المصادر الإنجليزية في السينما المصرية
ويليام شكسبير هو المواطن العالمي الأول، سواء في عالم الأدب أو السينما … فقد تُرجمت مسرحياته إلى أغلب لغات الأرض المكتوبة، ورواح السينمائيون يقتبسون هذه المسرحيات أيضًا في كافة أقطاب الأرض، وتجسدت شخصيات شكسبير فوق خشبات قاعات المسارح العالمية، كما نقلتها السينما لينطق كلٌّ من هاملت والملك لير وعطيل بمئات اللغات. وقد تباينت هذه الأعمال من حيث اقترابها وابتعادها عن النص، في العديد من الدول والمعالجات السينمائية، ففي المسرح مثلًا على المخرج الالتزام بالنص الشكسبيري، وألا يخرج عنه مهما كانت الأسباب. أما في السينما فالأمر يختلف تمامًا.
وفي تاريخ السينما هناك أفلام قريبة للغاية من النصوص الشكسبيرية دون الالتزام الكامل بما كتبه شكسبير. فلا شك أن مجال السينمائي يتيح له أن يضيف ويحذف من هذا النص ما يشاء. من الأعمال العديدة التي أخرجتها السينما عن شكسبير، فإنه من الصعب أن نجد تقاربًا بين أي من الأفلام المأخوذة عن «الملك لير» و«هاملت» و«ترويض النمرة» وبين النصوص المسرحية.
وبصفةٍ عامة يمكن القول بأن هناك مخرجين تعاملوا مع المسرحية الشكسبيرية بقدرٍ كبير من المسئولية، فحاولوا أن يطاولوا هذه النصوص، وأن تجيء أفلامهم شامخة مثل النص المكتوب منذ أكثر من أربعمائة عام. ومن هؤلاء المخرجين فرانكو زيفيريللي وأورسون ويلز وكوزنتزوف، وقد التزم هؤلاء بالنص في أحوالٍ عديدة، خاصة الحوار والجو التاريخي والمكان والملابس، إلا أن مخرجين آخرين قد راحوا يحولون أعمال شكسبير إلى نصوصٍ عصرية تنز بالحداثة والمعاصرة، والأخذ بمنطق أن حكايات شكسبير يمكن أن تنفع في كل مجالٍ وميدان وعصر، خاصة حكاية الحب الدافئة بين «روميو وجولييت».
أما عن علاقة السينما المصرية بنصوص ويليام شكسبير فهي لا تتغير كثيرًا عن علاقتها بالمصادر المقتبس عنها في السينما الأمريكية والأدب الفرنسي، حيث راح كتَّاب السيناريو والمخرجون يختارون من نصوص الكاتب الإنجليزي الحدوتة الملائمة للخط العام للسينما المصرية؛ مثل حدوتة ترويض امرأة شرسة كي تصبح زوجة نموذجية، أو علاقة حب مستحيلة بين شابٍّ وفتاة يدور بين أهليهما صراع وعداء رهيب، أو عن الأبناء العاقين الذين يرثون الأب الثري وهو على قيد الحياة.
وقد اختارت السينما المصرية من المصادر الشكسبيرية ما يتفق وهذه الحدوتة.
فبينما اقتربت من «الملك لير» و«ترويض النمرة» و«روميو وجولييت» أكثر من مرة، غير أنها لم تقترب من نصوصٍ عديدة للكاتب من أبرزها: «ماكبث» و«الليلة الثانية عشرة» و«العاصفة» وغيرها.
فإذا اخترنا أن نتحدث عن «روميو وجولييت» في البداية، فإن المعالجات المصرية قد تباينت، فمن خلال أجواء الكوميديا الموسيقية صاغ محمد كريم أحداث فيلمه «ممنوع الحب»، وقد صبغ أجواء فيلمه بالكوميديا ولم يشأ أن يصرع بطليه من الشباب، بل أبقى على حياتهما، وقام بتزويجهما، وعاشا لينجبا البنين والبنات. بينما في الأفلام المأخوذة عن شكسبير، في النصوص غير العربية، فقد حرصت على أن يموت العاشقان كي يدفع الأهل جريرة كراهية بلا ثمن، كي يكون موت العشاق سببًا في إحداث التقارب بين الأسرتين.
والصراع عند ويليام شكسبير دموي … فهناك دماء منسالة بين أفراد الأسرتين، وقد اشترك روميو بنفسه في إسالة هذا الدم عندما صرع ابن عم جولييت، وهو الشاب الذي يخطبها لنفسه ويجد في روميو منافسًا له. أما كمال سليم فقد قرر أن يصرع بطليه في فيلم «شهداء الغرام»، إلا أن عبد العليم خطاب قد اختار جوًّا مقاربًا لجو فيرونا في القرون الوسطى، وذلك عندما صور فيلمه «العلمين» في منطقة البدو بالصحراء الغربية، وأرجع تسمية مدينة العلمين إلى أن هناك شابًّا وفتاة تحابا في ظروفٍ اجتماعية مستحيلة، وأسمى كلًّا من الفتاة والشاب بالعَلَمين. وقد قام بدور البطولة كلٌّ من مديحة سالم وصلاح قابيل عام ١٩٦٥م، وعندما دفع الاثنان حياتهما دُفنا في مدينة حملت اسم «العلمين» فيما بعد، باعتبار أن الشباب يطلق عليهم اسم «عَلَم» في القبائل بالصحراء الغربية.
وفيلم عبد العليم خطاب أقرب أفلام شكسبير إلى النص الأدبي المكتوب، رغم أنه سقط في زاوية النسيان ضمن أفلامٍ مصرية عديدة. والحب هنا مستحيل محاط بالدموية، وبصراع الأسر والعداء القبلي. وقد أدى المخرج دور والد جولييت المتصلب الذي يدفع حياة ابنته ثمنًا لهذا الصلف.
أما مسرحية «عطيل» فقد وجدت طريقها ثلاث مرات إلى السينما المصرية؛ الأولى: هي «الشك القاتل» لعز الدين ذو الفقار، والثانية: أخرجها حسن رضا عام ١٩٥٩م تحت عنوان «المعلمة»، وفيه اهتم المخرج بإسقاط رجل من عرشه من خلال إثارة الشك في قلبه. وقد جسدت تحية كاريوكا دور ديدمونة التي تسكن حيًّا شعبيًّا، ولا تتمتع بنقاءٍ معروف عن المرأة القبرصية، بل هي بنت بلد تتمتع بشهامةٍ واضحة.
أما المعالجة الثالثة: فقد قدمها عاطف الطيب عام ١٩٨١م في «الغيرة القاتلة». وكل الأفلام الثلاثة لم تأخذ من شكسبير سوى موضوعه عن الغيرة، وأن الغيرة تؤدي بالزواج الناجح أحيانًا إلى قتل الزوجة البريئة. وعطيل في فيلم عاطف الطيب ليس سوى مهندس شاب ناجح يقيم مشروعًا اقتصاديًّا ذا جدوى، ويتزوج من فتاةٍ حسناء. وإذا كان ياجو قد شعر بالحقد يدب في قلبه لأن عطيل المغربي الأسود قد تزوج من فتاةٍ حسناء بيضاء كديدمونة، وانتصر في معارك عسكرية جاءت لبلاده بالنصر، فإن «مخلص» في فيلم «الغيرة القاتلة» صديق لم يحقق نجاحًا متميزًا، وهو يسعى إلى أن ينغص حياة زميله القديم بأن يجعله يشك في سلوك زوجته.
وعطيل هنا لم يقتل ديدمونة، بل أحس في اللحظة الأخيرة أنه كاد أن يقتل زوجته من أجل مشاعر سوداء من قِبل زميله غير المخلص «مخلص».
لم تنتبه السينما المصرية إلى أهمية الحالة النفسية التي أصابت عطيل بعد قتل حبيبة فؤاده بيده، وقد راح الندم يدفع على لسان المغربي مجموعة من عبارات الندم والحسرة.
وتقول إيزيس نظمي في محيط حديثها عن الفيلم: «ولكننا نفاجأ بظهور المعلم عباس، وحتى نهاية النصف الأول من الفيلم لا نعرف هويته أو دوره الدرامي، ففي المشاهد الأولى نراه عابرًا كصديق لعائلة سامي، يضاف إلى ذلك المغازلات المكشوفة بينه وبين والدة سامي.
ويسود الفيلم أحداث أو بمعنى أصح حوادث بين الشخصيات، إذ يتم استدراج والد سامي إلى خارج منزله بواسطة عبد الصبور، ثم ينهال عليه سائق العربة اللوري بأداةٍ حادة تفقده حياته، وتتأجج حُمَّى الانتقام عند سامي الابن، فيترك عالم المشاركة الاجتماعية وحبه لرباب إلى عالمٍ آخر هو الانتقام من قاتل أبيه. وبعد البحث والتحري يتصور أن عبد الصبور «والد حبيبته رباب» هو قاتل أبيه، ويفقد صوابه وتسوء علاقته برباب وبأسرتها.
يعرف هاملت المصري أن عباس هو الفاعل لهذه الجرائم كي يتخلص من الأب ويستولي على ثروته، والأهم من ذلك يستولي على مخدعه وامرأته، ويحاول التخلص من سامي، ولكنه لا يفلح في ذلك، ويكتشف سامي تدبيره الأول لقتل أبيه، واشتراكه في عمليات التهريب فيقبض عليه في النهاية.»
لقد حول الفيلم المصري مأساة هاملت إلى حدوتةٍ بوليسية، وحرمه في لغته العربية أن يطيح مرةً واحدة بقتلة والده حين قرر أن يخرج عن عزلته التي صنعها لنفسه، وعن سقمه المعنوي، ومأساة تردده.
أما كوميديا «ترويض النمرة» فقد وجدت طريقها إلى الشاشة المصرية أكثر من مرةٍ، وذلك أيضًا في إطارٍ عصري. وقد اختلفت المعالجات، فكانت مزيجًا بين شكسبير وإضافات جديدة من الكاتب المصري، مثل ما حدث في فيلم «الزوجة السابعة» لإبراهيم عمارة. إلا أن فطين عبد الوهاب أشار صراحة أن فيلمه «آه من حواء» عن مسرحية شكسبير. كما أشار عبد الحي أديب إلى ذلك في «استاكوزا» لإيناس الدغيدي ١٩٩٦م.
