحلا إلى كاليفورنيا بحثًا عن الذهب، وتقول العروس للابن الأصغر: «لا أود أن ألعب معك دور الأم، فأنت أكبر من هذا سنًّا، وأضخم جسدًا، أود أن أكون صديقة، وإذا اتخذتني صديقةً ازدادت رغبتك في البقاء هنا.» في هذا اللقاء يشعر الفتى باشتهاء لجسد عروس أبيه، وهي تعامله بلونٍ من الشراسة قائلة: «لست شريرة أو وضيعة إلا مع أعدائي.»
هذه الشراسة لا تبدو عند محاسن في ليلتها الأولى بالمنزل، فهي تبدو امرأة غير طامعة في شيء، بل ترفض الإغراءات المقدمة لها، خاصة أن الإخوة الثلاثة يريدون إزاحتها من أمامهم، فتردد مثلما قالت آبي: «أنا طيبة جدًّا مع الطيبين.» وتحاول أن تمتص كراهية الإخوة دون جدوى، ولا تتحول إلى الجانب الشرير إلا بعد أن فاض بها الكيل، فتدبر المكائد مما يدفع باثنين من الإخوة إلى الرحيل عن الدار. ومن خلال اعترافات إحدى النساء للزوج تعرف مدى الحسية الزائدة لدى محاسن: «عشقت زوج أختها، وضبطتها خالتها مع ابنها، أما زوج عمتها فقد جعلها تعمل في شقةٍ مفروشة.» ويقابل الزوج الأمر بتعقل ويردد لامرأته الشابة: «أعرف أن شخصًا ما يحاول إفساد حياتنا.» تحدثه عن ماضيها من وجهة نظرها: «كان زوج أختي رجلًا طيبًا، لكن أختي هي التي غارت مني عندما رأتني أنمو وأصبح أكثر أنوثة، مَن المجرم فينا: أنا أم أختي؟ خالتي قالت إنه لا داعي أن أعيش عندها، ولديها أولادها الصبية، ويجب ألا تضع النار إلى جوار أعواد الثقاب. أما عمتي فقد ودَّت أن أعمل في شقةٍ مفروشة، لكنني فضلت غسيل الملاءات.»
وعكس ما فعلت آبي، فإنها تطلب من زوجها طرد إسماعيل، الأخ الأصغر؛ لأنه سعى إلى إفساد حياتهما، ولكن العلاقة بين محاسن وإسماعيل تنمو ببطء وتحت ستار الكراهية الخارجية. أما آبي فإنها تكشف جسدها أمام ابن زوجها وسرعان ما توقعه في شَرَكها الذي تنصبه حوله، ثم تُحدِّث الأب كابوت أنها تشاجرت مع ابنه لأنه يستهويها، ثم تحاول تهدئته.
ومن هنا اختلف الخلط كثيرًا بين مسرحية أونيل وفيلم الميهي، فالمرأة تغوي ابن زوجها حتى يسقط في بئرها، إلا أن وقوع محاسن وإسماعيل في الخطيئة جاء من غير عمد، وتنمو الخطيئة إلى جنينٍ في بطن محاسن، يتصور الجميع أنه ابن الأخ الأكبر إبراهيم، وهذا الابن القادم يأتي في يومٍ مليء بالشر، ويطلب الزوج من القابلة التضحية بالأم لإنزاله سليمًا، مما يدفع إسماعيل أن ينهال على أخيه ضربًا حتى يقتله.
أما عند أونيل فقد قامت آبي بقتل الطفل لأنها أحست أن علاقتها بالفتى ليست علاقة جسدية، إنما سَمَتْ إلى علاقةٍ روحية رائعة، وهي تود أن تقتل ذلك العجوز الذي أفسد حياة كل مَن عاشره، وتذهب مع عشيقها إلى السجن، وتلك نهاية أقل دموية من النهاية التي رأيناها في فيلم «عيون لا تنام».
وعن مسرحيات آرثر ميلر قدمت السينما المصرية فيلمين هما «لعنة الزمن» لأحمد السبعاوي، ثم «الخبز المر» لأشرف فهمي. الفيلم الأول عن مسرحية «وفاة بائع متجول»، أما الفيلم الثاني فعن مسرحية «مشهد من الجسر».
ومثل هذا الموضوع يصلح تمامًا للسينما، التي كثيرًا ما تهتم بحواديت مماثلة، وفي سنوات إنتاج هذا الفيلم ١٩٧٧م، كان هناك النجم الذي يمكن أن يحمل على عاتقه بطولة فيلمٍ الشخصيةُ الرئيسية فيه تجاوزت الستين، مُصورًا ذلك العجوز الذي يصاب بالإحباط تلو الإحباط حتى ينتهي في آخر الأمر. والمقصود به فريد شوقي الذي غيَّر من سمات النجم الشاب إلى رجلٍ عجوز يمكنه أن يحمل لواء فيلم بأكمله.
ورغم أن مسرحية «زيارة السيدة العجوز» لفريدريش دورينمات قد تُرجمت إلى اللغة العربية، فإن فيلم «سأعود بلا دموع» لتيسير عبود عام ١٩٨١م كان مأخوذا مباشرة عن الفيلم الذي أخرجه برنارد فيكي عام ١٩٦٤م، وقام ببطولته أنتوني كوين وإنجريد برجمان. ويدور موضوع المسرحية حول امرأة عجوز تدعى كارلا تعود إلى قريتها كي تنتقم من حبيبها القديم سيرج الذي فض غشاء بكارتها ثم هجرها وتزوج فتاةً أخرى من القرية كي يضمن لنفسه مستقبلًا. كارلا الآن امرأة ثرية يمكنها أن تشتري ضمائر الآخرين وأشياءهم بسهولة، وهي تسعى إلى محاكمة سيرج في قريته على جرائم قديمة، ويمتثل أهل القرية أمام إغراءاتها حتى يقوم شخصٌ منهم بقتل سيرج، فتأخذه في تابوت وترحل وقد انتابتها شهوة الانتصار.
وفي فيلم فيكي كانت النهاية أكثر واقعية، فسيرج لم يمت، وإنما عفت كارلا عنه، وتعلن لحبيبها القديم أمام أهل القرية: «هل المال يعمي عن الحق إلى هذه الدرجة؟ لقد فقدتم حتى ترابكم، أما أنت يا سيرج فسوف تعيش ولن يتم إعدامك، سوف تعيش بين ناسٍ كانوا سيقتلونك من أجل بضعة جنيهات، وربما رضوا بأقل من هذا. ستعيش بينهم، لقد عدموا جميعًا إنسانيتهم، وأنت وحدك إنسان، هم المجرمون وأنت البريء الوحيد يا سيرج.»
وهكذا تكون النهاية بليغة في الفيلم. وكالعادة في السينما العربية فإنها تختار هذه المعاني الرائعة كي تزينها في أجواء رقص وحوار مكثف بلا قيمة من خلال هند (مديحة كامل). وسعيًا وراء إحياء الحدوتة فقد آثر الفيلم أن يبدأ الحكاية من الماضي، فنرى كيف ضحك عليها شابٌّ من القرية، وفضَّل أن يقترن بفتاةٍ أخرى. وزيادة في أحداث المأساة يقتل الفيلم المصري والدي الفتاة أثناء حادث أعقب حفل زفاف الحبيب على امرأةٍ أخرى. وقد استغرقت حوادث الماضي هذه من زمن الفيلم مساحة كبيرة، ثم سار الفيلم مع حدوتة هند حين تحولت إلى عاهرة ترقص للأثرياء وتكسب أموالهم، حتى تزوجت أحدهم، الهلباوي باشا، ومن خلال ثروته بدأت تضارب خصومها القدامى، وغيَّرت اسمها، وعادت إلى قريتها تطالب برءوس هؤلاء الخصوم مثل عشيقها القديم وأبيه. وينتهي الفيلم وسط نيران تحترق، ولهب يأكل الجميع.
من هذا يبدو مدى اهتمام السينما المصرية بصناعة الحدوتة، فلولا أن عناوين الفيلم قد أشارت إلى أنه مقتبسٌ عن «الزيارة» ما أمكن إيجاد هذه العلاقة. وهكذا تفقد النصوص العظيمة معانيها التي تتحدث من خلالها وتتحول إلى حواديت بسيطة، لا هي قادرة على تسلية الناس ولا على الارتفاع بأفكارهم.
سبق أن أشرنا أن السينما المصرية اقتبست من الأفلام الكوميدية والبوليسية والموسيقية، ومن أفلامٍ مأخوذة عن نصوصٍ أدبية. ولم تقف حدود اقتباس مصادرها من هوليود عند هذا فقط، بل راحت تبحث عن أي نصٍّ يناسب الحدوتة التقليدية لتقديمها؛ من أفلام الوسترن إلى الأفلام الحربية.
إذا كانت بعض أفلام الحرب قد تم استخدام موضوعها بما يناسب البيئة المصرية، فإن المقتبسين قد راحوا يفتشون عن حكايات الحب بين الضباط الذاهبين إلى الحرب، وأغلبها حكايات ملتهبة تثير الأشجان والأحزان، مثل حكاية «جسر واترلو» التي أخرجها ميرفن لِيرُوي عام ١٩٤٠م في فيلمٍ قام ببطولته فيفيان لي وروبرت تايلور حول راقصة الباليه التي تقع في حب جندي يذهب إلى الحرب، وتسمع خبر وفاته. وسعيًا وراء الخروج من أحزانها، فإنها تقع في الخطيئة وتعمل في ملهًى ليلي، ثم يعود حبيبها القديم ويسعى للزواج منها، ويقربها من أمه، ويعرفها على صديقه الضابط الذي سبق أن قبض عليها فتقرر أن تتركه.
هذه الحدوتة وجدت مجالها بشكلٍ مكثف في السينما المصرية، مرة في إطار فيلم حربي، ومرات في أطرٍ أخرى. ومن الصعب حصر كل هذه النماذج، ومن أهمها فيلم «دايمًا في قلبي» لصلاح أبو سيف ١٩٤٦م، و«الحياة الحب» لسيف الدين شوكت ١٩٥٤م، ثم «وداع في الفجر» لحسن الإمام ١٩٥٦م. وفي فيلم نادر جلال «لا وقت للدموع» ١٩٧٦م، هناك فتاة من المهاجرين من منطقة القناة تلتقي بضابطٍ شاب فيتحابا ثم يخطبها، ويذهب إلى الحرب وتعرف أنه استُشهد. ومن أجل لقمة العيش تعمل في علب الليل، ولكن تلتقي يومًا بحبيبها الذي لم يمت، فتشعر أنها غير جديرة به فتلقي بنفسها تحت عجلات القطار. أما فيلم حسن الإمام فلم نرَ الفتاة تسقط في الخطيئة؛ وذلك لأن المتفرج الشرقي لا يتهاون مع امرأة أخطأت مهما كانت دوافعها.
هذه الفكرة استمد منها محمد خان فيلمه «الثأر»، ونقل أجواء الغرب إلى مدينة القاهرة، وقام محمود ياسين بأداء شخصية المواطن الذي يطارد أربعة من الرجال اغتصبوا زوجته. ومثل الفيلم اقتباسًا لفكرةٍ يمكن من خلالها لكاتب السيناريو أن يبتدع حكايات جديدة يتم من خلالها تجديد شكل الانتقام.
هذه الحدوتة تم نقلها أكثر من مرةٍ إلى السينما المصرية بأكثر من معالجة.
وقد كتب العديد من سيناريوهات هذه الأفلام كاتب السيناريو عبد الحي أديب الذي بدا معجبًا بشكلٍ ملحوظ بهذا الموضوع، ونقل أجواء الوسترن إلى الملاحات القريبة من الإسكندرية في فيلمي «امرأة على الطريق» لعز الدين ذو الفقار عام ١٩٥٨م، ثم «شوق» لأشرف فهمي، بعد ذلك بثمانية عشر عامًا. كما قدم نفس التجربة في أجواء البدو في فيلم «صراع العشاق» عام ١٩٧٩م من إخراج يحيى العلمي. كما نوقشت نفس الحدوتة في أفلامٍ أخرى هي «الأقوياء» لأشرف فهمي و«نداء العشاق» ليوسف شاهين وغيرها من الأفلام.
وحول فيلم «صراع العشاق» يتحدث مجدي فهمي قائلًا: «في الفيلم الأول البطلة جنيفر جونز فتاة خِلاسية؛ أي نصف هندية ونصف أمريكية، تلتحق بالعمل في ضيعة مربٍّ كبير للماشية والخيول، إنه ليونيل باريمور، فتُوقِع الأخوين جريجوري بيك وجوزيف كوتن في حبها، وتتسبب في أكثر من مأساةٍ دامية للأسرة، ليس أقلها مبارزة بين الشقيقين. والنسخة العربية من الفيلم الأمريكي تجعل حمدي غيث مكان ليونيل باريمور، وتستبدل بالأم ليليان جيش زهرة العلا، وتسند دور جنيفر جونز إلى سهير رمزي، في حين تجعل شكري سرحان بديلًا لجوزيف كوتن، ومن حسين فهمي الأخ الأصغر بدلًا من جريجوري بيك. والضيعة الغربية الأمريكية أصبحت نائية في صحراء مصر.»
وفي هذه الأفلام جميعها يلعب الأب دورًا حساسًا في إثارة الصراع بين ولديه، خاصة مع وجود امرأة ذات حس قوي. هذا أب يكره أحد الولدين بسبب أمه التي هربت منه ذات ليلة. أما المرأة التي دخلت هذه الضيعة، فهي تتزوج أحد الأخوين وعيناها على الرجل الآخر، هي قطعة من النيران المتقدة. وهناك أخٌ طريد، هو دائمًا الأخ الطيب؛ لأنه يفضل قانون الحكومة على قانون أبيه.
والعلاقات في هذا الفيلم معقدة، جاءت أغلبها من الماضي لتطارد الأبناء في الحاضر، وتجعلهم يدفعون الثمن، وبعيدًا عن التشعبات في هذه العلاقات فإن كل هذه الأفلام مستمدة عن قصة هابيل وقابيل المذكورة في العهد القديم. وقد دارت أغلب موضوعات الأفلام المقتبسة عن هذا الفيلم في إطارٍ عصري. ومن الملاحظ أن رواية «شرق عدن» التي سبق الإشارة إليها قريبة إلى حدٍّ كبير من فيلم كنج فيدور. ولا نعرف الظروف التي دفعت شتاينبك لكتابتها بهذه الصورة. لكن الناقد ليزلي هالويل يرى أن «صراع في الشمس» هو ثاني الأفلام الكلاسيكية الهامة في تاريخ السينما بعد فيلم «ذهب مع الريح».
ومن قائمة الأفلام المقتبسة عن السينما الأمريكية، سوف نتأكد أننا لم نكن على خطأ حين أشرنا في بداية هذا الفصل، أن السينما الأمريكية هي الأم غير الشرعية للسينما المصرية.