وقد ناسبت المسرحية أجواء الكوميديا المصرية؛ لأنه حتى وقتٍ قريب فإن بعض الأسر كانت تصر أن تتزوج الأخت الكبرى أولًا، وعلى الصغرى أن تنتظر إلى أن يجيء «العريس المناسب لأختها»، حتى وإن كانت شرسة، أو صاحبة عاهة.
والنمرة في السينما دائمًا امرأة جميلة؛ مثل: إليزابيث تايلور، ومديحة يسري، وماري كويني، ولبنى عبد العزيز، ورغدة. فهناك شراسة واضحة لا تتناسب مع ما تتمتع به من جمال، حتى إذا تم ترويضها بدا فعلًا كم هي جميلة. أما الرجل فهو عملاقٌ دائمًا وجذاب وفكه يمكنه أن يتحمل شراسة المرأة التي ارتبط بها حتى يشهد عملية تحولها إلى الجانب المعاكس، الأفضل بالطبع، وهو «رجل» صبور، ويجيد العزف على أوتار المرأة التي أمامه، لدرجة أنها تجري إليه وتعلن عن كامل ولائها نحوه. وفي مسرحية شكسبير، وأيضًا في النص الفيلمي الذي أخرجه زيفيريللي ١٩٦٧م، تقول كاترينا: إن الزوج هو الزورق وهو الربان. وتأمر كلًّا من أختها وصديقتها، أن تطيعا وتنصاعا لأوامر زوجيهما. وقد خلت الأفلام المصرية من مثل هذا المشهد؛ ففي فيلم فطين عبد الوهاب رأينا الأخت الصغرى تتحول دون داعٍ إلى فتاةٍ شرسة بعد أن انقلبت أختها إلى مخلوقٍ أفضل، وفي «إستاكوزا» كان هم الفتاة أن تذوق من فم عباس قبلة ساخنة رأته يمنحها لفتاةٍ أخرى، حتى ولو كانت بتعجيزه جنسيًّا.
وهناك علاقة حميمة بين الإبداع الأدبي الإنجليزي المكتوب في القرن التاسع عشر وبين السينما المصرية، وقد أُعجب حسين حلمي المهندس بروايتين كتبتهما الأختان برونتي؛ الأولى: هي «مرتفعات ويذرنج» لإميلي، والثانية: «جين إير» لشارلوت. الفيلم الأول أخرجه كمال الشيخ تحت عنوان «الغريب» ١٩٥٦م، وسعى إلى نقل أجواء الريف الإنجليزي إلى جو الريف المصري. ومع هذا جاء الفيلم جيدًا. وقد وجد حسين حلمي نفسه أمام روايةٍ طويلة تكفي لصناعة فيلمين مصريين، فاكتفي بأحداث نصف الرواية، حتى تلك اللحظة التي تموت فيها كاترين بين ذراعي حبيبها هيثكليف، أو بين ذراعي يحيى شاهين الغريب. إلا أن إميلي برونتي قد راحت تروي بعد ذلك صراع الأجيال الجديدة من خلال ما ترثه من الحقد القديم.
وقد بدا فيلم كمال الشيخ متكاملًا راقيًا، ولكن أجواء الصراع بدت غريبة، كأن نرى جلالًا تنازل عن بيته إلى غريمه لسببٍ بسيط، وهو أنه راهن عليه في لعب القمار. أما رواية «جين إير» فقد أخرجها حسين حلمي بنفسه عام ١٩٦١م تحت عنوان «هذا الرجل أحبه». وفيه تتحول جين إير إلى الفتاة التي خرجت لتوها من الملجأ واسمها صابرين، وهذه الفتاة تنتقل إلى منزلٍ ريفي لتعمل مدرسة لابنة رجل يدعى فردريك، وتضطر أن تبقى هناك فترة لأنه ليس لها مأوى آخر. في هذا البيت تفاجأ بأجواء من الذعر والخوف. يتحول فردريك إلى مراد في الفيلم العربي، وهو إنسان يتسم بالقسوة والصلابة حتى مع ابنته الوحيدة. وبالرغم من المصاعب التي تلاقيها صابرين في هذه الدار، فإنها تنجح في كسب ثقة مراد، وتنجح في أن تحوله إلى مخلوقٍ وديع يصرح لها أنه يحبها، ويطلب منها الزواج. ولكن البيت يبدو غريبًا من خلال أصوات تنتشر وسط الليل. وعند عقد الزواج يدخل خال صابرين ويعلن أن هذا الزواج باطل؛ لأن مراد متزوجٌ في نفس الوقت من أخت صابرين، التي لا تعرفها، والتي أصابها الجنون، وتقيم في إحدى غرف المنزل الكبير. وفي لحظةٍ تهاجم الزوجة المجنونة مراد وتضربه، وتحرق الدار، ويصاب مراد بالعمى، وتبقى صابرين إلى جواره بعد أن ماتت أختها.
ومن الواضح أن الكاتب (المخرج) قد وجد نفسه أمام مشكلةٍ عندما راح يعالج مسألة زواج فردريك من جين إير؛ ففي الديانة المسيحية ممنوع الزواج بامرأتين، بينما نفس الحكاية مسموحٌ بها في الدين الإسلامي؛ ولذا ابتدع فكرة أن تكون صابرين هي أخت الزوجة المجنونة، وقد أضعف هذا من دراما الفيلم.
والفيلم يدور حول الأم التي تنفصل عن زوجها لفضيحةٍ أخلاقية هي منها براء، ولا تراها إلا بعد أن تمر بها السنون وتكون الابنة قد كبِرت. وعندما تلتقي الأم بابنتها تحس أنها قد ترتكب غلطتها مع زوجها، إلا أن الابنة التي لا تعرف حقيقة أمها، تتهم أمها بمحاولة اقتناص كل رجل. وحين تكاد الابنة أن تقع في المحظور، وتنسى مروحةً أهداها لها زوجها في عيد ميلادها، وخوفًا من أن تطول الفضيحة الابنة، فإن الأم تنسب ملكية المروحة إلى نفسها. ويكون هذا الحادث سببًا في تقارب الاثنين. وعلى كلٍّ فالمشاهد لفيلم حسن رمزي والقارئ لمسرحية وايلد يتأكد من جديد أن السينما المصرية تأخذ الحدوتة وتقوم بتفصيل عشرات الحكايات حولها.
أما الكاتبة ماري ستيوارت فهي معروفة لقراء روايات الجيب العالمية، وقد اقتبس بركات فيلمه «الزائرة» الذي أُنتج بين لبنان والقاهرة ١٩٧٢م عن رواية لماري ستيوارت، نُشرت في سلسلة روايات عالمية في النصف الثاني من الستينيات تحت عنوان «شجرة اللبلاب». وتدور أحداث الرواية في الريف الإنجليزي حول امرأةٍ تعود إلى الضيعة التي يمتلكها عمها، لتظهر في الوقت المناسب قبل أن يقع العم ضحية لأقاربه الأشرار الذين يريدون أن يستولوا على ثروته، وتنتحل اسمًا جديدًا، وتدخل البيت مرةً أخرى بخدعة أنها تشبه الابنة التي اختفت، بالاتفاق مع الأقارب الأشرار، وتنجح في أن تكشف شرور الأقارب إلى العم، ثم تكشف نفسها أمام الخصوم. ولم يخرج فيلم بركات كثيرًا عن الرواية المقروءة سوى أنه حاول أن يعطي مساحةً درامية أطول للحبيب الذي يسكن في ناحية الضيعة. وقد جاء تصوير الجبال اللبنانية مناسبًا أكثر من تصويره في أجواء الريف المصري، وذلك فيما يتعلق بعامل الاتساع.
وفي الفيلم المصري جسد فريد شوقي نفس الدور الذي جسده جون مايلز، وقد غيرت الفتاة نورا كثيرًا من حياة منصور، لكنها تحب مهندس الشركة وتتمنى أن تتزوجه، فيقرر العجوز أن يقف لهذه العلاقة بالمرصاد، ثم ينتحر.
التقط حلمي حليم هذا الفيلم فراح يقدمه في فيلم «غرام تلميذة» عام ١٩٧٢م، وحول الشاهد إلى تلميذة (نجلاء فتحي) تُدعى ضحى تشاهد جارتها فردوس تقتل رجلًا بمساعدة أحد أصدقائها، ويستوليان على حقيبةٍ مليئة بالنقود، وتروح ضحى تروي الحكاية لكل مَن يعرفها، وخاصة خطيبها (أحمد رمزي)، فلا يصدقها أحد؛ لأن الجميع يعلم أنها مريضة بالكذب. وعندما يختلف توفيق وعشيقته حول نصيب كل منهما في الغنيمة، يتشاجران فيقتلها وتشاهده الفتاة من جديد، فيبدأ في مطاردتها، وهنا تتضح الحقيقة، خاصة أن أحمد خطيبها يقرر أن يتدخل لكشف الجريمة.
(١) قراءات فيلمية
(١-١) حبك نار
تأتي مشكلة مشاهدة فيلم «حبك نار» إخراج إيهاب راضي من أنني شاهدت لتوي باليه «روميو وجولييت» في أكبر قاعات عروض الباليه والأوبرا بمدينة فلنيوس عاصمة ليتوانيا؛ عرض ساحر استغرق قرابة الساعتين والنصف، أبدعت فيه باليرينا ليتوانيا الأولى التي حظيت بتصفيقٍ حاد لم يتوقف حتى غابت عن الأنظار وراء الستار.
كما تأتي مشكلة مشاهدة الفيلم نفسه أنه ليس مأخوذًا بشكلٍ مباشر عن ويليام شكسبير، كما جاء في عناوين الفيلم، بل الصحيح أنه مأخوذٌ عن المعالجة البريطانية في فيلم «روميو وجولييت» الذي أخرجه باز لورمان عام ١٩٩٦م، والذي كان أول ما لفت الأنظار إلى موهبة ليوناردو دي كابريو.
أهمية فيلم لورمان (وهو أسترالي الأصل) أنه يدور في مدينة فيرونا المعاصرة، حيث مجموعة من الشباب الذين يتعاملون مع العنف بشكلٍ يمثل الصدمة، وروميو شاب رقيق يقع في غرام حبيبته الرقيقة مثله، وسط صراعٍ عائلي محتدم بين عائلتين متخاصمتين، عندما يموت ابن عمه مقتولًا على يدي خصمه، فإن روميو يتحول بدوره إلى مقاتلٍ دموي عنيف. كانت الصدمة في الفيلم أنك ترى كل هذا العنف ممزوجًا برومانسية شكسبير، وعليك أن تتقبل المزيج الغريب. وقد اختار إيهاب راضي أن يقدم فيلم لورمان وليس مسرحية شكسبير.
الجدير بالذكر أيضًا أن فيلم إيهاب راضي الأول «فتاة من إسرائيل» عام ١٩٩٩م كان محوره مشابهًا لحكاية «روميو وجولييت»، رغم اختلاف الهوية، فقد وقع مهندس شاب مصري في غرام فتاة إسرائيلية، ومنع الصراع العربي الإسرائيلي الطرفين من الالتقاء.
إذا كانت التجارب السابقة في ذهنك وذاكرتك، وأنت تشاهد فيلم «حبك نار»، فلن تشعر بأي متعةٍ رغم الموهبة الملحوظة لإيهاب راضي، والتي تأكدت منذ فيلمه السابق. ومن هنا تأتي مشاكل التعامل مع أفلامٍ مقتبسة عن مصادر أدبية أو سينمائية لها قوة «روميو وجولييت».
فقد استخدم إيهاب راضي نفس الأجواء التي عرفناها في فيلم لورمان؛ مدينة واسعة مثل الإسكندرية، واثنين من العشاق يلتقيان في أجواءٍ من الخصومة والعداء، ووجود ابن عم دموي. وما يشبه عصابات شيكاغو، ومافيا، ورجال أمن مثل الحيطان، يرتدون البدلات السوداء، ويحملون الأسلحة، ويحمون أصحاب رءوس الأموال. قد يتناسب الجو مع مدينةٍ من مدن المافيا، لكن لا أعتقد أن الإسكندرية صالحة لأجواء صورها لورمان، فقد كانت المدينة بالغة الفخامة والقسوة، لا تصلح أبدًا لعاشقين من طراز روميو وجولييت.
في المشهد الأول من الفيلم، قدَّم لنا سيدَي العائلتين المتصارعتين، جمال القصاص (سعيد عبد الغني)، وطايل الزناتي (يوسف فوزي)، يجلسان في غرفة مأمور أحد الأقسام، نعرف أن بين الرجلين خصومة شديدة، لها أسبابٌ عميقة وجذور قوية.
أما المشهد الثاني مباشرة، فإننا نرى اللقاء الأول بين كريم (مصطفى قمر) وسلمى (نيللي كريم)، في طريق الكورنيش، لقاء طريق، سيولد إعجابًا منذ اللحظة الأولى بين الاثنين … طبعًا اللقاء الأول لم يكن مشابهًا لما حدث في كافة المصادر الشكسبيرية، حيث قابلها روميو في إحدى الحفلات التنكرية، لكن يبدو أن السيناريو أراد أن يلتزم حرفيًّا، دون داع، بالنص، على الأقل الفيلم الأخير، فجعل روميو يصعد إلى حبيبته عن طريق سيارة المحافظة، التي تقوم بتركيب المصابيح في أعمدة النور، وصعِد كريم إلى شرفة الفتاة، ونادى عليها، رغم أن الحرس يملئون المكان، وراح يبثها لواعجه في زمنٍ من السهل أن يفعل ذلك بالموبايل، وأن تنزل إليه وتقابله، لكن السينما عاوزة كدة.
سرعان ما نعرف أن الشاب وفتاته ينتمي كلٌّ منهما إلى الخصمين اللذين يتنافسان كالديكة في البداية. وإذا كان النص الشكسبيري يرى أن الحفل هو مكان اللقاء الأول، فإن السيناريو المصري وجد نفسه في حرج، فلسنا في زمن الحفلات التنكرية؛ لذا فإن كريم ذهب إلى حفل دخله ابن عمه طارق، وتحت بصر وسمع الخصوم. وحدثت المواجهة الأولى مع عماد الذي يبدو شرسًا، هو أقرب إلى الصائعين منه إلى أسرةٍ كبيرة تعمل في التجارة. هناك فارق ملحوظ بين الشراسة والبلطجة، قد يكون شخصٌ ما من أسرةٍ كبيرة، على الأقل اقتصاديًّا، شرسًا، لكن مجدي كامل جسد شخصية عماد بما يقارب البلطجي، فقد استخدم كافة الأسلحة التي أتاحت له أن يهدد خصومه؛ المطواة، أو المسدس، فهو لا يتورع أن يشهر مطواة في وجه ضيوفه، وأن يطردهم.
المختلف هنا، أن الأب اكتشف العلاقة في بدايتها، وتصور أن كريم مدسوس من قِبل أبيه للانتقام منه عن طريق توريط ابنته في علاقةٍ عاطفية؛ لذا وافق على طرده، بما يعني: إلا ابنتي. إلا أنه في نص شكسبير، فإن العائلة، خاصة الأب، لم يعرف بهذا إلا مؤخرًا، بعد أن سكن الحب في القلوب، وغاص دون خروج.
وقد أضاف الفيلم تفاصيل أخرى، منها أن كريم يعيش مع أمه حورية المنفصلة عن أبيه، وأنه رغم ثراء طايل، فإن حورية (زيزي البدراوي) تعيش في بيتٍ متواضع للغاية، ولا ينهل الابن كريم من أيٍّ من مقدَّرات ثراء أبيه، أي إن الشاب هنا ابن أمه المطلقة وليس أبيه، وليس له هدف من هذه العلاقة.
لذا، فإن هذه الإضافات ساعدت في تغيير أحداثٍ عديدة، منها ذَهاب زينات أم سلمى (شروق) إلى حورية تطلب منها أن تبعد الابن عن سلمى، وتهددها أن الدماء قد تتفجر. كما أضاف السيناريو أيضًا مسألة قيام الأب باختيار خطيبٍ ثري لابنته، ويقول لها متجهمًا: «حتتجوزيه» ويصفعها وهو يتحدث عن الصعيدي الذي يسكن «جواه».
وإذا كان لورمان قد فعل ما لم يفعله الأسبقون في فيلمه «روميو وجولييت»، حيث استخدم الحوار الشعري في مسرحية شكسبير في فيلمه، فإن إيهاب راضي لا يمكن أن يفعل ذلك بالمرة؛ لذا قدم حواره الخاص، بعضه باللهجة الإسكندرانية، والأخرى بالصعيدية. بالإضافة إلى تعديلاتٍ ملحوظة، منها تأخير المواجهة بين كريم وخصمه عماد، ففي المسرحية فإن ابن العم يقتل ابن عم روميو، ويصبح على هذا أن يتحين فرصةً للانتقام. لكن إيهاب قرر أن يختصر كل ذلك في مشهدٍ واحد، يقوم فيه عماد بقتل طارق، بعد أن ضرب كريم وكاد أن يشق له بطنه، مما دفع كريم أن يقتل ابن عم حبيبته، إنه عماد الذي يطمع بدوره في الزواج من سلمى. كما أن إيهاب يضع تفصيلاتٍ أخرى، مثل جنازة عماد، والغريب أن مشهد تصوير الجنازة تم في القاهرة وليس في الإسكندرية دون مبرر لذلك، وفي هذا المشهد يردد القصاص: «أنا ما باخدش عزا … القاتل يُقتل بعد حين.» في مشهدٍ تالٍ، موجود في النص الشكسبيري، تردد سلمى: «حبيبي هو عدوي.»
وإذا كانت جولييت قد تجرعت السم المؤقت المفعول، كي توهم أسرتها أنها انتحرت، حتى تجبرهم على الموافقة على أن تتزوج من حبيبها، فإن سلمى هنا تكاد تتناول السم المؤقت، وتتراجع في اللحظة الأخيرة. ومن هنا أضاع الفيلم فرصة التعامل مع الخدعة التي ابتدعها شكسبير في مسرحيته، حين يتصور روميو أن حبيبته قد انتحرت بالفعل، وينتحر كي يلحق بها، فتنهض من النوم عند مقبرتها المنتظرة، وتعرف بالخبر المؤلم، لتموت، وتبقى قصتهما «خالدة».
هنا تتزوج سلمى من كريم، كي تضع أباها أمام الأمر الواقع، وتعلن ذلك على الملأ أمام أبيها، مما يدفع الأب إلى أن يطلق النار على كريم، فتصاب ابنته. المخرج حريصٌ على ألا تموت سلمى، وحريصٌ على أن يتم الصلح بين الجميع دون أن يموت العاشقان، مثل ما فعل محمد كريم في فيلم «ممنوع الحب» قبل ستين عامًا. الأب هنا يدخل السجن، وسلمى عليها أن تبرأ شيئًا فشيئًا، وفي السجن تقوم صداقة ومودة بين كريم ووالد حبيبته، هي صداقة غير ممهدة، وتتصالح الأسرتان، فقد تم الحكم على كريم بإيقاف التنفيذ (ستة أشهر سجنًا)، وينتهي الفيلم والأسرتان تودعان العروسين اللذين ينطلقان في قاربٍ متوسط الحجم نحو شهر العسل.
تحولت مسرحية شكسبير إلى أكثر من فيلمٍ في تاريخ السينما المصرية، منها معالجة عصرية غنائية سبقت الإشارة إليها. ولأن المتفرج المصري لا يحب لبطله محمد عبد الوهاب أن يموت في الفيلم، فقد تم التصالح، وعاش العاشقان في التبات والنبات. أما فيلم «شهداء الغرام» لكمال سليم ١٩٤٤م، فإنه صيغ في إطارٍ تاريخي، فإن الموت كان في انتظار العاشقين وفاء ومراد. كما أن عبد العليم خطاب قد اختار للعاشقين أن يموتا أيضًا في فيلم «العلمين» الذي أخرجه عام ١٩٦٥م، وقد قَتَلَ باز لورمان بطلَه في أحداث عنف شديدة. أما كريم وسلمى فقد عاشا وتزوجا؛ لذا فإن الفيلم سوف يتبخر، فالموت يجعل من عاشقين من هذا الطراز شهيدين يدفعان ثمن الأخطاء العائلية المتراكمة، وهما اللذان يحاولان أن يمحُوَا الكراهية بالحب. ولا شك أن أنسب بيئة لنقل «روميو وجولييت» إلى السينما المصرية هي الريف الصعيدي، باعتبار أن مسرحية شكسبير مليئة ببحور الدم المتتالية التي يلي بعضها البعض الآخر، فابن عم جولييت يقتل ابن عم روميو، وهو أيضًا صديقه الحميم، أي إن الدم والانتقام صارا الرابط الأساسي بين العائلتين، وهذا الدم تصاعد بسبب قصة الحب؛ لذا فإن جولييت عندما لجأت إلى الانتحار المصطنع كانت تهدف إلى وقف نزيف الدم الذي لن ينتهي.