(١) قراءات فيلمية
(١-١) الوردة الحمراء
اتفق أغلب نقاد السينما العالمية أن فيلم (جيلدا) الذي أخرجه تشارلز فيدور عام ١٩٤٦م لم ينجح ذلك النجاح العالمي المدوِّي إلا بفضل الجاذبية الطاغية لبطلته ريتا هيوارث، وأن قصة الفيلم عادية للغاية، حول المقامر المحترف الذي يلتحق بالعمل في أحد نوادي القمار، ويكتشف أن زوجة رئيسه المشبوه هي «جيلدا» حبيبته السابقة، وتنشأ بينهما علاقة يمتزج فيها الحب والكراهية، خصوصًا وقد عهد إليه الزوج (جورج ماكريدي) بمهمة الحارس الخاص للزوجة اللعوب.
وبالفعل فإن نجاح «جيلدا» عالميًّا كان بسبب ريتا هيوارث، التي ألهبت خيال الرجال في هذا الدور بطريقة مشيتها ونظراتها وابتسامتها. حتى فستانها الساتان الأسود المثير والقفاز الطويل اللذان ظهرت بهما في الفيلم قد صارا موضة، لدرجة أنه لم تحظ فنانة من فنانات الشاشة في النصف الأول من القرن العشرين بما حظيت به ريتا هيوارث عن هذا الدور.
إذن فقد ارتبطت شخصية «جيلدا» بالممثلة التي جسدت الدور. والغريب أن السينما المصرية لم تفكر لأكثر من نصف قرن في اقتباس هذا الفيلم لسببين أساسيين؛ الأول: أنه من الصعب أن تجسد ممثلةٌ شخصيةَ جيلدا بنفس الجاذبية. وأيضًا شخصية المقامر التي جسدها جلين فورد الذي لعب دور العاشق العنيف الذي يتمنع دومًا أمام إغراء حبيبته، مما صنع ثنائيًّا سينمائيًّا عملا معًا في ثلاثة أفلام هي: «غراميات كارمن» ١٩٤٨م، و«قضية في ترينداد» ١٩٥٢م، و«مصيدة المال» ١٩٦٢م.
أما السبب الثاني: فإن أغلب أحداث القصة تدور في صالات القمار، وهي أماكن لم تألفها السينما المصرية كثيرًا، إلى أن فكر عبد الحي أديب في أن يسرا هي الأصلح في أن تجسد هذه الشخصية لما تتمتع به من حيويةٍ وجاذبية، فجاء فيلم «الوردة الحمراء» لإيناس الدغيدي.
تدور أحداث فيلم جيلدا بالكامل تقريبًا في صالات القمار داخل فندق، لكن فيلم «الوردة الحمراء» يمثل عودة لكلٍّ من إيناس الدغيدي وعبد الحي أديب إلى الغردقة حيث المكان متسع وحيث يمكن الاستفادة من سحر الطبيعة، مثلما سبقت التجربة مع فيلم «استاكوزا» ١٩٩٦م. ومنذ اللقطة الأولى، ونحن نرى المطربة جميلة (يسرا) وهي تغني في أحضان الطبيعة قريبًا من شاطئ البحر، قبل أن نتعرف على الأبطال الرئيسيين الثلاثة للفيلم، وهو الثالوث القديم؛ الزوج، فيما بعد، عزمي الدمنهوري (أحمد رمزي)، والزوجة جميلة، والحبيب العائد صلاح (مصطفى فهمي)، ووراء كل منهم يكمن سرٌّ غامض، فصلاح يبحث عن المغنية، التي ما إن تعرف بظهوره، عقب خروجه من السجن، حتى توافق على الزواج من عزمي صاحب الفنادق الضخمة في الغردقة، وهو مليونير يعمل في الخفاء في تجارة السلاح.
وإذا كان الفيلم الأمريكي قد عكس قوة الثنائي فورد وهيوارث، فإن الفيلم المصري يعكس قوة عزمي، سواء من ناحية الأداء، أو حضور الشخصية، فهو رجلٌ شديد القسوة، يحمل ماضيًا ممزوجًا بخيانة زوجته جعلته يصل إلى سنٍّ متقدم دون أن يقترب من امرأة، رغم وجوده في مكانٍ تملؤه الحسان من كافة الأصناف. لكنه يقرر اختيار جميلة التي تعرف عليها قبل أسبوعين، وعندما يوافقان على الاقتران، يشترط كلٌّ منهما على الآخر عدم الخوض أو السؤال عن ماضي شريكه، هذا الماضي الذي سيؤرق الثلاثة معًا فيما بعد، خاصة عزمي الذي سيعرف ذات يوم أن زوجته كانت عشيقة لصلاح، الذي جعله رجله الأول في إدارة صالة القمار.
وصلاح الخارج من السجن، عقب خطأ قامت به جميلة، دون أن تدري — لم نعرف التفاصيل بشكلٍ واضح — يبحث عن جميلة للانتقام منها، لكنه يجد نفسه شاهدًا على عقد قرانها بعزمي كي تصير محرمة عليه.
والعلاقة يحدها التجاذب والتنافر، فرغم الخشونة التي يبديها كلٌّ منهما تجاه الآخر، فإن جميلة تعلن لوصيفتها (أنجيل آرام) أنها لا تزال تحبه. وشخصية جميلة هنا تختلف عن جيلدا، فهي زوجة تضعف أمام مشاعرها وتحاول أن توقف المشاعر القديمة في قلب حبيبها، لكن جيلدا كانت امرأة لعوبًا تعرف كيف تجذب رجلها الخشن، وكيف استطاعت أن تجعله يلين بعد مقاومةٍ شديدة.
وكما أشرنا فإن الشخصية الرئيسية هنا ليست المرأة، بل الزوج عزمي، فهو رجل يجعل ماضيه خلفه، وهذا الماضي سبب له شرخًا، لدرجة أنه لا يتردد لحظة أن يضرب الملحق «خيري» بسيارته، ليسبب له عجزًا؛ لمجرد اكتشافه أنه يحاول التقرب — عن غير قصد — من امرأته. والغريب أن الشرطة لم تحقق في الموضوع، وكأن الموضوع سُجِّلَ ضد مجهول.
وعزمي عانى في خيانة امرأته السابقة، باعتبار أنها خانته مع أعز أصدقائه. ويوحي الفيلم أن الخيانة الجديدة مع ساعده الأيمن في إدارة أعماله، خاصة صالة القمار؛ ولذا فهو لا يستطيع التخلص منه بسهولة، باعتبار أن المال ليس له قلب، لكن الغيرة تأكله فيما بعد.
وعزمي ليس رجلًا غيورًا بطبعه، رغم الصدمة القديمة، يتعامل في البداية ببراءةٍ مع كل الأطراف، وعندما يعطيه صلاح خاتم امرأته الذي كسبه منها أثناء مباراة سباحة، فإنه يندهش من تقديم استقالته، ويردد ببراءةٍ خالية من الوسوسة لزوجته: «أهو إنتي اللي حتخليه يتراجع عن استقالته عشان نفصله.»
ولا يتسرب الشك إلى قلب الزوج إلا عندما يراها تدفع به أرضًا، كي تحميه من رصاصةٍ أطلقها الزبون فرانسوا الذي أعلن إفلاسه، ورغم هذا المشهد فإنه لم يبنِ حكمه بشكلٍ نهائي إلا بعد أن أرسل مدير الفندق (حسين الإمام) للتقصي، فيأتيه هذا الأخير بشريطٍ يتضمن احتفالًا قديمًا بعيد ميلاد صلاح، شهد لقطات حب بين العاشقين القديمين.
وعندما سافر الزوج إلى لبنان لعقد صفقة سلاح جديدة، تصورنا أنه يحاول أن يفسح مساحةً لا بأس بها للخيانة الزوجية، لكن ليس لرأس المال قلب، فإن كل ما يفعله أثناء سفره هو الاتصال الهاتفي بحجرة زوجته — لا نعرف لماذا لم نشاهد «موبايل» قط في الفيلم، مما يوحي بأن السيناريو مكتوب قبل فترة — ولسوء الحظ كان صلاح في غرفة الزوجة، بعد أن أنقذها من الإغماء وحملها وحده إلى غرفتها، ويؤكد مسألة الخيانة أكثر.
وأهمية فيلم «جيلدا» تأتي من الصلافة التي يتسم بها العاشق، وقد افتقد صلاح هذه الصلافة هنا، وهي سمة أكسبت نجومًا عالميين شهرتهم الأبدية، مثل: جيلين فورد، وهمفري بوجارت، وجيمس كاجني، ولكن هذه الصلافة لم تتوفر بشكلٍ ملحوظ في الممثل مصطفى فهمي، فتارة نراه في دور الشاب اللاهث الذي يهتز على أنغامٍ موسيقية، وأخرى هو جافٍ بلا سبب، كما أن المعركة التي واجه فيها الكثير من الرجال، ولم يخرج منها منهزمًا، قد نُفذت بشكلٍ غير جيد.
لكن الصلافة بدت أقرب إلى عزمي، خاصة فيما يتعلق بشعوره بالغيرة على زوجته الشابة، وقد أكسب السن أحمد رمزي ملامح وجه تصلح للتعرف، وتعطيه مكانة الشرير الجديد في السينما، خاصة أنه لا يحاول التجمل بوضع باروكة على شعره. لكنْ هناك فارق ملحوظ بين الممثل الذي جسد شخصية الزوج في فيلم تشارلز فيدور «جيلدا»، وبين أحمد رمزي. ولعل محاولات عزمي القتل مرة تلو المرة أفقدت المُشاهد أي تعاطفٍ معه، رغم أنه رجلٌ من حقه أن يشعر بالغيرة الشديدة، وهو يشاهد زوجته في أحضان حبيبها السابق، حينما كان الشريط يعود إلى الماضي، بإطلاق الرصاص على التليفزيون، كأنه يقتلها في مخيلته، قبل أن يخطط لذلك.
ورغم أن عزمي قد قام بإغراء المطربة جميلة عن طريق المال أو المجوهرات، وحدثها أنها سوف ترث منه الكثير، فإن المرأة لم تبدُ أنها جشعة، أو ميالة إلى المال، وبدا الزوج جذابًا فوق الفراش وفي الواقع، وكأن هناك خيطًا رفيعًا بين الكراهية، وبين العودة إلى مشاعرها القديمة تجاه صلاح.
والغيرة تلعب دورًا رئيسيًّا في كشف المشاعر، مثل ظهور فتاة تقع في حب صلاح، وتجدها جميلة في بيته عندما تذهب إليه، ونحن لم نرَ تفاصيل ما دار بين المرأتين في الغرفة عندما انفردت إحداهما بالأخرى. بينما يقوم عزمي، دون مبرر، بزيارة صلاح كي يحكي له عن مشاعره. والغريب أن تناقضًا ملحوظًا قد بدا في سلوك عزمي، فهو تارة ينفر من صلاح، ثم إذا به يحكي له عن متاعبه الخاصة، ويروي له جزءًا من ماضيه.
وقد دخل الفيلم في دائرةٍ فرعية، حيث نرى الزوج يسافر إلى لبنان من أجل عملية تهريب وبيع أسلحة، وهو موضوع فرعي، من أجل إثبات أن الانتقام من خلال خطة أفضل للزوج من الانتقام وقتل الخائنَين من خلال خصومه.
والفيلم، مثل الكثير من الأفلام المصرية، يقطع أبطاله عن جذورهم الاجتماعية، فنحن أمام ثلاثة أشخاص في مكانٍ معزول، بعيدًا عن الحياة الاجتماعية المألوفة، لا آباء ولا أبناء ولا جذور.
وكما أشرنا، فإن الفيلم قد استفاد من الأجواء السياحية للغردقة، وهي سمة واضحة في الكثير من الأفلام الحديثة، وكان آخرها: «شورت وفانلة وكاب»، و«ليه خلتني أحبك».
(١-٢) قلب جريء
أصيب الرئيس الأمريكي في حادثٍ ضخم، فدخل إلى غرفة الإنعاش بين الحياة والموت.
وأمام هذا الحرج السياسي كان على أجهزة الاستخبارات أن تتصرف بأي شكل، خاصة أن هناك مَن يتربص بالولايات المتحدة، وتم البحث عن شخصٍ له ملامح الرئيس، ولا يمكن لأي جهةٍ أن تتعرف عليه، كي يقوم بدور الرئيس؛ يصدر الأوامر وينام في مخدعه مع زوجته، وذلك حتى يجتاز الرئيس الأزمة.
هذه هي الفكرة الرئيسية في الفيلم الأمريكي «داف» لإيفان ريتمان ١٩٩٣م، وهي أيضًا الفكرة الرئيسية في فيلم «قلب جريء» لمحمد النجار ٢٠٠٢م، مع الفرق بالطبع عندما تتم معالجة هذه الفكرة وتمصيرها، فلا بد أن يتم تجنب الممنوعات، خاصة الاقتراب من شخصية الرئيس، ولا مانع من أن يكون عالمًا مصريًّا من طراز الدكتور جمال يوسف (مصطفى قمر)، تمكن من اكتشاف سر تركيبة كيماوية يمكنها أن تتحول إلى مصلٍ ضد الجمرة الخبيثة، مما دفع بمنظمةٍ مجهولة إلى الحصول على هذا الاكتشاف بأي ثمن، وإلا أطلقوا النيران على العالِم الذي أخفى سر اكتشافه في إحدى الخزائن ببنكٍ في مدينة أثينا.
هذه المنظمة المجهولة تتكون من رجلٍ له ملامح غريبة، وامرأة فاتنة تسعى إلى أن تحصل على ما تريد عن طريق الإغراء «أسلوبٌ قديم وتقليدي»، ومجموعة من الرجال الأشداء اعتدنا عليهم للقيام بمثل هذه الأدوار، ويتصل كبيرهم في الهاتف ليقول لنا على استحياءٍ إنه يعمل لصالح شخص يُدعى «شمعون».
تمكنت هذه العصابة من إصابة جمال إصابة بالغة، فصار تحت المراقبة الطبية الصارمة والسرية، وعلى الجهات الأمنية أن تقوم باستزراع شخص بديل له، حتى يتم كشف اللغز المجهول.
المفروض، بداية، أننا في فيلمٍ غنائي، يعتمد على الشخصية الرئيسية التي يجسدها المطرب «مصطفى قمر»، لكن لنعد إلى مسألة إحلال الأشخاص، فهي الركيزة الأساسية في الفيلم، فقد تحول الرئيس الأمريكي (الأساسي والبديل) في فيلم «داف» إلى عالم كيمياء، ثم إلى نصاب يسمى رامي (مصطفى قمر) في فيلم «قلب جريء».