هذه هي المرة الثالثة التي يتم فيها اقتباس «روميو وجولييت» في صورة فيلم غنائي، ولعلها المرة الأولى في تاريخ السينما المصرية، أن يقوم مطرب باستخدام المسدس والمطواة كسلاحٍ للقتل، ورغم هذا يتم إطلاق سراحه، وتزوج من سلمى.
(١-٢) حب في حب
لم يجرؤ فنان على التعامل مع أسطورة بجماليون بشكلٍ كوميدي، إلا بعد أن تمكن جورج برنارد شو من تحطيم حاجز منيع، استطاع من خلاله أن يأخذ فقط من هذه الأسطورة مجرد فكرتها الرئيسية حول الهومي الشديدة، التي تتمسك بالمبدع الذي يشعر بالسعادة حين تدب الحياة في الكائن الذي أبدعه، بعد أن ابتهل إلى الآلهة أن تجعل من التمثال الجميل الذي صنعه مخلوقًا حيًّا، وأن تسري فيه الشرايين المليئة بالدماء الساخنة، فعاد إلى منزله ليرى الحياة وقد استبدت بالمخلوق الذي سرعان ما اتجه بمشاعره إلى شخصٍ آخر، فكانت الصدمة التي أصابت المبدع مؤلمة.
هو موضوعٌ مأساوي في المقام الأول، لكن شو استوحى فقط من الخطوط العامة للأسطورة موضوع مسرحيته الكوميدية التي كتبها عام ١٩١٢م، حول عالم اللغات الدكتور هيجنز الذي يقوم بتحويل إليزا بائعة الورد عند باب أحد المسارح من فتاةٍ سوقية إلى امرأةٍ لا يمكن لأحدٍ أن تنتابه الشكوك إلى أصلها الذي جاءت منه، فينجح في الرهان. ثم يكتشف أن الفتاة وقعت في حبه، ومن أجل أن تثير غيرته فإنها تتقرب إلى شابٍّ من الطبقة التي حاول هيجنز أن يحشرها فيها.
مسألة الخلق هنا لم ترتقِ إلى ما حدث في الأسطورة اليونانية، فنحن أمام قصة يمكن أن تحدث في كافة ميادين العمل يوميًّا، وبالتالي فإن الدكتور هيجنز موجود دومًا من حولنا، خاصة في المجالات المرتبطة بالإبداع، وأولها الفنون.
وهذا الموضوع تكرر كثيرًا في الآداب العالمية، ومن أبرزها الرواية الإيطالية «بينوكيو» المكتوبة في القرن التاسع عشر التي تعتمد على فكرة النجار الذي قام بنحت طفل صغير من الخشب، له أنف أطول من اللازم، وما تلبث الحياة أن تدب في جسد الطفل الخشبي، ويتخذه النجار ابنًا له.
والسينما المصرية لم تتعامل قط مع أسطورة بجماليون مباشرة، ليس بالطبع بسبب الممنوعات الرقابية حول مسألة علاقة الخالق بمخلوقه، ولكن لأن هذه السينما تبحث دومًا عن السهل المضمون. فمسرحية «شو» تحولت إلى فيلم بريطاني من إخراج أنتوني أسكويث عام ١٩٣٨م، مما دفع صناع الفيلم المصري إلى سرعة اقتباسها في السنة التالية مباشرة، وتحولت بائعة الزهور إلى بائعة تفاح، ورأينا القصة في إطارها الكوميدي. ثم قام سيف الدين شوكت، اللبناني الأصل، باقتباسها، وهو المشهور بأنه قام باقتباس أغلب أفلامه عن نصوصٍ أدبية وسينمائية عديدة. ومثل ما حدث في السينما المصرية عقب عرض فيلم أسكويث، فإن السينما المصرية عادت لتقديم الموضوع عقب النجاح العالمي لفيلم «سيدتي الجميلة» إخراج جورج كيوكر ١٩٦٤م. كما أن حلمي حليم قام باقتباس الحدوتة عام ١٩٦٨م باسم «أيام الحب».
ليست هناك علاقة إذن بين بجماليون وبين مسرحية «شو»، ولا بين ما كتبه شو وبين الأفلام المصرية المأخوذة عن هذه الحدوتة. فالأسطورة الحقيقية حول الخلق، باعتبار أن المثَّال قام بصنع تمثال لامرأةٍ جميلة، فأحب التمثال، وعندما ابتهل إلى الآلهة كان أمله أن تدب الحياة في جسد التمثال، فلما عاد إلى الغابة وجد أن دعاءه قد استجيب. لكن المرأة التي بدأت تتنفس صارت أيضًا عاشقة، فأحبت رجلًا آخر غير الذي قام بنحتها، وطلب من الخالق أن يساعده في ذلك.
أما الدكتور هيجنز فكل ما فعله أنه استرعى انتباهه أن إليزا بائعة الورد تنطق اللغة الإنجليزية بشكلٍ يسيء إليها، فدخل في رهانٍ مع أقرانه أن يحول البائعة إلى ما يشبه السيدة الراقية مثل بنات المجتمعات الكبرى، وقد تقبلت الفتاة التجربة، حبًّا في المغامرة، وعشقًا في الصعود الاجتماعي، وليس في ذلك خَلق بقدر ما هو تحول، فالفتاة إليزا موجودة، والتحول منشود، لكن لم يحدث أي نوعٍ من الخلق مثل ما في الأسطورة.
بالطبع فإن صناع الأفلام الكوميدية لم ينتبهوا إلى هذا الجانب المهم من الأسطورة، والدليل أنهم حولوا الفكرة إلى موضوعٍ كوميدي، وشتان بين المقدمة التنظيرية الطويلة التي وضعها شو في مقدمة مسرحيته، وهي عادة يتبعها شو دائمًا في مسرحياته المطبوعة، فتصير المقدمة مهمة بنفس الدرجة التي عُرف بها النص المسرحي.
لكن أيًّا من صناع الأفلام المأخوذة عن بجماليون وبرنارد شو، وليس عن الأسطورة نفسها، لم يكن بها مثل هذه المقدمة الممتعة التي لا يمكن الاستمتاع بالنص الإبداعي دون الاستمتاع بالمقدمة نفسها.
وقد حدث هذا بنفس الشكل عند سيف الدين شوكت، فهو مجرد مخرج متوسط الموهبة، قدَّم أفلامًا الكثير منها كوميدي، ومنها على سبيل المثال: «الناصح» ١٩٤٩م، «فلفل» ١٩٥٠م، «عنتر ولبلب» ١٩٥٢م، «إسماعيل ياسين في جنينة الحيوانات» ١٩٥٧م، و«حب في حب» ١٩٦٠م، ثم «المراهقان» ١٩٦٤م.
لم يستعن سيف الدين شوكت في فيلمه «حب في حب» المعروض في سينما أوبرا في ١٥ / ٢ / ١٩٦٠م بنجوم السينما الكوميدية، فغير المعروف بالمرة أن الممثلة إيمان ممثلة كوميدية، ورغم أن هند رستم قامت بأدوارٍ كوميدية عديدة فإن شوكت استعان بها للعمل في أفلامه المأساوية، ومنها «رجل بلا قلب»، كما استعان شوكت في هذا الفيلم باثنين من كتَّاب السيناريو، واللذين سبق أن عملا معه أكثر من مرةٍ، وهما حسن وميريلا توفيق، ومن هذه الأفلام «عصافير الجنة» عام ١٩٥٦م.
وفي الفيلم الذي أنتجه فاروق عجرمة في أول بطولةٍ له استعان بالعديد من الممثلين ضيوفَ شرف كنوعٍ من المساندة له، ومنهم أحمد مظهر ومحمود المليجي. يعمل بحري (حسن فايق) سكرتير تحرير مجلة «العزة» التي يحرص القراء على متابعة أبوابها المهمة في مجال الاجتماعيات؛ لذا فإن توزيع المجلة يتوقف على الموضوعات الاجتماعية الجذابة، إذ تشهد المجلة منافسةً حادة بين المحررين الذين يسعون للبحث عن كل ما يثير شهية القراء، ويقاس نجاح أبواب المجلة بكمية رسائل القراء التي تصل إلى المجلة؛ لذا فإن المنافسة على أشدها دومًا بين مجدي عمر محرر باب «بنت البلد»، وزميلته شيرين محررة باب «الأرستقراطية».
إذن فكل منهما يحاول من طرفه الحديث عن موضوعاتٍ تناسب الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها كل باب.
وتتحول إليزا بائعة الورد في مسرحية شو، هنا إلى نوسة «هند رستم» عازفة البيانولا، التي تسترعي انتباه مجدي، والتي لا يتعدى طموحها أكثر من شراء حذاء أنيق ظلت تتأمله دومًا في إحدى واجهات المحلات، مما يوحي لمجدي أن يكتب لقرائه عن فتاة البيانولا، وعن الحذاء الذي تتوق إلى اقتنائه، وعن الطبقة التي تعيش فيها، ويلقى المقال إعجاب القراء الذين يرسلون خطابات الإطراء، ويعلنون عن رغباتهم في شراء الحذاء لإسعاد فتاة فقيرة تعمل في مهنةٍ شريفة. هذا النجاح الذي حققه مجدي يثير غيرة شيرين فتقرر أن تفعل شيئًا.
كل هذه الإضافات غير موجودة بالطبع في كافة الأفلام المصرية، وربما العالمية المأخوذة عن «شو»، فقد اختار فيلم «حب في حب» عالم الصحافة، في الوقت الذي اختار فيه شو عالم الأرستقراطية الحقيقية من خلال خبير اللغات هيجنز، بينما دخل حلمي حليم عالم السينما في فيلمه «أيام الحب». فشيرين توعز إلى سكرتير التحرير أن موضوع نوسة ليس سوى اختلاقٍ من قِبل زميلها، مما دفعه إلى أن يطلب من مجدي ومن زميله المصور منير (فؤاد المهندس) أن يذهبا للبحث عن نوسة. وتبذل شيرين أقصى ما بوسعها، فتقترح على المجلة كتابة تحقيق صحفي يتبنى عمل مسابقة عن أشيك امرأة، وبالفعل فإن سكرتير تحرير المجلة يتحمس للموضوع، وينشر موضوع المسابقة في نفس الصفحات المخصصة لباب «بنت البلد».
يشعر مجدي بالغيظ فيقرر العثور على نوسة بأي ثمنٍ كي يقدم لها الحذاء الثمين الذي تبرع به القراء، وفي الوقت نفسه أراد أن يرد الصاع صاعين إلى زميلته شيرين، ويطلب من بحري أن يوافق على إقناع نوسة أن تشترك في مسابقة أشيك فتاة، وأن يفعل ما بوسعه كي تفوز نوسة بالفعل بلقب الفتاة الأكثر أناقة، وذلك من خلال قيامه بإعطائها دروسًا مكثفة في الإتيكيت، وحاول الصعود اجتماعيًّا بها، بشكلٍ مؤقت.
نحن، إذن، أمام أفلام الرهان بين العديد من الأطراف، وهي فكرة استخدمها الكاتب الأمريكي مارك توين في إحدى قصصه التي تحولت إلى السينما الأمريكية والمصرية عددًا من المرات، لكن أطراف الرهان هنا لا يعرف أغلبهم حقيقة الرهان، ويعملون على تحقيقه، خاصة مجدي والمصور وسكرتير التحرير.
فمجدي ينجح في أن يحول نوسة إلى نموذجٍ يستحق أن يحقق المنافسة، ولا يبدو الأمر سهلًا بالمرة، باعتبار أن تعليم عازفة البيانولا ليس بالأمر السهل، وفي يوم الحفل نكتشف أن التعليم قد ترك أثره لدى نوسة، التي أحبت الرجل الذي راهن عليها، ونجح في أن يغيرها شكلًا وموضوعًا، في الوقت الذي لم يشعر مجدي بنفس المشاعر، أو على الأقل بنفس الدرجة من الأحاسيس. بالفعل فإن نوسة تربح الجائزة الأولى، وهي عبارة عن قضاء أسبوعين في فندق النيل هيلتون، الفندق الجديد الأفخم في تلك الفترة، ففي الحفل يعلن مجدي مسألة الرهان مما يبعدنا قليلًا عن فكرة بجماليون، وتشعر فتاة البيانولا بالإهانة، وبأن عواطفها قد مُست، فأعلنت أمام الجميع أنها ليست نوسة المقصودة، وأنها فتاةٌ أخرى، مما يُفشل فكرة مجدي الذي يُصدم بدوره فيما أعلنته الفتاة، وتقول أمام الجميع إنها أميرة وافقت على القيام بمثل هذا الدور، بدافع مساعدة صحفي شاب في مهنته، وأنها أرادت له النجاح.
وسرعان ما تنتشر الفضيحة ضد المجلة ويتم طرد الصحفي من المجلة بتهمة تلفيق موضوع صحفي وخداع القراء، خاصة بعد أن قامت نوسة بعقد الكثير من اللقاءات الصحفية التي أكدت في كلٍّ منها أنها أميرة بالفعل، بينما يحاول أصدقاء مجدي اكتشاف الحقيقة وإنقاذ الصحفي من الفضيحة التي مسته، والتي خسر وظيفته بسببها، لكن نوسة لا تتراجع عن موقفها، خاصة بعد أن تصورت أن شيرين مخطوبة للصحفي الذي تحبه.
ويحدث أن تتغير شيرين في مواقفها، بعد أن تم فصل زميلها من الوظيفة، فتذهب لمقابلة نوسة وتخبرها بحقيقة علاقتها بمجدي. وفي اليوم التالي يسمع مجدي موسيقى البيانولا تنبعث أسفل نافذته، فيخرج إلى الفتاة التي أحس نحوها بحبٍّ حقيقي، ويتعانقان.
نحن إذن أمام خليطٍ من الموضوعات التي حاول كاتبا السيناريو حسن وميريلا توفيق أن يعملا منها مزيجًا كوميديًّا، فكانت فكرة التدريب الرئيسية في «بجماليون» شو هي الأكثر وضوحًا. وفي المسرحية هناك رهان بين هيجنز ونفسه بأنه قادرٌ على أن يجعل إليزا تنطق اللغة الإنجليزية مثلما يفعل لوردات بريطانيا، باعتبار أن هيجنز غيور على لغته، لكن المنافسة عند سيف الدين شوكت اتسمت بالسطحية، خاصة مسألة المسابقة، حيث إن الذي نسقها هو محرر باب «بنت البلد»، وأن المنافسة تأتي من محررة الأوساط الأرستقراطية شيرين.
ومسألة اللغة عالجتها مسرحية «سيدتي الجميلة» التي اقتبسها بهجت قمر بطريقةٍ أفضل، باعتبار أن صدفة تنتمي إلى أدنى الطبقات الشعبية، وأن الرجل كان واضحًا في أنه يرغب أن يعلمها الإتيكيت كي تظهر معه في المجتمعات الراقية كزوجة، خاصةً أمام أفندينا، ونجح في ذلك.
لكن ما حدث لنوسة هو تغيير شكلي أكثر، باعتبار أن التغير ينتمي في المقام الأول إلى الأناقة، وهذا أمر أكثر سهولة مما فعله هيجنز وأقرانه في الأفلام الأخرى المأخوذة عن مسرحية «بجماليون» شو أكثر مما هي مأخوذة عن الأسطورة الحقيقية، حيث بدت الأسطورة أشبه بالشبح الباهت.
(١-٣) حب في حب
في هذه السنوات كانت هناك علاقة حميمة بين الصحافة والسينما، خاصة في النصف الأول من الستينيات، حيث كانت المؤسسات الصحفية هي المكان المفضل لحكايات الأفلام، خاصة في سنوات التأميم. ومن هذه الأفلام: «يوم من عمري» إخراج عاطف سالم، و«اللص والكلاب» إخراج كمال الشيخ، و«بقايا عذراء» إخراج حسام الدين مصطفى، و«سر طاقية الإخفاء» إخراج نيازي مصطفى، و«أنا حرة» إخراج صلاح أبو سيف، ثم «الرجل الذي فقد ظله» لكمال الشيخ. وأيضًا «حب في حب» الذي أخرجه سيف الدين شوكت ١٩٦٠م، وأنتجه وقام ببطولته فاروق عجرمة، وشاركه البطولة هند رستم وإيمان وحسن فايق وفؤاد المهندس وزينات صدقي. والفيلم مثل كافة أعمال المخرج ذي الأصل المجري مأخوذ من نصٍّ أدبي أجنبي، وهو هنا مسرحية «بجماليون» لبرنارد شو، التي كانت مصدرًا لعشرات الأفلام في السينما والمسرح في كل أنحاء العالم، خاصة مصر. وكما أشرنا فإن الفيلم من بطولة الطبيب فاروق عجرمة، وهو صاحب واحدة من غرائب المسيرات السينمائية في مصر، حيث بدأ حياته ببطولةٍ مطلقة في أفلامٍ مثل «وعد» إخراج أحمد بدرخان ١٩٥٤م، لكنه ما لبث أن انتقل إلى الأدوار الثانية في أفلامٍ تالية، منها: «صوت من الماضي» لعاطف سالم ١٩٥٥م، و«ماليش غيرك» لبركات ١٩٥٨م، و«أيامي السعيدة» لأحمد ضياء الدين ١٩٥٩م. وعندما أحس أنه في أزمةٍ فنية، وبعد بطولة في فيلم «كهرمان» مع يحيى شاهين أمام هدى سلطان، قرر أن ينتج فيلم «حب في حب»، والغريب أن الفيلم لم يحقق المأمول منه رغم وجود هذه الكوكبة من النجوم والنجمات. وكان فيلمه التالي والأخير كممثل هو «ست البنات»، حيث اختفى عدة سنوات قبل أن نرى اسمه كمخرجٍ فقط على أفيشات فيلم «العنب المر» ١٩٦٦م. ولا نعرف لماذا ابتعد عن التمثيل، لكنه سرعان ما توجه إلى لبنان، وأخرج أفلامًا قليلة المكانة، منها فيلم «عصابة النساء» بطولة صباح، وكلها أفلام دفعته للسفر والإقامة في الولايات المتحدة، فاختفت أخباره، وقيل إنه قام بشراء قاعات عرض، وصارت هذه مهنته، بعد أن قام بتغيير اسمه إلى إف كينج.
حسب قانون المنتج فإن البطولة المطلقة لصاحب المال، وقد صارت إيمان هنا ضيفة شرف، إلا أنه يُحسب للمخرج أنه واحد من القلائل الذين استفادوا بقوةٍ من قدرات هند رستم للأداء الكوميدي، وقد سبقت شويكار في ذلك بسنواتٍ في مسرحية «سيدتي الجميلة». هند رستم هنا هي نوسة صاحبة البيانولا التي يريد الصحفي مجدي أن يحولها إلى فتاة مجتمع راقية كنوعٍ من الرهان بين الصحفي وزملائه في الجريدة.
بطل الفيلم هو مجدي الذي يجد نفسه في منافسةٍ مع زميلته شيرين التي تعمل فقط لخدمة الطبقة الراقية، وتكتب من أجلهم ومناسباتهم الاجتماعية، فتفوز بعدد ثلاث صفحات لما تكتبه في الجريدة، بينما يتم تقليص عدد الصفحات المخصصة لكتابات مجدي، فيدخل الزميلان في رهان أن بإمكان الشاب أن يحول فتاة البيانولا إلى شخصيةٍ راقية. ويلتقط الفتاة وينجح في أن يحولها كما يريد، ويكسب الرهان، كما أنه يكتشف حلاوة الحب، فالتجربة بالنسبة له في البداية لم تكن لها أبعاد. وكما نرى فإن النص المسرحي عند برنارد شو كان حول كيف تنطق إليزا حروف اللغة الإنجليزية كما يجب، والمسرحية الإنجليزية تحولت في السينما الناطقة إلى أفلامٍ عديدة، منها «امرأة جميلة». وفي مصر رأينا إليزا في طبعاتٍ كثيرة جسدتها عزيزة أمير ونيللي وشويكار، وبالطبع هند رستم.