صحيحٌ أن الرئيس تحول إلى عالمٍ حسب النسخة المصرية، لكن هذا لا يلغي أن الاثنين يعيشان في أجواءٍ مشابهة؛ القصور الفخمة ذوات الدهاليز المتداخلة والديكورات اللامعة، وأيضًا يوجد في هذا البيت الواسع امرأة قابلة للحب، ففي الفيلم الأمريكي استعذبت زوجة الرئيس القادمَ ليقوم بدور البديل، أما الفيلم المصري فقد حول زوجة الرئيس إلى ابنة عم لجمال، باعتبارها ترعى شئونه عقب وفاة زوجته، ولأن قوانين الرومانسية المصرية تتطلب أن تكون الحبيبة مريم (ياسمين عبد العزيز) جميلة وعذراء، وأن تتحول من الجمود والصد إلى الإحساس بالغيرة والضيق حين تقترب من رامي فتاة أخرى، وهو أساسًا نصاب و«بتاع بنات».
وفي الفيلم الأمريكي، هنا مواقف كوميدية سياسية، يتعرض لها «داف» مع مَن يحيطون به، رغم كل هذا الحشد من رجال الأمن الذين يحرصون على عدم اكتشاف الحقيقة. أما في «قلب جريء» فإن هناك ثلاثة أشخاص يفعلون ذلك؛ الأب (حسن حسني)، ومريم، ثم ضابط الأمن (طلعت زين)، وعلى مريم أن تتقن عملها، فهي التي توجه «رامي» إلى ما يجب أن يفعله عن طريق الاتصال اللاسلكي به، بجهاز إرسال معها، واستقبال يضعه في أذنه. ولأنه «بتاع بنات» فإن كل همه هو أن يغازلها أو أن يتقرب إليها أو أن يصطاد أي بنت، حتى إذا قرر أن يغير عالمه، وأن يبتعد عن البنات، فإن ذلك يعني في المقام الأول أنه وقع «في الحب».
لذا، فإن الفيلم أفرد مساحةً كبيرة لقصة الحب التي نمت ببطء، وأثناء المهمة التي يقوم بها رامي في البيت المتسع للغاية، أكثر من مسألة اكتشاف هوية العصابة، أو الصراع حول سر الاكتشاف الطبي؛ بالطبع لأننا أمام فيلمٍ غنائي تم تصوير الأغنيات فيه على طريقة الفيديو كليب، فبدا أسلوب تصوير وإخراج الأغنيات مختلفًا تمامًا عن إيقاع الفيلم نفسه، وأسلوب إخراجه.
إذن، فنحن أمام قصة حب لا تختلف تفاصيلها عما نشاهده من قصصٍ تُحول أبطالها الرئيسيين من النقيض إلى النقيض الآخر. وعلى سبيل المثال، فإن التحول الذي حدث للنصاب في «حرامية في كي جي تو» لا يختلف كثيرًا عما جرى لرامي، لقد حول الحب الشابين إلى أشخاصٍ مختلفة، يطرد كلٌّ منهما ماضيه السيء ويتخلى عنه، وفي النهاية يفوز بحبيبته التي تعرف أصله، على طريقة سينما الأربعينيات والخمسينيات.
عمومًا، نحن أمام هذه السينما، بكل حذافيرها، خاصة أننا في «قلب جريء» نجد السينما تستعيد ظاهرةً قديمة للغاية، تتمثل في ظاهرة «صديق البطل»؛ وهو الشخص الذي يظهر كي يؤدي دور الكوميدي في أعمالٍ تغلب عليها الكآبة من طراز «الشموع السوداء» و«نهر الحب»، وكلاهما لعز الدين ذو الفقار. صديق البطل هذا هو مضحك الفيلم، وقد جسده لفترةٍ في السينما المصرية كلٌّ من عبد المنعم إبراهيم، وفؤاد المهندس، ومحمد عوض.
هذه الشخصية تجدد وجودها في الأفلام المصرية في الأعوام الأخيرة، مع اكتشاف قدرة أحمد عيد على إلقاء الإفيهات، وهذه الشخصية يمكن الاستغناء عنها دراميًّا، فإذا غابت عن الأحداث، ما أحسسنا بأنها ضرورية أم لا، لكن وجودها بالغ الأهمية من أجل دغدغة الناس، سواء في إلقاء الإفيه، أو إثارة جو من البهجة.
وقد أضيفت هذه الشخصية في أفلامٍ حديثة عديدة، جسدها أحمد عيد بنفسه، ومن أبرزها شخصيته في «أفريكانو». ولو أننا حذفنا دور وائل في «قلب جريء» ما أحسسنا بأهميته.
إلا أن الشيء الوحيد الذي لم يستجلبه الفيلم من السينما القديمة، هو هوية المطرب في الفيلم، ففي زمن ازدهار السينما الغنائية لم تكن وظيفة المطرب تتعدى أن يكون مطربًا أو مدرسًا.
أما مطرب ٢٠٠٢ فهو عالِم يهرب وتتم مطاردته، لكنه في المقام الأول «نصاب» يمكنه أن يتشاجر مع رجالٍ أشد منه وأفتك، ويتغلب عليهم، حتى إذا رأيناه يغني، فإنه إما رامي النصاب «يغني»، أو أنه مصطفى قمر المطرب يغني، أو كلاهما معًا؛ لذا فكما أشرنا فإن إيقاع إخراج الأغنيات الذي يبدو منفصلًا تمامًا عن الفيلم نفسه، يجعلنا نشعر أننا نستمع إلى فيديو كليب بعيد عن الفيلم. وعلى سبيل المثال، شكل الدراما التقليدي وهو يغني لها في الشرفة، والمسكينة واقفة في الشرفة الأخرى تستمع إليه .
من الواضح أن مصطفى قمر نفسه، يشارك في عمل فيلم باعتباره ممثلًا أكثر منه مطربًا، وبدا أنه يستعذب نجاحه كممثل، وأداؤه لا بأس به في فيلمين سابقين له هما: «البطل» و«أصحاب ولا بيزنس»، فلم نره يغني إلا مقاطع سريعة طوال نصف أحداث الفيلم الأولى، وبدا كأنه بالغ الجرأة فعلًا، إذ اعتمد على أدائه كممثل لشخصيتين، الاختلاف الشكلي والنفسي ليس كبيرًا، فقلنا إنه صار لدينا فرانك سيناترا مصري، يقوم بأعمال الحركة، والمطاردات دون أن يغني. لكن من الواضح أن كثافة الأحداث في النصف الثاني فرضت الأغنيات، خاصة أن أغنية الاعتراف بالحب بين الطرفين، التي صُورت في شوارع اليونان، قد جاءت لتُعمِّد قصة الحب، فبدت مريم كأنها تنازلت عن كل أسلحة المقاومة في الاعتراف بحبها بشكلٍ سريع لا يتوافق مع صدودها الشديد من قبل.
وأمام عدم وجود أحداث كبرى، فإن «الزعل» المصطنع من طرف مريم، كان سببًا دراميًّا لمط الأحداث، مثل اكتشاف الفتاة، وهي في قمة سعادتها، أن رامي قد فهم شخصيتها، ليس من خلال حبه لها، ولكن لأنه قام بقراءة وتصوير أجندتها اليومية، فغضبت، وقررت أن تهجره.
التحول الذي أصاب «داف»، ثم رامي كان متشابهًا، والنهاية أيضًا متشابهة؛ فقد مات الرئيس الأمريكي في الفيلم كي يتيح لقصة الحب التي تنامت فيما بين زوجة الرئيس وداف أن تأخذ شكلها الطبيعي. وحدث نفس الشيء بين رامي ومريم، فقد مات جمال في المستشفى. وحرصًا على أن يتربى ولداه في أحضان رامي الشبيه، وحتى لا يفقدان الشعور بأن لهما أبًا، فإن الجد يضم كلًّا من الحبيبين إلى صدره، ومعهما وَلَدَا جمال الذي لم يكن قد دُفن بعد، في مشهدٍ مفتعل.
«قلب جريء» يلتزم بقوةٍ بالقوانين الرقابية الاجتماعية الجديدة، لا قبلات، ولا ملابس خليعة، ولا إثارة، لا اقتراب أكثر من اللازم من حبيب القلب، لا عناق. ولا شك أن الناس تحب ذلك وتدفع بالأسرة بأكملها للذهاب للمشاهدة، وهذا شيء رائع. لكن الحب في مثل هذه الأفلام، مهما كان مكتوبًا بشكلٍ جيد، فإنه مغلفٌ بشمعٍ يفقده الإحساس الحقيقي بالصدق.
(١-٣) التجربة الدنماركية
في الفيلم الأمريكي «الزواج يأخذ طريقه» لوالتر لانج ١٩٦١م، بطولة جيمس ماسون وسوزان هيوارد، جاءت حسناء سويدية إلى بيت زوجين يعيشان في حالة استقرار ويعملان في الجامعة، وقررت الإقامة في البيت بضعة أسابيع، ورمت بشباكها على الزوج العجوز، صديق أبيها، وأخبرته أنها تود أن تنجب منه طفلًا، له ذكاء العالِم، وجمال الأم، وراحت تغويه حتى سقط في هواها وضاجعها، ثم قررت أن تسافر حاملة جنينها، وحين أخبرها العالِم أنه يحبها أبلغته أن كل ما حدث كان تجربة لإنجاب طفل نموذجي.
فكرة هذا الفيلم صارت المحور الرئيسي للفيلم اللبناني «أعظم طفل في العالم» ١٩٧٥م إخراج جلال الشرقاوي، بطولة ميرفت أمين، وهند رستم، ورشدي أباظة. وقد صار الفيلم العربي بمثابة نسخة طبق الأصل للفيلم الأمريكي، خاصة في المفهوم الرئيسي للحدوتة، فالزوجة عندما علمت بأمر هذه العلاقة العابرة لزوجها العالم لم يمكنها أن تغفر له، وكانت الزيارة العابرة بمثابة المعول الذي هدم بيتًا سعيدًا.
هناك خيط رفيع يربط بين فكرة الفيلم الأمريكي، وفيلم «التجربة الدنماركية» لعلي إدريس رغم اختلاف النهاية، والتفصيلات العديدة التي شاهدناها من تأليف يوسف معاطي، فقد تحولت الأستاذة الجامعية (الزوجة) هنا إلى أربعة شباب في مقتبل العمر، يتمتعون بلياقةٍ بدنية ملحوظة، يعيشون مع أبيهم رئيس جهاز الشباب والرياضة في منزلٍ فخم أقرب في شكله إلى بيت الزوج الأمريكي، وتتم ترقيته فيما بعد إلى درجة وزير.
لكن المرأة التي جاءت إلى هذا البيت لا تختلف كثيرًا، فالفتاة (جولي نيومار) جاءت من البلاد الباردة المتحررة في علاقاتها الجنسية، وأنيتا (نيكول سابا) جاءت من بلدٍ مجاور هي الدنمارك، كلتاهما ذات ثقافة واحدة، ولها تقاسيم نسائية فاتنة. لكن المرأة السويدية لم تلفت إليها كل هذه الحشود التي طاردت أنيتا من المطار إلى بيت قدري المنياوي (عادل إمام)، ومن أجلها تكدست حشود الرجال حول سور المنزل لبعض الوقت. بالإضافة إلى الدور الإيجابي الذي لعبته في تغيير الأبناء الأربعة الذين يعيش معهم الأب، وهم على التوالي: محمود (مجدي كامل)، وهو الصحفي الذي سينتقد أباه في إحدى صحف المعارضة، ثم إبراهيم الملاكم الذي سيخسر مباراته بعد أن يهمل الأب متابعته بسبب أنيتا، ثم هناك حسين وعبد الرحمن.
موضوع بسيط للغاية، لكن التفاصيل في كل معالجة اختلفت تمامًا من فيلمٍ لآخر؛ ففي التجربة الدنماركية، أفسح يوسف معاطي مساحةً طويلة، ربما أطول من اللازم، للتعرف على حياة قدري وأسرته، فالأبناء الرياضيون يحتاجون إلى كمياتٍ هائلة من الأطعمة بشكلٍ مبالغ فيه، وكثيرًا ما يفضون مشاكلهم بواسطة ما يتمتعون به من قوى وعضلات، ابتداء من مجموعة الشباب الذين حطموا سيارة قدري وأسرته، فكان لا بد من التشابك الذي نفذه علي إدريس على طريقة السينما الصامتة. ويبدو أن المعركة السينمائية الأولى لم تكن تكفي لإشباع المخرج لتقديم ما يريد، فرأينا ثلاث معارك متشابهة الآلية والنتائج؛ الثانية في حفل الزفاف الذي ذهب فيه قدري وأولاده تلبية لدعوة صديق قديم، أما المعركة الثالثة فتلتها مباشرة عندما ذهب الجميع إلى مطعمٍ شعبي، ففوجئوا بأنفسهم دون أن يدروا، بأنهم ضحية لخدعة لأحد برامج الكاميرا الخفية.
بلغة السينما، فإننا نشاهد كل هذه التفاصيل دون أن نرى أو نعلم شيئًا عن أنيتا جوتنبرج. وقد وجد كاتب السيناريو أن عليه إضافة الكثير من الحواشي إلى موضوع فيلمه الذي لا يصلح سوى لفيلمٍ قصير، أو أن تتم مناقشته على طريقة فيلم والتر لانج. ومن بين هذه الحواشي زيارة الوزير قدري إلى مركز شباب «أبو المزامير»، فيجد المدير وقد حول المكان إلى شيء لا يمت بأي صلةٍ إلى أن يكون بيت شباب أو ما شابه، فيقوم الوزير بضرب المدير.
إذن، فنحن أمام فيلم مليء بتفاصيل يمكن اختصارها، قبل أن تظهر أنيتا، ففي إحدى الحفلات يلتقي الوزير بأحد أصدقائه القدامى، ويطلب منه هذا الصديق استضافة شقيقة زوجته الدنماركية، التي تقوم بعمل بحث عن منطقة السيدة نفيسة، وعندما يتم استقبال هذه الفتاة، فإننا نرى أنيتا شابة ذات جمال ملحوظ، يمكنها أن تلخبط أحوال البلدة منذ وصولها إلى أن صعدت نفس سلم الطائرة التي نزلت منها في منتصف الفيلم وهي تتقصع.
استطاعت أنيتا أن تجذب وراءها المئات من الشباب المحروم، فطاردوها حتى داخل بيت الوزير، وبزغت أعينهم من الرغبة، وغيرت أسلوب مدير مكتب الوزير شكري (أحمد راتب)، إلى سقوط كل آل بيت الوزير في هوى أنيتا، وما سوف تسفر عنه العلاقات بين الأشقاء وبعضهم البعض، ثم مع أبيهم الوزير الذي سيغير من إيقاع حياته وسلوكه، لدرجة أنه سوف يتم القبض عليه وهو يقوم بتقبيل حبيبته الدنماركية في إحدى سيارات الأجرة، رغم أن هناك لجنة لمراجعة شئون الوزير. كما أن أنيتا سوف تهتم بالحديث عن التربية الجنسية لكل مَن يقابلها، خاصة لدى أفراد البيت الذي استضافها، وهي التي ستقوم بالدخول إلى قاعة مجلس الوزراء ببدلة رقص شرقي كي ترقص وسط أعضاء المجلس، وأمام رئيس الوزراء. كما أن هذه الباحثة الدنماركية الجميلة تعطي للأبناء جميعًا دروسًا في الثقافة الجنسية، وتؤكد أن الفرق بين الإنسان والحيوان هو آليته في ممارسة الحب، فجميع الحيوانات تتناسل، لكن على الإنسان أن يستخدم كافة إمكاناته من أجل التلذذ.