ومن المهم العودة إلى فاروق عجرمة، وتجاربه المتذبذبة، فلعله أحس أنه لا يرقى إلى مستوى النجوم الذين ظهروا معه، خاصة أن هذه الفترة كانت لنجوم الطرب، والبطولات التي قام بها لم تسعفه، فصار مثل عبد المنعم إبراهيم وعبد السلام النابلسي، إما أن يعود إلى الأدوار الصغيرة، أو أن يبتعد عن التمثيل، وهكذا فعل في مصر أولًا ثم في السينما اللبنانية، ولكن بعد أن صار أمريكيًّا لم تصلنا أخباره، كأنه اختفى داخل أحد الثقوب السوداء في المجرات؛ ولهذا السبب اختفى فيلم «حب في حب» لسنواتٍ طويلة باعتباره من إنتاجه، فلم نر الفيلم على القنوات التي نعرفها، ونحن في فترةٍ نكاد نكتشف فيها الكثير من الأفلام الضائعة في العديد من الأقبية.
(١-٤) مدرسة المشاغبين
أكتب عن هذه الظاهرة بامتعاضٍ شديد، وهي موجودة في بلادنا منذ نصف قرن ساعدت في تحطيم مقدسات بالغة الأهمية في حياتنا، خاصةً في مجال التعليم الذي يجب أن نمر به لسنواتٍ طويلة يتم فيها تكويننا العقائدي والثقافي والاجتماعي، ويكون في حياتنا قدوة أو أكثر، منهم العاملون بالتعليم؛ سواء المعلم أو المدير أو الناظر، فإذا بالفن يتكالب لهدم كافة ما تعلمناه بقوةٍ من خلال أكثر من عملٍ فني مغموس بقدرٍ كبير من العسل أو الضحك، إنها مسرحية «مدرسة المشاغبين»، والفيلم الذي يحمل الاسم نفسه كتبه نفس المؤلف، وقام ببطولته كبار نجوم السينما في تلك الفترة، علمًا أن المسرحية صنعت من ممثليها النجوم الأكبر في كافة مجالات الفن.
بدأت الظاهرة في السينما البريطانية عام ١٩٦٧م، من خلال فيلمين هما: «إلى سيدي مع حبي» إخراج وتأليف جيمس كلافيل، وهو الفيلم الذي عُرض في مصر باسم: «مدرسة المشاغبين». وفيلم «الصعود من سلم الهبوط» إخراج روبرت موليجان. وكما هو ظاهر تتضح المعاني التربوية للفيلمين من العناوين؛ الفيلم الأول حول مدرس ينجح في تهذيب أخلاق تلاميذه الشباب ويغير من مواقفهم وسلوكياتهم. جسد الدور سيدني بواتييه الحاصل على جائزة أوسكار. والفيلم الثاني قصة مقاربة حول مدرسة تفعل الشيء نفسه، جسدته ساندي دينيس التي فازت أيضًا بجائزة أحسن ممثلة مساعدة.
هناك أغنية في الفيلم الأول تحية للمعلم غنتها لولو، من أجمل ما سمعنا في حياتنا، علمًا أن سيدني بواتييه قام بدور تلميذ مشاغب في فيلم عام ١٩٥٥م، باسم «سبورة الغابة» إخراج ريتشارد بروكس. وكل الأفلام الأجنبية مأخوذة من نصوصٍ أدبية، أما الأفلام المصرية فمسروقة كما نشير إلى ذلك، بما يعني أن الموضوع التربوي يؤرق الفنان في الغرب.
إلى أن طلعت علينا مسرحية «مدرسة المشاغبين» بكل قنابلها الأخلاقية التي نسفت المفاهيم، ولم تكن السخرية من المدرسة، بل أيضًا من كافة مَن يعملون في سلك التعليم، وأيضًا الآباء الذين يتمتعون بثراءٍ ملحوظ ومكانة، ورأينا التعبيرات الجنسية للتلميذ الذي يمزق ملابس الأستاذة.
هناك ملحوظة أن التلاميذ الأجانب كانوا صغار السن فعلًا، أما تلاميذنا فقد تجاوزوا سن الثلاثين، وكلهم في الواقع يكبُرون أبلة عفاف بسنوات في عام ١٩٧١م. وبعدها تم اقتباس الفيلمين في السينما المصرية، الثاني باسم: «مدرسة المشاغبين» ١٩٧٣م إخراج حسام الدين مصطفى، أكثر مخرج يثار حوله الجدل بسبب تباين مستويات أفلامه. أما الفيلم الأول فهو باسم: «مُدرستي الحسناء» بطولة هند رستم وممثلين تجاوزوا أيضًا الثلاثين في أدوار التلاميذ، إخراج إبراهيم عمارة أحد أكثر مخرجينا اهتمامًا بالأخلاق.
نعرف كم غيرت المسرحية من أفكار الأجيال، وأقول وجدانهم؛ لأن ما فعلته المسرحية شرخ الكثير في وجدانٍ سليم، وفي كل هذه الأعمال لم نرَ إلا محاولاتٍ متعمدة أن نلعق العسل مغموسًا بالفيروس. فلماذا لم يلجأ الفيلم الإنجليزي إلى الجنس مثلًا، أو التنكيل بالمدرسين، ففي فيلم كلافيل كانت أمور التعليم في الفصول المجاورة عادية، وفي المدرسة المصرية كان هناك فصل به خمسة من التلاميذ الفاشلين البلطجية بكل المعنى، أبناءُ أغنياء عدا واحدٍ منهم؛ واحدٌ ابن الناظر، واثنان يأتي والد كلٍّ منهما لشراء المدرسة لحساب ابنه بعروضٍ مغرية كثيرة، لكن ما استفزني هي المشاهد الجنسية التي تدور في مخيلة التلاميذ الذين وقعوا في غرام المدرِّسة التي تغريهم وتنزع لهم ملابسها داخل الفصل.
الأفلام الأجنبية تتعامل مع الموضوع بجديةٍ بعيدًا عن السخرية، فالفصول في الأفلام التي أشرنا إليها بها العدد الطبيعي من الطلاب بناتٍ وصبيانًا، وفي الفيلم المصري والمسرحية كان عدد التلاميذ هو الخمسة، أعمارهم تعادل فصلًا بأكمله من الطلاب. وفي «مدرسة المشاغبين» كان الكبار شخصيات مؤهلة للسخرية عدا المدرِّسة. ويمكن أن نتقبل هذا العدد في المسرحية، لكن الفصل في الفيلم يبدو خارج المألوف. أما التفاصيل فهي مثيرة للقرف والاشمئزاز، وأنا لا أتحدث كناقد، لكنني عشت أجواء التلمذة في المدارس والجامعات طالبًا ثم محاضرًا، ولم أقابل قط أشخاصًا من هذا الطراز، وعليه فإن مثل هذه المعالجات هي بمثابة وصمة عار أُعجبنا بها حين يتكرر عرضها في المناسبات، وصارت مع السنوات أمورًا مألوفة يُعَد انتقادها شذوذًا؛ كالسخرية بوقاحة من المعلمين.
أسوأ ما في الأمر أننا لم نرَ المدرسة ككيانٍ تعليمي اجتماعي، ولا العملية الدراسية، بل هي مجرد غرفة تدور فيها الأحداث، يستعملها الطلاب كمقهى لتداول الشيشة والسجائر، ولعب البوكر، والسخرية من المعلمة التي لم نرها تقوم بالتدريس سوى طرح أسئلة ساذجة من أجل تخليق النكات والإفيهات، مثل: ما هو المنطق؟ وأجزم أنه ليس في حياتنا مثل هذا الناظر الأضحوكة الذي يكرر تحقيره لتلميذه الفقير، ويبدو مثل النساء بأداءٍ سخيف للغاية وهو يقول: «يا دلعدي»، بما يعني أنه كان في طفولته قبل ثلاثين عامًا — أي في الأربعينيات — في مدرسةٍ مماثلة أفرزته، كما لم نعرف أبدًا مدرسًا مثل علام، الذي أصابه العته وظل محتفظًا بوظيفته.
وهذا هو الفارق، فالتلاميذ في المدارس الأجنبية كما في الأفلام، مشاغبون، لكن في المدرسة المصرية متشردون، خارجون عن القانون، وفي الفيلم مشهد للأباصيري يدفع والد زميله بكل شراسة، والمفروض أننا نضحك! لكن سرعان ما يهتم المدرس الأجنبي بمشاركة التلاميذ مشاكلهم حتى تسير الحياة.
خلاصة ما يقال إنني أتمنى إلغاء هذه الأعمال من حياتنا تمامًا كأنها لم تكن. ألف لعنة على المصطلحات التي تنادي بحرية التعبير، إنها حرية تدمير أخلاق الشعوب؛ لأنه إلا المعلم والأب، وكلاهما تحطمت كرامته في الفنون، وشاهدنا ذلك عدة مرات، ولا عزاء لقراء مثل هذه الأعمال.
(١-٥) قصة غرام
مشهدٌ في هذا الفيلم يجعلني أشعر بالحزن على ما جرى في بلادي، لو عشت أعمارًا أخرى، فهناك عربة حنطور تتحرك في ريف مصر، حيث تمتد الخضرة إلى ما لا ينتهي إليه البصر، هذه الأرض شديدة الخصوبة تحولت على مدى ثلاثة أرباع قرن إلى بناياتٍ خراسانية، تناطح الطبيعة بشكلٍ بالغ الشراسة. الفيلم هو «قصة غرام»؛ واحدٌ من الأفلام الأخيرة للمخرج كمال سليم عام ١٩٤٥م، والمرجح أنه توفي أثناء العمل به، بدليل أن اسم محمد عبد الجواد مكتوبٌ في العناوين كمخرجٍ إلى جوار كمال سليم. والمعلومات تقول إن كمال سليم أخرج الكثير من مشاهد فيلم «ليلى بنت الفقراء» ولم يستكمله، وقام بتكملة العمل أنور وجدي في فيلمه الأول كمخرج، ونسب إخراج الفيلم كله إليه.
الفيلم مأخوذٌ عن «مرتفعات ويذرنج»؛ الرواية التي كتبتها إميلي برونتي، وتعامل معها النقاد على أنها رواية لا يمكن تصنيفها، وتتسم بتفردٍ كبير، وأُعجبت السينما العالمية كثيرًا بالرواية، خاصةً في إنجلترا، وتم تقديمها أكثر من مرة، وتم الالتزام بالنص الأدبي بالكامل، عكس ما حدث في السينما المصرية، التي أنتجت فيلمين مختلفين تمامًا عن مصدرٍ واحد.