ومن حديث الوزير إلى الباحثة الإسكندنافية نفهم أن المتعة الحسية لم تكن شيئًا ملموسًا مع زوجته الراحلة؛ لذا فإن مسامه تتفتح على وجود هذه الأنثى الفياضة، فيهمل وظيفته ومراسيمها، ويغير من منظوره للحياة، ويرتدي ملابس الشباب، ويتصرف بشكلٍ صبياني، وينتهي الأمر بأنْ يستقيل من عمله من أجل أن يتزوجها، لكن عند سلم الطائرة يتراجع من أجل أن يكون إلى جوار أبنائه الأربعة. وفي المشهد التالي مباشرة نراه ينطلق في حدائق واسعة مع الأبناء والأحفاد الذين عاش من أجلهم.
ليس مطلوبًا من الناقد أن يحلل مثل هذا النوع من الأفلام، وأن يُسقط عليه من المديح أو النقد ما يستحق أو لا يستحق، فنحن أمام عملٍ مصنوع أساسًا من أجل البهجة، إذا أردت أن تبتهج فشاهده، وهو ليس مصنوعًا من أجل الشيوخ الذين سبق لهم رؤية مثل هذه المواقف المضحكة في أفلامٍ عديدة. فمسألة صفع شخص أثارت الضحك في الفيلم الإيطالي «اسمي لا أحد» بطولة تيرنس هيل عام ١٩٧٢م، وقد استخدمها الفيلم كثيرًا سواء من قِبل الأب الذي لم يتوانَ عن صفع أبنائه، خاصة عبد الرحمن. ومسألة الأكل مع «المفاجيع» سبق أن شاهدناها في «الحفيد»، خاصة هؤلاء الذين يزعمون أن الطعام الكثير لا يكفيهم، كما أن مشاهد المعارك التي يتم فيها تحطيم زجاج النوافذ العملاقة شاهدناها مرارًا في أفلام الكاوبوي في الستينيات، ثم تكرر كثيرًا لدرجة أنه لم يعد يضحك مَن سبق له أن شاهده، كما أن مشاهد الزوج المخنث لم تبدُ جيدة، كما أن زيارة مسئول كبير لأحد قطاعاته قد سبق أن رأيناها في «إمبراطورية ميم».
لكن هناك مشاهد بدت مصنوعة بإتقان، وجديدة إلى حدٍّ ما، منها على سبيل المثال التصوير داخل برنامج الكاميرا الخفية «اديني عقلك». وقد ظهرت شخصية رئيس الوزراء بشكلٍ ساخر للمرة الثانية على التوالي في أفلام الصيف، فبعد وحيد سيف في «عايز حقي»، ها هو محمد الدفراوي يقوم بدور رئيس وزراء يعاقب أحد وزرائه، وفي مشهدٍ آخر يجد مجلس الوزراء أنفسهم يشاهدون فيلمًا جنسيًّا وسط القاعة.
كما كشف الفيلم عن مسألة الديمقراطية المدَّعاة، فالأب الوزير يدعي أنه ديمقراطي، لكنه يتعامل بعنفٍ ملحوظ مع ابنه الأكبر عندما يعرف أنه كاتب المقالات الانتقادية ضده كوزير، فلا تأخذه به رحمة، ويؤنبه بقوة في مؤتمرٍ صحفي أمام الآخرين.
لكن أفضل لو ظهرت شخصية العالمة أنيتا جوتنبرج ضمن الدقائق الأولى للأحداث، فوجودها قد بث حيوية ملحوظة في الفيلم، وقد وُفِّقَ عادل إمام في اكتشافها، وهي أكدت أن اللبنانيات قادمات إلى مصر بقوة، سواء في الغناء أو السينما، فليست لدينا ممثلة يمكنها أن تقبل بمثل هذا الدور، ولا أن ترتدي نفس الملابس، وسط ادعاءاتٍ غريبة بالبحث عن سينما نظيفة مغسولة بالكلور. كما أنه ليس لدينا ممثلة يمكنها أن تكون بنفس الرشاقة، وأتمنى ألا يتم حبس نيكول سابا في أدوارٍ مماثلة.
هذا أفضل اختيار سينمائي لعادل إمام منذ أربعة أعوامٍ على الأقل، ورغم أنه قَبِلَ أن يقوم بدور أبٍ لأربعة أبناء، إلا أنه اختار أن يتفوق عليهم، وأن تكون أنيتا من نصيبه.
علي إدريس مساعد مخرج سابق لسعيد حامد، والذي لفت الأنظار إليه في فيلمه الأول «أصحاب ولا بيزنس»، نجح في إخراج فيلم مقبول شكلًا وموضوعًا، رغم عشرات المرات التي سب فيها الأب أبناءه بأنهم مجرد «جزم».
(١-٤) عيال حبِّيبة
شاهدت هذا الفيلم في إحدى قرى الساحل الشمالي، في دار سينما صيفية، تعرض ثلاثة أفلام تباعًا، ابتداءً من الساعة التاسعة وحتى الساعة الثالثة صباحًا، إنها آلية جديدة ومختلفة من المشاهدة، فبعد يومٍ حار، وبعد أنشطةٍ متعددة مرتبطة بالإجازات، يذهب الناس لمشاهدة هذه الأفلام.
أهمية هذه المشاهدة أن الناس جاءت كي تتسلى وتضحك، وقد لاحظت ذلك من خلال الطفل الذي كان يجلس إلى جواري، يضحك من أعماقه، بما يتفق مع الإجازة، في الوقت الذي نشاهد فيه مواقف تدعو للتأفف، ولولا أننا يجب أن نكمل مشاهدة الفيلم، كي نكتب عنه، لخرجت من الصالة.
كما أن هذا يعني أو يفسر الإيرادات الضخمة التي تحققها هذه الأفلام، فقد سادت دور العرض بشكلٍ ملحوظ، في المدن الكبرى وأيضًا في المصايف التي امتد طولها بطول البحر المتوسط والمدن الساحلية، وفي اليوم نفسه الذي شاهدت فيه الفيلم، قرأت تصريحًا يثير الغيظ والحنق لبطل الفيلم في إحدى الجرائد أنه لا يهمه رأي النقاد، بل إن الجمهور هو هدفه، هذا هو الجمهور الذي يذهب لمشاهدة هذه الأفلام … بصراحة شيء يثير الغيظ … ولا يستحق الفيلم ولا صاحبه أن نكتب عنه.
أشرت في أكثر من مقالٍ من قبل أن أفضل شيء هو أن نترك المساحة المخصصة للنشر فارغة بدون كلمات، احتجاجًا على ما يحدث، لكن لا الفنانون، هذا إذا كانوا فنانين، يعنيهم ما نكتب، ولا الجمهور بقارئٍ كل ما يُكتب عن الفيلم. ولعل هذا يعطيك إحساسًا مؤكدًا بعبثية الكتابة والمشاهدة.
ناهيك عن أن الفيلم الذي شاهدته مأخوذة فكرته الرئيسية من فيلمٍ أمريكي قام ببطولته آدم ساندلر، عن فتاةٍ تفقد الذاكرة كل يوم فتجدد قصة حبها مع حبيبها يوميًّا.
وفي المقدمة أيضًا نرى تفاصيل العلاقة بين الأب سعيد (حسن حسني) بابنه الوحيد عيد، فهو حريصٌ عليه وعلى تصرفاته، ويحاول أن يمنع عنه الوقوع في الحب، فجعل منه شابًّا خجولًا، كل ما يطمح إليه هو أن يكون عاشقًا ومحبوبًا، وهذا الأب يتعامل بشكلٍ زاعق مع ابنه وجيرانه وأصدقاء ابنه، وتبلغ درجة الزعيق حين يقف الأب في الشرفة ويَزعَق، ويقوم بتمزيق ورقة نقدية بمائة جنيه، فيخرج الجيران بشكلٍ صابوني أقرب إلى الفقاعات، حسب أوامر المخرج، مما يجعلك تشعر أن التمثيل هنا فعلًا تمثيل.
وفي المقابل، في المقدمة نفسها، يقدم لنا الفيلم الطرف الآخر من العلاقة، فالصحفية نهى (غادة عادل) تعمل في إحدى المجلات الخاصة، التي تعتمد على الإعلانات، وهي تقوم بتصوير فعل رشوة في الشارع (نعم، في الشارع في وضح النهار)، الذي تقع فيه دار السينما التي تعرض فيلم طروادة، ويشاهدها عيد، حين يقوم رجال مهران (غسان مطر) بمطاردتها، ووسط المطاردة تفقد المحمول الخاص بها والذي يعثر عليه عيد.
عيد هذا المريض العاطفي الذي يقع في غرام الصحفية من أول نظرة، وهذا الشاب الذي لا عمل له، فقد تم طرده من وظيفته المتواضعة، كل ما فعله أن وقع في الحب، وكل ما فعلته الصحفية الجادة أن وقعت بدورها في غرامه، وكانت النهاية أن تزوجت منه … إنها أشياء ضد منطق العقل، ومنطق السينما نفسها.
العقدة إذن، أن هناك اتصالًا بين شخصٍ مصاب بكل أمراض النفس كما نراه، رغم أن الفيلم يحاول إثبات عكس ذلك، وبين فتاةٍ جادة للغاية، تخاطر بحياتها من أجل فضح رجل الأعمال المرتشي مهران، وتقاوم زميلًا لها ينقل أخبارها إلى مهران، ويساعدها في عملها المصور الصحفي حسن (محمد نجاتي)، وهو أيضًا ابن خالتها، ينتمي الاثنان إلى طبقةٍ اجتماعية أرقى ثقافيًّا قبل أن يكون ذلك اقتصاديًّا. وسوف نرى أن الأب المثقف قد تقبل زواج ابنته بسهولة من هذا الأجلاسير المطرود من عمله.
وقد كان ذكاء السيناريو أن جعلنا أمام ثنائي متناقض، فعيد فصامي حالم يعيش في بيئةٍ شعبية ساذجٌ في مشاعره، أما نهى فهي فتاة عملية ملتزمة صاحبة قضية عامة، فهي تحاول كشف الفساد الاجتماعي متمثلًا في مهران وزميلها مروان (حجاج عبد العظيم)، وهي تعيش في أسرةٍ متحررة، كما أنها تجيد الدفاع عن النفس، وهذا النوع من الفتيات لا يمكن أن تقع في غرام عيد، حتى وإن فقد الذاكرة بسببها.
وأهمية السيناريو أيضًا، رغم سذاجته، أن البطلين لم يلتقيا طيلة أغلب أحداث الفيلم، وعاش كلٌّ منهما في قصته. ففي الوقت الذي فقد فيه عيد الذاكرة، وعلى الأب أن يعالجه من هذه الصدمة، بناء على أوامر الطبيب، وأن يجعله يعيش ظروف لقائه المفقود بنهى، كي تعود له الذاكرة، فإن الفتاة منشغلة بعمل تحقيق عن الفساد المتمثل في شخصية مهران. وبدا الفيلم كأنه انقسم إلى شطرين لا علاقة لأحدهما بالآخر سوى حكاية الموبايل، حيث بدت نهى كأنها غير حريصة بالمرة على استعادته، رغم أهميته في أن بشريحته أرقامًا مهمة، بدليل أنها كانت تؤجل المواعيد، وكان يمكنها استعادة الموبايل من خلال ابن خالتها حسن الذي بدا دوره بالغ السطحية، ولا نعرف ما هي حقيقة علاقته بنهى.
فتطور التلاقي بين نهى وعيد أنها صدمته بسيارتها دون أن تدري أنه هو الذي حمل إليها الموبايل، فسيقت إلى قسم الشرطة، ثم تم عرضها على النيابة. والمرة الثانية حين أتى الأب كي يقابل ابنه، الذي لم نجد ما يدل على أنه فقد الذاكرة أو أنه استعادها. ويعكس هذا عدم استعانة كاتب السيناريو بمتخصصٍ في مثل هذا النوع من الأفلام، فهل هناك فعلًا فقدان ذاكرة من هذا النوع، وهل هناك استعادة ذاكرة بمثل هذه البرودة، فكل الذي رأيناه في عيد أنه طلع علينا بالغناء، الأغنية تلو الأغنية، فيما يشبه الحشر، وهي أغنيات مصنوعة، بحيث إنها يمكن فصلها عن الفيلم لتكون أغنية كليب، مثل أغنية السبوع، التي لم يكن لها أي محل من الإعراب في الفيلم، فلو حُذفت كل أغنيات الفيلم، ما أحسسنا أننا فقدنا شيئًا مهمًّا.
كل شيء تم حله في لحظةٍ واحدة، فالمشاعر تولدت من طرف نهى تجاه عيد، والأصدقاء الثلاثة الذين كانوا وحدة واحدة قد حلوا مشاكلهم، ووالد نهى بارك الزواج، ونحن لا نعرف ماذا يمكن أن يحدث بشأن تدبير وسائل الحياة، فهل يمكن أن يحدث تواؤم بين صحفيةٍ لها جدية نهى، وشاب لاهٍ، فاقد الذاكرة تقريبًا. المهم أن الفيلم بدا كأنه يرضي الطفل الذي جلس إلى جواري يشاهد الفيلم، فلا شك أنه توقف عن الضحك عندما انصرف الفيلم إلى إنقاذ نهى من بين أيدي رجال مهران.
فجأة انصلحت كل الأحوال، واقتنع رئيس التحرير بأن نهى على حق، رغم أن سقوط مروان يعني افتقاد مجلته الكثير من المصادر التمويلية.
مثل هذه الأفلام تعتمد على الحشر، حشر المواقف من أجل استهلاك وقت الدراما، فمهران في بداية الفيلم يدفع رشاوى لا نعرف نوعيتها، وفي الجزء الثاني من الفيلم يحتفظ لديه برسوماتٍ مهمة جدًّا تخص أحد البنوك، ويبدو أن كل شيء سهل، فالعثور على الرسوم أمرٌ بالغ السهولة، والقبض على مهران أكثر سهولة، وكتابة النهاية تتم بلا متاعب وبلا مقدمات. هل تقبل زواج ابني عيد سعيد شعبان رمضان من ابنتك نهى؟
مثل هذه الأفلام لا تمثل أي مختبَرٍ لمَن يعمل فيها، فشتان بين غادة عادل هنا تحت إدارة زوجها المخرج مجدي الهواري، وبين الممثلة نفسها تحت إدارة ساندرا في فيلم «ملاكي إسكندرية». أما الصديقان ممس وبيجامة فهما ليس أكثر من مهرجين بلا معنى، ويتصرفان بشكلٍ يعطي نتيجة عكسية، مثل الطريقة التي يطرق بها ممس باب صديقه. وقد ردد الأب سعيد جملًا مشابهة لما كرره من قبل في أفلامٍ أخرى، مثل «ميدو مشاكل» و«زكي شان»، مما يوحي بأنه حتى الإفيهات التي من المفروض أن تضحك صارت كربونية.