حكاية المخرج الإضافي لم تتكرر مع محمد عبد الجواد الذي استكمل العمل في فيلم «قصة غرام»، ووضع اسمه بعد كمال سليم، وكان أحرى بأنور وجدي أن يفعل ذلك. على كلٍّ فإن كمال سليم هنا يستكمل رحلة تعامله مع الأدب العالمي المهم بعد رواية «البؤساء»، ثم «روميو وجولييت». وهو هنا يخرج كثيرًا عن الموضوع الأصلي للرواية البريطانية، مثل ما سيحدث بعد سنواتٍ مع فيلم «الغريب»، حيث تم تجاهل حكاية الجيل الثاني تمامًا، والتركيز على قصة حب هيثكليف الذي تحول إلى جلال، ورأينا قصته منذ طفولته وقيام الباشا بتربيته في منزله، وهنا تولدت قصة الحب بين جلال وهدى، هي قصة الحب التي استمرت طول الحياة. كما أن السيناريو حذف تمامًا شخصية الابن الثري الذي سينغص على جلال أو هيثكليف الحياة، ليدخل في تفاصيل أخرى، وهي الشخصية التي جسدها محسن سرحان في فيلم «الغريب». أما الفيلم فقد أضاف شخصية شاهين الذي سيكون وصيًّا على هدى، وسيعذب الطفلين لسنواتٍ طوال، ويجعلهما يعيشان في أحط الظروف الإنسانية.
أي إن جلال هنا ابن أصول تطاوحت به العواصف والرياح، عكس الرواية وفيلم كمال الشيخ. وكما نرى فإننا أمام قصة عن الحب المستحيل، خاصة في النص الأدبي، حيث تذاع الأخبار بأن جلال مات بطلق رصاص، مما يدفع الفتاة إلى أن توافق على الارتباط برجلٍ آخر، وهنا يظهر جلال مرةً أخرى.
شخصية الوصي شاهين بقسوته هي البديل لشخصية الأخ الذي كان يكره هيثكليف، وأنزله من مكانته إلى درجة الخادم الكلاف، وهو ما فعله شاهين وزوجته، فصار جلال ابن فهمي باشا عامل إسطبل. وقد اهتم السيناريو بمرحلة طفولة الحبيبين حتى كبرا، فصار على هدى الخدمة في البيت. ويبدو أن كمال سليم كان ينوي عمل فيلم ضخم طويل العرض على غرار أعماله السابقة؛ لذا فإن تفاصيل الطفولة أخذت أكبر مساحة من الفيلم المعروض، واتسمت هذه النسخة بسمات أفلام عبد الجواد متوسطة القيمة؛ لأنه المسئول الأخير عن الفيلم.
من عجائب الفيلم أن كمال سليم تزوج من بطلته أميرة أمير، وقد تزوجها محمد عبد الجواد لفترةٍ بعد وفاة زوجها كأنه يرث الفيلم بمَن عليه.
بمجرد أن كبر الحبيبان حتى تحول النص إلى فيلمٍ غنائي، فإبراهيم حمودة هو من أقوى الأصوات الغنائية في تلك الفترة، ومنحه كمال سليم بطولة أكثر من فيلم، وهذه الأغنيات جاءت على حساب القصة. كما أن هناك أغنية للمطرب كارم محمود في بداياته، ويفسر هذا قيام السيناريو بحذف الشخصيات، وبدا الجزء الأخير من الفيلم كأنه يلخص الرواية وهو يحكي كيف عاش الحبيبان ظروف الحب والفراق، وزواج هدى، وأيضًا جلال، كل منهما زواجًا غير متكافئ مع طرفٍ آخر. وقد دخل الفيلم بعد ذلك في تفاصيل أخرى من خلال صراع بين راشد الزوج وشاهين الوصي على الفتاة، وتاهت التفاصيل عن الراوي، كي يبقي فيلم «الغريب» أقرب إلى التوازن بالنسبة لعلاقة النص بالسينما. حكى الفيلم عن موافقة هدى على الزواج من راشد مقابل التخلص من شاهين وقسوته، بعد أن سمعت أن رصاصةً أصابت جلال في الفرح، وهكذا صار لهدى حياة جديدة، دون أن تعرف أن حبيبها لا يزال على قيد الحياة.
لم يتزوج هيثكليف قط من حبيبته في النص الأدبي، أما في السينما فرغم أن الحبيبين تزوج كل منهما على حدة، فإنهما توجا الحب بالزواج بعد انفصال كل منهما عن شريكه، بعد تفاصيل تقليدية.
الفيلم الثاني «الغريب» ١٩٥٦م، هو أيضًا يحمل اسم اثنين من المخرجين، هما فطين عبد الوهاب وكمال الشيخ. وتبدأ الأحداث من منتصف الرواية في ليلة عرس ياسمين، والغريب مصاب عند الطبيب الذي يستمع من الوصيفة إلى حكاية الغريب اليتيم الذي التقطه الأب، ثم تأتي التفاصيل التي تؤكد أن الرواية الواحدة المهمة يمكن نسج عشرات الأفلام من خيوطها.
(١-٦) المظلومة
لا أعرف من أين استقى المخرج وكاتب السيناريو محمد عبد الجواد فيلمه المظلومة عام ١٩٥٠م، وهو المأخوذ عن مسرحية «امرأة بلا أهمية» تأليف أوسكار وايلد، والتي تنتمي إلى نهاية القرن التاسع عشر، حيث عُرضت لأول مرة عام ١٨٩٢م.
فالمسرحية لم تتحول إلى أفلامٍ سينمائية معروفة في مصر، كما أن معلوماتي تقول إن وايلد لم نقرأ أعماله بالعربية إلا مع نشاط ترجمة المسرح العالمي في الستينيات، ومنها هذه المسرحية. وأغلب الظن أن المخرج كان يقرأ النصوص باللغة الإنجليزية، وأخرج فيلمه «الدنيا لما تضحك» عن رواية لمارك توين في عام ١٩٥٤م، وهي السنة نفسها التي قدمت فيها السينما الأمريكية فيلم «مليون جنيه» عن المصدر نفسه. وهو الذي اقتبس بعض الروايات في أفلامٍ كتبها أو أخرجها، دون أن يذكر أبدًا مصادر أفلامه، ومنها: «قبلني في الظلام»، «الستات ما يعرفوش يكدبوا»، و«زوج في أجازة» المأخوذ عن «هرشة السنة السابعة». ومن المهم أن نذكر أنه استعان بعز الدين ذو الفقار ليكون مساعدًا له في الأربعينيات، وفيما بعد تبادل الاثنان الأماكن وصار عبد الجواد مساعدًا لتلميذه في أفلامٍ، منها «الشموع السوداء»، لكن لا شك أنه ذهب في «المظلومة» إلى النص الأدبي بدلًا من مشاهدة الفيلم المقتبس، فالمسرحية حسب المصادر تم إنتاجها في ألمانيا التي لم يكن يأتينا منها أفلام تجارية. وهو أول مَن تنبه في السينما المصرية إلى عبقرية وايلد، باعتبار أن السينما المصرية قدمت الكثير من مسرحياته في طبعاتٍ مصرية، ومنها: «أهمية أن يكون الإنسان جادًّا» التي صارت «فتى أحلامي»، و«مروحة الليدي وندرمير» التي شاهدناها في «امرأتان»، بينما لم تلتفت إلى روايته الرائعة «صورة دوريان جراي». وعلى كلٍّ فإن فيلم «المظلومة» هو واحد من الأفلام التي ظُلمت في السينما المصرية، رغم أن موضوعه لديه أفضلية لدى صناع الأفلام في بلادنا.
المتابع لمسرحيات وايلد يلاحظ أنها جميعًا تدور في المحيط الأسري؛ حيث العلاقات متشابكة بين الأم وابنتها في «مروحة الليدي وندرمير»، فقد تربت الصغيرة بعيدًا عن أمها المطلقة، لا تعرف حقيقتها أبدًا، وتحدث بينهما مواجهة بسبب علاقات مع رجال، وفي النهاية فإن الأم تضحي من أجل ابنتها، وتعترف أن المروحة التي تم العثور عليها في بيت العاشق تخصها هي. وفي «امرأة بلا أهمية» فإن الابن كمال تمت تربيته بين أبوين آخرين، دون أن يعرف الحقيقة، وضحت الأم بسمعتها وهي تعترف لعشيقها القديم شاكر بك أن الموظف الذي طرده هو ابنهما معًا، وأنه لا يعرف الحقيقة. وفي مسرحية «أهمية أن يكون الإنسان جادًّا» فإن الشاب في خصومةٍ مع عمه الذي يسوف في تسليمه الميراث؛ ولذا فإن الأشخاص موجودون داخل جدران البيوت التي يعيشون فيها، لا يخرجون منها، حتى في الأفلام. وهنا في «المظلومة»، فإن المشهد الأخير بين الأم الفنانة إلهام وحبيبها القديم شاكر بك يعتبر بمثابة مفتاح العمل، أو المشهد الأساسي، فهناك مواجهة بين رجلٍ وامرأة جمعهما الماضي، الرجل الذي كان لاهيًا في شبابه، يؤمر من أمه، صار الآن شخصًا مسئولًا مرموقًا، وبعد فعلته مع الخادمة لم يتزوج قط، ويبدو أنه ظل راهبًا طوال عشرين عامًا حتى أتت المرأة من الماضي المنسي لتخبره بالحقيقة التي لا يعرفها. الحقيقة أن السنوات قد تطول قليلًا؛ ولذا فإنه من السهولة تحويل هذه النصوص إلى أفلام، عدد شخوصها قليلٌ للغاية، خاصة المرأة التي كانت بلا أهمية، والتي لا تغيب عن المشاهد منذ بداية الفيلم؛ وهي تهرب من حفل زفافها إلى الرجل الذي أخطأت معه، ثم تهرب من القرية بأكملها بعد أن صدمها حبيبها، وتركب القطار إلى المدينة، حيث ولدت ابنها من السِّفاح، ومنحته لصديقة لها لم تنجب، تناديها أختي، وقبلت العمل كمطربة، وعانت كي تتولى الصرف عليه، وقد تربى الصغير على أن المرأة خالته. أما شاكر الذي يجسده سراج منير، فهو المعادل للورد إيلينجورث عند وايلد، فقد غاب عن المشهد ليعاود الظهور في نهاية المشاهد، وبالتالي فإننا أمام فيلم تحمل مسئولياته عقيلة راتب وحدها في البطولة المطلقة الوحيدة طوال حياتها، وقد صار الرجال هامشيين، منهم رجل ثري اعتبرها ابنته التي ماتت لشدة الشبه بينهما، ومنحها ثروته قبل أن يموت. وقد لعبت الدور وهي في الرابعة والثلاثين، وقامت بدور الأم للممثل كمال حسين، وهو أصغر منها بسنواتٍ قليلة، والسبب في ذلك افتقادها جسد غصن البان الذي تمتعت به ممثلات أخريات مثل: مديحة يسري وكاميليا وسامية جمال، لتصير بعد ذلك أكثر الممثلات المتميزات في تجسيد دور الأم بنت الطبقة الراقية، في أفلام مثل: «أيام وليالي» و«غريبة»، و«لا تطفئ الشمس» و«عيلة زيزي».