حسن حسني زاعق بدرجة امتياز ولا جديد في أدائه، حمادة هلال يقولون إنه مطرب من مطربي هذه الأيام، وما أكثرهم عددًا، وأنا شخصيًّا لم أشاهده من قبل ولم أسمع إحدى أغنياته، ولا أتصور أنه مطرب من أساسه، وهو واحد من مطربي ٢٠٠٥ الذين يأتون إلى السينما لزيادة جماهيريتهم، ومنهم مصطفى كامل في فيلم «قشطة يابا» الذي فشل فشلًا ذريعًا، وحكيم في «علي سبايسي». وهؤلاء المطربون يجربون فينا أصواتهم وتمثيلهم، ولم ينجح منهم أحدٌ في السينما، ومنهم عامر منيب وتامر حسني.
هل مجدي الهواري مخرج حقيقي؟ وهل فيلمه الذي قدمه يتفق مع ما حاول أن يقوله في أحد البرامج التليفزيونية من أنه صاحب رؤية؟
لا يزال الطفل الضاحك بشدةٍ ماثلًا في الذهن، فهو فيلم في حد ذاته، ويحتاج إلى تفسير. بصراحة إننا أمام أفلام أكثر سوءًا بدرجاتٍ من كافة أفلام المقاولات.
وكشفت هذه الظاهرة أن الجيل الجديد من المخرجين لم يتمرد على أساتذته في الاقتباس؛ فشعبان على سبيل المثال قدم أفلامه الأولى عن أفلامٍ أمريكية. وهناك أيضًا كتاب سيناريو يعملون مباشرة على النصوص الأجنبية، وينسبون هذه القصص إلى أنفسهم، ومنهم بسيوني عثمان، وهذا يوضح أننا سنظل نتحدث في هذه الظاهرة إلى أجيالٍ لاحقة، ولن نجني فيها أي ثمار.
(١-٥) صراع الأبطال
شاهدت هذا الفيلم لأول مرة في ظروفٍ لا تنسى، وذلك في شهر يوليو عام ١٩٦٣م، في مناسبة الاحتفالات بعيد ثورة يوليو. فتحوا أبواب سينما فريال بالإسكندرية للناس لمشاهدة الفيلم بالمجان، وسينما فريال كانت بالنسبة لنا نحن الصبية سينما درجة أولى، ونحن الذين اعتدنا على السينما الترسو. وقد بدا الفيلم بالنسبة لنا — نحن المشاهدين المجانيين — غريبًا جدًّا في موضوعه الكئيب، لا يتناسب مع بهجة الاحتفال بالثورة، كما سقوها لنا، نحن أبناء هذا الجيل. وعندما شاهدت الفيلم هذا الأسبوع، وعرفت أن المنتج هو واحد ممن كتبوا السيناريو؛ عز الدين ذو الفقار الذي كان بالتقريب فيلمه الأخير كمنتج، أدركت السبب، فالرجل كان من أكثر الناس إيمانًا بالثورة، سواء في أفلامه كمخرج، أو ممثل، أو منتج. وقد قوبل الفيلم باحتفاءٍ كبير جدًّا من نقاد زمانه، المؤمنين بالثورة، خاصة أنه يقوم بإدانة النظام السياسي لما قبل الثورة. فالفيلم تدور أحداثه في إحدى القرى المصرية إبان وباء الكوليرا ١٩٤٧م، وهو موضوع يتناسب مع الظروف العالمية والمحلية.
قبل التعرف على الفيلم الذي قام ببطولته شكري سرحان وسميرة أحمد ونجمة إبراهيم، فإنني تحدثت يومًا مع المخرج توفيق صالح في أن العمل مقتبسٌ عن فيلمٍ أمريكي مأخوذ بدوره عن روايةٍ سبق للسينما المصرية أن قدمتها في فيلمٍ بِاسم: «عاصفة على الريف» ١٩٤١م، وأن السينما الأمريكية قدمته قبل عام في فيلم قام ببطولته روك هدسون، فكان رده أن السيناريو عندما وصل إليه، لم يكن يعرف تلك المعلومة، وأنه عرف ذلك بعد فترةٍ من الزمن.
يجب الإشارة إلى أن قصة الفيلم كتبها ثلاثة أشخاص هم: عز الدين ذو الفقار، وعبد الحي أديب، ومحمد أبو يوسف، وقام المخرج كعادته بكتابة السيناريو، أما الحوار فقد اشترك في كتابته صبري عزت، كما جاء في عناوين الفيلم، دون الإشارة إلى أي علاقةٍ بالمصدر الأمريكي.
على كلٍّ، نحن أمام فيلمٍ وطنيٍّ الهدف منه انتقاد تلك الفترة من تاريخ مصر، وبالنسبة لنا الآن فهو عن وباء ينتشر في القرية، والطبيب القادم إلى القرية يقف بشكلٍ فردي من أجل اكتشاف الوباء ومقاومته وسط بيئةٍ اجتماعية شديدة التخلف والرجعية والانتهازية، ويعزو الفيلم السبب في الإصابة بالكوليرا إلى الرابش الذي يتناوله الناس كطعامٍ إجباري؛ وهو عبارة عن بقايا الطعام الذي يتم إخراجه من معسكرات الإنجليز. رغم أن الفيلم لم يذكر قط أن الجنود أصابهم أي مرضٍ أو عدوى.
في البداية يتصور الطبيب شكري أن الحالة التي عالجها هي بلاجرا، أو ضعف بسبب الفقر الغذائي، وهو يعرف أن الوباء مرضٌ ينتشر بالعدوى، ويعلن لصديقه ضابط الشرطة أن العدو الأساسي له هو الميكروب الذي يحاربه. والخصوم الذين يعترضون طريقه متعددون؛ منهم الدجالة التي أثَّر وجود الطبيب في القرية على رزقها؛ إنها الداية. كما أن «عادل» ثري القرية يقف ضد الطبيب، وهو الذي اتفق مع الإنجليز على توزيع الرابش جبرًا. ومثلما أن للطبيب رسالة بقتل الميكروب، فإن عفاف المدرسة تتزوج من شكري في ظروفٍ مأساوية. ومن خصوم الطبيب أيضًا مدير الصحة الذي يستفيد من استتباب الأمور، وهنا يتوحد الخاص مع العام حين تسانده عفاف بعد الزواج منه، فكل الظروف تقف ضد الطبيب، خاصة أن التحاليل تأتي على غير ما ينتظر.
نحن أمام شخصٍ واحد يقف أمام الجميع، ويؤمن برسالته كطبيب مهما تعرض للضغوط، فالقرية هي البيئة المناسبة لانتشار الوباء. وقد توقف السيناريو عند الرابش كسببٍ رئيس للوباء، باعتباره من مخلفات الاستعمار، دون أن يشير إلى أسبابٍ أخرى منها النظافة، ولم يقدم الفيلم حلًّا للموضوع، فكل ما كان يهم الطبيب أن يكتشف المرض، أما الحل الذي قدمه الفيلم فهو أن الدولة أرسلت فريقًا طبيًّا لمحاصرة الوباء، بعد أن صدر قرار بمنع مغادرة القرية ومقاومة مَن يحاول أن يفعل ذلك، وهنا فقط قرر شكري أن يصحب معه زوجته التي تزوجها في ظروفٍ غريبة، ثم ابتعد عنها عندما جاءته الوشايات أنها ما زالت على صلةٍ بحبيبها السابق عادل، وصار عليه أن يذهب إلى مكانٍ جديد. وحسب الفيلم فإن مواقف الطبيب ساعدت في تحويل خصومه إلى متكاتفين معه يساعدونه، ومنهم الإقطاعي عادل، وأيضًا الداية التي أنقذ الطبيب ولدها من الموت المؤكد.
بالطبع نحن نتحدث عن الفيلم بمناسبة الظروف التي تحيط بنا عربيًّا وعالميًّا، وموضوع وباء كورونا، لكن الفيلم يتوقف عند ظهور الوباء في قريةٍ صغيرة بالدلتا، رغم أن فيلم «اليوم السادس» ليوسف شاهين تحدث عن الوباء نفسه في القاهرة البالغة الضخامة، ورحلة الجَدة صِدِّيقة مع حفيدها عبر نهر النيل حيث تخف حدة الإصابة.
(١-٦) هدى
هذا فيلم آخر في تاريخ السينما المصرية باسم «هدى»، تم عرضه بعد الفيلم السابق بعشر سنوات، وهو مختلف تمامًا في موضوعه وأبطاله عن العمل السابق، وليس هناك تفسير لتكرار الاسم في هذه المدة القصيرة، وكل ما يمكن أن نقوله إن أسماء البنات لها تأثير السحر في عناوين الأفلام بشكلٍ عام، وهو أمرٌ يتكرر كثيرًا، ولعل اسم ليلى هو الأكثر تواجدًا في الأفلام المصرية، ينافسه اسم حسن في الرجال، ومن هذه الأسماء التي تكررت أيضًا في الأفلام: «نادية» و«زينب» و«فاطمة». والفيلم نفسه مرتبطٌ بقصة حب اجتماعية حزينة مؤثرة تصلح للسينما أكثر من كافة قصصنا المؤلفة والمقتبسة، بالتوازي مع قصة حب المنتج المخرج الذي تفانى في حب الممثلة الجديدة الشابة، فأنتج لها أفلامًا بالغة الأهمية، وأخرج لها من أعمالها ثلاثة أفلام، وهو الذي لم يكن أبدًا مخرجًا، ورصد الميزانيات لتكون معه النجمة البراقة، وما إن حدث الانفصال والفراق الفني حتى تخبطت الممثلة، ولم نعد نراها بنفس الصورة إلى أن تزوجت وغابت عن الوطن. أما الزوج رمسيس نجيب فقد استمر ناجحًا لسنواتٍ، وهو يتعامل مع نجماتٍ أخريات أبرزهن سعاد حسني.
في فيلم «هدى»، رمسيس نجيب هو المنتج والمخرج، وبالتالي فهو إلى جوار حبيبته لأطول وقت ممكن، وهو الذي يديرها، وهي هنا الفتاة نفسها ابنة الطبقة الاجتماعية الراقية، بدون ثراءٍ فاحش، التي نتعاطف معها، والمصابة بمرضٍ لا شفاء منه، ستموت حتمًا. هو موضوع أحبته السينما المصرية التي اقتبست الفيلم الأمريكي «الانتصار المظلم»، أخرجه إدموند جولدنج عام ١٩٣٩م، وقدمته السينما المصرية خمس مرات خلال وقتٍ قصير، وفي عددٍ من هذه الأفلام كانت السينما رحيمة بالفتاة العاشقة المريضة التي يتولى علاجها حبيبها، وتموت بين ذراعيه. من أشهر تلك الأفلام «موعد مع الحياة» لعز الدين ذو الفقار وبطولة فاتن حمامة ١٩٥٣م، وفيلم «قبل الوداع» إخراج حسين الوكيل وبطولة يسرا ١٩٨٦م. لكن الفيلم الأمريكي كان من تمثيل بيتي دافيز. والفيلم الأمريكي مأخوذ عن مسرحيةٍ للكاتب جورج إميرسون، وهو اسم غير مقروء في لغتنا.
تختلف هدى كثيرًا عن الفتاة جودي، فهذه تدخن بشراهة، وتعيش حياة العبث، ولم تكن هدى تفعل مثل هذه التصرفات.
هنا قام حسين رياض بحمل عبء مرض الفتاة مرتين؛ فهو والد آمال في «موعد مع الحياة»، وهو الطبيب الذي يتولى علاجها. وفي «هدى» هو خال الفتاة الذي قام بتربيتها بعد أن مات والداها وهي طفلة، وصار يحمل همها عندما نضجت وأصابها المرض.
هدى هنا هي الفتاة اليتيمة الجميلة التي تعيش مع الخال الذي ليس لديه أحد في الدنيا سواها، تتعامل مع الحياة بدلال، لا تتحمل أي مسئولية، وبالتالي فإن مرض المخ الذي يصيبها يصدمها ومَن حولها، فهي ستموت حتمًا، والمشاهدون يميلون إلى البكاء عندما تموت العاشقات مثل غادة الكاميليا وزينب، وأيضًا جولييت وليلى، وكم رأينا السيدات عند الخروج من هذه الأفلام يبكين وقد تقمصن الحدوتة.
أخرج رمسيس نجيب لزوجته ثلاثة أفلام؛ واحد منها عن سيرةٍ شعبية باسم ياسين وبهية. ولم يذكر المصدر الأمريكي لفيلم «غرام الأسياد» وهو «سابرينا». أما فيلم «هدى» فقد ذُكِرَ في العناوين أنه عن الرواية الأمريكية، وكتب له السيناريو والحوار كلٌّ من: محمد أبو يوسف وحامد عبد العزيز، وهذا تقليد محمود اتبعته بعض الأفلام قديمًا وحديثًا. وبشكلٍ عام فإن الموضوع جذب انتباه مخرجين متعددين، والفكرة هي الحب المستحيل، من وجهة نظر قدري، خاصة في مثل بلادنا، فالعاشقان من بيئةٍ اجتماعية متقاربة، يمكن للحدوتة أن توفر لها كافة ما تطلب كعاشقة، بالإضافة إلى أن الحبيب هو الطبيب المعالج وهو أعلم الناس بمتاعبها المرضية. لا توجد مشكلات الفقراء والأغنياء، وقد كانت المريضات في مثل هذه الأفلام مرفَّهات، مثل النجمة السينمائية الفاتنة كما جسدتها يسرا في «قبل الوداع». وقد ماتت نساءٌ كثيرات من قسوة الأمراض القاتلة، مثل السل في «زينب»، والفقيرة العاهرة في الأفلام المأخوذة عن «غادة الكاميليا»، لكن بالنسبة لهدى وقريناتها، فإن المرض أقوى من المال والحب والحياة.
(١-٧) في بيتنا رجل
هل يجب علينا أن نشاهد هذا الفيلم دون أن نلاحظ أوجه التشابه الواضحة بينه وبين واحدٍ من أهم مائة فيلم في تاريخ السينما، أم أن المطلوب منك أن تتفرج فقط، وأن تحتفظ بما لاحظته لنفسك حتى لا تفسد أفكار الآخرين ومعتقداتهم، ففيلم «الجلادون يجب أن يموتوا» الذي أخرجه فريتز لانج عام ١٩٤٣م، هو المصدر الحقيقي لرواية ما زلنا نقرؤها، والفيلم العظيم الذي أخرجه بركات يمثل الكثير بالنسبة للأجيال.
شغلني موضوع التقارب بين القصص طوال حياتي، وكرست أغلب اهتماماتي في رصد كافة الأفلام ذوات المصدر العالمية الواضحة، وابتعدت عن مواطن الشبهات. والحقيقة أن الذي نبهني إلى التشابه الملحوظ هو أستاذي الناقد كمال رمزي، وشاهدتُ الفيلم الأمريكي متمنيًا أن يخيب ظني؛ ولأن الموضوع حساس فأنا أكتب على استحياءٍ شديد.
منعًا للحساسية فإنني قد أكتفي بعرض أبرز النقاط في الفيلم الأمريكي الذي تدور أحداثه في سنوات صعود الجستابو، وتدور الأحداث في دولة تشيكوسلوفاكيا المجاورة لألمانيا، وهي محتلة من القوات النازية، ما استدعى قيام خلايا مقاومة للاحتلال، ويقوم طبيبٌ شاب باغتيال واحد من القيادات التشيكية البارزة التي تتعاون مع الجستابو، وفي المشاهد الأولى يركز الفيلم على القسوة الشديدة التي يتصرف بها رجال الجستابو، وتتم الجريمة في الطريق العام والعميل للمحتل في سيارته، ويقوم الطبيب المناضل باللجوء إلى بيت أستاذٍ جامعي هو العقل المدبر بهدف الحماية، وهو أساسًا من المناضلين الوطنيين، ولديه أسرة من البنات والبنين، هو بروفسور له وظيفته المرموقة في الجامعة كما أنه مفكر، ويرحب بالطبيب في منزله وسط أجواء من التوتر تتمثل في البحث عن القاتل، ولديه الابنة الكبرى المخطوبة لشاب يتعاطف مع الجستابو، وينتظر الزواج، أما خطيبته، فإنها تتعاطف مع الطبيب، وتشارك مع أبيها في إخفائه. وبالزعم أنه من تلاميذ الأستاذ، يأتي رجال الجستابو للبحث عن الفاعل، ويعتقلونه، بينما يغادر الطبيب المنزل، ويعود إلى عيادته. وتكرس الابنة كل جهودها لإنقاذ أبيها من الإعدام بعد أن اعتقلوه.
الفيلم في مجمله يرتكز على فكرة القسوة والفساد والصراع بين قيادات الجستابو، وأيضًا كيف يتصرف عملاء الاحتلال للاحتفاظ بمناصب عليا، ويتم تسويف إعدام الأب الدكتور ستيفن حتى المشهد الأخير، ويظل الطبيب فرانتيك يمارس مقاومته بشكلٍ علني، ويتحول خطيب الفتاة ناشا في مواقفه السلبية إلى أن يناصر الأسرة التي يصاهرها، ويكون شامخًا في مواقفه.
الفيلم ينتصر لأبطال المقاومة الثوار الذين يقفون ضد قوات الاحتلال، ويستخدمون ما لديهم من وسائل للتخلص من أعوان الاحتلال، وهم الخونة الذين ينشدون المناصب.
هذا هو الجو العام للفيلم، المصاغ في إطارٍ بوليسي مثل الكثير من أفلام فريتز لانج، الذي ينافس هيتشكوك في صناعة أفلام التوتر، وأيضًا في قدرته على التنوع، فهو صاحب فيلم الخيال العلمي المشهور «متروبوليس»، والفيلم واحد من أعمالٍ كثيرة عن النازية ورجالها من الجستابو.
بمراجعة المعلومات المنشورة حول الفيلم فإنه العمل الأمريكي الوحيد الذي كتبه المؤلف المسرحي برتولت بريخت، وهو كاتب القصة، أما السيناريو فلِجون ويسلس، والأحداث مستوحاة من أحداثٍ حقيقية حول شخص يُسمى رينهارد هيدريش، قام باغتيال مسئول من أعوان الاحتلال النازي لبلاده، أي إننا أمام فيلمٍ سياسي وطني بوليسي، وهو نوع من الأفلام التي كان يفضلها لانج، إلا أن الفيلم يعتبر أيضًا ضمن سينما المقاومة التي كانت تُنتج في هوليود أو بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية وتسخر مباشرة من ديكتاتورية النازية، ومن أشهرها فيلم «الديكتاتور» لشارلي شابلن، وهي ليست أفلامًا حربية بالمرة. وفي الفيلم مشاهد رجع إليها الكاتب الفرنسي إيمانويل روبليس صاحب مسرحية «مونتسيرات» ١٩٤٨م، المعروفة لدينا مسرحيًّا وسينمائيًّا باسم «ثمن الحرية»، حيث إن قائد الاحتلال أراد أن يُجبر الأستاذ أن يبوح بمكان القاتل وهويته، ومن أجل التوصل لما يعرفه المناضلون فإنه طلب ابنة الأستاذ المفكر السياسي، واستدعاها قبل إعدامه لوداعه، كمحاولةٍ للضغط عليها.
لم نقترب من الفيلم المصري بالمرة، والحديث عن أوجه التشابه والاختلاف، باعتبار أن هذا مقال منقوص يمكن لكل قارئ أن يكمل كتابته على طريقته، علمًا بأن الفيلم الأمريكي لم يعتمد على النجوم، بينما كانت تلك سمة في فيلمنا المصري.
(١-٨) بئر الحرمان
من اليوم سوف تتغير آلية فهم نصوص السينما التي وقفنا أمامها مشدوهين، ويجب إعادتها إلى أصولها، وذلك بعد الصدمة التي توصلنا إليها عند معرفة العلاقة بين فيلم «السفيرة عزيزة» والفيلم الأمريكي «الرجل الهادئ». اليوم اكتشفنا العلاقة الوثيقة بين الفيلم المصري «بئر الحرمان» لكمال الشيخ ١٩٦٩م وفيلم «ثلاثة وجوه لحواء» إخراج نونالي جونسون ١٩٥٧م. المشكلة أن الفيلم المصري مستوحًى من روايةٍ قصيرة منشورة في كتاب عام ١٩٦٢م كتبه إحسان عبد القدوس، وأعدَّها للسينما نجيب محفوظ، وكتب السيناريو والحوار يوسف فرنسيس، الفيلم حول ظاهرة الانفصام في الشخصية، والذي كان جديدًا على التناول في السينما المصرية في تلك الفترة. وقد عاد محفوظ إلى نفس الموضوع مرة أخرى في فيلمٍ كتبه بعد أربع سنوات باسم «ذات الوجهين» إخراج حسام الدين مصطفى.
عشت نصف قرن تقريبًا، منذ شاهدت الفيلم للمرة الأولى، متصورًا أنني أمام فيلم مصري الصناعة، حتى شاهدت الفيلم الأميركي الأسبوع الماضي، وكنت قد تناسيت التهكم الشديد الذي أطلقه الشباب في تلك الأيام من أفيش الفيلم، حيث قام المصمم المصري بسرقة أفيش فيلم بريطاني مهم كان يُعرض في تلك الآونة باسمه التجاري «هروب من القدر» إخراج جون شيلزنجر، وقام بتبديل وجه النجمة جولي كريستي، ووضع وجه سعاد حسني، بالمقاييس نفسها، وليس أمام الشباب سوى التهكم؛ لأن الأمر اسمه سرقة «علنية»، ربما من الإعلان أو العلن، فالأفيشات في الشوارع، أما اكتشاف الاقتباس فيتم في صالات العرض المغلقة.
الفيلم الأمريكي مأخوذ عن قصةٍ حقيقية دارت في النصف الأول من الخمسينيات. وفي مصر كتب عبد القدوس عام ١٩٦٢م روايةً غريبة للغاية باسم «ثقوب في الثوب الأسود»، تدور أحداثها في قلب أفريقيا حول موضوع الانفصام. وفي مجموعة قصص «بئر الحرمان» في العام نفسه كان هناك أكثر من عملٍ أدبي يحمل نصوصًا تدور في عيادات الأطباء النفسيين منها: «بئر الحرمان»، و«حالة الدكتور حسن»، سرعان ما تهافتت السينما إلى هذه الأعمال.
الحقيقة أن التشابه بين الفيلم الأمريكي والنص الأدبي والفيلم بالغ الوضوح، فنحن في الغالب أمام شخصيتين رئيسيتين: المريضة النفسية، والطبيب. الفيلم من بطولة العبقري لي ج. كوب، وهو أقرب في تاريخه وأهميته إلى محمود المليجي، وأيضًا جوان وُدوارد إحدى تلميذات مدرسة الممثل التي أسسها إيليا كازان، وقد كانت في الفيلم في أحسن حالاتها، فاستحقت جائزة الأوسكار بجدارة.
التشابه بين النص الأدبي والفيلم الأمريكي أن المريضة المصابة بالفصام متزوجة ولديها أولاد. وفي الفيلم المصري جعل من نادية فتاة بكرًا، أما قرينتها ميرفت فهي عاهرة، تذهب مع الرجال في الليل وتضاجعهم. وفي الرواية فإن في حياتها ثلاثة رجال؛ الأول حبيبها الذي سلمت له جسدها، وتركها ليسافر للخارج، وهناك أيضًا الزنجي السائق الذي يعرف كل أسرارها ويضاجعها بتخويف، ثم يعود الحبيب من السفر ليستكمل علاقته بها. وفي الفيلم الأمريكي، فإن للمرأة أيضًا اسمين هما: إيف بلاك، وإيف وايت، لاحظ المعنى المتناقض للاسمين، وبالتالي فإن ترجمة عنوان الفيلم الصحيح هو: «ثلاثة وجوه لإيف»، وبعد أن اكتشف الطبيب النفسي الأمر صار من السهل للشخصية الأخرى الظهور أمام الطبيب، وهي في الجانب الآخر تصادق الرجال، وتنتقل بينهم، إنها تكره المرأة الأخرى، وكم حاولت أن تقتل ابنتها انتقامًا، وفي مرحلةٍ لاحقة فإنها تقوم بإغواء الطبيب الذي يبدو باردًا، وينجح في التصدي لها.
المألوف في الأعمال كلها هو طفولة المرأة ومشاكلها، وفي الأصل الأدبي، فإن الطبيب يُجري حوارًا مع السائق الزنجي، يفصح فيه عن كل علاقته الطويلة بنادية، واستغلال ظهور ميرفت فيضاجعها، كما أن الطبيب يحاور الأب الذي يعترف أن زوجته أنجبتها بعد سبعة أشهر من الزفاف، بمعنى أنها ليست ابنته، وأن سبب الفصام حين عرفت الفتاة الحقيقة. أما الفيلم الأمريكي ففيه سبب مقارب من طفولة الفتاة. لكنه منح دور البطولة الثانية للممثل دافيد واين في دور الزوج الذي يلازم امرأته في كل حالاتها، قد يصفعها بدافع الغيرة على شرفه، لكنه حنون يتحمل المسئولية، ويبعد صغيرته عن بؤرة المشاكل، ويزور زوجته.
الرواية تدور على لسان الطبيب، أما الفيلم الأمريكي فيأتي بعالِمٍ نفسي ليكون الراوي، أظنه أحد العالِمَين اللذين ألفا الكتاب، أما الطبيب المعالج فهو يروي الأحداث، وأعود لأكرر أن الممثل هنا كان خارقًا مثل كل أدواره التي شاهدتها له.
الفيلم الأمريكي لم يخرج كثيرًا عن عيادة الطبيب النفسي، عدا أماكن اللهو التي تذهب إليها إيف بلاك، وكذلك الفيلم المصري، الذي أضاف حكاية الخطيب الذي يتخلى عن نادية عندما عرف الحقيقة، ووضع رتوشًا عن الرسام، وجعل السائق شخصًا مختلفًا عن الزنجي، جسده حمزة الشيمي. ولجأ الفيلم الأمريكي إلى حلٍّ ساذج، حتى وإن كان علميًّا، حينما اكتشف أن هناك امرأة ثالثة معتدلة موجودة داخل المرأتين، التي قامت بطردهما من الجسد، وصار عليها أن تستكمل حياتها مع زوجها وابنتها.
الآن لا أستطيع أن أستمتع بفيلم «بئر الحرمان» إلا إذا قرأت النص الأدبي، وبدأت الحكاية بمشاهدة الفيلم.
ملحوظة: في بداية علاقتي بالقراءة، قرأت كتابًا ممتعًا للأستاذ أنيس فهمي أقلاديوس، بعنوان: «السينما وعلم النفس»، تناول فيه بالتحليل أفلامًا مهمة كثيرة في هذا الإطار؛ منها: «الرجل ذو الذراع الذهبية». ولا أعرف لماذا لم ينتبه إليه المشرفون على مكتبة الأسرة.
(١-٩) السفيرة عزيزة
يجب الكتابة هنا حول هذا الفيلم، حتى وإن كنا كلنا شاهدناه عشرات المرات، ولا يُشبع من رؤيته، خاصة حين تنادي سعاد حسني صبي أخيها الجزار «عصعص» بصوتها الأنثوي البالغ الرقة. يجب الكتابة عن الفيلم الذي يدور في أعماق مدينة القاهرة؛ منطقة الحسين التي لا يخرج عنها وما خلفها، والإخراج المتميز للراحل طلبة رضوان، والذي يعتبر درة أعماله القليلة، وقد كان أغلب من عمل به في أحسن حالاتهم، خاصة وداد حمدي، وعبد المنعم إبراهيم، وعدلي كاسب، وبالطبع كل من سعاد حسني، وشكري سرحان.
الجانب الدافع للكتابة هو فيلم أمريكي متميز اسمه «الرجل الهادئ» أخرجه جون فورد عام ١٩٥٢م، بطولة جون واين، ومورين أوهارا، والممثل المشهور فيكتور مكلجلين. فقد تعرفت في صباي على الفيلم من خلال مجلات السينما الفرنسية التي كانت تحكي قصص الأفلام بالتفاصيل في أربع صفحات من القطع الكبير. والمجلات التي كنت أقتنيها احتفت بالفيلم فترات طويلة، ولم تكن هناك أي فرصةٍ لمشاهدته، ولا أذكر أن القنوات التليفزيونية قد عرضته يومًا ما. وحتى في اليوتيوب فإن الكثير من المواقع تعتذر لعدم العثور عليه.