إذن قد ينتابك الإحساس أنك تشاهد مسرحية، بسبب الحوارات الطويلة في أماكن ضيقة كالبيوت، ومكتب شاكر بك، وأن كل ما فعله كاتب السيناريو أن ذهب بالمرأة لتعمل مساعدة لفنانة في صالةٍ للسهر، ويعرض عليها صاحب الصالة أن تغني بصوتها، فتحقق نجاحًا. ويحاول الفيلم عدم لمس شرف المرأة التي ستظل محتفظة بعفتها، وإن الرجل الذي دخل حياتها وقام برعايتها تعامل معها على أنها أشبه بابنته التي ماتت صغيرة في السن، وكأنها تستحق أن تكون جديرة بالرجل الذي تخلى عنها، وفي هذا تتقارب المواقف الاجتماعية الأيرلندية والمصرية، في أن المرأة أربوتنوت أو إلهام، التي كانت يومًا هند، جديرة أن تكون أمًّا لهذا الشاب البريء وزوجة لرجل الأعمال، الذي تخلى عنها يومًا، وأيضًا أن تكون حماة للفتاة سامية زميلة الكلية لكمال، وهي أيضًا ابنة شاكر بك، الذي يرفض أن يزوجها له عندما طلبها بعد أن صار موظفًا في شركته، ولعلها فرصة الممثلة عفاف شاكر (شقيقة شادية) في أحد أطول أدوارها لتتحقق من ملامحها.
يجب ألا يفوتنا أنه في تلك الفترة من الزمن كانت السينما تمنح فرص البطولة لشباب من الوجوه الجديدة، كانت بمثابة فرص وحيدة للكثير منهم، فإما أن يهجروا السينما إلى الأبد مثل شباب شاهدناهم في أفلام: «كل بيت له راجل»، و«ولدي». هناك فرصة للبطولة مُنحت إلى صلاح نظمي في «هذا جناه أبي»، وأيضًا كمال حسين في «المظلومة» لواحدٍ من تلاميذ زكي طليمات، هو الممثل الذي لم يستمتع بهذا الشرف مجددًا في حياته.
(١-٧) آدم والنساء
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أصاب البشرية الكثير من الوسوسة خوفًا من اندلاع الحرب العالمية الثالثة التي سوف تأتي بالكوارث الاجتماعية إلى البشر، ومنها إصابة الذكور بعدم الخصوبة، وعدم القدرة على الإنجاب، حين تتسرب إشعاعات مدمرة تجتاح العالم كله.
وهذا النوع من الأدب اسمه التخيل السياسي، وقد انتشر في الستينيات، ورأيناه في أفلامٍ مستوحاة من رواياتٍ أمريكية وأوروبية، ومن أشهر هذه الروايات «السيد آدم» تأليف بات فرانك عام ١٩٤٦م، التي تُرجمت إلى اللغة العربية باسم «آدم الجديد»، ونشرت في سلسلة الألف كتاب، وحولها الصحفي ناصر حسين إلى سيناريو بعنوان «آدم والنساء». والرواية العالمية تدور أحداثها في مناطق المناجم، حيث تمكن العامل الكسول آدم أن ينجو من الكارثة التي أصابت الرجال في ذكورتهم دون المساس بأرواحهم. وتحولت الرواية إلى فيلمٍ مصري عُرض عام ١٩٧٢م بطولة حسن يوسف ونبيلة عبيد. فقد حدث الانفجار النووي وآدم نائم في المنجم، وكان الناجي الوحيد في هذا العالم. والموضوع يصلح كي يكون فيلمًا مسليًا، رغم أن الهدف الأساسي من هذه الأفلام هو تحذير رجال السياسة وزعماء العالم من مصائر محتومة.
آدم رجلٌ متزوج، ويحب زوجته، ولكنه حسب القانون الجديد يجب أن يكون ملكًا لكل نساء العالم، وأن يتم إعارته إلى البلاد لمضاجعة النساء بشكلٍ آلي من أجل بقاء النوع الإنساني.
والفيلم لا يركز على الجانب العلمي بقدر الأخلاق والسلوك الاجتماعي المرتبط بمثل هذه الظروف، فزوجته تشعر بالغيرة الشديدة عليه، ولا تريده القيام بالمهمة، فما أجمل النساء اللاتي سوف يضاجعهن، فهو في حوارٍ يقول إنه يعمل بقوة في البيت، مما يعكس فحولته. وعليه بعد الانفجار النووي أن يسافر من بلدٍ إلى آخر، وأن تصحبه زوجته إما متخفية أو بشكلٍ واضح. وتبعًا للأخلاق، فإن آدم يتفنن في مضاجعة زوجته احترامًا لها، ويهرب من النساء الأخريات، ويكاد يسبب مشاكل دبلوماسية، إلى أن تنزاح الغمة ويتبدد الغبار الذري، وتعود الخصوبة إلى بقية رجال العالم.
في تلك الأفلام التي تمثل السبعينيات، كانت مكانة نبيلة عبيد تتأرجح في الأفلام، فهي البطلة الرئيسية هنا في الفيلم، بينما هي مساعدة في أفلامٍ أخرى، سواء في مصر أو خارجها. وهذا هو التعاون الوحيد مع سيد بدير، الذي كان أهم كتَّاب الحوار والسيناريو في الأفلام، لكن أعماله كمخرجٍ سينمائي لم تكن بأهمية الأفلام التي كتبها، ومنها: «ليلة رهيبة»، و«الزوجة العذراء»، ويمكننا مشاهدة «غصن الزيتون» باهتمام. والغريب أنه في فيلم «آدم والنساء» ترك ناصر حسين يكتب السيناريو دون تدخلٍ منه، واكتفى بالإخراج. والكاتب هو واحد من الصحفيين الذين عملوا بالسينما في التأليف والإخراج، ومنهم: عزت الأمير ومدحت السباعي، وصار عميد إخراج أفلام المقاولات في الثمانينيات، وهي الأفلام التي بها أكبر قدرٍ من التسطيح واللامبالاة، وأعتقد أنه تعامل مع السينما دومًا باستخفاف، إلا في فيلم «آدم والنساء».
موضوع العقم الجماعي تكرر في فيلم «النوم في العسل» بشكلٍ آخر، وهو ينتمي أيضًا إلى الخيال السياسي، حيث صار العقم الجنسي ظاهرة عامة بمدينة القاهرة. وفي الرواية الإنجليزية تدور الأحداث في منطقة المناجم، المجاورة للمنطقة السكنية، وهم قوم فقراء. ورغم خصوبة آدم فإن زوجته لم تنجب منه، إلا أنها بعد الانفجار النووي تكتشف أنها حامل.
الرواية أقرب إلى العمل المسرحي، لكن الموضوع نفسه في الأدب العالمي عولج في الصياغة الروائية، خاصة أعمال الكاتب الفرنسي روبير ميرل.
آدم وضع حول نفسه الكثير من القيود الاجتماعية، فهو لم يضاجع أي امرأةٍ أخرى سوى زوجته، وهناك امرأة، تجسدها نجوى فؤاد، دبلوماسية تنتمي إلى دول العالم المتقدم، تقع في غرام آدم، ووجد الكاتب نفسه أمام مشكلة الزواج أو المضاجعة بين آدم والنساء، فرأيناه أقرب إلى الفتاة العذراء، لم يمس امرأةً أخرى. والأمر الأساسي هنا أننا أمام رجلٍ خِصب، وأن الدولة الجديدة غيرت من قوانينها، فشكلت وزارة مهمتها الراحة النفسية للرجل، من جميع الخدمات، هذه الوزارة مهمتها تدبير المكان الآمن للرجل، وإحضار النساء إليه.
هنا كانت الزوجة الثانية التي حملت بالفعل. وكما نرى فإن الكاتب لم يُدخل بطله في المزيد من الصراعات، وقام بوضع الحل غير المنتظر، فابتكر نهايةً سريعة، حيث انتهى تأثير الإشعاع الذري في غضون العام.
وعلى كلٍّ فإن مثل هذه الفكرة بدت غريبة على المتفرج، وأخبرنا الفيلم أنه حتى في الكوارث، عند الضرورة، يرجى الاحتفاظ ببكارة الرجل.
الملاحظ أن السيناريو لم يقم بتسمية شخصيات الفيلم؛ فنحن لا نعرف أسماء النساء ولا الأصدقاء، أو العاملين في المناجم، ولا الدول. وإذا كان أحدهم قد ذكر بشكلٍ عابر أن الزوجة المصرية اسمها منى، فإن إحدى الدول الكبرى التي تتصدر العالم تجهز امرأة راقية يُطلق عليها اسم «حواء الجديدة»، تصبح تحت قوة السلاح هي الزوجة الثانية للشاب آدم، وذلك أسوة بالنص الأدبي. وتزوج آدم إذن تحت التهديد، ويتم تحصينه، لكن سرعان ما يأتي الفرج حين يزول أثر الإشعاع النووي، ويعود كل زوج إلى امرأته، باعتبار أن طابورًا طويلًا من النساء في انتظار أن يأتي الحل من حيث لا يعرف أحدٌ من أين.
تجدر الإشارة إلى أن هناك مسرحية مصرية اقتُبست عن نفس الرواية باسم: «رجل ومليون ست».