لم أربط يومًا بين الفيلمين المصري والأمريكي، ولم يَنتَبْني تصور أن «السفيرة عزيزة» مقتبسٌ من فيلم جون فورد، بل لم أتصور أن الفيلم الأجنبي يكاد يُحوِّل سفيرتنا إلى إبداعٍ باهت رغم كل ما ربطنا بالفيلم، ورغم تحفظاتي الشديدة على الأداء النمطي لجون واين، لكنه في «الرجل الهادئ» كان مختلفًا تمامًا، مليئًا بأجواء البهجة والروح المرحة، وتلافي نمطية أدوار الكاوبوي التي أشبعنا بها. ولم نرَ تلك العيوب في صياغة القصة التي عرفناها في الفيلم المصري، فعلى المستوى العائلي فإن الخناقة بين الزوج ونسيبه، سوف تولِّد على مر الزمن غصة كبيرة، ويمكن أن تسيء إلى شخصية بنت البلد التي ولَّدت الضغينة بين أخيها وزوجها، ففي الفيلم ليس هناك تبريرٌ لإقحام السفيرة عزيزة زوجها للحصول على المبايعة، وهي في الفيلم الأمريكي مجرد ورقة لها مقابل من الذهب، ترثها البنت من أهلها وتحصل عليها ليلة زفافها، وهذه عادات أيرلندية متوارثة، سواء في أيرلندا، أو بين المهاجرين إلى أمريكا، وفي الفيلم فإن الزوج رمى بالوريقة والذهب في أتون النار، وعلى الفور قامت العروس بالتوجه إلى بيت الزوجية، وصار عليها أن تقطع مسافة طويلة أمام الناس. وفي مصر، فإن المقتبِس لم يجد المعادل الاجتماعي المصري المقابل لهذا الأمر، باعتبار أن عناوين الفيلم تقول إن كاتب الفيلم هو الأديب أمين يوسف غراب، وظل الأمر غير مقنع كلما شاهدنا الفيلم. أجمل ما في الفيلم الأمريكي هو الدور الذي جسده فيكتور مكلجلين، هو ضخم الجسم مثل عدلي كاسب، لكنه خفيف الظل جدًّا، بما يعني أنه ليس شريرًا، وبعد المشاجرة المضحكة التي يغرق طرفاها في الوحل، فإنه يقوم بتسليم المهر من الذهب إلى الأخت، ويذهب النسيبان إلى الحانة لتبادل الأنخاب، بما يعني أن العلاقات الأسرية تظل وطيدة، كما أن الزوجة تأخذ زوجها إلى الكوخ الجديد، علمًا بأننا أمام واحدٍ من أفلام الوسترن التي برع جون فورد في تقديمها، وكان بطله دومًا جون واين.
بالطبع هناك اختلاف ملحوظ بين العالمين، ففي الفيلم الأمريكي نتعرف على عوالم مليئة بالبهجة وحب الحياة، فالأشخاص هم بولنديون أقاموا في الربوع الأمريكية، وللمرة الأولى يتخلى جون واين عن وقاره، ويقوم بتقبيل رفيقته أكثر من مرة في أماكن فاتنة من الطبيعة، يتمنى كل عاشق لو كان هناك. ولن أنسى أبدًا مشهد الحبيبين تحت المطر، يمنحها سترته ويتبلل قميصه، وتلفه بعناقها، ورغم كل الحب فإنها تعايره بأنه جبانٌ لا يستطيع إحضار مهرها من أخيها، وشون الزوج هذا ملاكم قديم اعتزل اللعبة بسبب أنه تسبب في موت منافسه على الحلبة، فقرر أن يكون مسالمًا تمامًا، ومن هنا جاءت تسمية الرجل الهادئ، فهو لا يريد اللجوء إلى الملاكمة. وبالطبع فإن الأمر يختلف بالنسبة للمدرس الذي يتغلب على جزارٍ متعافٍ قوي.
وهناك مشاهد متواجدة في الفيلمين، منها قيام الزوج بضرب زوجته أمام أخيها، بقصد إهانتها، فكما أشرنا فإن المعركة اكتست بلون الدعابة، كما أن مشهد السرير الذي ينكسر في ليلة الزفاف وساعة الصلح، يبدو بالغ السحر على يدي جون فورد. كما تشابهت المواقف حين قرر الزوج أن يفترش الأرض ولا ينام إلى جوار عروسه، والسرير الذي ينكسر مرةً واحدة في الفيلم الأمريكي ومرتين في السفيرة عزيزة.
كان الزوج حازمًا مع عروسه وهي تخبره أنها سوف تصير له بعد أن يسترد الوديعة من الأخ، بما يعني أنه ليس في حاجةٍ إليها، فتؤدي له كافة الخدمات المنزلية عدا أن تعطيه جسدها إلا بعد أن تأخذ مهرها، فما كان من العريس إلا أن قَبَّل زوجه وحملها بين ذراعه، ليرمي بها فوق الفراش الذي يتكسر.
هناك فارق آخر، فالزوجة مصرة على أن تحصل على المهر، ليس لأنها تريده، بل لأن هذه هي العادات الأيرلندية، فهي سرعان ما تتقبل زوجها وأخاها، ويتم تبادل النخب وتناول الغداء معًا، ولعل هذا يختلف عن جو العنف والكراهية التي زرعتها الأخت بين الرجلين.
من أجمل ما في الفيلم علاقات الشد والجذب التي تدور بين الزوجين ماري وشون، جسَّدها ثنائيٌّ عمِلا معًا كثيرًا في السينما الأمريكية، وهما جون واين ومورين أوهارا، فهي نافرة دومًا، حتى ينتهي المشهد بين ذراعيه وهي تشتهيه بقوة.
الفيلم المصري كتبه أمين يوسف غراب، الأديب الذي اكتشفنا هنا أنه يقتبس أفلامه. أما طلبة رضوان فإن أعماله الأخرى ذات مصادر أجنبية، ومنها «قصة ممنوعة» المأخوذ عن «مدرسة الأزواج» لموليير، ويجب البحث عن أصول فيلمه «المصيدة» التي من المؤكد أن أجواءها «ويسترن»، بما يعني أهمية اكتشاف المزيد من المجهول. ففيلم «الرجل الهادئ» مأخوذ عن روايةٍ أيرلندية باسم «موقع أمسية السبت»، للكاتب موريس والش منشورة عام ١٩٣٣م.
(١-١٠) قضية سميحة بدران
ليس في نيتنا أبدًا الكتابة عن الأفلام الحديثة، وغالبًا ما نتوقف عند أفلام الأربعينيات وأوائل الخمسينيات في مصر، لكن المصادفة وحدها أكدت أن هذا الفيلم ينتمي إلى عام ١٩٤٦م رغم حداثة إنتاج طبعته المصرية، فكاتبه راح يفتش في الأفلام القديمة حتى وجد ضالته في فيلم أخرجه ألفريد هيتشكوك باسم «سيئة السمعة»، قام ببطولته كاري جرانت وإنجريد برجمان، حول قيام جهاز المخابرات الأمريكي بدس امرأة يحبها ضابط. إنها نفس حكاية «قضية سميحة بدران» مع إضافاتٍ تناسب الزمان والمكان.
وهو الفيلم الثاني الذي جمع بين المخرجة إيناس الدغيدي ونبيلة عبيد. الفيلم كتب قصته فيصل ندا، وكان السيناريو والحوار من نصيب عبد الحي أديب، وهو يدور بين عالم رجال الأعمال الذين صاروا في العَقد ما قبل الأخير من القرن العشرين، بالغي الفساد في منظور السينما، ويمكن لرجل الأعمال الفاسد أن يفعل أي شيء للهروب من مصيره، حتى لو اضطر للزواج من الصحفية التي تترصده، وتكتب عنه تحقيقًا يفضح نشاطه، إنه عالمٌ متشابك، تبدو فيه المرأة هنا مختلفة تمامًا. وكررت نبيلة عبيد الدور بعد سنواتٍ في فيلم «هدى ومعالي الوزير» لسعيد مرزوق، الذي استعان ببعض أفراد فريق الفيلم مجددًا، ومنهم يوسف شعبان.
نحن لم نبتعد عن قضايا المجتمع في تلك الحقبة، فالفيلم قراءة لإحدى الجرائم التي تتبناها الصحافة، أغلبها حول الفساد، وكيف تبدو الصحافة، من خلال اسم الصحفية سميحة بدران، نموذجًا حيًّا لمكافحة الفاسدين الذين يتوالدون بسرعةٍ فائقة، والمرأة في الفيلمين تبدو أقرب إلى البطل الفردي الذي يواجه التجمعات الفاسدة بكل ما بها من قوى ونعومة وجبروت. لكن رجل الأعمال في فيلم هيتشكوك استهان بالأمن القومي الأمريكي فصار خائنًا. والصحفية هنا تدخل عرين الأسد، وتتزوج من الرجل الذي يدبر لها سبل القضاء عليها، ويتم ذلك تحت مراقبة زوجته الأولى وشريكته زهيرة، وأخيها، أي إن سميحة هنا تعارك مثلثًا بأكمله، وإلى جانبها ضابط الشرطة الذي يحبها، ويجسد الدور محمد وفيق في شخصيةٍ معادلة ﻟ كاري جرانت، وهو يأمل أن تكون سميحة زوجته، إلا أنه لا يتخلى عنها ويقف لمساندتها.
من المهم الإشارة إلى أن إيناس الدغيدي قامت فقط بتنفيذ السيناريو، ولا أعتقد أنها كانت تعرف، ربما حتى الآن، أن الفيلم مأخوذ عن فيلم لألفريد هيتشكوك، الذي يمنح لكل فيلم من أفلامه جوًّا خاصًّا من خلال أشخاصٍ عددهم محدود. لكن السيناريو المصري ضاعف عدد الشخصيات كي تشتد الصراعات، ويجب أن نعرف أنه لا يعني شيئًا أن يكون للفيلم أي دور بقضايا المرأة، خاصة أننا أمام امرأتين تتنافسان على رجلٍ واحد، الأولى تزوجته، والثانية متزوجة منه في الأصل، ونحن أمام أجواءٍ بوليسية في المقام الأول، تتبعها المغامرات والحركة، وفي النهاية فإن الفاسدين تنكشف أمورهم.
نحن هنا أمام امرأةٍ وقورة لديها همٌّ اجتماعي، تفرغت لعملها فلم تكن لديها حياة اجتماعية، وقد رأيناها في بداية الأحداث ترتدي زي سيدة شعبية ومعها الضابط للإيقاع بالفاسدين، إلا أن زهيرة صاحبة المشروع تفلت من الكمين، ونفهم فيما بعد أنها زوجة لرجل الأعمال يوسف. أما كمال الضابط فهو أيضًا رجل متفرغ لعمله، وهو من طرفه يردد: «مكتوب علي أن أحب امرأة كي يتزوجها شخص آخر» وهكذا تتأرجح علاقته بسميحة بدران طوال الأحداث.
الآن، وبعد عقودٍ من عرض الفيلم، يمكن الحديث عنه تبعًا للظروف الفنية والاجتماعية التي كانت موجودة في نهاية الثمانينيات، ومنها التحول الذي حدث للمخرجة إيناس الدغيدي، التي عرفت بعد تلك الآونة باسم الجريئة، حين وضعت الجنس والإغراء في أولويات اهتماماتها، وبدت في أفلام تلك المرحلة غير منتبهة تمامًا لفتنة الممثلات التي تعمل معهن، خاصة نبيلة عبيد، كما رأينا مجرد امرأة أقرب إلى خشونة الرجل، تقوم بالعمليات الصحفية الخطرة، وتتزوج عن غير حب، ولا تلتفت إلى الضابط الذي يخبرها أنه وجه السعد على النساء، فما إن يقع في غرام إحداهن حتى تتزوج من غيره، وبالتالي فالفيلم يخلو تقريبًا من الحس الرومانسي، ولا شك أن زهيرة زوجة يوسف وشقيقة عباس، امرأة فاتنة الجسد، تجسدها هياتم، تشعر بالغيرة على زوجها، وتسعى للتخلص من زوجته الرسمية سميحة بدران، مما يوسع دائرة الخصوم والمخاطر، وأنت تشعر أن الأجواء الأسرية محفوفة بالمؤامرات والمكائد، وتدبير خطط للقتل، والتخلص من الزوجة سواء بيد زوجها أو عن طريق زهيرة.
ومن سمات هذا العصر أيضًا أن المنافسة التي كانت تتم بين أبرز نجمات الشاشة تنعكس في العاملين في أفلام كل طرف، وأيضًا في عناوين الأفلام؛ فقد اختارت نبيلة عبيد العديد من المخرجين للتعامل معهم بعد أشرف فهمي، ومنهم إيناس الدغيدي، وعلي عبد الخالق، وعاطف الطيب. أما نادية الجندي فكان لها مخرج مفضل في المقام الأول هو نادر جلال، وكاتب سيناريو لا يتغير هو بشير الديك، ومن هنا بدا اسم فيلم «قضية سميحة بدران» مقاربًا لاسم «ملف سامية شعراوي»، رغم المساحة البعيدة بين موضوعات الأفلام. ونحن لن نتوقف عند المقارنة، لكن لا بد من الإشارة إليها، ونحن نتحدث عن جذور فيلم «قضية سميحة بدران»، ومع أبرز مخرجة في تلك الآونة، كم تمنيت أن تقوم إيناس بوضع لمسات امرأة تخرج فيلمًا بطلته الرئيسية امرأة، بينما الرجال هم الكواكب تدور حول النجم. ففي هذا النوع من القصص يبدو الأشخاص بلا جذور، لا نعرف عنهم أي شيء سوى ما هو موكول إليهم من مهماتٍ عليهم إنجازها، لا توجد هذه الجذور لكافة الشخصيات، فسميحة بدران بلا أهلٍ ولا عزوة، ولا أم، وينعكس الأمر على الضابط كمال. وفي هذا النوع من الأفلام يتخفف السيناريو من وجود الأطفال، ليصير الهدف الإيقاع بأفراد العصابة، وهذا وحده يكفي.
(١-١١) أنا وابنتي والحب
كي أكتب المقال الذي بين يديك كان لا بد من مشاهدة فيلمين بعنوان «لوليتا»؛ أخرج أولهما ستانلي كوبريك ١٩٦٢م، والفيلم الذي أخرجه أدريان لين ١٩٩٧م، والفيلم المصري «أنا وابنتي والحب» إخراج محمد راضي ١٩٧٣م، وكنت قد قرأت قبل سنوات الترجمة المنشورة للرواية التي كتبها فلادمير نابوكوف ١٩٥٧م، وهي الرواية التي مُنعت في بلادٍ كثيرة لجرأتها، والحق أنني لا يمكن أن أستمتع بالمشاهدة أو الكتابة إلا إذا فعلت ذلك، فما أروع المقارنة بين أعمالٍ سينمائية مأخوذة عن مصدر. والحقيقة لا أعرف إلى أي مصدرٍ رجع كاتب السيناريو عزت الأمير، هل إلى فيلم ستانلي كوبريك، أم إلى الطبعات الشعبية المترجمة المختصرة من الرواية، ولكن أجمل ما في النص الأدبي هو حالة الهوس الشديد التي يكتب بها السجين هيبولت عن حبيبته الصغيرة لوليتا، وهو ينطق باسمها في السطور الأولى حرفًا حرفًا، كأنه يلعقها، وكما أشرنا من قبل فإن الفيلم تم إنتاجه في مصر، في فترةٍ أصاب المخرجين حالة من الهوس في تناول المحرمات، واليوم تتكرر نفس الحكاية مع فيلم «امرأة عاشقة»، ليس فقط أن كاتب السيناريو لا يذكر المصدر الأجنبي، بل يكتب أنه مؤلف القصة والسيناريو والحوار، رغم أن الأمر معروف، ونحن هنا لسنا أمام كاتب سيناريو محترف، فهذا هو الفيلم الأول لعزت الأمير، الذي عمل لسنواتٍ في دار الهلال، وكان كاتبًا سينمائيًّا، وممثلًا. فالرواية لم تصدر كاملة في مصر، ولكنني أجزم أنه قرأ الرواية مختصرة. وفي الفيلم لا يتكلم العاشق من السجن، بل من السيارة التي يركبها، في انتظار أن يتم القبض عليه، أما الفيلم المصري فهو يحكي عن الماضي الأول للبطل الذي خسر حبيبته الصغيرة بسفرها إلى الخارج، ولذا فمن السهولة أن يقع في حب الفتاة سمر. وبالنسبة للنص فإن نابوكوف أسس لعقدةٍ نفسية أو جنسية تقوم بين طفلةٍ في الرابعة عشر ورجل في الأربعين، ويكون الحب متبادلًا غالبًا. وفي كافة النصوص فإن العاشق الناضج اتخذ من الأم جسرًا كي يبقى إلى جوار حبيبته الصغيرة التي تسلل إليها عاطفيًّا ببطءٍ ملحوظ، وقام بالتخلص من الأم بالقتل، وهذا أمر لم يحدث في الفيلم المصري، رغم أن أحمد سعي حثيثًا لتدبير السم للتخلص من الأم.
في الفيلمين الأمريكيين، أسوةً بالرواية، فإن هيبولت تخلص من الأم كي ينفرد بالابنة الصغيرة التي صارت عشيقته لفترةٍ طويلة، وعندما أراد امتلاك الفتاة ذهب لاستحضارها مدعيًا أن الأم مريضة وتحتاج إلى رؤية الابنة، وفي الطريق تعمد إطالة الصحبة، وبات معها في سريرٍ واحد في الفندق، وأبلغها فيما بعد أن الأم ماتت، وما لبثت أن تغلبت على أحزانها لتصير عشيقته. ولأنه هو الذي يحكي فقد ظل سلوكها غامضًا، وعرفنا فيما بعد أن رجلًا كان يستخدمها في ممارسة الجنس العنيف، إلا أنها هربت من زوج أمها لتعيش مع عشيقها تشارلز وتتزوجه وتحمل منه. وحسب عناوين الفيلم المصري، فإنه رغم أن زوج الأم هو الذي يحكي، فإن الفيلم يعطي مساحةً كبيرة للنجمة هند رستم، ويأتي اسمها قبل الجميع، ورغم أن الرجل فكر في وضع السم للمرأة فإنها لم تمت، وقد خدع الرجل المرأتين، فعادت سحر من رحلة الأَقصر لتفاجأ أن أمها تتزوج من حبيبها، وهنا تتكشف العلاقات ويخرج الرجل من حياة المرأتين دون أي خسائر طويلة للمرأتين.
لم يجتهد عزت الأمير كثيرًا وهو يرجع إلى النص، إلا في أمورٍ معينة، فهو قد أضاف حكاية ميراث الفندق عن أبيه، وهو أمرٌ غير موجود في النص، لكن في نهاية الفيلم فإن أحمد يمتص اسم حبيبته مثل ما فعل همبرت مع لوليتا، وبعد الزواج من أمها أحس أنه والد لابنة زوجته، لكن الأمور كانت قد تكشفت. لا شك أن الفيلم لم يشأ إخفاء الأم، وبالتالي لم تمت سعاد، وقد كان كشف المشاعر سببًا أن تقترب الأم من ابنتها بعد عتابٍ عابر، ويعود أحمد إلى الإسكندرية دون عقاب سماوي، وبالتالي فقد تم حذف الشخص الثاني في حياة المراهقة. تعترف سحر أن هذا الحب نوعٌ من الحب البديل لأبٍ مات، وليس موجودًا في حياة البنت وأمها، لكن المواجهة بين المرأتين تكشف مدى حرمان كلٍّ منهما، أما أحمد فإنه يعود إلى الإسكندرية دون أي خسائر ممكنة.
من المهم الإشارة إلى أن محمد راضي كان منجذبًا في هذه الفترة للحديث عن العلاقات الممنوعة داخل مجال الأسرة، فهو صاحب فيلم «الحاجز» عام ١٩٧٢م، حول علاقة حب تربط بين زوجة وشقيق زوجها الذي يعيش مع الزوجين تحت سقفٍ واحد.
(١-١٢) امرأة عاشقة
لا يمكن لأحدٍ من أبناء جيلي أن ينسى فيلم «فيدرا الآثمة» حسب عنوانه التجاري في مصر، إخراج جول داسان، وبطولة ميلينا ميركوري وأنتوني بيركنز وراف فالوني، الذي عُرض عندنا عام ١٩٦٢م. وهو فيلم يوناني فرنسي أمريكي استوحاه المخرج في رؤيةٍ معاصرة لمسرحية فيدرا تأليف يوربيدس، وقد أعاد الفرنسي راسين صياغتها بمنظور عصره، وهي تدور حول قصة حب محرم بين شابٍّ وزوجة أبيه تنتهي بموتهما، أسوة بكافة المسرحيات المأساوية في تاريخ الفنون، وهي مسرحية يرى النقاد أن الحب قدر في المقام الأول، ولا يمكن لأصحابه الرجوع عنه، أو السيطرة عليه، وهم يعرفون خطاياهم، فالشاب الذي يصر دومًا على مناداة امرأة أبيه بأمي، لن يستطيع أبدًا مقاومة مصيره الذي ينتظره.
لا أنسى قط حيوية الفيلم وغرابة موضوعه، وأذكر أنني وقعت في هوى ميلينا ميركوري التي جسدت مثل هذه الأدوار على المسرح أو السينما. والغريب أنه بعد عشر سنوات، فإن المخرج أشرف فهمي مع اثنين من كتاب السيناريو أسند إلى شادية دورين في فيلمين؛ الأول: هو «امرأة عاشقة»، أما الثاني: فهو «رغبات ممنوعة»، الثاني لم يعرض بالمرة في دور العرض، أما الفيلم الأول «امرأة عاشقة» الذي كتبه مصطفى محرم فهو نسخة ممسوخة وجامدة من فيلم «فيدرا»، رغم أنه من بطولة شادية ومحمود مرسي وحسين فهمي. في هذا الفيلم تقع زوجة الأب في غرام ابن زوجها، ويبادلها الحب. أما «رغبات ممنوعة» الذي كتبه صبري موسى، ففيه علاقة ملموسة بين أبٍ وابنته العانس في منطقة الملاحات.
(ملحوظة: هناك فيلم ثالث جمع بين شادية ومحمود مرسي وحسين فهمي، وأشرف فهمي باسم «أمواج بلا شاطئ»، حول شاب يُصدم في علاقةٍ بين أمه ومدير أعمالها، فينتقم منهما ويتزوج أول عاهرة يلتقطها عند الشاطئ.)
شهدت السينما المصرية فترتين اهتمت فيهما بتقديم قصص المحرمات، مثل الخمسينيات، في أفلامٍ منها «رنة الخلخال» و«نساء محرمات» وهما من إخراج محمود ذو الفقار، وأيضًا «غلطة حبيبي» للسيد بدير، و«امرأة في الطريق» لعز الدين ذو الفقار، الذي تمت إعادته باسم «شوق» لأشرف فهمي أيضًا، الذي بدا كأنه امتلك حماس محمود ذو الفقار في تقديم هذه النوعية من الأفلام.
نعم، الفيلم اليوناني شهد مرحلة خصوبة كبيرة للمخرج الذي كان متزوجًا من ميلينا ميركوري وأخرج لها أغلب أفلامها، حيث عملا معًا في أفلامٍ مأخوذة عن نصوصٍ أدبية. والحقيقة أن مشاهدة الفيلم المصري بدون الأمريكي أشبه بوجبة عشاء بدون المشهيات، وفي النص المسرحي اليوناني والفرنسي، فإن الاثنين سرعان ما وقعا في الخطيئة، لكن هذا غير ملموس في الفيلم المصري.
حسب العناوين الخاصة بالفيلم فإنه عن أسطورة فيدرا الإغريقية، رغم أنها ملحمة، وقد جاء أن مصطفى محرم هو كاتب القصة والسيناريو والحوار. المفروض أنه اقتبس الفيلم بالتمام عن الفيلم اليوناني، حيث تدور الأحداث في عالم كبار الرأسماليين، فالأب يمتلك الكثير من المشاريع، ولديه زوجة ينشغل عنها كثيرًا بأعماله، ومشاريعه المالية، وسوف يظل على حاله كأنه يفتح الباب لكلٍّ من زوجته وابنه أن يقعا في الإثم باعتباره قدَرًا لا يمكن لأحدٍ أن يقاوم سحره. الشخصيات نفسها في الفيلم الأجنبي تتكرر في الفيلم المصري، إسماعيل الأب هو رجل الأعمال، وليلى هي زوجته الثانية التي تعيش معه الآن، ورغم رقتها الشديدة فإنها لا تستطيع أن تجعله يخصص لها وقتًا، أما الابن أحمد الذي على وشك التخرج في الجامعة، بعد أن ظل يعيش مع أمه إلى أن ماتت، فأتى به الأب إلى القاهرة كي يعيش في بيته، هنا يحدث تسكين الأشخاص، ميلينا ميركوري في دور زوجة الأب إلى ليلى التي تجسدها شادية، وأنتوني بيركنز الذي يؤدي دور الابن أليكسيس، ويجسده هنا حسين فهمي، بينما يبدو هناك اختلاف واضح بين كلٍّ من راف فالوني الممثل الإيطالي الذي جسد دور الأب، وبين محمود مرسي الذي بدا حادًّا أكثر من اللازم في أغلب مشاهده، بينما فالوني في دور ثانوس قد كان حاضرًا ببهجته ومرحه الشديد، مستمتعًا بما يملك من زوجة وابن وثروة وشباب، أما الممثلة مديحة حمدي، التي جسدت دور ميرفت أو الحب البديل، فإنها كانت تمثل الأمل في كافة أدوارها في تلك الفترة. أهمية الفيلم هي حدود العلاقة بين ليلى وابن زوجها، إنها علاقة محرمة لدى الجميع، وفي الفيلم فإن هناك اتهامًا للأب أن انشغاله عن زوجته دفع المرأة إلى علاقةٍ مصيرية مأساوية، فالأب يطلب من ليلى أن تذهب إليه في الإسكندرية حين يترك البيت للمرة الثانية، وتذهب طاعة لزوجها، بعد أن ألح عليها، كما أن الأب يخطط أن يزوج ابنه لميرفت ابنة شريكه في المشاريع؛ لأنه في هذه الحال سوف يتوج الزواج بالمال، الرجل الذي يفكر بعقليةٍ وحيدة عنيدة لا يتسم بمرونة، فهو لا يخصص وقتًا لزوجته. وفي أثناء رحلة عمل طويلة للأب فإن الشاب يصاحب زوجة أبيه إلى الأماكن التي يتقاربان فيها، ومنها حفل رأس السنة الذي يضم أقرانه من الشباب، حيث يعانقها ويقبلها قبل أن تخرج.
وعندما تذهب ليلى إلى الإسكندرية لإقناعه بالعدول عن ترك خطيبته، فإنها كانت تعرف أنها لن تستطيع المقاومة أبدًا، وتحدث المضاجعة فوق رمال الشاطئ.
من الواضح أن أسبابًا عديدة لا نعرفها أدت إلى اختصار النهاية، ما أفقد الفيلم طعمه المأساوي الموجود في نص مسرحية يوربيدس، والموجود بالقوة نفسها في فيلم جول داسان، ففي فيلم أشرف فهمي فإن ليلى عندما تذهب إلى ابن زوجها الذي تحبه في الإسكندرية، كانت تعرف المصير فلم تقاوم، وسرعان ما استسلمت، فهي ترضخ لقبلاته المتكررة، ثم ينزل بها فوق الرمل، بما يعني أن الاثنين وقعا في الخطيئة الكبرى. نرى الشاب ينهض بعد فعلته، أما هي فإنها تركب السيارة عائدة إلى القاهرة، وتقود السيارة بسرعةٍ قبل أن تنقلب بها من فوق الطريق، كأنما السماء تعاقبها وحدها على ما ارتكبت، وباعتبار أن الرجال في السينما المصرية في الغالب لا يموتون بسبب الخطيئة. أما النهاية عند جول داسان فإنها أكثر قبولًا، مليئة بالتفاصيل، وتمس كافة الأشخاص الذين في إطار الحكاية، فالثري ثانوس الذي يعمل في تجارة السفن، هو أشبه بالثري اليوناني أوناسيس، يهدي زوجته الجديدة فيدرا سفينةً كبيرة جديدة تحمل اسمها، وفي نهاية الفيلم، وعندما تتعاظم الأحداث، فإن الأنباء تأتي بأن السفينة غرقت ببحارتها، وتأتي النساء متشحات بالسواد مثل حاملات القرابين لمعرفة أسماء الموتى، وعندما تدخل فيدرا على زوجها مرتدية ملابسها البيضاء، وتخلو إليه لتخبره أنها عاشقة لابنه، ثم تخرج ليستدعي الرجل ابنه ويواجهه بما قالت فيدرا، ويضربه ضربًا مبرحًا، ويهرب العاشق الآثم إلى الجراج لتضعه فيدرا أسفل صنبور المياه وتقوم بغسل وجهه وسط عناق، كي يركب سيارته ويتركها، وينطلق بها بسرعةٍ هائلة في الخواء وتنزلق به إلى المنحدر. وفي المشهد الموازي، وعن طريق التقاطع، فإن فيدرا تطلب من وصيفتها أن تأتيها بالقناع لتضعه على عينيها، وتخبر الوصيفة أنها تعرف كل شيء، وفي تلك اللحظات يبدأ الأب ثانوس في تلاوة أسماء الموتى أمام أهالي البحارة، وإنه الموت المأساوي يلحق بالجميع، وليس فقط بالزوجة الآثمة. ومن هنا فإن الفيلم المصري اختصر أجواء المأساة الحقيقية؛ خاصة لأن الفيلم لم يذكر مهنة إسماعيل، وكل ما نعرفه عنه أنه منشغل ولديه سفريات وصفقات، وبالتالي فإننا أمام فيلمٍ فقير للغاية. كما أن الفتاة التي تحب أليكسيس تحدث بينها وبين فيدرا مواجهة، وتكاشفها إليزابيث بالحقيقة، كما أن الفيلم بالطبع قام بتبديل الرحلة الباريسية التي قام بها أليكسيس والمرأة إلى فرنسا بمناسبة نجاح الشاب، أما الفيلم المصري فاكتفى بسفر الأب لعمل صفقة خارج البلاد، وفي باريس كانت الفرصة للتقارب بين العاشقين.
من المضحكات هنا وسط كل المبكيات أن المتفرج على فيلم داسان قد استمع إلى موسيقى ثيودوراكس صاحب مقطوعة «زوربا»، لكن في فيلم أشرف فهمي اقتبسوا موسيقى فيلم «الأب الروحي» لنينو روتا الذي كان جديدًا في تلك الآونة.